الكتابة الساخرة نمطٌ من أنماط الكتابة المُتعدِّدة وفنّاً من فنونها الكثيرة ، لم يعتوره نُقاد الأديان أو يختبطونه خبط عشواء ، بل إنّ لهُ جزوراً ضاربة القدم في عالم الكتابة ، تجلّت في الإرث الضخم المتمثل في المسرحيات الفُكاهية والأفلام والمسلسلات الكوميدية والروايات والكاريكاتيرات و المقالات الساخرة وكافة فروع الأدب والفن الساخر ، فلم تتوقف الكتابة الساخرة عند خطوطٍ حمراء بعينها ، بل العكس تماماً كانت الخطوط الحمراء هي مادة الكتابة الساخرة بإمتياز ، وإنتهاكها وتجاوزها كان العمود الفقري للفن الساخر دائماً ، فمن دون الخطوط الحمراء ستتلاشى الكتابة الساخرة أو يتضائك حجمها وتفقد الكثير من زخمها وفاعليتها ، لذلك نجد أنّ الكتابة الساخرة شملت وإستهدفت بشكلٍ أساسي السلطات السياسية والإجتماعية و الدينية والعادات والتقاليد والأديان نفسها ، وجعلت همها الأساسي تجاوز الخطوط الحمراء التي تفرضها تلك السلطات .
وتقاليد نقد الكتابة الساخرة ، أو ماهية النقد الذي يُفترض أن يُقدّم للأعمال الساخرة يختلف عن النقد المُقدّم للكتابة في الفكر أو التاريخ أو الفلسفة أو السياسة ، كما يجب أن يُراعى أنّ سقف حرية الكتابة الساخرة مرفوعٌ أكثر من سقف الكتابة في تلكم الأنماط من الكتابات ، من حيث يجوز للكاتب المبالغة والإسراف في إظهار العنصر المراد الكتابة عنه أو السخرية منه والتحامل عليه وإظهار مثالبه ومساوئه ، ويمكن أن نضرب هنا مثلاً بفن الكاركاتير بوصفه أحد الفنون والصيغ التعبيرية الساخرة ، فإذا أردتُ في رسم كاريكاتوري أن أُظهر مثلاً شخصية تمتاز بكبر الأنف مثل أحد سياسيينا فإنّني سأُضاعف من حجم الأنف بشكلٍ ملحوظ حتى أُضفي على الرسم بعداً أكثر كاريكاتوريةً .
من هنا فإنّ إتهام الكتابات الساخرة ـ والتي إجتاحت فضاءالشبكة العنكبوتية في السنوات الأخيرة مستهدفةً مادة النصوص الإسلامية تحديداً ـ بأنّ الغرض منها تشويه الإسلام هو زعم سطحي للغاية ، فالكتابة الساخرة هدفها ليس التشويه ـ وإن كانت تُشوِّه المادة المُراد السخرية منها بحكم الطبيعة الكاريكاتورية للسخرية ـ وإنّما الغرض هو إزالة حاجز القداسة ومحو الخطوط الحمراء التي تُمثل سلطة نفسية تحول دون نقد تلك الأفكار المقدسة ذات الخطوط الحمراء ، فالسخرية تُنزِل الفكرة من عليائها وتغرس حتى في دواخل مُقدِّسيها الإحساس بنسبيتها وبإمكانية مساواتها بباقي الأفكار من حيث قابليتها لمختلف أنماط النقد .
ومجرد التفكير في وضع خطوط حمراء للأدب الساخر أو حتى للإبداع عموماً ـ حتى ولو لم يكن ساخراً ـ فهذا يعني الحكم عليه بالإعدام ، فالأصل في الإبداع هو وُسُوعية الأفق أو اللا محدودية ، والإنعتاق من الأسر والقيود ، والفكاك من التقليد ، والتمرد على السلطات ، فلا إبداع من غير جديد ، ولا جديد من دون الثورة على السلطات وخطوطها الحمراء ، فضلاً عن إستحالة التوافق على معيار للإبداع حتى ولو أردنا ذلك ، فمن هو الذي يضع تلك المعايير ؟، وأي سلطة ستُصيغها كقوانيين ؟، وهل السلطة التي تضع تلك المعايير للإبداع وتُصيغها كقوانيين ـ لا سيّما بالنسبة للإبداع الساخر ـ ستسمح بتعرُّضِها للنقد الساخر بوصفه إبداعاً يهدف إلى تجديد منطلقاتها ونقد بداهاتها ، أوتطويرها وتقويمها ؟
سنجد أنّ أيّ سلطة تنالها أو تنتاشها أسهم النقد الساخر ـ و أحياناً غير الساخر ـ تلجأ في سياق تعاليها على النقد وإقصائها للمُنتقِدِين لها إلى التذرُّع بالخطوط الحمراء : السيادة الوطنية ، المقدسات ، الرموز القومية ، القيم والتقاليد … الخ ، وتَصرِف أيّ نقدٍ موجه إليها إلى ( نقض ) لتلك الرموز أو القيم أو المقدسات ، وهي في حقيقتها ـ اي السيادة الوطنية والمقدسات وغيرها ـ مجرد عبارات فضفاضة أو أصنام من صنع السلطة ذاتها أنشئتها بغرض الإختباء خلفها ، أو بالأدق إخفاء قداستها خلف قداسة تلك الأصنام الوهمية والتي تُساعد على تشويه المُنتّقِد أمام المجتمع بوصفه هادماً للأوطان وداعياً للإنحلال ومنتهكاً للقيم والأعراف ، لا مجرد ناقد للسلطة.
حيث نجد عبارات مثل خادش للحياء وجارح ومغوض للنظام العام تنتشر على مستوى خطاب السلطات الإستبدادية التي تخشى النقد ، مثلما تذرّع العسكر ومن قبلهم محمد مرسي في مصر عندما حاولوا إيقاف برنامج باسم يوسف الساخر ، وقد نجح العسكر في ذلك بينما فشل مرسي كما هو معلومٌ للجميع ، وقد إستخدم كلاهما ـ العسكر ومرسي ـ تهم الإساءة إلى رمز السيادة الوطنية والإساءة للمقدسات كمبرِّرات لوقف البرنامج الذي فضح سوءاتهم وكشف عوراتهم .
في حينٍ أنّنا لو قرّرنا الإحتكام فيما يُكتب وفيما لا يُكتب إلى مشاعر الناس فسنجد أنفسنا أمام عدّدٍ مهول من إنطباعات أي فرد ومزاجه العام ومقدساته وخطوطه الحمراء ، لدرجة تستلزم من كلِّ كاتب أراد الكتابة في الشأن العام أن يُجري إستفتاءً عاماً يُحدِّد ما إذا كان يحق له الكتابة أم لا في ذاك الشأن المُستَفتَى عليه . فمن أراد الكتابة عن الحجاب عليه أن يُراعي مشاعر المجتمع ، ومن أراد الكتابة عن نادي الهلال عليه أن يُراعي مشاعر مشجعي الفريق … الخ ، ومن هنا يفقد النقد أي مُبرِّرٍ له ، فما دام أنّنا عند إجراء أيّ نقدٍ ملزمون بمراعات مشاعر ومقدسات ورموز المُراد إنتقاده فلن يُسفر نقدنا لهُ إلاّ عن تطبيل وتهليل له .
تُعتبر الخطوط الدينية لا سيّما المتعلقة بدين الإسلام أكثر الخطوط إحمراراً ، حيث الرفض شبه التام لأيّ نوعٍ من النقد ، ناهيك عن النقد الساخر أو الكاريكاتوري ، وهذا الرفض لا يقتصر على المُنتقِد للإسلام من خارج دائرة الإسلام فحسب ، وإنّما ينسحب هذا الرفض حتى على المحاولات النقدية التي يُجريها أو يشرع بها مفكرون إسلاميون أو مسلمون ، رفضاً يأخذ في الغالب أبعاداً هيستيرية وجنونية كذلك الرفض الذي صاحب الرسوم الديناماركية الكاريكاتورية التي سخرت من النبي محمد ، أو الفيلم الذي سُميّ ب ( الفيلم المسئ للنبي ) ، ولو رجعنا إلى تاريخ السلطة الإجتماعية أو السياسية في الإسلام فسنجدها قد قامت بعديدٍ من الإعدامات والإستبعاد لأشخاص كان لهم رؤية أو تأويلات مغايرة للتأويلات الدينية السائدة ، حيثُ إنتهى بهم الامر إمّا معلقين على المشانق أو رجماً قام به ( العامة ) من الناس .
فتهمة الإساءة للمقدسات لا نجدها اليوم تُلاحق بذات الحدة من يهين الماركسية أو الإشتراكية أو الليبرالية وغيرها من الأفكار والنظريات ، لكنها تلحق فقط بناقد الإسلام ، رغم حرص السلطة الإسلامية ـ الرافضة للنقد بحُجّة حُرمة المقدسات ـ على التعامل مع الإسلام كنظير أو بديل للإشتراكية والليبرالية والماركسية … الخ .
ولا أزال أذكر أيّام الجامعة كنت كلّ يوم أربعاء تقريباً أحرص انا وعدّد من الأصدقاء من التيار العلماني في الجامعة على حضور مخاطبات وأركان نقاش ( جماعة أنصار السنة ) وذلك للإستماع لأحد كوادرهم الذي يملك قدرة هائلة على إضحاك الحضور عندما يسخر من العلمانيين واليساريين بالجامعة ، وكنت إستمتع جداً بأسلوبه الساخر الذي يتناول به العلمانية والعلمانيين ، رغم أنّه عندما يلمحنا يوجه كلامه أمام الحضور إلينا مباشرةً ويُشير إلينا كعيِّنة و نماذج حيّة تنطبق عليها عباراته الساخرة دون أن أضيق به أنا ورفاقي زرعاً أو أغضب من نقده أو حتى أكف عن الإستمتاع بطريقته الساخرة في الحديث عن العلمانية والعلمانيين .
طبعاً هذا لا ينفي وجود علمانيين كانوا يتضايقون من ذلك النقد الساخر ، لكن هذا الضيق لم يصل حد التفكير في إقصائه أو إتهامه بالتعرض للثوابت والرموز . لذلك أعتقد بأنّ تجاوز خطوط الدين الحمراء يُثير المتدينيين أكثر من غيرهم من الذين يتم تجاوز خطوطهم الحمراء . وهذا بالطبع فكر ينطوي على قدرٍ من الأنانية وحب الذات والنرجسية ، ففي الوقت الذي ينتقد فيه المتدين الآخرين ويهزء إلهه بهم ( الله يستهزئ بهم ) وينعتهم بالحمير والأنعام والقردة والخنازير والكلاب ، نجدهُ ـ أي ذلك المتديِّن ـ يُقيم الدنيا ولا يُقعدها لمجرد نقد ساخر أو غير ساخر نالهُ أو نال من إسلامه ، ويُطالبك بالإعتذار، هذا إن لم يقتلك أو يضربك .
وحتى السخرية الصادرة من المسلمين فإنّنا نجد مداها لا يقتصر على الكفار فحسب ، بل نجد المسلمين فيما بينهم يسخرون من مذاهب بعضهم البعض ، فالشيعي يسخر من الفتاوى والتراث السني المضحك كإرضاع الكبير وزواج القاصرات ، والسني يسخر من فتاوى وتراث الشيعة كالإمام الغائب وعصمة الأئمة والتطبير ، دون أن يعتذر الساخر لصاحب المذهب الآخر ، فلو فهمنا تعاليهم عن الإعتذار لإهانتهم لغير المسلمين بوصف هؤلاء كفاراً لا يجوز الإعتذار لهم ، أفلا يحق الإعتذار لمن تطاله سخريتهم فقط لأنّ مذهبه مغاير لمذهبهم رغم أنّهُ يشهد أن لا إله إلاّ الله مثلهم ؟ .
والحقيقة فأنا لا أفهم عندما يُطالبني العديد من المسلمين بالإعتذار عندما يعتقدون أنّني أهنت مقدساتهم أو معتقداتهم والمُتمثِّلة بالغالب بالله والنبي والقرآن والحديث … الخ، فهل يتوجب عليّ الإعتذار ـ إن أردتُ ـ لهم نيابةً عن الله الذي أهنتهُ بإعتبارهم ممثلين لهُ ، أم أعتذر لله مباشرةً ؟ وحتى لو كان عليّ الإعتذار أمام الله فما دخلهم هم حتى أكون مُلزَماً على القيام بذلك بتوجيهٍ و أوامر منهم ؟ ، إنّ هؤلاء الذين يُطالبونك بالإعتذار عندما تسخر من معتقداتهم ومقدساتهم لا يُقيمون فرقاً بينها وبينهم ، فيتقمص الواحد فيهم رداء ربه ويغضب أكثر منه ويمتلك الدين إحتكاراً وكأن الله إستشارهُ عندما أنزله من السماء ، فيعتبرالسخرية من الدين سخرية منه ، ويُطالبك بل ويُجبرك على الإعتذار ولو عبر المحكمة ، بل وربّما قتلك ، رغم أنّ ربه بإستطاعته لو أراد ذلك أن يفعل بمنتهى السهولة حسب إعتقاده !
عموماً لو فتحنا الباب للإعتذارات فسنجد أنّ جميع أصحاب الديانات والمذاهب مُلزمون بالإعتذار لبعضهم البعض ، وملزمون بإستئصال آيات وأسفار ونصوص الإساءة للمغاير لهم في الدين أو المذهب ، أو على الأقل عدم المجاهرة بها بواسطة مكبرات الصوت وفي الأماكن العامة ، ولا أعتقد أنّ هذه الوضعية تُرضي أيّ متدين . .
إنّ التراث الإنساني بما فيه الديني و الشخصيات العامة والشخصيات التاريخية لا حصانة لها من كافة أوجه وأنماط النقد ، حتى الساخر منها ، فذلك التراث وتلك الشخصيات العامة أو التاريخية هي ليست ملكاً لأحد حتى ولو كانت تلك الشخصيات دينية ، فكم سيبدوا الشيوعي سخيفاً لو غضب لسخرية نالت من لحية كارل ماركس الكثّة وقام بحرق سفارات الدولة التي ينتمي إليها من سخِر من لحية ماركس ، نفس الأمر ينطبق على الإسلام ونبيه محمد ، فعندما بثور الإسلامي لسخرية نالت من نبيه فهو يبدوا بذات سخافة الثائر لإهانة ماركس ، فحتى لو كان ثمّة فرقٌ بين الماركسية وماركس من ناحية وبين الإسلام ومحمد من ناحيةٍ أُخرى فقناعة الإسلامي ـ الغاضب من السخرية من محمد ـ بشمولية دينه وصلاحيته كبديل إقتصادي وإجتماعي وسياسي وثقافي للماركسية ولغيرها من النظريات ( الوضعية ) يدحض هذه الفروق ويصير الإسلام ـ بما أنّه زُجّ به في صراع مع تلك النظريات ـ مثلها تماماً من حيث القابلية للنقد ، وأيّ رد فعل متعجرف حينها للإسلاميين سيكون بذات سخافة تعجرف ماركسي أغضبته نكتة عن ماركس !
ولا ننسى هنا أنّ القرآن ذاته يقول عن محمد ( قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم ) ، وبما أنّ محمد بشر ، وبما أنّهُ شخصية عامة وتاريخية فحتماً سيكون محل نقد ساخر وغير ساخر ، ولن يخسر المسلمون شيئاً لو كان النقد الساخر متهافتاً بمعايير النقد الساخر ذاتها ، وسيكونوا هم الرابحين لو كان النقد ناجحاً فذلك يصب في بوتقة النقد وصحرائه القاحلة والفقيرة بالإسلام الذي قلّ أن نجد تفكيراً نقدياً بين أتباعه .
عموماً أكثر الذين يسوئهم النقد الساخر هم المتشدِّدين بالإسلام ، وحتى موجات الجنون التي تجتاح غالبية المسلمين عندما يُسخر من دينهم أو نبيهم فغالباً ما تأتي نتيجة الشحن وتجييش العواطف الذي يقوم به المتشددون الذين باتوا يملكون عدداً مهولاً من الفضائيات والمواقع الإلكترونية والصفحات الكثيرة على مواقع التواصل الإجتماعي ، والدليل على هذا أنّك في جميع المجتمعات المسلمة لا سيّما الأوساط الشبابية ستجد ( النكتة الدينية ) رائجة بها ، بل وتُعد أكثر النكات إستجلاباً للضحك ، وجُلّ ما ينالهُ من ألقى النكتة بعد إلقائهِ لها هو قول المستمعين بعد إنتهاء ضحكهم : إستغفر الله العظيم .
لذلك فكلّ تلك الإنفعالات والتشنجات التي تنال نُقاد الأديان أو الإسلام سواءٌ كان هؤلاء المُنتقِدين من المسلمين أو الملحدين لا تعدوا عن كونها إنفعالات زائفة يوحي بها ويصنعها المتشددون عبر إعلامهم ويوظفونها من ثمّ في معركتهم مع الفكر النقدي الذي يُمثل نهاية سلطتهم وينزع عنهم قداستهم ويُعرِّيهم من ورقة التوت التي تستر تجاويف عقولهم البالية .
النقد الساخر كما قلنا هو نفاج لإزالة هالة القداسة حول المسخور منه ، وهو ضربة البداية لأيِّ نقد يأتي بعده ، فمن تعود على النقد الساخر ستصبح بالنسبة لهُ عملية قبول النقد والتعاطي معه بإيجابية سلوك أكثر من مألوف ، فضلاً عن قيمة النقد الساخر في ذاته دون حتى أن يكون مجرد نفاج أومدخل للنقد الفكري أو غيره من أنواع النقد ، فهو كما قلنا فن لا يقل جماليةً عن غيره من الفنون ، ويستحيل أن نضع أمامه خطوطاً حمراء لضبابية الحدود فيما يتعلق بالنقد وصعوبة بل وإستحالة رسمها من الأساس . فعلى الجميع أن يقبل السخرية من رموزهم ومقدساتهم ومرجعياتهم وأصولهم ، فحتى لو رفضوا نقدها سخريةً وذبّوا عنها بالقوة والمنع والمصادرة ، فذلك بدوره سيفقدها هيبتها وسلطتها ، وسيُظهرها بمظهر العاجز عن الدفاع عن نفسه المختبئ خلف غيره !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !