بالتوازي مع الإنتشار السرطاني لظاهرة ما يُسمى بالصّحوة الإسلامية التي إجتاحت العالم الإسلامي منذ الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم ، والتي تمثلت ـ أي تلك الصّحوة ـ في تنامي ظاهرة الإسلام الاصولي والسّلفي الحرفي التقليدي ، بالتوازي مع نمو هذه التيارات المتشدِّدة دينياً بدأت تطفوا إلى السطح ممارسات وظواهر إجتماعية غاية في السلبية ، هي قطعاً إحدى تجليات تلك الصحوة الإسلامية المُميتة ، فتراجع على إثرها الإنسان لمصلحة الإله ، وتراجع الإجتماع الإنساني لمصلحة اللآهوت الديني ، وأصبح الإنسان مشروع شهيد في سبيل الدين كما هم الإنتحاريون ، أو مشروع ضحية أيضاً في سبيل الدين كما هو حال قتلى التفجيرات الإنتحارية ، وذلك بدلاً من أن يكون الدين هو الخادم للإنسان بوصفه الأصل ، وبوصف الدين الموجه لهذا الأصل ( الإنسان ) .
فقيام الليل في المساجد برمضان يتم عبر مكبرات الصوت لإرضاء الإله حتى ولو كان الثمن إزعاج عباد الله ، والموسيقى والفن والمسرح والتمثيل الذي يُمتع الإنسان ويُساعد في توازنه وإستقراره النفسي والوجداني يجب أن يُمنع إمتثالاً لفتوى ممثلي الإله بالأرض ، والأطفال المشرّدين يجب أن يظلوا مشرّدين لأنّ الله حرّم التبني ، والطفل المولود بدون ورقة زواج يتم حرمانه من كافة حقوقه الإنسانية التي يحظى بها إخوته الذين ولدوا بورقة زواج .
نحن هنا لا نناقش حتمية تعارض الله مع الإنسان ، أو إنعدام إمكانية التوفيق بينهما ، فهذا ما تُنادي به مشاريع الإصلاح والتجديد والتطوير الديني والتي تقف على التضاد من مشروع الصّحوة هذا ، ولكني أتحدث هنا عن مشروع لا يكترث للإنسان أصلاً فضلاً عن أن يُكرِّس الدين لصالحه ، مشروع همّه الله إمعاناً أونشداناً للخلاص الفردي ، أي دخول الجنة وذلك عبر الإلتزام الحرفي بتعاليم الدين حتى ولو كان هذا الإلتزام الحرفي يترتب عليه شقاء الآخرين وفقدانهم لحياتهم .
فالإنتحاري يفجر نفسه لا زهداً في الحياة وتعلقاً بالقيّم والمبادئ ، ولكنه يُفجر نفسه طمعاً في حياة مطابقة من الناحية ((( الكيفية ))) للحياة التي آثر التخلي عنها ( حور عين ، انهار خمر وعسل ، لحم طير ، فاكهة أبّا …الخ ) ، ولكنها بالمثل حياة مخالفة من الناحية ((( الكمية ))) للحياة التي تركها الإنتحاري ، فالإنتحاري المتطرف محروم من هذا ( الكم ) الهائل من اللحوم والخمور والفواكه والنساء في الحياة الدنيا ، فينتحر ليظفر بها مضاعفةً في الحياة الأخرى ، حتى ولو كان الثمن أرواح أطفال أبرياء وبشر لا ذنب لهم في حرمانه هذا ، لذلك فإنّ مشروع الصحوة هو مشروع ينشد الخلاص الفردي الأناني في تكريسٍ هائل للإنحطاط الأخلاقي الذي يزعم أنّ غايته تخليص المجتمع منه .
إذاً الأصل في هذا المشروع الهوسي هو التطلع نحو السماء لا الأرض ، الأساس هو الله لا الإنسان ، الدين لا مصالح البشر ، الجنّة لا الأخلاق ، وطالما أنّ الأمر كذلك فلا بأس بإحراج الآخرين وعدم مصافحتهم لأنّ الله نهى الرجل عن مصافحة المرأة ونهى المرأة عن مصافحة الرجل وإحراجه في حال مدّ يده مصافحاً ، فالصّحوجيِّين لا يعبأون كثيراً بالعلاقات الإنسانية الإجتماعية ، ومستعدون بالتضحية بها في سبيل ما يُعتقد أنّه أمر سماوي ، وبالطبع لا مكان للعقل هنا ، فالعقل من غير تقيِّده بالنصوص يؤدي للضلال لأنّه بفتح تساؤلات أخلاقية حول سلوكيات تأمر بها نصوص يعتقدون أنّها من الله ، تساؤلات لو تمّ التعاطي معها بشجاعة معرفية فهي قطعاً ستؤدي إلى هجر هذه الممارسات اللآأخلاقية واللآإنسانية إمّا عبر إيجاد تأويلات مغايرة أكثر أخلاقية لتلك النصوص التي يُعتقد أنّها من عند الله ، أو على أسوء الفروض ـ أحسن حسب موقفك ـ نبذ ولفظ تلك النصوص ونفي مصدريتها الإلهية كما يفعل القرآنيون بالأحاديث المنسوبة للنبي محمد .
إن الفتاة ـ نفس الكلام بنطبق على الفتى ـ التي ترفض مصافحة الرجال الذين يمدّون أيديهم لمصافحتها مُلزَمة ـ أخلاقياً ومنطقياً بالطبع وليس قانونياً ـ وتجنباً لإحراج الآخرين أن تنأى بنفسها عن مخالطة الرجال وإرتداء النقاب كي تنسجم مع قناعاتها من ناحية ، ومن ناحيةٍ أخرى ليعرف الناس أنّها لا تُصافح وبالتالي لا تُعرِّضهم للإحراج ، فالتي ترى أنّ المصافحة تُثيرها أو تُثير المُصافِح لها هي ضمنياً ستعتقد أنّ وجهها أيضاً سيُثير الناظر لها ، فلزم عليها ـ كي تتسق مع مجمل أفكارها ـ أن تتنقب ، وأنا أرى أن الأكثر ملائمة هو أن يقوم هؤلاء المهوسيين بعدم المصافحة بإعتزال المجتمع الذي درج على المصافحة باليد كنوع من البروتوكولات الإجتماعية منذ الآف السنين ، وينشئوا ـ أي الرافضين للمصافحة ـ زرائب أو حظائر إيمانية يعيشون فيها وفقاً لأولوياتهم المُختلّة المتمثلة في الله قبل الإنسان ، بل الله على حساب الإنسان .فالحيوانات على سبيل المثال والتي لا إمكانية للإنسان ولا قدرة له على التعايش معها فإنّه يُنشئ زرائب لها لإستحالة التعايش معها تحت سقف إجتماعي واحد .
فوجود فتاة على سبيل المثال في منتصف حلقة من الرجال يتناقض مع أفكارها ( العفيفة ) الحآضة لها على عدم مصافحة الرجل ، على غرار مجموعة من أصدقائي الذين قابلتهم بالصدفة بأحد المقاهي الشعبية ، ووجدت في منتصفهم فتاة تضحك وتمزح معهم ، والطبيعي أن لا أتخطّاها أثناء مصافحتي لأصدقائي ، فمددّت لها يدي كما مدّدت يدي لباقي الأصدقاء مصافحاً ، فرفضت مصافحتي رغم أنّها تجلس ( إختلاطاً ) و تختلي بخمسة رجال سادسهم شخصي الضعيف دون أن يتواجد محرم معها ، وهي بالطبع غير مُنتقِبة وإلاّ لما ( تشالقت / تهوّرت ) ومدّدت يدي لمصافحتها ، وهنا يتجسد التناقض الذي أتحدث عنه ، المصافحة حرام لكن الإختلاط والضحك مع الرجال وكشف الوجه حلال ، وهذا تناقض غريب وفقاً للمنهجية الحرفية التي تتعامل بها تلك الفتاة مع النصوص الدينية .
الأمر الذي يجعلني لا أستبعد كثيراً إحتمال أن يكون الدافع لإعلانها عدم مصافحتها للرجال ليس الدين بقدر ما هو توظيف الدين لإكتساب السمعة الحسنة، وهي إحدى التكتيكات التي أصبحت مُتّبعة هذه الأيّام لإصطياد ( العرسان ) في ظل تفشي ظاهرة ما يُسمى ( العنوسة ) أو ( العزوبة ) بالنسبة للرجل . فتوظيف الدين لتحقيق مصالح ذاتية بات لازمة من لوازم ومعالم الصّحوة الإسلامية ، إذ يتم ذلك التوظيف الإنتهازي للدين في السياسة وفي التجارة وفي الزواج حيث رآجت مؤخراً ضمن مواصفات الزوج أو الزوجة المثالية خصيصة ( شاب ملتزم ) ( شابة ملتزمة ) دينياً طبعاً . نُذكِّر أنّ تحليلنا هذا ينطبق على الرجل الذي لا يُصافح أيضاً .
صحيحٌ بالطبع أنّ المصافحة من عدّمها حرِّية شخصية ، وأنّ أهمّ مفاهيم التنوير والحداثة هي إستقلالية الذات و حرية الإختيار و إمتلاك الشخص لجسده ، وسيادته على نفسه ، ومشاركته في قود مصيره وممارسته فرادته وقدرته على تكوين ذاته بصورة عامة . ولذلك أنا شدّدتُ على أنّ وجه الإلزام بالمصافحة في حال القبول بالإختلاط مع الرجال بالنسبة للمرأة أو الرجل هو إلزام ذاتي وأخلاقي محض ، وليس إلزاماً قانونياً تطّلع بتنفيذه الدولة ، تماماً كمساعدة الفقراء خارج إطار الضرائب ، و النضال ضد الإستبداد ، و الإنخراط في المشاريع الخيرية مثل مناهضة العنصرية ومحو الأُميّة ، فكل هذه الممارسات تنبع وتصدر عن إلتزام وواجب أخلاقي لا يتأتى إلاّ عبر المبادرة الفردية ، وكذلك نفس الأمر في دعوتنا هنا الموجهة لمن لا يُصافحون بعدم الإختلاط أو الحياة في زرائب وحظائر إيمانية ، حظائر أو زرائب رهبانية لا مكان فيها للإنسان ، ولا مكان فيها إلاّ لله ولتفعيل مبدأ الخلاص الفردي الأناني ، أو دعوتنا لمن لا يُصافحنّ لإرتداء النقاب ،كلّ ذلك يتم عبر مبادرة فردية منهم لتجنيب الآخرين الإحراج الناتج عن عدم القبول بمصافحتهم ، وهذا سلوك أخلاقي سنقدِّرهُ لهم لو فعلوه.
كما أنّ إنتقاد السلوكات الفردية المتطرِّفة أو التي تنجم عن تعطيل العقل لا يعني التدخل في حرية الآخرين الفردية ، ولكنه يعني الإنتقاد أو التوجيه والإرشاد المعرفي فقط لا غير ، ولا يتعداه إلى إستخدام سلطة القانون ، فمن أهم مفاهيم الحداثة والتنوير أيضا : الذات المفكرة و المذهب الإنساني و النقد التنويري وحاكمية العقل و حرية التفكير وعدم تقيِّد تلك الحرية بالنصوص أو بالفهم الحرفي لها .