أطلقت أمس الحكومة العسكرية في بورما سراح المناضلة الحائزة على جائزة نوبل للسلام أونغ سان سوتشي من الحبس المنزلي الذي دام سبع سنوات. وأول كلمات قالتها عندما خاطبت الجموع التي احتشدت أمام منزلها، كانت (يجب أن نعمل سوياً ونتغلب على الخوف). التغلب على الخوف هو الخطوة الأولى في رحلة التغيير في أي ناحية من نواحي الحياة. إذا كان منكم من يسوق سيارته ليلاً في الريف البريطاني فلا بد أنه لاحظ تصرف الأرانب عندما يفاجئها ضوء السيارة. يسيطر الخوف على الأرنب ويشل حركته فيتسمر في مكانه إلى أن تدوسه السيارة.
الخوف من الغرائز التي زرعتها الطبيعة في الحيوان كوسيلة للحفاظ على النوع. الخوف هو الذي يجعل الحيوان يهرب عندما يرى حيواناً مفترساً. ولكن الإنسان، ونتيجةً لنمو عقله، استطاع أن يسيطر جزئياً على الخوف، أو يتظاهر بأنه لا يخاف.
يقول الفيلسوف الأيرلندي والسياسي المحنك أدموند بيرك
Edmund Burke (1729-1797): (No passion so effectively robs the mind of all its powers of acting and reasoning as fear)
“ليست هناك عاطفة تسلب العقل كل قواه للعمل والتفكير مثل ما يفعل الخوف “
ويقول الفليلسوف الإنكليزي برتراند راسل
Bertrand Russell (1872-1970):
Fear is the main source of superstition and one of the main sources of cruelty. To conquer fear is the beginning of wisdom
“الخوف هو المصدر الرئيسي للخرافة وأحد أهم مصادر القسوة. هزيمة الخوف هي بداية الحكمة”
وكما يعلم غالبية القراء فإن الخوف من الموت والحلم بالخلود كان السبب الرئيسي في بداية منظومة الأديان التي وعدت الإنسان بالخلود في الدار الآخرة
Hereafter.
الأديان البدائية لم تسهب في شرح الآخرة واكتفت بأن جعلتها جنة مليئة بالفواكه والطيبات. وجاءت اليهودية بعد ذلك ولم تهتم كثيراً بوصف الآخرة التي سموها
Olam Ha-Ba
وترجمتها “العالم القادم”، وقالت إن الإنسان عندما يموت تذهب روحه إلى جنة عدن إذا كان من الطيبين الفاعلين للخير، أو تذهب إلى جهنم
Gehinnom
إذا كان من أهل الشر. وعرّفوا جهنم بأنها مكان سكن الأوغاد. ولم تشرح التوراة أو المشنا أو أي كتاب مقدس عند اليهود جهنم أو جنة عدن كما شرحهما الإسلام. كل ما تقوله المشنا عن الجنة هو (إن الخيرين في الجنة لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون، ولا يوجد بالجنة حسد أو كره للآخر ولا عناء. كل ما يفعله الخيرون هو الجلوس وعلى رؤوسهم التيجان، وهم يستمتعون بالحضور الإلهي).
وجاء الإسلام وأخذ نفس فكرة جنة عدن وجهنم من اليهودية، لكنه بالغ في وصف الاثنين وزاد رتوشاً من خيال محمد لأنه كان يعرف ما يخيف البدو ساكني بيوت الشعر، وهو النار التي تقضى على الأخضر واليابس إذا اشتعلت بالخيمة عندما تكون الزوجة تطهو الطعام أو تغلي القهوة. وعرف كذلك ما يستهويهم من الجنس والخمر واللبن، فجعل منها أنهاراً بالجنة مع حورٍ عين. ولكنه برع في تخويهم بيوم القيامة وبجهنم
حاول محمد استعمال الإقناع في بداية دعوته في مكة، ولما لم يكن قرآن مكة يحتوي على حجج مقنعه بأنه رسول الله أو أنه أتى بدينٍ جديد، لجأ محمد إلى استعمال التخويف من العذاب ليقنع قريش ومن حولها، فجاء بآيات عديدة في السور المكية لتخويف الناس:
(وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) (الإسراء 59)
(ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيرا) (الإسراء 60)
(يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) (النحل 50)
(وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم) (الذاريات 37)
(وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين) (الأعراف 56)
(تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) (السجدة 16)
ورغم هذا التخويف فشل محمد في اجتذاب القرشيين إلى دعوته ولم يتبعه بعد ثلاثة عشرة سنة من التبشير إلا حفنة من الفقراء والعبيد مع أبي بكر وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب الذي كان طفلاً وقتها. حتى أعمامه وعماته لم يصدقوه ولم يؤمن بدعوته غير عمه حمزة. ولهذا لجأ محمد إلى السيف لنشر دعوته، فأسلمت له مكة والطائف وخيبر بالسيف والحصار
وحتى بعد أن نُصر بالرعب على مسيرة شهر، كما قال في الحديث، لم يضمن جانب العرب حديثي العهد بالإسلام، فاستمر في الاتيان بآيات التخويف في القرآن المدني:
(يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) (النور 37)
(هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشيء السحاب الثقال) (الرعد 12)
(يسبح الرعد بحمده والملائكة خيفةً ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) (الرعد 13)
(يا أيها الناس اتقوا ربكم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) (الحج 1-2). بدأ محمد سورة الحج بهاتين الآيتين اللتين يبعثان الخوف في قلب القاريء والسامع.
فقهاء الإسلام يعترفون أن التخويف مهم جداً لزيادة إيمان المسلم أو للحفاظ عليه. يقول شيخ الأزهر السابق، محمد سيد طنطاوي: (من الأساليب الحكيمة لتعميق الإيمان باليوم الآخر, وترسيخ الاستعداد لاستقبال هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح: تذكير الناس بأهوال هذا اليوم وبيان أحوالهم في هذا اليوم العصيب. ومن الآيات القرآنية التي صورت أهوال هذا اليوم تصويرا ترتجف له القلوب, قوله ـتعالى يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت, وتضع كل ذات حمل حملها, وتري الناس سكاري وما هم بسكاري ولكن عذاب الله شديد[ سورة الحج: الآيتان2,1]. وقد افتتح ـسبحانه هذه السورة الكريمة بهذا الافتتاح الذي تهتز له النفوس, لكي يزداد الناس إيمانا علي إيمانهم, ويقينا علي يقينهم بأن يوم القيامة حق, وأن الثواب والعقاب فيه صدق….. وتري ـأيها العاقلـ الناس في هذا الوقت الشديد الهول, تري هيئتهم كهيئة السكاري من قوة الرعب والفزع, وما هم عن الحقيقة بسكاري, لأنهم لم يشربوا ما يسكرهم, ولكن شدة عذابه ـسبحانه للظالمين, هي التي جعلتهم بهذه الحالة التي تشبه حالة السكاري في الذهول والاضطراب. وشبيه بهاتين الآيتين في بيان أهوال الحساب قوله ـتعالى: يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا, إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور[ لقمان:33]... والحق أن حديث القرآن عن أهوال يوم الحساب, حديث لا تكاد تخلو منه سورة من سور القرآن الكريم, واقرأ علي سبيل المثالـ الجزء الأخير من أجزاء القرآن الكريم, تجده مع أن سوره من السور القصيرة نسبيا, زاخرا بالحديث عن أهوال يوم القيامة, قال ـتعالى: فإذا جاءت الصاخة. يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه[ عبس:33 ـ37].) (الأهرام، قضايا وآراء، 1/5/2003). انتهى.
إذاً الخوف مهم للحفاظ على المسلم في الحظيرة، ولذلك تزخر سور القرآن المكي بالتخويف من يوم القيامة، كما يقول شيخ الأزهر. وما زال الخوف والتخويف هو السلاح المفضل لشيوخ الإسلام في خطبة الجمعة وعلى الفضائيات لحفظ الأميين والجهلاء في حظيرة الإسلام. بالنسبة للمثقفين فإن شيوخ الإسلام يستعملون التخويف باللجوء إلى المحاكم وبمصادرة الكتب والمجلات والأفلام، وبتكفير المثقفين وتطليق زوجاتهم منهم، مما يضطرهم إلى اللجوء السياسي خارج أوطانهم، إذا لم يقتلهم معتوه بعد فتوى من فتاوى الخميني أو الشيخ محمد الغزالي. والخوف عند المسلم ليس فقط من عذاب يوم القيامة، ولكنه كذلك الخوف من المجتمع المسلم إذا خرج الشخص عن التعاليم والممارسات الإسلامية. فالخوف مما يمكن أن يقوله الجيران عن الشخص إذا خرجت أخته من المنزل دون محرم، ولذا تكثر جرائم قتل البنات في عالمنا الإسلامي خوفاً من العار (وإذا بليتم فاستتروا). والخوف كذلك يُلجم ألسنة القليل من شيوخ الإسلام الذين يزعمون أنهم قد تخلوا عن التطرف وأصبحوا يدعون للوسطية. هؤلاء الشيوخ لم ينبس واحد منهم ببنت شفة عندما فجر الإرهابيون كنيسة سيدة النجاة في بغداد خوفاً من وصفه بالموالي للنصارى واليهود (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة 51)
إبليس كان المخلوق الوحيد الذي لم يفلح معه اسلوب التخويف، ولذلك رفض أن يسجد لآدم عندما أمره الله بذلك، وقال لله (أرءيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) (الإسراء 62). ولما هزم إبليس الخوف وجابه إله السماء، بل أخبره أنه سوف يغوي عباده إلى يوم الدين، لم يستطع الله أكثر من يقول له: اذهب فقد منحتك إلى يوم القيامة. إذا هزمنا الخوف من الله سوف نهزم الله ذاته، كما فعل إبليس
يعالج أطباء الأمراض النفسية المرضى الذين يعانون من الخوف غير الطبيعي – فوبيا- من العناكب، مثلاً، بمجابهتهم بالعناكب مما يسبب لهم رهبة وصراخ، ولكن في النهاية يتغلب المريض على خوفه ولا تعود العناكب تسبب له ذلك الرهاب.
المسلم الأمي أو البدوي لا يستطيع أن يجابه خوفه من الله لأن عقله لأ يستطيع أن يستوعب فكرة أن القرآن ليس كلام الله، وبالتالي كل آيات التخويف مفروغ من صحتها، وهي تكبله كما يكبل الجنزير أرجل السجين. المؤمن المثقف يستطيع أن ينهل من العلم ما يثبت له بطلان فكرة الله ونبوة محمد، وبالتالي يمكنه أن يتغلب على خوفه من الله ويفسح المجال لعقله لينمو أكثر.
إذا تخلص كلٌ منا من خوفه ودرس الكتب الدينية المقدسة كما يدرس أي كتاب علمي أو تاريخي دون خوف أو توجس مما سيفعله به رب السماء، سوف نجد أن الأديان لم تقدم لنا سوى أفكاراً بدائية عن العالم وبدايته. كل الأفكار الدينية تتعارض مع العلم والعقل. وحتى أخلاقيات الأديان ما هي إلا تكراراً لما عرفه الإنسان في بداية حياته في المجتمعات البدائية. وبعض أهلاقيات المجتمعات البدائية تتفوق على أخلاقيات اليهودية والإسلام. كل ما جنته البشرية من الأديان هو الفرقة إلى مذاهب وأديان متعددة، كلٌ منها يُحرّض على الآخر، مما أدى إلى نشوب عدة حروب دينية بين أتباع الأديان المختلفة، وبين أتباع الدين الواحد من أصحاب المذاهب المختلفة.
يقول سير وليام درموند، الفيلسوف الاسكتلندي
He who will not reason is a bigot; he who cannot is a fool; and he who dares not is a slave.
متعصب هو ذلك الشخص الذي لا يفكر، وأحمق هو ذلك الذي لا يستطيع أن يفكر. أما الذي لا يجرؤ على التفكير، فليس من شك في أنه عبد من العبيد كامل النجار (مفكر حر)؟