في السابع عشر من يناير (كانون الثاني) 2014، نشر الكاتب القدير أمير طاهري بصحيفة «الشرق الأوسط» الغرّاء، مقالة عن النموذجين المتغايرين، وهو يعني بهما دستوري تونس ومصر بعد الثورتين فيهما. وبعد الإدلاء بملاحظات بشأن التشابهات والمفارقات في سائر دول الثورات، توصل إلى الاستنتاج اللافت: «يهدف الدستور المصري إلى استعادة سلطة أجهزة الدولة في سياق نظامي جديد. وعلى النقيض من ذلك، يُعَدُّ نصُّ الدستور التونسي مصمَّما لتقوية المجتمع المدني ضد آلية الدولة»!
لقد وصفْتُ استنتاج أمير طاهري بأنه لافت. بيد أن الأمر يستدعي المزيد من التدقيق. فمن الذي يضع الدساتير، بل ومَنْ وضعها بعد الثورات العربية؟ تضعها النُخَب القانونية والمدنية والسياسية في العادة. ويضاف لذلك في حالتي تونس ومصر أنه انضمت إلى هذه النُخَب من الفئات الثلاث شخصيات كانت معارضة لنظام الحكم السابق (في تونس ومصر)، وشخصيات دينية تمثل الأزهر والكنيسة القبطية (في حالة مصر). وهكذا فالدستوران يعكسان أمرين: الوعي الثقافي والعام لدى الفئات المشاركة، وضرورات المرحلة وأَولوياتها، ودائما بحسب ذلك الوعي. ولو نظرنا في حالتي مصر وتونس قبل الثورة فيهما، لوجدنا أن الدولة المصرية هي التي حدث فيها وعليها التغول والاستيلاء، بينما كان الوضع لهذه الجهة أقل سوءا في الحالة التونسية. وهكذا فإن هذا الانتصار البادي للمجتمع المدني في الدستور التونسي ليس سببه الخوف من عودة جهاز الدولة للاستيلاء، بل لأن الدستور ناجم عن تسوية توصلت إليها الأطراف السياسية المتصارعة خلال أكثر من عامين. ولذلك ولكي يمكن التوصل إلى توازن من نوع ما بعد اتضاح عجز حركة النهضة عن الانفراد استنادا للأكثرية الانتخابية، حصلت كل فئة من الفئات الخمس المشاركة في التقاسم والتوازن، على ما تعتبره الأهم، وظل الثلثان الباقيان من الدستور في نطاق المعروف عالميا. فالتونسيون ما توصلوا لهذا الدستور «الليبرالي» لاستنارة مميّزة في الوعي العام، ولا بسبب الخوف من سطوة الاستبداد الدولتي؛ بل إن ما يميزهم أو يشكّل فضيلة لهم بخلاف بلدان أخرى أنهم، سواء كانوا ليبراليين أم إسلاميين، يقبلون التسوية ويسعون إليها، أي أن كل طرف لا يريد إلغاء الآخر أو الإصرار على الانتصار عليه، في الحياة السياسية المفتوحة الجديدة، والتي تغلبُ فيها وعليها هموم الاستقرار والأمن والتنمية. وهذه جميعا أمور لا تتحقق إلا بالتوافق الكبير في المرحلة الانتقالية على وجه الخصوص.
وما اختلف وعي النُخَب الدستورية والمدنية والسياسية في مصر عن وعي مثائلها في تونس. بيد أن المعارضين لنظام حكم مبارك كانوا قليلين في لجنة الخمسين، وكذلك الممثلون لشباب حركة 25 يناير. لكن العامل الأساسي في اختلاف اللهجة بين الدستورين يبقى أن المصريين كانوا ولا يزالون يواجهون تحدي الإسلامَين السياسي والجهادي. وهذا التحدي الواقع هو الذي أعطى ما صار يُعرف بالدولة العميقة ثقلا ظاهرا في الموازين. فالمشاركون في اللجنة أقل تنوعا، والمخاوف على الأمن والاستقرار وانتظام عمل المؤسسات أكثر وضوحا. فما حصل الجيش وحده على ميزات كالسابق، بل حصلت على ذلك أيضا الأجهزة الأمنية الأخرى، والقضاء، والإعلام. وهي جميعا جهات عانت معاناة شديدة في العامين الأخيرين، ومن شباب الثورة أولا، ثم من الإخوان المسلمين أولا وآخِرا!
قد لا تكون هذه التفاصيل مهمة الآن. لكنني أردتُ التأكيد عليها لأشير إلى أن التشابه أكبر من الافتراق في المجتمعات العربية. ولأشير أيضا إلى أن التحديات واحدة تقريبا، وأعني بها تحديات فشل الدولة الوطنية في العالم العربي، والتي سيطر فيها وعليها العسكريون والأمنيون، وشاع فيها الفساد والاستبداد، في بلدان عربية رئيسة مثل مصر وسوريا والعراق وليبيا وتونس والجزائر والسودان واليمن وموريتانيا! وقد أضرَّ ذلك أكثر ما أضر بالفئات الشعبية الواسعة والفقيرة والتي دمّرتها إجراءات إعادة الهيكلة والاقتصاديات المتعولمة. أما الجهات الأخرى المتضررة فكانت الفئات الجديدة إذا صحَّ التعبير، وهم الشبان المتعلمون والمعولمون. والذين عنت لهم الحريات الشخصية والسياسية، والمشاركة الشيء الكثير. وهذه الفئات الجديدة في الوعي كما هو معروف هي التي حرَّكت أحجار الشطرنج، وانضمّت إليها الفئات الواسعة المستضعفة والمهمّشة التي طفا من خلالها الإسلاميون على السطح، ومنذ الانتخابات الأولى بعد الثورات.
إن الذي أريد الوصول إليه ليس التدقيق في رؤية الأستاذ أمير طاهري فقط، ولا حتى إثبات التشابه بين الثورات العربية، والتحديات التي تعرضت وتتعرض لها فقط. بل إن مرحلة العسكريين والأمنيين في دول عربية رئيسة قسمت الوعي الاجتماعي والثقافي العربي في البلدان المعنية إلى قسمين حادّين: قسم اشتد به الخوف على الدين، وقسم غلب عليه الخوف على مشروع الدولة. والذين ثاروا – كما سبق القول أيضا – من الشبان ثم من العامة هم خليط من الصنفين، وقد اختلفت طرائقهما في التعبير تبعا لاختلاف الوعي بالتحديات. ووسط افتقاد الضبط بعد اندلاع الثورات، ظهرت الأصناف الأخرى الفرعية أو الانشقاقية: ظهر الجهاديون على يمين المشهد الإسلامي الجديد، وظهر البلطجية والشبيحة على يسار وحواشي الشبان الجدد. وهؤلاء وأولئك جرى استخدامهم من جانب جماعات الإسلام السياسي، ومن جانب الأنظمة العسكرية أو بقاياها. وفي تطورات المشهد خلال ثلاث سنوات، توالت بعد تراجُع الموجة الثورية الأولى التداعيات الأخرى: التدخل الانقسامي الإيراني الشيعي – السني، والتدخلات العربية والإقليمية لنصرة هذا الطرف أو ذاك في بلدان الثورات. وإذا كان التدخل الإيراني ظاهرا في العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ فإن التدخلات الأخرى الإقليمية ظهرت في ليبيا وسوريا والسودان، وهي تحاول الآن الظهور في مصر. فليس صحيحا قطعا أن السوريين لم يحسموا أمرهم بعد في الانتهاء من الأسد ونظامه، كما أنه ليس صحيحا أيضا أن التونسيين حسموا أمرهم لصالح المجتمع المدني، بينما حسم المصريون أمرهم لصالح الدولة (المجردة أو غير المدنية).
إن الذي يحصل الآن هو محاولة بناء مجتمعات سياسية جديدة، وأنظمة جديدة. والإرهاب عائق. والإسلام السياسي عائق. والتدخل الخارجي عائق وعائق كبير. ولا عودة إلى الوراء بأي معنى. لكن الذي أخشاه أن يتحول الخوف على الدين إلى تخوف منه بالفعل، مع أن الثورات حررت الدين والدولة معا. إنني أرى أن هذا الثوران الديني المصطنع الآن ليست له أسباب حقيقية أو متوهَّمة كما قبل الثورات، بل هو ناجم عن جراحات المرحلة السابقة عند السُنّة، وناجمٌ عن قبض إيران على قيادة الطائفة الشيعية وإطلاق شبانها في العالمين العربي والإسلامي للتخريب ونشر النفوذ واستثارة ردود الفعل القاتلة. ولذلك، وإذا طال الأمر على هذا النحو، فنحن واقعون على مشارف ظهور خوفٍ من الدين، ووعي أقوى وأشد بضرورات الدولة غير الاستبدادية وغير الطائفية:
«وساعٍ إلى السلطان يسعى عليهمُ.. ومحتَرَسٌ من مثله وهو حارسُ».
منقول عن الشرق الاوسط