الخصوصيه الحضاريه في عصر العولمه‎

د. ميسون البياتي

np

حملة نابليون بونابرت على مصر سنة 1798 ميلادية

يرى المؤرخون المعنيون بالفكر العربي الحديث أن حملة نابليون بونابرت على مصر سنة 1798 ميلادية كانت على قصرها بدايةً للنهضة العربية الحديثة .

العرب ومنذ ذلك التاريخ بدأوا يقيمون الصلات مع الفكر الغربي بطرق مختلفة منها :

# فرنجة الدولة العثمانية المحتلة للعرب

# إصلاحات محمد علي باشا في مصر

# البعثات التبشيرية وازدهار التعليم في لبنان

# نشاط حركة الترجمة

# تقدم وسائل الطباعة

# البعثات العلمية العربية الى أوربا

# حركة الإستشراق

ولكل من هذه الأسباب تأثيره في الواقع الموضوعي العربي

نلاحظ أن المتعلمين العرب وهم ينفتحون على الغرب , ينقسمون الى ثلاث فئات في طريقة تعاملهم مع ثقافتهم الأصلية العربية

الفئة الأولى من المتعلمين الثقافة عندها لاتتعدى حدود القشر . تعتز بالثقافة العربية بمغالاة تكاد تمسخ هذه الثقافة , أفرادها لا يفهمون أن الخصوصية الحضارية لأي أمة هو إحتواء ثقافتها على بعض العوامل , وإنتفاء وجود عوامل أخرى , وذلك ليس عيبا , لكنهم يصرون على إلصاق كل شيء بالثقافة العربية حتى جعلوها مثل ثوب مليء بالرقع

حين تقول إن الأدب العربي يخلو من المسرحية , ينبرون لك بالقول : هناك محمد إبن دانيال ومسرحيات خيال الظل .. يسمون خيال الظل مسرحية مع أنه لا يرقى الى شبه مسرحية . ثم يذكرون لك مقامات بديع الزمان الهمداني معتبرين المقامة شكلاً من أشكال المسرحية مع أن شتان ما بينهما

نهاية القرن التاسع عشر إنفصل علم النفس عن الفلسفة , وبدأت أفكار نظرية فرويد في التحليل النفسي تتداول بين الناس , وربما ظن البعض أن فرويد قد عثر على تركيب عضوي في جسم الإنسان إسمه ( النفس ) فإنبرت هذه الفئة من متعلمينا الى القول إن القرآن إحتوى على ذكر النفس بدليل ذكره للعديد من النفوس : النفس اللوامة والنفس الآمنة والنفس المطمئنة والنفس الفاجرة والنفس التقية .. وهكذا , لكنهم خرسوا جميعا حين تبين أن نظرية فرويد هي مجرد فرضية على الورق لتفسـير سـلوك البشـرولا وجود مادي لها على الإطلاق . وعلى هذه الأمثلة يمكن قياس الكثير

الفئة الثانية من متعلمينا أيضا تمتلك ثقافة قشور . هيكل كبير من الخارج وألقاب علمية طنانة وفراغ وخواء من الداخل أفراد هذه الفئه شكل من أشكال العيوب التي أفرزها نظام إلزامية ومجانية التعليم التي أقرت في دول الوطن العربي حين خرّجت مجانية التعليم إمعات لا يملكون من الثقافة غير الشهادة , وبهذه الشهادة أصبحوا طبقة من الأمية المسلحة وصلت الى مراكز وظيفية رفيعة لتمارس فرز خوائها داخل المجتمع من خلال تعاليم متخلفه يلزم الناس بتطبيقها من خلال القرار الإداري والقانون الحكومي

الطبيعة النفسية لأفراد هذه الفئة أنهم يقدسون المظاهر التي لا يمتلكون سواها , و ينسحب هذا التقديس , الى مظاهر التقدم الصناعي والتكنولوجي التي يمتلكها الغرب بطريقة تجعل أفراد هذه الفئه يحتقرون واقعهم بغثه وسمينه , لاهثين وراء الإعجاب بالغرب , متناسين أن الحضارة والثقافة ليستا تقدماً تكنلوجيا وعلمياً فقط وإنما نظام أخلاقي وقيمي يصاحب ذلك التقدم , الغرب اليوم أشد بقاع الأرض إفتقارا إليه

الفئة الثالثة من المتعلمين في هذه الأمة , ربما هم الفئة الوحيدة التي تمتلك ثقافة تمتد الى ما هو أعمق من القشر . ولهذا تجدهم يؤمنون بخصوصية حضارتهم فلا ينسبون لها ما ليس فيها .. ويقدرون جميل مزاياها ولا ينسون ذلك وهم يتطلعون الى ما يمتلكه الآخرون من تقدم , ويقيمون الجوانب السلبية عند غيرهم بما يجعلهم لا يندفعون إندفاعا أعمى لتقليد غيرهم

الى ما قبل عقدين أو ثلاثة من الزمان لم تكن وسائل الإتصال والنقل بهذه الفاعلية .. الآن كتابة إيميل واحد وإرساله الى مئات الأشخاص حول العالم , يصلهم جميعا في عدة ثواني ,

والرحلة الجوية التي كانت تستغرق عدة أيام صارت الآن لا تأخذ أكثر من عدة ساعات

كما أن نظم التعليم والتجارة والهجرة والمبادلات الثقافية , صارت أسهل وأيسر وأكثر إنفتاحا , قصرت المسافات وتقاربت الثقافات , ولابد أن تتلاقح وتتداخل شئنا ذلك أم أبينا

متعلمونا العرب في عصر العولمة ستنقسم ردود أفعالهم إزاء التطبيع الحاصل , الفئة المتعصبه للثقافة العربية ستنغلق ويتقوقع أغلب أفرادها , ومن المحتمل أن ينكص إجتماعياً الكثير منهم , فيحيون لنا عادات وتقاليد عربية كنا قد نسيناها منذ عشرات أو مئات السنين ولعل التخبط وإزدواجية المعايير التي يتعامل بها المنتمون للتيارات والأحزاب الدينيه خير مثال اليوم على هذه الفئه

الفئة المستهترة بقيم أمتها واللاهثة وراء تقدم الغرب الصناعي والتكنولوجي , هؤلاء سينسلخون عن الأمة ويكونون أول باعة قيمها وتقاليدها وعاداتها , وهم أول خونتها وباعة مصالحها اذا سمحت لهم الأحوال بذلك , تراهم يفتحون الباب للمحتل ويشرعنون وجوده , ويتعاونون معه على أهاليهم , لا أتكلم عن العراق وحده إنما عن كل بقاع العرب المحتقنة في فلسطين ولبنان والسودان . أفراد هذه الفئة وحسب تشبيه الروائي جاسم الرصيف في روايته الأخيرة ( رؤوس الحرية المكيسة ) يسمحون لأنفسهم بإمتهان مهنة ( مسمار حذاء) في بسطال المحتل

وحين يستقدمون تكنلوجيا الغرب الى بلدانهم فهم أول من يستخدمها إستخداما سيئاً , يستعمل السكين للقتل , ومثقاب الخشب لتعذيب الناس , والقناة الفضائية للبحث عن سفاسف الأمور , والموبايل للتعدي على الناس , والكومبيوتر لممارسة بعض الترهات , وسهولة النقل الجوي لممارسة إبتذالاته في بقاع بعيدة عن الأعين

وهناك فئة من المثقفين العرب ستتعامل مع الواقع الجديد بإعتدال , تقتبس عن الغير أحسن ما عنده , ولا تنسى قيمها , مؤمنة أن الإنصهار في بوتقة العولمة هو شيء حتمي .. لكننا ونحن ماضون إليه فعلينا أن نأخذ معنا أفضل ما عندنا من قيم وعادات , ولا نتركها خلفنا للفناء

وسيبقى التعريف الأجمل للفضيلة : إنها الحد الوسط .. بين إفراط وتفريط

ميسون البياتي – مفكر حر؟

About ميسون البياتي

الدكتورة ميسون البياتي إعلامية عراقية معروفة عملت في تلفزيون العراق من بغداد 1973 _ 1997 شاركت في إعداد وتقديم العشرات من البرامج الثقافية الأدبية والفنية عملت في إذاعة صوت الجماهير عملت في إذاعة بغداد نشرت بعض المواضيع المكتوبة في الصحافة العراقية ساهمت في الكتابة في مطبوعات الأطفال مجلتي والمزمار التي تصدر عن دار ثقافة الأطفال بعد الحصول على الدكتوراه عملت تدريسية في جامعة بغداد شاركت في بطولة الفلم السينمائي ( الملك غازي ) إخراج محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية آخر ملكات العراق حضرت المئات من المؤتمرات والندوات والمهرجانات , بصفتها الشخصية , أو صفتها الوظيفية كإعلامية أو تدريسة في الجامعة غادرت العراق عام 1997 عملت في عدد من الجامعات العربية كتدريسية , كما حصلت على عدة عقود كأستاذ زائر ساهمت بإعداد العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول العربية التي أقامت فيها لها العديد من البحوث والدراسات المكتوبة والمطبوعة والمنشورة تعمل حالياً : نائب الرئيس - مدير عام المركز العربي للعلاقات الدوليه
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

One Response to الخصوصيه الحضاريه في عصر العولمه‎

  1. طلال عبدالله الخوري says:

    نشكر الدكتورة العزيزة ميسون البياتي على جهودها في كتابة هذا المقال الهام,,, وبعد
    كما يدلنا التاريخ كان هناك تغير واضح وايجابي في سلوك العرب بعد حملة نابليون بونابرت على مصر؟؟ وقد بدأ العرب ينهجون سلوك حضاري طبيعي متطور مثل بقية الامم؟؟ ما هو السبب يا ترى برأيكم؟
    ثم عاد العرب ثانية الى سلوك غريب متخلف بعد ذلك! وهو الذي اوصلنا الى هذا الحضيض الذي نعيشه الان في الوقت الحاضر؟؟ ما هو السبب لعودة العرب عن السلوك الحضاري الذي بدأوه بعد حملة نابليون الى السلوك المشين والمتخلف والذي نعيشه الان؟؟
    حتما هناك اسباب موضوعية لكل من الحالتين
    سأحاول ان اكتب بحث للاجابة على هذين السؤالين ولكن احب ان اعرف رأيكم
    كل المودة لك ولجميع قرائك الكرام

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.