كان ميخائيل نعيمة أبرز أدباء المهجر وأعضاء «الرابطة القلمية» بعد جبران خليل جبران. عاش أكثر من 90 عاما، ودرس فتيا في فلسطين وأوكرانيا وأميركا التي تنقّل فيها بحثا عن الرزق. وفي الحرب العالمية الأولى تم تجنيده في الجيش ونقل إلى فرنسا عسكريا بسيطا، هو الحالم بأن يصبح ذات يوم أحد أدباء العالم.
دوَّن نعيمة هذه المراحل في مذكَّرات من ثلاثة أجزاء سمّاها «سبعون»، هي بين أجمل ما كتب. أو بالأحرى كانت الأقرب إلى الواقع والواقعية في حياة أدبية غلب عليها التأمل والتفكّر والزهد والحنين إلى حياة القرية في سفح جبل صنين وصخور بلدته بسكنتا.
عاش أعزب في منزل عائلة شقيقه. وكرَّس معظم مداخيله لتوسيع الكوخ الذي ولد فيه وتهذيب الأرض التي هدَّت قوى والده الفلاح، الذي أمضى العمر يزرع القمح بين صخرة وأخرى، ويحصده من بين حجر وآخر. وتحول ذلك الكوخ المعروف «بالشخروب» إلى مزار للأدباء والمعجبين الذين كانوا يأتون من أنحاء العالم العربي للسلام عليه.
في شبابي لم أحب نعيمة. كنت أراه صخري الأسلوب، بعكس سلاسة جبران. وكنت أراه عتيقا، رافضا لأي تأثير حداثي. وربما أفادني ذلك، إذ قرأته بعدما ازددت نضوجا. وعندما أعود إليه الآن لا أعود إلى كل ما كتب. أتحاشى تلك التأملات التي كتبها لعصر لم يعد حيا، وينطبق ذلك على الكثير من مؤلفات جبران أيضا.
لكن هناك الكثير من الأعمال الكلاسيكية المتجدِّدة دوما في آثار ثلاثة من أدباء المهجر على الأقل، وهم جبران ونعيمة وشعر إيليا أبي ماضي، العذب والغنائي الإيقاع.
عدت إلى نعيمة لما كتب عن الحروب يوم جُنّد رغم أنفه، ونحن نعيش في مناخ حرب سوريا، أينما كنّا. يقول: «لو أن فظاعة الحرب توقفت عند تشويه الأجساد وإزهاق الأرواح وتخريب العامر من الأرض وتهديم الآهل من المدن والقرى، لكانت بعض الفظاعة وبعض البشاعة، ولكنها تشوِّه الروح في الجسد قبل أن تشوه الجسد. وتُزهق الحق في الروح قبل أن تُزهق الروح. وتُخرب العامر من العقول قبل أن تُخرب العامر من الأرض. وتهدم الضمائر الآهلة بالفضيلة قبل أن تهدم المدن والقرى الآهلة بالسكان. إنها الكره الصاخب وقد أنزل المحبة الصامتة عن عرشها فلبس تاجها وحمل صولجانها».
منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب في سوريا، كان هذا ما أخافه. لقد علمتنا تجربة الحرب في لبنان أن الحجارة يعاد تعميرها بأفضل من قبل. النفوس التي تخرب يصعب أن تُبنى من جديد.
المصدر: الشرق الاوسط