الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا – من أفضل – إن لم يكن أفضل مفكرينا، وأنا معجب بصراحته وصدقه واستقامته وشجاعته، ومنذ أسبوعين تقريباً، بعد أن ألقي البابا بنديكت السادس عشر محاضرته المنكودة، كان رد الدكتور العوا من أفضل الردود وأكثرها حزماً وعزماً وفهماً للقضية.
ولكن جاء في هذا الرد أنه لا يخشى علي المسلمين إلا أمرين، كان أولهما: الحرية التي لا سقف لها. وذكرتني هذه الإشارة بمحاورة قديمة دارت بيننا علي هامش لقاء، لعله كان في نقابة الصحفيين عندما قال لي: «أنا أؤمن بحرية الفكر أما حرية التعبير، فيجب أن تخضع للقوانين والدساتير»، وأذكر أنني قلت له: «لو قيدت حرية التعبير بالقوانين والدساتير، لما كانت هناك قوانين ولا دساتير، لأن حرية التعبير هي التي أوجدتها، وما كان الملوك ليتنازلون طواعية عن حقهم الإلهي في الحكم، إلا لأن الشعب – بفضل حرية التعبير – أجبرهم علي ذلك».
تذكرت هذا عندما قرأت تحفظه علي الحرية وافتراضه وضع سقف للحرية، ورأيت أنه ما زال عند موقفه.
وأنا أعيد هذا إلي العقلية القانونية للدكتور العوا، فهو قانوني ضليع، والقانوني يختلف عن المشرع اختلاف الشرع عن القانون.
فالشرع يأتي من الله، أو من الأنبياء، أو من الفلاسفة والأحرار الذين يؤمنون بالحق المطلق لحرية الفكر، وأن حرية التعبير هي جزء من حرية الفكر.
وأذكر هنا أن رسولنا العظيم كان من أوائل الذين دعوا إلي حرية التعبير، عندما كان يقول لكفار قريش: «خلوا بيني وبين الناس». ذلك أن قريش كانت ترسل وراءه أحد أتباعها، فما أن يدعو الرسول أحداً إلي الإسلام حتي يتدخل هذا التابع، ويقول: «لا تسمعوا له، ولو كان فيه خير لكانت عشيرته أولي به».
موقف الرسول هنا هو الموقف الذي وقفه القرآن، عندما أوجب حرية الدعوة.
أما الموقف القانوني فهو موقف الذي يأخذ الشرع ليقننه، ملاحظاً مصالح وأوضاع المجتمع وتوافقه مع سلطة الحكم، واعتبارات أخري عديدة من ضروريات التطبيق، بحيث يكون القانون تعبيراً عن المجتمع. ويصدق ما لاحظه ماركس من أن القوانين لا تصنع المجتمعات، ولكن المجتمعات هي التي تصنع القوانين.
ونجد كبار قانونيينا في الأئمة الذين وضعوا أصول القانون الإسلامي أو الشريعة، والدكتور العوا ينتمي إلي هؤلاء.
فما وضعه الأئمة هو عن تفاعل الشريعة بأوضاع المجتمع، بحيث صار تعبيراً عن هذين.
وأذكر هنا كمثال لاختلاف الشريعة التي يضعها الفقهاء عن الشريعة، التي جاء بها القرآن، ما موقف الشريعة الفقهية من قضية الردة، فقد حرمتها كل المذاهب الفقهية علي حين أعلن القرآن مراراً وتكراراً حرية العقيدة.
ولا أريد أن أمضي طويلاً في هذه الناحية، فما دمنا ندافع عن الحرية، فمن البديهي أن نتلقي ونستقبل كل الآراء المخالفة، وإلا لما كانت حرية.
ما أريد أن أقول: إن الحرية يمكن أن تصنع سقفها، وأن افتراض «وضع» سقف لها من خارج إطارها، يتناقض مع طبيعتها، ويمكن أن يكون سداً أو حتى شلاً لها.
إن الحرية يمكن أن تضع سقفها – خاصة في مجتمع إسلامي – يعطي حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل فرد. فطبيعي أنه في هذا المجتمع إذا رأي أحد الناس أن الحرية قد سمحت بشذوذ أو شطط، فإن من حقه أولاً كفرد يؤمن بالحرية، وثانياً كمسلم يؤكد الإسلام صحة هذا المبدأ، أن يطالب بتعديل، أو تغيير…. إلخ. وعندئذ ينبري ثان ليقول إن المتدخل له حق في جانب وخالف الحق في جانب آخر. ولكن يظهر ثالث ورابع وخامس وسادس، ويصبح الموضوع سجالاً مفتوحاً يتمخض في النهاية عن الرأي الأمثل الذي يمثل الوجوه المتعددة للموضوع، بحيث لا يأتي القرار ممثلاً لوجهة نظر مفردة، وبالتالي يصاب بنقص.
ومن هنا قالوا: «الحقيقة بنت البحث».
إن كل لعبة لها قواعدها التي دونها لا يمكن أن تمضي اللعبة، ولها أيضاً حكمها الذي يلحظ هذه القواعد، ويحول دون مخالفتها. والحرية، رغم امتيازها ليست استثناء، والجديد أن قواعد اللعبة توضع بممارسة اللاعبين، ومن وضعهم حرصاً علي اللعبة، وأن الحكم ملزم بتطبيق هذه القواعد بالذات، وليس له أن يخرج عنها أو يأتي بغيرها، وبهذا يحقق السقف دون تدخل أحد خارج أسرة الحرية، حتى لو كان الحاكم مثلاً، الذي يكون بمثابة الموت للحرية، وحتى لو تقنع هذا الحاكم بمختلف الأقنعة أو تزين بمسوح الدفاع عن «المصلحة العامة»، أو النظام العام، فهذا كله إنما يقوم علي حساب عمل الحرية ومضيها.
ونحن نعترف – مع هذا كله – أنه يحدث كما يحدث الآن في بعض مجتمعات الغرب، أن تميل الحرية إلي شطط يهدد – في مجموعه – المجتمع، ولكن هذا لا يحدث، إلا عندما ينتاب المجتمع كله مرض يوهن إرادة كل – أو معظم – أفراده، فلا تظهر فيه المعارضة التي تقاوم هذا الشذوذ والشطط، ويكون العيب هنا ليس عيباً في الحرية، وإنما في المجتمع.
وأعتقد أن المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تنزلق إلي منزلق الشطط، خاصة في التحليل والترخص الذي انزلقت إليه بعض مجتمعات الغرب، لأن القرآن الكريم ومواقف وسياسات الرسول عمقت الشعور بالمسؤولية، وأرهفت حاسة الإيمان بحيث أصبحت حارسة للقيم، حائلة دون تجاوزها، وفي الوقت نفسه فإنها تحول تحريم الحكام أو الفقهاء.
لقد أنزل الإسلام إلي ساحة الملعب قوة جديدة، هي قوة «الإيمان» الطوعي الحر، وبهذا أوجد ضماناً فريداً يقوم علي الحرية «لأنه صادر عن إيمان حر»، وفي الوقت نفسه يحمي الحرية من الزلل.
وهذه هي ميزة الأديان التي لم تتوفر في غيرها كالفلسفة مثلاً، والتي يمكن أن يشوهها الفقهاء. وهذا هو السبب في أننا نتمسك بالقرآن دون الفقهاء. ونقول وسنظل نقول ما قاله الرسول: «خلوا بيني وبين الناس»، الأمر الذي يعني حرية التعبيرجمال البنا – مفكر حر
Related
About جمال البنا
ولد فى المحمودية من أعمال محافظة البحيرة (تبتعد عن الإسكندرية 50 كيلو) فى 15/12/1920 من أسرة نابهة عرفت بعلو الهمة ، فوالده هو مصنف أعظم موسوعة فى الحديث (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى فى 24 جزءًا ، وشقيقه الأكبر هو الإمام الشهيد حسن البنا المرشد المؤسس للإخوان المسلمين .
عكف منذ طفولته على الاطلاع بحيث تزود بحصيلة ثقافيـة غزيرة ، وبعد أن أتم دراسة الابتدائية ودخل المدرسة الخديوية الثانوية . حدث شجار بينه وبين أستاذه فى اللغة الإنجليزية وهو إنجليزى ، فترك الدراسة غير آسف ، واستكمل دراسته بوسائله الخاصة .
واصل جمال البنا مطالعاته ، وأصدر كتابه الأول سنة 1945 وهو عن الإصلاح الاجتماعى، وفى العام التالى (1946) أصدر كتابه "ديمقراطية جديدة" الذى تضمن فصلاً بعنوان "فهم جديد للقرآن" استعرض فيه فكرة المصلحة كما قدمها الإمام الطوفى ، وانتقد الموجة الحماسية لدى بعض الدوائر بفعل نجاح دعوة الإخوان المسلمين وقال : "لا تؤمنوا بالإيمان .. ولكن بالإنسان" وهذه الملاحظة لا تزال أحد معالم دعوة الأستاذ جمال البنا فى الإحياء الإسلامى .
فى عام 1952 أصدر "مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم" كما أسس (1953 ــ 1955) الجمعية المصرية لرعاية المسجونين ، وحققت الجمعية ثورة فى إصلاح السجون ، وأدت إلى مجابهة بينه وبين السلطات .
عندما قامت حركة الجيش فى مصر بقيادة عبد الناصر فى 23 يوليو سنة 1952 بدأ الأستاذ جمال البنا فى كتابة كتاب باسم "ترشيد النهضة" ارتأى فى الفصل الأول أن هذه الحركة هى انقلاب عسكرى وليس ثورة ، وما أن اطلع الرقيب على ذلك حتى أصدر أمرًا بمصادرة الكتاب ، وأخذ كل الملازم المطبوعة ، وبهذا التصرف تأكد جمال البنا من أن الحركة ذات طابع ديكتاتورى ، وأن لا فائدة من محاولة تقدم الرأى والمشورة .
عنى الأستاذ جمال البنا خلال الحقبة الناصرية المعادية للاتجاهات الإسلامية بالحركة النقابية ، فأصدر وترجم الكثير من الكتب والمراجع التى نشرتها منظمة العمل الدولية بجنيف والجامعة العمالية بمدينة نصر والدار القومية.. كما حاضر بصفة منتظمة فى معهد الدراسات النقابية منذ أن تأسس سنة 1963 حتى سنة 1993 عندما انتقد التنظيم النقابى القائم .
وقد كان آخر كتبه النقابية عن (المعارضة العمالية فى عهد لينين) الذى كتبته مدام كولونتاى ، فقام بترجمته والتعليق عليه .
فى سنة 1981 أسس جمال البنا الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل ، وكانت منظمة العمـل الدولية قد استعانت به فى عـدد من الترجمات ، كما استعانت منظمة العمل العربية كخبير استشارى . وبحكم هذه الصفات نظم شبكة من العلاقات بقيادات اتحادات ونقابات فى كثير من الدول الإسلامية . وفى 1981 دعا معظمها للاجتماع فى جنيف خلال انعقاد مؤتمر العمل الدولى بها ، وفى هذا الاجتماع تأسس الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل من مندوبى اتحادات عمالية فى الأردن والمغرب وباكستان والسودان وبنجلاديش .
وللاتحاد مكتب فى كوالامبور وآخر فى الرباط .
مع السبعينات وملاءمة المناخ للعمـل الإسـلامى بدأ الأستاذ جمال البنا كتاباته التى كان أولها "روح الإســـلام" و "الأصــلان العظيمان : الكتاب والسُنة" ، وعددًا آخر من الكتب لا يتسع المجال لها .
ابتداء من 1990 شغل بإصدار كتابه الجامع "نحو فقه جديد" فى ثلاثة أجزاء الذى دعا فيه إلى إبداع فقه جديد يختلف عن الفقه القديم ، ولا يلتزم ضرورة بالتفسيرات ، أو علوم الحديث .. الخ ، أو أصول الفقه ، وصدر الجزء الثالث عام 1999 .
أثار الكتاب ضجة كبيرة ودعا بعضهم لمصادرته ، ولكن المسئولين تنبهوا إلى هذا سـيذيع دعوته فمارسوا مؤامرة صمت إزاءه ، رد عليها جمال البنا عام 2000 بإعلان تأسيس "دعـوة الإحياء الإسلامى" التى ضمنها خلاصة فكره الإسلامى والسياسى والثقافى .
فى سنة 1997 أسس بالمشاركة مع شقيقته السيدة فوزية "مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامى" ، وتبرعت السيدة فوزية بقرابة نصف مليون جنيه للمؤسسة مكنها أن تؤدى دورها فى غنى عن السؤال .
ولما كانت زوجة الأستاذ جمال البنا قد توفيت سنة 1987 ولم يتزوج بعدها ، فإنه حول شقته إلى مكتبة تحمل اسم المؤسسة . وتضم المكتبة قرابة خمس عشر ألف كتاب عربى ، وثلاثة آلاف باللغة الإنجليزية ، كما تضم مكتبة والد الأستاذ جمال وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن ، والكثير من تراث آل البنا ، والأصول الخطية لكتب الشيخ البنا ، وقد زودت المكتبة بقاعة إطلاع وآلة تصوير ووحدة كمبيوتر .
بالمكتبة 15 ألف كتاب عربي وثلاثة آلاف كتاب إنجليزي وبها قسم للدوريات يضم 150 مجلة ، وبعض الموسوعات والمجموعات القديمة لصحف الإخوان المسلمين من سنة 1936 ، وأوراق خطية للإمام الشهيد حسن البنا ، والكثير من وثائق الإخوان المسلمين ، فضلاً عن جذاذات من الصحف ، ومسودات وأصول كتب للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ولجمال البنا .
استطاع الأستاذ جمال البنا بفضل تفرغه للكتابة أن يصدر أكثر من مائة كتاب (منها قرابة عشرة مترجمة) وهو يكتب بتمكن وأسلوب سهل ، وإن كان له طبيعة فنية ، وقد أصدر كتابًا من ثلاثمائة صفحة عن "ظهور وسقوط جمهورية فايمار" كما تعد كتبه عن "الدعوات الإسلامية" من المراجع الرئيسية لما توفر له من صلات ومراجع .
أن دعوة الإحياء الإسلامى رغم أنها قوبلت بتعتيم إخبارى أريد به عدم التعريف بها ، فإنها شقت طريقها ليس فحسب فى مصر والدول العربية ، ولكن أيضًا فى الخارج حيث أصبحت محل اهتمام الهيئات الدولية والجامعات ، وهي لا تهدف لتكوين حزب أو جماعة ، ولكنها تريد أن تقدم رؤية حرة للإسلام يُعد كل من يؤمن بها مالكا لها أو شريكاً فيها .
لدعوة الإحياء الإسلامى موقع على الانترنت ، وعنوان إليكترونى كالآتى :
gamal_albanna@yahoo.com
E-mail :
gamal_albanna@infinity.com.eg
www.islamiccall.org
وعنوانها : 195 شارع الجيش ــ 11271 القاهرة
هاتف وفاكس 25936494