لقد ظلت الأمتان القرطاجية والرومانية صديقتين طالما كانت إحداهما من القوة ما تستطيع به أن تسيطر على الأخرى . وقد عقدتا في 508 ق.م معاهدة اعترفتا فيها بسيادة روما على شاطئ “لاتيوم ” وتعهد فيها الرومان ألا يسيّروا سفنهم في البحر الأبيض المتوسط غربي قرطاجة ، وألا ينزلوا في ” سردانية ” أو ” لوبية ” إلا فترات قصيرة يصلحون فيها سفنهم أو يمونونها .
ويقول أحد الجغرافيين اليونانيين ، إن القرطاجيين اعتادوا أن يغرقوا كل بحّار أجنبي يجدونه بين سردانية وجبل طارق .
كان اليونانيون في” مساليا ” ( مرسيليا ) قد نشأت لهم تجارة شاطئية سليمة بين جنوبي ” غالة ” وشمالي أسبانيا الغربي . وتروي الأخبار أن قرطاجة كانت تحارب هذه التجارة حروب قرصنة، وإن مساليا كانت حليفة وفية لروما ( ولسنا ندري ما في هذه الأخبار من دعوات للحرب يسمونها تاريخاً تكريماً لها وتعظيماً ) .
أما وقد سيطرت روما على جميع إيطاليا ، فإنها لم تكن تشعر بالأمن والطمأنينة إلى سلامتها ما دامت هناك قوتان معاديتان لها ( اليونانيون والقرطاجيون) طالما تتملكان صقلية ، وهي لا تكاد تبعد عن ساحل إيطاليا بميل واحد . يضاف إلى هذا أن صقلية بطبيعتها جزيرة خصبة التربة ، وفي وسعها أن تمّون نصف إيطاليا بالحبوب ، وإذا ما استولت روما على صقلية سقطت ” سردانية و قورسقة ” تباعا . فهذا طريق لابد من سلكه وهو الطريق الطبيعي الأمثل لتوسع روما وبسط نفوذها .
وقد بقي أن تجد الحجة التي تتذرع بها روما لإشعال نار الحرب . وقد جاءت هذه الحجة في عام 264 ق .م حينما استولت مجموعة من مرتزقة ( السمنيين يسمون أنفسهم الممرتيين أي “ رجال المريخ “ ) على بلدة ” مسانا ” والتي تقع بالقرب من سواحل ايطاليا، وقاموا بمجزرة دموية وذبحوا جميع ساكينيها من الرجال اليونانيين ، واقتسموا فيما بينهم نساء هؤلاء الضحايا وأبناءهم وأملاكهم ، وصار ديدنهم هو الإغارة على المدن اليونانية القريبة من تلك البلدة . فما كان من “هيرو الثاني ” دكتاتور “سرقوسة ” إلا أن حاصرهم ، ولكن قوة قرطاجية نزلت في مسانا وردت هيرو على أعقابه واستولت على المدينة . واستغاث الممرتيون بروما وطلبوا إليها أن تعينهم على من أنقذوهم من عدوهم .
تردد مجلس الشيوخ الروماني بعد سماع تلك الأخبار في تقديم هذه المعونة لأنه يعرف ما لقرطاجة من قوة وثروة، ولكن الأثرياء من العامة الذين يسيطرون على الجمعية المئوية أخذوا ينادون بالحرب والاستيلاء على صقلية .
كان قرار روما بعد المداولات بأن تبعد القرطاجيين عن هذا الثغر ذي الموقع الحربي الهام القريب كل القرب منها ، ومهما كان الأمر.
جهزت روما أسطولاً وعقدت لواءه لـ “ كيوس كلوديوس “ وأبجرت به لإنقاذ الممرتيين ، ولكن القرطاجيين استطاعوا في هذه الأثناء أن يقنعوا الممرتيين بالعدول عن طلب مساعدة روما ، وأرسلوا رسالة بهذا المعنى إلى كلوديوس في ” ريجيوم ” . . غير أن كلوديوس لم يلق بالاً إلى هذه الرسالة ، وعبر المضيق الذي يفصل إيطاليا عن صقلية ، ودعا أمير البحر القرطاجي إلى المفاوضة ، فلما جاءه قبض عليه وسجنه ، وبعث برسالة إلى الجيش القرطاجي يقول فيها إنه سيقتل أمير البحر إذا أبدى الجيش أية مقاومة . ورحب الجنود المرتزقة بهذه الحجة التي تتيح لهم فرصة تجنب القتال مع الفيالق الرومانية ، وتظهرهم في الوقت نفسه بمظهر الشهامة ، وسقطت مسانا في يد روما .
وبرز في هذه الحرب البونية ( الفينيقية ) الأولى 264 ق.م بطلان عظيمان هما ” رجيولوس الروماني ” و ” هملكار القرطاجي ” . ولعل في وسعنا أن نضيف إليهما ثالثاً ورابعاً هما مجلس شيوخ روما والشعب الروماني .
أما مجلس الشيوخ فلأنه ضم هيرو صاحب سرقوسة إلى جانب روما وضمن بذلك وصول الزاد والعتاد الى الجيش الروماني في صقلية .
القائد العسكري المحنّك” رجيولوس الروماني ” الذي كانت له نظرة ثاقبة في التخطيط والقيادة قائمة على الحكمة والسداد، وكان قوي العزيمة، وقاد روما إلى النصر وسط الخطوب والأهوال الجسام . أما الشعب الروماني فقد أمدّ الحكومة بالمال والعتاد ، والأيدي العاملة ، وبالرجال الذين بنوا لروما أسطولها الأول والذي كان مؤلفًا من 330 سفينة كلها تقريبًا ذات صفوف من المجدفين ، ويبلغ طول الواحدة منها 150 قدمًا، في كل منها 300 مجذف و120 جنديًا، ومعظمها مجهز بخطاطيف من الحديد لم تكن معروفة من قبل ، وبجسور متحركة تمكنهم من الإمساك بسفن الأعداء والنزول إليها . وبهذه الطريقة بدّل الرومان الحرب البحرية التي لم يألفوها من قبل حرباً برية يقاتلون فيها أعدائهم وجها لوجه ويدا بيد، وتستطيع فيها فيالقهم أن تستفيد بكل ما تمتاز به من مهارة ودقة التنظيم .
ويقول “بولبيوس” :
( ويدل هذا الحادث أكثر مما يدل غيره من الحوادث على ما للرومان من جرأة وبسالة إذا ما اعتزموا القيام بعمل خطير . . ذلك أنهم لم يفكروا قط قبل هذه الحرب في إنشاء أسطول ، فلما استقر رأيهم على إنشائه بذلوا في ذلك جهد الجبابرة ، وهاجموا به من فورهم القرطاجيين الذين ظلوا عدة أجيال سادة البحار لا ينازعهم فيها منازع ، مع أن الرومان لم تكن لهم في حرب البحار خبرة ما ) .
والتقى الأسطولان بالقرب من ” إكنوموس ” أحد الثغور الواقعة على ساحل صقلية الجنوبي، وكانا يحملان من الجند ثلاثمائة ألف . ودارت بينهما أكبر معركة بحرية في التاريخ القديم . وانتصر الرومان فيها انتصاراً مؤزراً حاسماً ساروا بعده إلى إفريقيا لا يلوون على شيء، ونزلوا إلى البر دون أن يعنوا باستطلاع الأرض ، فالتقوا بقوة تفوق قوتهم كادت تفنيهم عن آخرهم ، وأسرت قنصلهم الطائش المتهور .
وبعد فترة وجيزة من الزمان دفعت العواصف الأسطول الروماني إلى شاطئ صخري فتحطمت منه 284 سفينة وغرق,000 80 من رجاله .
كانت تلك أسوأ كارثة بحرية عرفها الناس في التاريخ . وأظهر الرومان بعدها ما في طبائعهم من عزيمة فبنوا في ثلاثة أشهر مائتي سفينة جديدة ذات خمسة صفوف من المجدفين، ودربوا لها ثمانين ألف بحار .
احتفظ القرطاجيون ” برجيولوس ” في الأسر خمس سنين ، ثم سمحوا له بأن يرافق وفدا تفاوضبا قرطاجياً إلى روما يعرض عليها الصلح بعد أن وعدهم بأن يعود إلى الأسر إذا رفض مجلس الشيوخ الروماني الشروط التي عرضوها عليه .
فلما سمع ” رجيولوس ” هذه الشروط أشار على مجلس الشيوخ بأن يرفضها ، ثم عاد مع الوفد المفاوض إلى قرطاجة غير عابئ بتوسل أسرته وأصدقائه .
وعلى ضوء ذلك السلوك الذي أبداه ” رجيولوس ” بعملية التفاوض ، خضع بعدعودته للتعذيب الشديد ، وكانو يحرمونه من النوم والطعام حتى فارق الحياة . وانتقاما لمقتله في الأسر، أمسك أبناؤه في روما بأسيرين من ذوي المكانة في بلادهما قرطاجة وحبسوهما داخل صندوق مثبتة فيه حراب من الحديد، وحرموا عليهما النوم حتى قضيا نحبيهما .
وليس بمقدورنا أن نصدق كلتا القصتين إلا حين نذكر ما حدث ويحدث من التعذيب الهمجي في هذه الأيام .
في241 ق.م أضطر القرطاجيون إلى قبول الصلح مع الرومان في معاهدة( كاتولوس ) والذي تتضمن تخلي قرطاجة النهائي عن جزيرة صقلية، وتتعهد فيها قرطاجة ايضا بدفع غرامة مالية قدرها 320 وزنة تسددها سنوبا على شكل أقساط لمدة 20 عاما وأن تسلم قرطاجة كل الرهائن الرومان بدون أية فدية أو مقابل. وبذلك انتهت الجرب البونية الأولى .