د. أفنان القاسم
الحداثة الزرقاء
دراسة في أدب غسان كنفاني
LA MODERNITE BLEUE
ESSAI SUR LA LITTERATURE DE GHASSAN KANAFANI
الطبعة الأولى وزارة الثقافة والفنون بغداد 1978
الطبعة الثانية دار الأسوار عكا 1979
الطبعة الثالثة دار النسر عمان 1993
إلى فايز غسان كنفاني
البِنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني
من البطل المنفي إلى البطل الثوري
أطروحة أفنان القاسم الأولى لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الجديدة
نوقشت في شهر حزيران 1975 بتقدير جيد جدًا
ترجمت عن الفرنسية بقلم كاتبها
مقدمة
بعد فترة طويلة من التأسن الاجتماعي والثقافي، عرف الأدب العربي انطلاقًا لافتًا للانتباه بعد الحرب العالمية الثانية، وتمخضت عن ذلك، على الصعيد التعبيري، مضامين جديدة. وكلما تحولت المجتمعات العربية في بعض مظاهر الحياة الاجتماعية كلما طرأت على الأدب العربي التحولات نفسها، في مضامينه، في آفاقه، وخاصة في دوره داخل الحياة الاجتماعية هذه، تحولات لا يمكن أن تأتي بشكل آلي، وإنما عَبر استيعاب إنمائي للأشكال الأدبية، ولحقول التوصيل الأخرى.
استمد الأدب الفلسطيني خصوصيته، في وسط هذا التغيير للثقافة العربية، من الشروط الخاصة بالكفاح من أجل التحرر والاستقلال الوطني الذي عرفه الشعب الفلسطيني، منذ اقتلاعه من أرضه، والذي سيعرفه تبعًا لذلك قبل أن يستعيد كافة حقوقه الوطنية، هذه الحقوق التي هي اليوم الشرط الأول في حياة كل شعب يتمتع بكل حرياته، بعيدًا عن أنصاف الحلول أو أرباعها.
صاحبَ الأدب الفلسطيني هذا الكفاح في مراحله المُرَّة كما في آماله الكبار، قبل إغلاق كل أفق أمام كل معركة هدفها التحرير، كما هو الحال اليوم (تاريخ الطبعة الثالثة)، وكانت مصاحبته له بصفته عاكسًا ومحرضًا، فأعاد إلى المقاتل عزته، بإسقائه جدول الأمل الضئيل الذي أوشك على النضوب بعد النكبة: وذلك مع صورة الفلسطيني الذي عاش حقًا تجارب أليمة غير أنه لم يتخل أبدًا عن كرامته الإنسانية، وعزم على ألا يتيح لقوى الأعداء الفرصة لسحقه.
أعطى هذا الكفاح التاريخي الحقيقي ميلادًا لأدب جديد، بكل ما يحمله المصطلح من معان -كيف ولماذا وإلى أي حد هو جديد وخاصة إلى أي حد هو أدب سنرى ذلك- يتناقض تناقضًا جوهريًا مع الأدب التأملي لعصر الركود، فانتهى التمثيل الساكن والوصفي الذي يستمد قوته الوحيدة من “تقليد القدامى”، وانتهت السيطرة الأدبية التي تتجلى في التكرار الساذج للنماذج الموافقة لواقع اجتماعي آخر، وغدت بالتالي عقيمة ومقطوعة تمامًا عن المشاكل الاجتماعية لعصرنا، فالكفاح من أجل التحرر والاستقلال الوطني يعني دينامية اجتماعية أبعدت بسرعة أدبًا انكشف عاجزًا عن إعطاء أدنى جواب للمشاكل الجديدة التي طرحها التاريخ.
أبدى الشعر أول ما أبدى مواضيع الكفاح الجديدة، ولنذكر على سبيل المثال، لفترة ما قبل النكبة، الشاعرين إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود اللذين شاركا بشكل فعال في الصراع من أجل القضية الوطنية، ومات عبد الرحيم محمود خلاله. في الفترة اللاحقة للنكبة، هناك ممثلو شعر “المرارة” الذي يعكس قسوة المنفى، ونخص بالذكر أبا سلمى وفدوى طوقان.
أخيرًا، يبدأ الشعر المعاصر مع هزيمة 1967، ليُبْرِزَ بشكل اختلفت الآراء حوله، بين “الشعاروية” و “الشعوروية”، إعادة بناء المقاومة الفلسطينية، والأمل الجديد، وإرادة القتال من أجل قضية عادلة ولكن شائكة معقدة ازدادت تعقيدًا لغايات سياسية مرسومة، مما أدى إلى انتكاس هذا الشعر، وتقصيره عن مواكبة هذه القضية في أدق مراحلها. نذكر من شعراء هذه الفترة، توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، وسالم جبران، الذين حققت قصائدهم نجاحًا شعبيًا لم يمنع النقاد من التشكيك في فنية هذه القصائد، وما تحتوي عليه من شعرية. ولنلاحظ أن محمود درويش هو الشاعر الوحيد الذي عرف كيف يبتعد عما يدعى “شعر المقاومة”، فهل نجح؟ في سيطرته على الثقافة الفلسطينية نعم، سيطرة ياسر عرفات على السياسة الفلسطينية.
لكن الدينامية الاجتماعية المؤقتة مع الأسف (دومًا بسبب التلاعبات السياسية) للتحولات المؤثرة في الشعب الفلسطيني قد منحت التقنية الجمالية مكانًا ازداد اتساعًا بحيث تجاوز إطار الشعر، فاضطلع النثر أكثر فأكثر بتحليل العلاقات الاجتماعية والإنسانية الجديدة، ونعني هنا الرواية، التي عرفت في الوقت الحاضر توالدًا كثيرًا يتجلى بالمؤلفات العديدة المنشورة خاصة في بيروت ودمشق وبغداد، فالرواية العربية نوع حديث في تاريخ الأدب العربي، حقًا ترجع أصول هذا النوع الأدبي إلى الحكايات الشعبية، ولكن بصفته نوعًا للملحمة الروائية لا تؤرَّخ الرواية إلا في سنوات العشرين، وأول روائيي الأدب العربي كان المِصري محمد حسين هيكل الذي نشر رواية عنوانها “زينب” تعتبر اليوم كأول رواية في الأدب الروائي. ومنذ ذلك الحين، اتسعت الرواية لتصبح الوسيلة الأكثر تملكًا للتعبير عن المشاكل الإنسانية الخاصة بسياق الوسط الاجتماعي، والموصوفة عن طريق التمثيلات الخيالية التي يمكن للرواية إدراكها، وفي مرحلة لاحقة للتعبير عن متاهات الفرد في سياق هذا الوسط نفسه.
تنضوي الرواية الفلسطينية تحت لواء هذا التطور العام الذي أبرزنا خطوطه الرئيسية، وهي تستمد خصوصياتها من الواقع الذي أُجبر الفلسطيني على عيشه، وموقع الفرد في هذا الواقع، وبعد ذلك تشكُّل الشخصيات، وتمثُّل الحالات الإشكالية.
لقد وقع اختيارنا على معالجة أعمال غسان كنفاني لأنه خير من يمثل النثر الفلسطيني المعاصر بالتوازي مع ما عاشه، ولأنه يجسد في أعماله كل تعقيدات الرواية الفلسطينية منذ الكفاح من أجل التحرر والاستقلال الوطني، وهو يعتبر أمس كاليوم من بين أفضل روائيي الأدب الفلسطيني. سنقوم بتحليل أعماله الروائية الكاملة، مع أخذنا بعين الاعتبار المسرحيتين اللتين كتبهما، تاركين جانبًا أعماله الصحفية التي تتطلب تحليلاً مختلفًا، فالكاتب الروائي هو الذي يهمنا هنا لا الكاتب الصحفي.
السؤال الذي سيقود استقراءنا لأعمال كنفاني هو التالي:
ما هو التمثيل الأدبي للمراحل التاريخية للكفاح من أجل التحرر والاستقلال الوطني الذي قام به الشعب الفلسطيني في أعمال كنفاني؟
يتطلب سؤال التحليل هذا إيضاح المُرَكِّبات الثلاثة التالية:
ما هي مراحل كفاح الشعب الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال الوطني في الواقع التاريخي؟
ما هي حياة وأعمال كنفاني بالنسبة إلى هذه المراحل التاريخية؟
ما هي مختلف أشكال التمثيل الأدبي في هذه الأعمال؟
ستوجه هذه الأسئلة مسار عملنا من وجهة نظر منهجية كما يلي:
أولاً – سنقوم في قسم أول، على المستوى الوصفي، بتسلسل حَدَثي للمراحل التاريخية والأطوار التي مرت بها حياة كنفاني من ناحية، وبدراسة مختصرة لأعمال كنفاني الكاملة من ناحية ثانية. مما سيعطي على المستوى الأول نظرة شاملة للواقع التاريخي المعني، ومراحل تطور كنفاني بالنسبة إلى تاريخ شعبه.
ثانيًا – سنفصِّل في قسم ثان، على المستوى التحليلي، بعض الأعمال التمثيلية لكل مرحلة أدبية عَبَرها كنفاني، وذلك لإبراز التقنيات الأدبية وأشكال التمثيل الأدبية التي استعملها المؤلف، كي نفهم بصورة أفضل العلاقات الاجتماعية الجديدة لشعب يخوض غمار المعركة المصيرية التي هي معركته. ولنشر حالاً إلى القطبين، الأول والأخير، المحددين للطريق التي عبرها كنفاني: المنطلق، وهو التساؤل عن بؤس المنفى. الوصول (معجَّلاً بموته القاسي)، وهو إرادة الكفاح ليس لاستعادة أرض الوطن فحسب، بل ولإعادة بناء مجتمع جديد لن يتحقق بسهولة.
ثالثًا – سندرس في قسم ثالث بعض التعميمات النظرية لأشكال التمثيل الأدبي عند كنفاني، وسيرسم القسم الثالث هذا الخصائص الأساسية لجمال كنفاني، تسبقه مقدمة تحليلية مكثفة في علم الجمال.
ولإيجاز منهجيتنا نؤكد على ثلاثة مبادئ للتحليل الأدبي:
1 – الأدب ظاهرة اجتماعية وأداة سحرية يحرض ويعكس العلاقات الإنسانية في ظروف مؤاتية للبنى الإبداعية.
2 – لا تكمن قيمته الأدبية في “الشعوذة” اللغوية (فصاحة أو جمال أسلوب) ولكن في الطريقة التي تكون فيها الدينامية المعقدة للتقدم الاجتماعي مطبقة فنيًا، التقدم أو التخلف، لأن في إبراز “لادينامية” التخلف تنهيضًا لكل ما هو إنساني.
3 – للأدب والأديب دور فعال في العملية التاريخية لصنع الإنسان الجديد، وليد الكفاح من أجل التحرر والاستقلال الوطني، ووليد الاستبسال من أجل الحياة، بالمعنى الأكثر شمولاً، لصنع الإنسان بكل بساطة، وعلى الخصوص بعد إجهاض هذا الكفاح، وهذا الاستبسال، وهدم كل جسور الحرية من طرف السلطة الفلسطينية.
إن التقنية الأدبية مهمة للتحليل لا كنهاية بل كوسيلة فنية ضرورية لبناء الدلالة، عَبر العمل الأدبي، وهذه الدلالة، بكل تنوعها، هي التي تهمنا، فهي تقيم في الواقع الاجتماعي، وهي نفسها واقع متفاعل بدوره، تشكل جزءًا من تاريخ شعب، وتشكل إشارة هامة. هذا ويجب فهم الرواية الفلسطينية في ضرورتها التاريخية التي لم تكن أبدًا معزوة إلى المحاولات المخاطرة والخطرة لفرد عنَّ على باله أن يصبح “أديبًا”، فبدأ يهتم “بصناعة الأدب”. وما نريد إبرازه في التحليل اللاحق إلى أية درجة استطاعت روايات غسان كنفاني أن تمثل، على المستوى الأدبي، جزءًا من تاريخ الشعب الفلسطيني.
لقد ترك هذا التاريخ الذي لا يكف عن التطور أعمال غسان كنفاني في محطة من محطاته السابقة، ونحن نعد دراستنا هذه للطبعة الثالثة مع أوائل التسعينات، والتجربة المعاشة لا تتوقف عن الإدهاش، لتجعل من كنفاني، بالنسبة إلى وقائع تاريخ الشعب الفلسطيني المتجددة تجددًا دائمًا، ألا يشكل في الأدب الفلسطيني اليوم سوى نقطة زرقاء مضيئة، ونحن نفهم اللون الأزرق هذا كدال من دوال البحر في استعمالاته الشعرية التي تعبر عن الاستمرارية تحت شرط التجاوز. لهذا يستمد الكُتَّاب الفلسطينيون من أعمال كنفاني الضوء، إلا أنهم لن يقفوا أبدًا عند حدود مستوياتها اللغوية والأسلوبية حين خوضهم المعركة مع الكلمات التي تذهب بهم أكيدًا إلى مسألة الكتابة وعمليات الإبداع، لأنهم في مسعى دائم –مسعاهم تاريخي حافزه فردي وهدفه جماعي- لتجاوز نقطة الضوء الكنفانية الماضية إلى نهار الرواية الفلسطينية والعربية والعالمية.
من ناحية أخرى، نود أن نشير إلى التنقيحات الهامة التي أجريناها في طبعتنا الثالثة هذه، على الخصوص فيما يتعلق بالمصطلح الإيديولوجي، الذي خففنا من حدة بروزه، فمحونا بذلك الطابع التشديدي عنه والقطعي فيه، وعدلنا بعض الاستنتاجات لتواكب الدراسة زمنها، كما أننا أضفنا فصلاً تحليليًا شاملاً لمسرحية “الباب” في القسم الخاص بالتمثيل الأدبي.
وبمناسبة نشر هذه الأطروحة على أنترنت، أجدني مضطرًا إلى التنديد “بالدكاترة” الذين نقلوها حرفيًا، وناقشوها في العديد من الجامعات العربية والأجنبية، فالكارثة هنا كارثتان: جهل الطالب الذي انتحل عملي، وجهل الأستاذ الذي لم يقرأ هذا العمل بقلمي.
القسم الأول
غسان كنفاني، الشعب الفلسطيني، والثورة العربية
1 – مرحلتا كفاح التحرر الوطني من 1936 إلى 1965
أ) الكفاح ضد الاستعمار من 1936 حتى نكبة 1948 (المرحلة الأولى)
يعتبر تاريخ الشعب الفلسطيني، منذ الحرب العالمية الأولى، تاريخ مقاومته ضد استعمار فلسطين، وبسبب السيطرة المتتابعة لإمبراطوريتين استعماريتين، الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية، رأى الشعب الفلسطيني نفسه ممنوعًا منذ عهد طويل من إقامة كيان على شكل دولة مستقلة. في هذا الوضع، البعيد تاريخيًا، كان على الشعب الفلسطيني أن يواجه عدوًا آخر جديدًا، لا يريد استعمار بلاده فحسب، لأسباب سياسية واستراتيجية، بل وامتلاك الأرض نفسها، هذا العدو هو الصهيونية بشتى أشكالها من منظمات سياسية وعسكرية ودعائية.
وهكذا تميزت المرحلة الأولى للكفاح من أجل التحرر الوطني بهاتين الجبهتين ضد الاستعمار البريطاني وضد الاستعمار الصهيوني لفلسطين. نذكر تاريخًا هامًا في عمر هذا الاستعمار المزدوج: التحالف الذي ربط بريطانيا بالصهيونية عام 1917، والذي عرف منذ ذلك الحين بوعد بلفور.
لقد ارتكز استعمار فلسطين على شكلين أساسيين استطاعا فيما بعد أن يحددا جدليًا أشكال المرحلة الأولى للمقاومة:
1 – سياسيًا، بوعود كاذبة لبريطانيا من أجل استقلال وطني عبر عنها تقرير اللجنة العسكرية –كما جاء في منشورات وزارة الإرشاد القومي السورية- بعد أن عزا “الاضطرابات التي حدثت إلى يأس العرب من تحقيق الوعود التي قطعت لهم أثناء الحرب بالاعتراف باستقلالهم، وإلى ثقتهم بأن تصريح بلفور يتضمن عدوانًا على حقوقهم في تقرير مصيرهم، وكذلك إلى خشيتهم من أن يؤدي إنشاء الوطن القومي اليهودي إلى تضخم الهجرة اليهودية تضخمًا يسفر عن استعبادهم اقتصاديًا وسياسيًا.” (1)
2 – اقتصاديًا، بشراء الأرض من كبار الملاكين الإقطاعيين وتقسيمها إلى مستوطنات منظمة على شكل معسكرات حربية حيث “كان المظهر الثاني للتسلط الصهيوني والتآمر البريطاني هو تسهيل انتقال الأراضي العربية إلى اليهود عن طريق القوانين الخاصة (المرجع السابق)، وبواسطة تمليك أراضي الدولة، وبإغراء بعض الأسر الإقطاعية العربية التي كانت تملك أراضي حقيقية واسعة بأن تبيع أرضها” (2)… لتتحول إلى مستوطنات. “كما أن السلطة الاستعمارية كانت تتغاضى عن وصول السلاح إليها -مثلما يقول ناجي علوش- وتقدم أسلحة للمستوطنات من أجل مواجهة نقمة السكان الفلسطينيين ومن أجل السيطرة على الموقف في حالة الصدام.” (3)
تتجسد المقاومة في ذلك التاريخ، والتي بلغت أوجها في ثورة 1936 الشعبية، عَبر معارضة هذين الشكلين الاستعماريين، فالنضال المسلح بين 1936 و1939 قد وحّد للمرة الأولى القوى الشعبية وقسمًا من البرجوازية الوطنية وجناحًا من الإقطاعية المناهضة للاستعمار تمامًا كما حصل مع “الجبهة الشعبية” عام 1936 في فرنسا التي وحّدت أيضًا قسمًا كبيرًا من البرجوازية والبروليتاريا لمواجهة خطر الفاشية، مثل هذه الأحلاف تنقطع عامة وقت اصطدام الحركة بمسائل التقدم الاجتماعي، كذلك كما حصل مع “الجبهة المتحدة” كوومينتانج والحزب الشيوعي في الصين بين سنتي 1924 و1927، هذا التحالف الذي انقطع كذلك حالما بدا أن خطر الاعتداء الياباني أقل تهديدًا من الاختصام داخل الجبهة. وفي الحالة الفلسطينية، تجسد ذلك من أجل طموحين جوهريين، جرى التعبير عنهما:
1 – سياسيًا، بالمطالبة الواضحة بالاستقلال الوطني. ومع هذا، كان شكل هذه المطالبة مشروطًا، إيديولوجيًا وسياسيًا، بالبرجوازية والإقطاعية، مثلما يرى إميل توما في كتابه “جذور القضية الفلسطينية”: “لم تختلف شعارات اللجنة العربية العليا (توحدت القيادة التقليدية في اللجنة العربية العليا برئاسة المفتي لتستلم زمام القيادة السياسية) عن شعارات الحركة القومية: وقف الهجرة، ومنع بيع الأراضي، وإنشاء حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي.” (4)
2 – اقتصاديًا، بمعارضة كل الطبقات في فلسطين، والتي لا تتفق مصالحها بالضرورة، للسوق التجاري الذي أقامته الصهيونية ولامتلاكها للأراضي، “فقاوم المواطنون العرب –مثلما يضيف ناجي علوش- النشاط الصهيوني كله بنشاط مضاد، وبمحاصرة التوسع الصهيوني.” (5)
وهكذا اشترط ثورة 1936-1939 عدوان استعماري ومقاومة نطلق عليها مصطلح الكفاح ضد الاستعمار، واستلفتت الصيغ الإيديولوجية النظر بشكل واضح إلى الطبيعة المحدودة التي يتصف بها كفاح كهذا، لا يكمن ذلك في جهل الأسباب الحقيقية للاحتلال فحسب، بل وفي أشكاله التقليدية للمقاومة. فما كان ناقصًا، في تلك المرحلة الأولى، العامل الذي من العادة أن يتميز به كفاح الثورة الوطنية الديمقراطية، هذا العامل هو: المعرفة الواضحة والواعية للتقدم الاجتماعي الممكن تحقيقه في آن واحد والاستقلال الوطني، مثلما يرى سامي الجندي: “كانت التنظيمات التي قامت في فلسطين بين 1918 و 1940 تنظيمات عشائرية قامت عليها زعامات عائلية تقليدية للمحافظة على زعامتها، شوهت معالم التنظيم، وهاجمت كل ما هو علمي في روح التنظيم، لأن التنظيم المبني على أسس علمية يؤدي بالنتيجة إلى زوال الزعامات، فعملت جاهدة للحيلولة دون قيام منظمات علمية قادرة على مواجهة الاستعمار والصهيونية ذات التنظيم الدقيق.” (6) مما يظهر التوجه الإيديولوجي الذي سيطر على الثورة: “فالاستشهاد كان غاية الجهاد –مثلما يؤكد هشام شرابي- وهكذا لم يكن الكفاح وطنيًا بقدر ما كان دينيًا.” (7) وفي سياق تاريخي محدد، أن يكون دينيًا تحت شرط أن يكون محفزًا من بين محفزات الكفاح الوطني لا كل محفزاته، وألا يأخذ منحى كليًا فيه.
ويمكن تفسير الملامح المحدودة للثورة بفشلها، ولماذا فشلها؟ لأن اتحاد مختلف الطبقات الفلسطينية المتعارضة لا يستطيع تحقيق أي هدف مهما كان محدودًا. ومن ناحية أخرى، يمكن تفسير فشل الثورة باستسلام الزعماء الإقطاعيين للجيش البريطاني، والذي كان من نتائجه عدم الوصول إلى أي هدف. وعلى العكس، أظهر فشل القوى الشعبية أن عدم تحقيق الأهداف لم يكن إلا لأسباب داخلية في جبهة المقاومة، وبالتالي لم تذهب عبرة الدرس المسحوب من الثورة سدى، لأن ذلك مُدرج في العملية المتطورة للنضوج، والتي أثبتت أن الإقطاعية –مثلما يرى زكي المحاسني- عاجزة عن قيادة الثورة عندما يقول: “أما الذين ادعوا النضال من أجل فلسطين من الوجهاء الإقطاعيين فقد كشفوا عن عجزهم… إنهم ضعفاء، يدعون الذود عن الحمى زورًا.” (8)
“وهكذا –مثلما يقول هشام شرابي- فإن تثوير النظرة (بمعنى تحول الوعي السياسي) الذي هو الشرط المسبق لتثوير التنظيم (بمعنى تحول البنى السياسية والعسكرية) لم يصطدم بالتفرقة القائمة فحسب، بل وبالتقليدية الراسخة المعقدة ذاتيًا.” (9)
اتصفت الفترة اللاحقة حتى 1948 بتدهور وضع الشعب الفلسطيني داخل بلده، فالظروف العالمية قد تغيرت بصفة جذرية، إذ أن الحرب العالمية الثانية وعملية إبادة اليهود في أوروبا قد سمحتا للصهيونية بالعمل على ترويج إيديولوجيتها في الغرب: وذلك بأن حل المسألة اليهودية كامن في احتلال فلسطين. ولتواجه بريطانيا احتدام الحرب العالمية، حاولت بكل السبل التخفيف من حدة التوتر في مستعمراتها، فكان من جديد الوعد باستقلال فلسطين، بينما جاء الموقف البريطاني تجاه الصهاينة على شكل تنبيه، للحيلولة دون خطر انقلاب الهدوء العارض المهيمن على أوضاع البلاد. في ذلك الوقت، كانت بريطانيا قد ضعفت، وأخذت الصهيونية تبحث عن حليف جديد قوي يمثل مصالحها وجدته في الولايات المتحدة الأمريكية، فأقام عدو الشعب الفلسطيني في زاوية جديدة، وبدأت الحليفتان القديمتان، بريطانيا والصهيونية، تنفصلان في اللحظة التي أخذت فيها هذه الأخيرة بالإعداد لاستبدال التحالف الاستعماري بآخر أكثر قوة.
فيما يخص الشعب الفلسطيني، لم يكن مهيئًا بما فيه الكفاية لحل المشكلتين اللتين طرحتهما ثورة 1936-1939، وهما:
1 – التخلص من القيادة الإقطاعية في كفاحه الذي كشف عن عجزها.
2 – تحديد برنامج عمل دقيق لتحقيق أهداف الكفاح من أجل الاستقلال.
هذا ويجب الإلحاح على الحالة التاريخية لذلك الوقت، والتي أدت إلى ولادة تحالف استثنائي بين الشعوب المستعمَرة ومستعمريها لمواجهة خصم أشد خطرًا، ألا وهو الفاشية، وقد تم هذا التحالف مرة أخرى نتيجة لوعود الإنجليز بالاستقلال، والحال كذلك بالنسبة إلى الوعود التي قطعت للشعب الهندي كي يقاتل إلى جانب الإنجليز ضد الفاشية، وبخصوصنا نذكر كما يدلل على ذلك إميل توما:
“وقبلوا فيما بعد بيان الحلفاء الذي صدر في 8 نوفمبر 1918 لتبديد الشكوك المتعاظمة في نوايا بريطانيا وفرنسا الإمبريالية في المنطقة، وجاء فيه: إن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وإنجلترا في الشرق هو رغبتهما في تحرير شعوبه من ظلم الترك واستعبادهم وخلاصهم من عسف الألمان ومطامعهم…” (10)
شجعت هذه الظروف التاريخية إذن التوسع الاستيطاني الصهيوني، وأعاقت إعادة التجمع الثوري لدى الشعب الفلسطيني. وحتى بعد انتهاء التناقض مع الفاشية، وبعد مواجهة الصهاينة المباشرة لأول مرة، وجد الشعب الفلسطيني نفسه دومًا تحت قيادة الطبقة الإقطاعية. غير أن هزيمة 1948 كانت هزيمة كلية للأنظمة الإقطاعية العربية، ونتيجة لذلك، كانت سنوات الخمسين تشكل انقطاعًا مع ماضٍ يمكن التعبير عنه سياسيًا بسقوط الملكية في مصر والعراق. أما للشعب الفلسطيني، فقد كانت الهزيمة مأساوية: الإبعاد عن الوطن بالقوة، وحياة المنفى في مخيمات اللاجئين.
ب) فترة سنوات الخمسين (الفترة الانتقالية)
1 – دياسبورا الشعب الفلسطيني وشباب غسان كنفاني
تندرج حياة غسان كنفاني في السياق التاريخي الذي حددناه: ولد يوم 9 نيسان 1936، سنة أول ثورة كبرى ضد الاستعمار، في عكا، المدينة الحصينة الواقعة في شمال فلسطين، حيث كان أبوه يمارس مهنة محام، أي أنه أمضى شبابه المبكر في فلسطين، في جو من الكفاح المتصف بحالة عدم الأمن، والذي أدى إلى غزو القوات الصهيونية لعكا.
طُردت عائلة كنفاني من بيتها وأرضها، ومثلت سنوات الخمسين في حياتها عدم الاستقرار الدائم، إذ أقامت العائلة أولاً في الغازية، قرية من جنوب لبنان، وبعد ذلك في زبداني السورية، وأخيرًا في دمشق.
أما بالنسبة للشعب الفلسطيني، فقد كانت هذه حالة الآلاف المؤلفة من العائلات، ونحن نصف هذه الفترة بالتشتت الأولي، ثم، بالتجمع التالي.
لقد تبدل الوضع جذريًا: بلا بلد، بلا تنظيم دَوْلي (من دولة)، بلا تنظيم سياسي، الإحساس بالعار نفسيًا، الحرمان من كل شيء ماديًا، ومثلما يقول هاني مندس: “لقد عمق الإحساس بوجود مؤامرة مستمرة طرح مشاريع التوطين والتهجير التي حاولت الوكالة القيام بها في الخمسينات بغية محو الهوية السياسية للشعب الفلسطيني عن طريق التعامل معه بتحويله من شعب له حقوقه التاريخية القومية في فلسطين إلى شعب من اللاجئين.” (11)
كيف يمكن البدء من جديد في وضع كهذا؟
على الشعب الفلسطيني أن يعيد تجمعه بشكل آخر يتفق والوضع التاريخي الجديد، وعليه أن يثبت نجاح هذه المهمة الصعبة دون الانهيار في عملية دمج في الجنسيات الأخرى، بخلاف الأردن، فالشعب واحد والأرض واحدة، والدمج الدستوري جرى على الفلسطينيين، وهم فوق أرضهم (الضفة الغربية)، والذي عن طريقه يمكنهم اليوم (طبعة 1993) تحقيق كيانهم المستقل الوحدوي (مع الضفة الشرقية لا مع إسرائيل). هذا ولم يكن يرتكز الوضع التاريخي الجديد على طاقة وقدرات القوى الوطنية للشعب الفلسطيني فحسب، بل وعلى ما كان يسمى بالإرادة الدولية لقوى التحرر في العالم، فقد أبدت سنوات الخمسين في العالم قاطبة تيارًا واسعًا لحركات التحرر الوطني، وعملت القوى الوطنية على إدراج كفاح الشعب الفلسطيني لإعادة بناء كيانه القومي في هذا السياق.
لِنُشِرْ إلى هذه الحركة الدولية المناهضة للاستعمار ببعض التواريخ: 1947 استقلال الهند، 1952 فشل البريطانيين في استيطان كينيا، فكانت المقاومة المسلحة التي عجلت فهم أن عصر الاستعمار قد انتهى، ثم الانتصار الساحق لكفاح الشعب الفيتنامي في ديان بيان فو سنة 1953، مما أدى إلى مغادرة الفرنسيين للهند الصينية. وفي الأخير، نعطي مثلاً عظيمًا لشعب عربي بربري شقيق: انفجار الثورة الجزائرية عام 1954 لطرد الفرنسيين (اليوم يأكل الجزائريون أصابعهم ندمًا على ذلك، فالأسباب معروفة للقاصي والداني!)، الثورة الجزائرية هذه التي رافقت تغيير أنظمة الحكم في العراق ومصر خاصة (اليوم نرى هذا التغيير بعين أخرى!).
2 – طريق الثورة الصعب
تبدل الوضع بشكل جذري بعد الحرب العالمية الثانية، بينما كان المناخ السياسي قبل هذه الحرب غير مؤاتٍ لكل كفاح من أجل الاستقلال، فساعد الوضع الجديد الشعب الفلسطيني على الخروج من شدته ويأسه، ليعيد ولادته على الرغم من الهزيمة الماحقة. ردت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر على هذا التحول في علاقات القوى بعدوانية مزدوجة: داخلية ضد قوى العمل في بلدها، وخارجية ضد القوى نفسها فيما كان يسمى “الاتحاد السوفياتي”، فقامت “الحرب الباردة” على ساقها. وفيما يخص الصراع بين حركات الاستقلال الوطني وحركات الاستعمار القومي، سجلت سنوات الخمسين كذلك تأميم شركة قناة السويس الأجنبية عام 1956، وعلى الرغم من التدخل الفرنسي-البريطاني-الإسرائيلي والنجاح العسكري الذي حققه هذا التدخل إلا أن هيئة الأمم المتحدة قد أدانته، وكان الثقل السياسي لما كان يسمى “المعسكر الاشتراكي” أحد العوامل الهامة التي أجبرت البلدان المعتدية على الانسحاب. في جانبها الحقيقي، اعتمدت إدانة المنظمة الدولية على إدانة أمريكا لعدوان الدول الثلاث، بعد أن رأت فيها هذه الأخيرة منافسًا لتوسعها وغطاء للجيش الأحمر الذي أحال بودبست إلى رماد.
والحال هذه، فإن المناخ السياسي لسنوات الخمسين يمثل انطلاقًا كبيرًا (يبدو ظاهريًا اليوم) للبلدان التي قامت بواجباتها الأولى نحو ما كان يسمى “الثورة الوطنية”، على نقيض الشعب الفلسطيني الذي لا بلد له ولا دولة ليقوم بهذه الواجبات، وكما ينقل معين محمود: “أقام الفلسطينيون منذ عامي 47/48 في البلاد العربية على طول الحدود المجاورة للمنطقة المحتلة من فلسطين، سواء في الخيام التي أقامتها وكالة الغوث الدولية، أو في الكهوف، ولا يزالون يقيمون فيها منذ ذلك التاريخ حتى الآن عرضةً لحر الصيف القاتل، ولبرد الشتاء القارس، وللأمراض الفتاكة، يحيون حياة البؤس والفاقة، ويسدون رمقهم بالدمع والعرق.” (12)
ذهب بعض الفلسطينيين إلى السعودية أو إلى بلدان الخليج العربي، ومنهم من هاجر إلى الغرب لكسب لقمة العيش مثلما يتابع الباحث معين محمود: “بلغ عدد اللاجئين المسجلين في وكالة غوث اللاجئين بالإضافة إلى عدد اللاجئين في غزة والضفة الغربية قبل 5 حزيران 1967، 1344576، أما غير المسجلين 1109424، بمعنى أن العدد الإجمالي 2453000.” (13)
على ضوء هذه الوقائع، نستطيع أن نفسر حياة غسان كنفاني المضطربة في دمشق، عاملاً وأستاذًا وصحفيًا، ثم في الكويت عام 1956، أستاذًا لسنوات ست، وبعد ذلك قدومه إلى بيروت ليعمل في جريدة “الحرية”.
لكن الأحداث التي كانت تدور في بعض البلدان العربية قد جعلت الشعب الفلسطيني يسبح في أحلامه، فعلى الرغم من الوضع اليائس للحاضر، بدأت معالم التحول تتضح لصالح هدف الشعب الفلسطيني الأساسي: ألا وهو استرجاع الأرض والحق والوطن.
ج) الكفاح من أجل التحرر الوطني (المرحلة الثانية)
1 – إعادة بناء التنظيم
ظهرت عام 1956 بعض الأشكال الجنينية للتنظيم عَبر عمليات فدائية شنت من قطاع غزة وسوريا، وأخذت هذه النشاطات مقاييس متزايدة مع بداية الستينات، عندما وقعت تحولات كبيرة في بلدان أخرى: أصبحت الجزائر مستقلة عام 1962 قبل أن تُستعمر بشكل غير مباشر اقتصاديًا، وحوالي سنة 1950 تحطمت تقريبًا كل الإمبراطوريات الاستعمارية بأشكالها التقليدية، نقول بأشكالها التقليدية، فهي لم تزل قائمة بعد أن تعصرنت، وارتدت ثياب العولمة، دون أن يتبدل شيء في الوضع الفلسطيني. تزايد المد الشعبي في البلدان العربية أكثر فأكثر، خاصة في الأردن، حيث يقيم معظم الفلسطينيين.
في سنة 1964، أنشأت الدول العربية “منظمة التحرير الفلسطينية” لتكون بطاقة ضغط في يدها، وفي سنة 1965 تأسس أول تجمع شتاتي سلطوي مديني فلاحي صغير ذي بنيان منظم بمولد “فتح”. وهكذا اجتازت الانطلاقة التي تهدف إلى التحرر الوطني مرحلة هامة في عملية نضجها إلى حد ما، إذ عبرت ما كانت تدعى “الثورة الفلسطينية” آنذاك عن تنظيم له أهدافه المحددة تحت قيادة وطنية تبعًا لهذه الأهداف، متذبذبة تبعًا لسلوكها، وبينما عبر برنامجها عن النقاط الأساسية لثورة وطنية ديمقراطية مستجيبة لحركة التحرر الوطني العريضة، العربية والعالمية، ظل ذلك حبرًا على ورق، في اللحظة التي اعتبرت فيها الثورة أن الكفاح المسلح مهمة فلسطينية بحتة، والأخطر من ذلك في اللحظة التي رفعت فيها الأنظمة العربية عبء فلسطين عن ظهرها للتخلص من القضية تحت وهم أن كفاح الفلسطينيين “ليس مجرد وسيلة فعالة لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني فحسب، بل والطريق الوحيد لتوكيد الشخصية شخصية الفلسطينيين الوطنية” (14)، شخصية الفلسطينيين الوطنية هذه التي عملت على محوها تعاملات القيادة مع الأنظمة العربية، كل نظام كما يهوى، وعلى عزل هذه القيادة بالتالي عن الشارع العربي اللهم إلا في علاقاتها المشجية معه. صحيح أن قيام الثورة الفلسطينية عبارة عن بداية لتطور تنظيمي طويل للشعب الفلسطيني، لكنه أعطى منظمة وطنية ذات سلطة متذبذبة خاضعة لدبلوماسيتها العربية تارة، وتارة للضربات العديدة المتلاحقة التي تلقتها، ولممارساتها الخاطئة التي كانت تسعى لتوكيد شخصية السلطة الفلسطينية لا شخصية الفلسطينيين. أما فيما يخص الكفاح كمهمة فلسطينية بحتة، فقد خاب سعي أصحابه، لِما ترمي إليه الأنظمة العربية (والنظام العالمي) من استفراد بالفلسطينيين، واعتبارهم بالأمس طائفة، واليوم أقلية لا توفر لهم شروط استعادة حقوقهم من خلال العلاقة بالأردن كدولة على الضفتين، وفي المستقبل كدولتين متحدتين.
2 – هل تشكلت الثورة الوطنية الديمقراطية؟
يشير تاريخ 1967 إلى انطلاقة جديدة في وعي الشعب الفلسطيني، فقد أبرزت الهزيمة الجديدة في معركة الاستقلال الوطني جانبًا هامًا من جوانب هذه المعركة، ألا وهو وجود حركة المقاومة كتنظيم وميلاد لآمال عديدة وأحلام جديدة، فالشعب الفلسطيني كان خاضعًا لوصاية السلطة العربية، فوصاية السلطة الفلسطينية، ومثلما أثبتت له ثورة 1936 –التي فشلت- أن لا بد من تصور شعبي جديد لتنظيمه، أثبتت له هزيمة حزيران 1967 أن لا بد من ضرورة للعمل بصفته قائدًا لذاته ولقضيته، قبل أن تغترب ذاته من جديد، وتُصفى قضيته. منذ ذلك الحين، أخذت الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني تُثبت نفسها في المجال السياسي الدولي حسب الظروف صعودًا أو هبوطًا، وبدا أن للثورة الفلسطينية آنذاك ميزة تقدمية، إن لم تكن اشتراكية، عندما تشكلت منظمة التحرير من كافة فصائل مقاومة الشعب الفلسطيني قبل أن تنكشف المساومات في الدهاليز بين هذا الفصيل وذاك، وقبل أن ينفضح أمر الأشخاص الذين هم ذاتهم يقودون منذ عشرات السنين، كأي نظام عربي أبدي، على الرغم مما مُنِيُوا به من فشل تلو فشل، فالاشتراكية عند الفشل تعني، والتقدمية عند الفشل تعني، والديمقراطية عند الفشل تعني، أن يذهب الذين فشلوا في سياساتهم، وأن يفسحوا للآخرين المجال ليجربوا حظهم في سياسة أخرى، لكنهم كانوا من أولئك التوتاليتاريين الذين لا تنفع فيهم العِبَر من سقوط من سقط في أوروبا الشرقية. صحيح أن أحداث أيلول 1970 لم تعق استمرار الثورة الفلسطينية، لكن لم تحاول سلطتها جاهدةً أن تستخلص منها النتائج، وأن تقف “وقفة جادة أمام التجربة بمجملها –كما يرى الباحث خليل هنداوي- في محاولة لوضع خط سياسي وإستراتيجي جديد قائم على إدراك عياني للظروف المحددة، والتعيين الدقيق للأولويات والأهداف المرحلية.” (15)
ونتيجة لأسسها وآفاقها المسايرة للسائد المحلي والعالمي، وبالتالي لمواقفها المتذبذبة، كانت الهجمات التي تعرض لها بعض رجال المقاومة النزيهين، والتي ذهب ضحيتها غسان كنفاني كقائد فلسطيني في حادث انفجار سيارته المفخخة، يوم الثامن من تموز 1972، فمن ذا الذي كان من وراء تلك الهجمات؟ ومن هو قاتل غسان كنفاني الحقيقي؟ وللأسباب ذاتها، لم تحرز المقاومة أي هدف من أهدافها قبل وخلال وبعد حرب تشرين الأول 1973.
لقد تهيأ لنا الانتصار الذي حققه الشعب الفلسطيني، وذلك بقبول وفد فلسطيني في هيئة الأمم المتحدة (تحت غطائها يطالبون بالشرعية الدولية التي هي شرعية الدولة الأعظم، أمريكا، أي لا شيء للشعب الفلسطيني وكل شيء لإسرائيل، حليفة صاحبة الشرعية الدولية. لهذا، ترفض إسرائيل قرارات هيئة الأمم المتحدة لعلمها بسياسة المكيالين التي هي سياسة في صالحها، ولا تقبل إلا بتطبيق قراراتها التي هي قرارات الحكومة الإسرائيلية)، إذن لقد تهيأ لنا الانتصار الذي حققه الشعب الفلسطيني بصفته مراقبًا دائمًا عند انعقاد الجمعية العمومية بتاريخ 13 تشرين الثاني 1974، ولقد أوهمتنا سلطة منظمة التحرير الفلسطينية كونها تتمتع بكل مقومات المجتمع المنظم في المنفى، في اللحظة التي قدمها فيها ياسر عرفات للعصبة الدولية بالكلمات المفارقة التالية:
“تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية بأنها وهي تخوض المعارك المسلحة وتواجه قسوة الإرهاب الصهيوني قد قامت بمآثر عديدة حضارية وثقافية، فشكلت مؤسسات البحث العلمي، والتطوير الزراعي، والرعاية الصحية، وإحياء التراث الحضاري لشعبنا، وتطوير الفلكلور الشعبي، وخَرّجت من بين صفوفها عددًا من الشعراء والفنانين والكتّاب الذين يسهمون في تطوير الثقافة العربية، وربما امتد ذلك إلى الثقافة العالمية.” (16)
كلمات مفارقة لأن ما لم يقله ياسر عرفات إن هذه المؤسسات مهترئة بالقيّمين عليها، المتناحرين، كأي نظام عربي غير ديمقراطي، وأن الشعراء والفنانين والكتّاب لم تُخرّجهم سوى أقلامهم وعلاقاتهم الفردية بفلسطين، لأن النزيهين منهم محارَبون أو مبعدون.
لكن التحول على الرغم من ذلك كان عميقًا لدى الشعب الفلسطيني:
منذ الهزيمة الكبرى الثانية والتالية للعدوان الإسرائيلي، استعاد الشعب الفلسطيني الشعور بوعي نفسه كذات قبل تجيير هذا الوعي لصالح الذات السلطوية، وما كان هزيمة عسكرية عام 1967 كان في الوقت ذاته قطيعة مع ماضٍ سَلبي عبرت عنه سياسيًا سنوات فيما بعد الانتفاضة الباسلة.
ذلك هو الواقع التاريخي لهزيمة 48، للدياسبورا، وللميلاد العظيم للشعب الفلسطيني الذي عاشه غسان كنفاني، وعَبَّر عنه في أعماله الأدبية. وخلال ذلك الوقت، طرأ على الأدب نفسه تطور في معاييره الجمالية، نود قبل تقديم أعمال كنفاني أن نرسم ذلك الطريق الأدبي الذي يقود من كلاسيكية أدب نخبة إلى حداثة أدب جديد.
المراجع
(1) وزارة الإرشاد القومي: قضية فلسطين، مصلحة الاستعلامات، دمشق 1968، ص 51.
(2) المرجع السابق: ص 54.
(3) ناجي علوش: الحركة الوطنية الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت 1974، ص 149.
(4) إميل توما: جذور القضية الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت 1972، ص ص 228-235.
(5) ناجي علوش: المرجع السابق، ص 148.
(6) سامي الجندي: عرب ويهود، دار النهار، بيروت 1968، ص 59.
(7) هشام شرابي: المقاومة الفلسطينية في وجه إسرائيل وأمريكا، دار النهار، بيروت 1970، ص 203.
(8) زكي المحاسني: طوقان شاعر فلسطين، دار الفكر العربي، القاهرة (بدون تاريخ)، ص 73.
(9) هشام شرابي: المرجع السابق، ص 206.
(10) إميل توما: المرجع السابق، ص ص 97-98.
(11) هاني مندس: العمل والعمال في المخيم الفلسطيني، مركز الأبحاث، بيروت 1974، ص 13.
(12) معين محمود: الفلسطينيون في لبنان، دار ابن خلدون، بيروت 1973، ص 19.
(13) معين محمود: المرجع السابق، ص 11.
(14) حديث لناطق رسمي من فتح: نيويورك تايمز 3 كانون الثاني 1967، ص 6.
(15) خليل هنداوي وآخرون: المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، مركز الأبحاث، بيروت 1971، ص 279.
(16) ياسر عرفات: خطبة 13 تشرين الثاني 1974، مجلة فلسطين الثورة عدد 118، بيروت 17 تشرين الثاني 1974، ص 13.
2 – انحطاط الجمال وارتقاؤه في الأدب العربي
أ) انحطاط الجمال العربي
بدأ الجمال التقليدي يتحول بين الحربين العالميتين، وقد احتل الكتّاب المِصريون المقام الأول في عملية التوجه الجديد نحو رفع مستوى الوصف اللغوي، وكل ما يتعلق في هذا المجال بالنُّظُم اللغوية التي لا يمكننا عزلها عن المتغير التاريخي إلا لضرورة نقدية وبشكل مؤقت، كما يرى دو سوسير. تميز الواقع التاريخي في ذلك العصر، مثلما ذكرنا في الفصل السابق، بالكفاح ضد الاستعمار في فلسطين، ولكن أيضًا في العراق وسوريا ومصر، وتمخض الاستعمار الجديد، بعد أفول نجم الإمبراطورية العثمانية العجوز، عن إخفاق النظام الإقطاعي القديم في هذه المنطقة من العالم. كشف هذا النظام عن عدم قدرته على مواجهة التحدي الحياتي، وكان التعبير عن عدم القدرة هذا بتنامي الضيق الاجتماعي. لأول مرة منذ قرون، بدأت الشرائح الشعبية تحتج على حالة الركود، وتطالب بتغيير الشروط الاجتماعية، فأدت الانتفاضات إلى استقلال بلدين عربيين، نعرض بشأنهما مقتطفًا من تقرير اللجنة الملكية البريطانية عام 1937، نقله إميل توما: “في شتاء 35-1936 شهدت المنطقة انبعاثًا في النشاط القومي في مصر وسوريا، وكان على درجة من الحيوية في القطرين بحيث حقق أهدافه خلال بضعة أشهر، وفاز القطران بالاستقلال القومي.” (17)
إن للانطلاقة الرامية إلى الاستقلال في كل من مصر وسوريا محتوى اجتماعيًا موازيًا للثورة الفلسطينية عام 1936، وهي الحركة التي أصبحت قوة سياسية على الرغم من طابعها العفوي واللامنظم، كما يتابع المؤرخ إميل توما: “اندلعت (الانتفاضة) في مصر في شهر تشرين الثاني 1935 على شكل مظاهرات عنيفة اجتاحت القاهرة وغيرها من المدن، وأدت إلى مصادمات مع قوات الأمن وسقوط قتلى وجرحى، وإضراب عام في القاهرة جرى في 21 تشرين الثاني 1935، وتحرك شعبي ديناميكي أجبر المضربين على تأليف جبهة وطنية في 10 كانون الأول 1935، طالبت بإعادة دستور 1923، والاعتراف عمليًا باستقلال مِصر.” (18)
جرت الأمور نفسها بخصوص سوريا حيث شُن إضراب عام سنة 1936، “وانتهى هذا الإضراب –كما يضيف الدكتور توما- بعد حوالي خمسين يومًا في مطلع آذار 1936 بعد أن تعهدت الحكومة الفرنسية بإعادة الحياة النيابية إلى سوريا، وعقد اتفاق مع حكومة قومية ينص على الاعتراف باستقلال البلاد.” (19) لنربط هذه الانتفاضات بانتفاضات الشعب الفلسطيني كصفة نضالية للشعوب العربية عريقة، وكطريقة شعبية ناضجة للحصول على الاستقلال.
يجدر بنا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه التحولات داخل البنية الاجتماعية العجوز لنفهم التعديلات التي طرأت على القيم الثقافية القديمة، والعوامل التي كانت من وراء لغة أدبية جديدة. لقد وجدت تلك القيم القديمة نفسها متخلفة بالنسبة إلى التطور الاجتماعي، وبعيدًا عن كل تبسيط أصبحت اللغة المستعملة نظامًا أكثر تطورًا، له قواعده الخاصة ببنيته، وفي الوقت ذاته له دوره في تجديد علاقات هذه البنية الداخلية. وبالمناسبة نورد مثلاً على النمط الأدبي القديم عباس محمود العقاد الذي يدافع في كل إنتاجاته الأدبية عن القيم الميتة ممتدحًا العهود الإقطاعية البائدة ومقاتلاً كل أشكال الفكر المخالفة لفكرها.
فما هي هذه القيم القديمة؟ ما هو مستوى العلاقة اللغوية المولدة لهذه القيم؟
يعطي العقاد في وصف واسع للعصر الإسلامي الأول تحت عنوان “العبقريات” تمجيدًا “للشخصية العبقرية” التي تمتع بها الخلفاء الأوائل، أولئك الرجال المؤسسون الذين لا ننفي عنهم قوة الشخصية. لكن عدم التمييز بين صفة التأسيس العملي وصفة العبقرية المطلقة يكشف عن فكر العقاد المشوه، المكرس لصالح القديم، خاصةً عندما يعارض العالم الواقعي بعالم وهمي روحي مجرد: “وللعباقرة على الجملة ولع بعالم الغيب، وخفايا الأسرار، على نحو يلحظ تارة في الزكانة والفراسة، وتارة في النظر على البعد، وتارة في الحماسة الدينية، أو في الخشوع لله.” (20)
لنفهم من هذه التصورات أنها تدور حول قيم شخص نادر واستثنائي تتالت عناصر اللغة فيها بثنائية اعتمدت على علاقات سياقية تكمن أولاً في التعارض والتناقض القائمين بين الفرد ومجتمعه (21)، وثانيًا في تقييم الخواص الأرستقراطية المقنّعة تحت شكل أخلاقي أرستقراطي. لقد أحس المنظرون العرب بسقوط هذه القيم الجمالية سقوط السلطة السياسية التي تمتلك هذه القيم كنتيجة مباشرة للتحولات الاجتماعية مثلما يبرز ذلك جلال فاروق الشريف عندما يقول: “وكان لا بد لأية تحولات في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي باتجاه إسقاط هذه السلطة من أن تؤدي إلى إسقاط سيطرة الكلاسيكية على الشعر العربي المعاصر.” (22) لكننا نخفف من هذا الحكم القطعي اعتمادًا منا على العلاقات التي تتشكل بين الكلمات ذاتها وتفاعلات الوحدة اللغوية مع الوحدات الأخرى في بنية عمل ما.
أصبحت قيم ذلك الجمال التقليدي إذن بالنسبة لوقتنا الحالي متخلفة، بمعنى أن ذلك الجمال يعمل مباشرة بواسطة قيمه الماضية ضد قيم حقيقية ولغوية جديدة، حاولت ليلى بعلبكي –نضيفها هنا كمثل آخر- تزييف هذه القيم اللغوية والحقيقية الجديدة تزييف العملة في رواية “أنا أحيا”، وذلك عندما اختارت أبطالاً مشوهين، ادعت أنهم يرمزون إلى قطاعات اجتماعية تمثيلية، ففصلت الدال عن مدلوله، وانهار التوازن بينهما. لقد اعتبرت الكاتبة نفسها متمردة، وروايتها المذكورة، بل كل إنتاجاتها تقول عنها سلطوية صغيرة قلقة، تتكلم عن “أزمة الفرد في المجتمع الأوروبي” داخل المجتمع اللبناني بعد أن نسختها عليه، وتركت جانبًا المشاكل اليومية للفرد اللبناني، فليس باستطاعتها على أي حال أن تفهم هذه المشاكل بسبب بنيتها الفكرية العاجزة عن ربط بنية فكرية أخرى بقيمها، وكأنها تعيش في كوكب آخر، وكما يقال ليس من نفس المنظار يرى الواحد أو الآخر العالم، لكل تصوره الخاص، فما أفرزت بعلبكي سوى فكرها العاجز، وما أعطت سوى نموذج جمالي لم ينجح في التعبير عن العلاقات المكونة لبنيته. هذا التعبير لغوي قبل أي شيء آخر، إنه النفي للتماثل بالمفهوم “البارتي” (بالنسبة لرولان بارت) الذي يؤكد القيمة الاستكشافية فيه، والذي يتضمن تطابقًا بين اللغة والأدب، فاللغة لا تتوقف عن مصاحبة الخطاب، وذلك بمدها إياه مرآة بنيتها.
ب) ارتقاء الجمال الجديد
بدأ ميلاد الجمال الجديد في اللحظة التي دخل فيها الكفاح من أجل التحرر الوطني مرحلته الثانية، بمعنى أن الكفاح من أجل الاستقلال قد أصبح كفاحًا واعيًا يرمي إلى التقدم الاجتماعي، بغض النظر مؤقتًا عن العقبات الهيكلية والتدمير السلطوي الذي أعقب ذلك. في هذه المرحلة الثانية، ظهر عامل هام في الأدب العربي، ألا وهو الجمال الجديد، متمثلاً بأبطال الأعمال الشعرية والروائية التي تطرح نفسها أكثر فأكثر وبصفة متنامية كأبطال تشارك بشكل مباشر في الصراع ضد العلاقات الاجتماعية القائمة، وفي الحُلم الجماعي، ولكن على الخصوص في الرمز كعلاقة طبيعية بين الدال والمدلول.
وينعكس قبل كل شيء، من خلال هذا العامل الجديد، التطور الجنيني في النظام اللغوي بصفة خاصة، وفي النظام العربي بصفة عامة. إذ بعد أن كسبت البلدان العربية استقلالها السياسي، بدأت بإزالة بواقي الاستعمار، وبناء مجتمع جديد، قبل أن تحوّل السلطة كل شيء إلى صالحها، وتهدم هذا المجتمع. إنه الموقف اللامعقول ذاته من اعتباطية الرمز وتعسفه لدى دو سوسير في كل نظام لغوي قائم في مهب التحولات، وقد وصف جمال عبد الناصر هذه التحولات بهذه الكلمات الطموحة: “ثورة عربية حقيقية ولدت في عقولكم ومشاعركم وقلوبكم” (23) قبل أن يدمر ورثته كل تحول، وتنهض على أنقاضه حفنة سلطوية لا ترى من قانون آخر غير مصلحتها. لم تبق تلك الأحداث الكبرى ذات المرامي التاريخية، والتي وجدت انعكاسًا لها في الأدب العربي، رمزًا لمنطلق مناهض للهيمنة الخارجية واللاعدالة الاجتماعية، هذه الأحداث هي: ثورة يوليو في مصر، حرب التحرير الجزائرية، الاعتداء الثلاثي على السويس، ثورة تموز في العراق، كفاح الشعوب العربية ضد العدوان الإسرائيلي، عراقة الشعوب العربية وأصالتها بعيدًا عن كل أدلجة وكل استغلال وكل بلطجة، فازداد الرمز تعقيدًا.
يجب علينا تأكيد أن الرمز في بدايته التبسيطية قد وجد مجاله في الأدب، أكثر فأكثر، وبصفة متنامية، كعملية متطورة –على الرغم من النكبات وخيبات الأمل وأحيانًا بسببها- ترمي مضمونًا إلى التحول في العلاقات الاجتماعية القائمة، وبناء الفعل الأدبي، فالعرض الوصفي لطريقة ساكنة في الحياة، هذا العرض الذي كان الإمكانية الوحيدة لوجود ظاهرة أدبية، أخلى مكانه لما يمثله الفعل الأدبي، والذي يوجد في مقدمته البطل الجديد تحت بعض رموزه اللغوية. ومن هذه الناحية، نرى كما يرى رولان بارت، فلا نربط الزمن الجديد بالبطل الجديد، لأن الزمن ليس ملكًا للخطاب، ولا تعرف الحكاية واللغة غير زمن أعراضي (متعلق بأعراض مرض)، فالزمن “الحقيقي” وهم مرجعي.
ما هي خواص البطل الجديد؟ ما هي خواص الرمز اللغوي الذي يمثله؟
مثل كل تثمين سياسي-معنوي للبطل الأدبي بالنسبة إلى تمثيله للصورة الإنسانية، المشروطة اجتماعيًا، فإن صورته تخضع أيضًا لما طرأ على الأدب العربي في العقود الأخيرة من تغيير مرتبط بعلاقاته الاجتماعية. وتمتد سلسلة خصائص البطل إلى الباحث الذي يتنبأ حدسيًا بأبعاده الاجتماعية، وخصائصه المعنوية المميزة والمحددة، إلى جانب التمثيلية منها، تحت أشكال فردية تخيلية، تبتعد أو تقترب من محورها “التعسفي”، ونقصد بذلك علاقة الرمز بالمرموز، من خلال بحثه عن طريقةِ تَشَكُّلِهِ في كل عمل أدبي.
هنا، نريد أن نقدم مثالين من هذا البطل الجديد في الأدب العربي: المثال الأول عن الكفاح من أجل التحرر والاستقلال في الجزائر، حيث تتحرك الشخصيات بصفتها التمثيلية، محققة بعضًا من مطامحها في القتال ضد الاستعمار والظلم الاجتماعي. لقد جرى تقديم المقاتل في الأدب العربي الحديث ضمن حالات جِد مختلفة ذات قيمة دلالية بصفته مواطنًا مضطرمًا، فأظهر الكاتب الجزائري محمد ديب في روايته “صيف أفريقي” الفلاح “مرحوم” كبطل يخاطر بنفسه لتزويد المقاتلين في الجبال، جالبًا لهم الطعام الضروري، وبهذه اللفتة الرمزية العاطفية يعبر عن دعمه للكفاح المسلح ضد السيطرة الاستعمارية الفرنسية. (24)
لكن الرمز لا يتم بهذه الميكانيكية، فالقاص مطارد بهم “التجميل”، في عمل أدبي لا في عمل سياسي، وهو يشير، حسب عالم اللسانيات كلود برنار، إلى صيرورة هذا التجميل: إذا قال إن البطل يخاطر بنفسه، فهذا التأكيد الذي يستند إلى المضمون دون تحديد كيف لا يساعدنا على تمييز بنيته. بالمقابل، إذا قال إن البطل كذا وكذا أمكننا الاعتماد على بيان الوقائع والأسباب الداخلية لهذه الوقائع لنفرق بين أنواع التجميل، فكلما دخلت القصة في التفاصيل أكثر، كلما كان التجميل في تنوعه أكثر، وكلما كان الرمز في عرضه أغنى.
المثال الثاني عن معركة الاستقلال، غير مباشر هذه المرة، إذ نلتقي أحيانًا، بين الأمثلة العديدة للبطل الجديد، بنماذج ليست للوهلة الأولى “نجعية”، لكنها تمارس نفوذًا كبيرًا بفكرها وفعلها على من هم حولها.
يقدم لنا الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه هذا النموذج في قصته “الجراد”، قصة نشرها قبل تغيير النظام، والذي يرسم فيها صورة عامل زراعي بسيط، بشكل اعتباطي في البداية، حتى يغدو، تحت ترميز متنام، بطلاً شعبيًا، عندما يجند قرية بأكملها لمواجهة خطر سرب من الجراد، ثم لا يلبث أن يغدو مثالاً أعلى، لذهنه الحاد، وقيمته المكتسبة، وفعله المباشر، من خلال وظيفته الدلالية: إذ يقدم اقتراحًا عمليًا لمواجهة هذه الكارثة الطبيعية، والتي حسبما يبدو لا يمكن تفاديها، وقد أدى ذلك إلى مهاجمة سلطة الشيخ الجاهل الذي لا يعرف كيف يحمي قريته من الجراد. لقد حاول هذا الشيخ أن يفرض على القرية اقتراحات لا فائدة منها إطلاقًا، مثل زيارة ضريح أحد الأولياء، أو الدعاء، أو إشعال النار، وضرب الطبول حولها، بينما يُبدي الشاب العامل فكرة حقًا مبتكرة، وحتى ذلك الوقت ليست متصورة، تزعزع سلطة القدامى بقوة، وتعرضهم للسخرية عندما يقول: ” إن فكرتي هي هذه… أن نأكل الجراد بدل أن يأكلنا.” (25)
حقًا لا تحول هذه الفكرة البسيطة العامل الزراعي الشاب إلى “بطل” بالمعنى الواسع المنسوب إلى المجتمع، لكنها تمثل، تحت شكل رمزي لقصة، شيئًا لم نره أبدًا إلى ذلك الحين: الإطاحة بالمؤسسات الدَّوْلية (من دولة) غير الديمقراطية والدينية اللاتنويرية والتصورات التقليدية، كل هذه المدلولات التي لا تتوافق مع دوالها.
وليس هذا كل شيء، إذ لا تبقى الفكرة عند حدود الفكر، بل توضع على المحك، وتتطور بصفتها واقعًا اجتماعيًا جديدًا. لا يتحقق هذا التطور من خلال الطرق التقليدية، ولكن بعون أناس بسطاء، سكان القرية: الأطفال والشيوخ والنساء والرجال الذين يخرجون تحت قيادة الشاب العامل الزراعي إلى الحقول كي يجمعوا الجراد المشلول في استرخائه بسبب الليل. وهكذا ينجح الفلاحون بإنقاذ القرية من الكارثة، ويغدو الجراد غذاء وفيرًا للسكان. لقد أصبحت فكرة العامل الزراعي حقيقة واقعة، و “البطل” مثالاً لم يحترمه وسطه لشجاعته ومواجهته التصورات السلطوية فحسب، بل ولثباته عند العمل من أجل رغد العيش الجماعي. إضافة إلى أن احترام البطل الفردي هذا يجري التعبير عنه دلاليًا في الفعل/بالفعل الجماعي، فعل أهل القرية، ويمكننا أن نقول سياقيًا إن الناس البسطاء هم الأبطال الحقيقيون لهذه الواقعة الاستثنائية/العادية في الوقت نفسه، إنها السمة الوظيفية للقصة.
ولننه لمحتنا الوجيزة عن الجمال العربي الجديد، نلخص هنا ما امتاز به من ملامح تكمن فيما يعكسه من تقدم اجتماعي في الواقع، وما يعطينا بالتالي من جواب حول واقعية الأبطال.
لنلاحظ أولاً أن هؤلاء “الأبطال” يدافعون عن التقدم الاجتماعي، ويقاتلون ضد كل أشكال القمع، وخاصة القمع القومي الذي يقوده الاستعمار، وهم يعملون بوعي أو بدون وعي لمصلحة أغلبية الشعب، وهذا ما يُظهره اختيار “شخصيات شعبية” للأبطال القصصيين (غالبًا ما تكون ممثلة للفلاحين).
ولنلاحظ ثانيًا أن فعل “البطل” يرمي إلى تحولات العلاقات الاجتماعية، وذلك من خلال الفعل العام للفاعل (دومًا البطل)، وهذا الفعل حسب بارت يأخذ معناه من واقع أنه مروي، وأنه معهود به إلى خطاب له كوده الخاص به. وعلى الرغم من أن الغايات والوسائل من أجل تحقيق هذه الغايات غالبًا ما تبدو مضطربة، إلا أن صفات “الثوري” تمثل الشرط الضروري لقطع كل علاقة بالتقاليد البائدة لطريقة تأملية في التفكير ارتبطت بالتصورات الاجتماعية الكاذبة. ونحن نرى من خلال القصة الليبية على الخصوص أن الأفكار الجديدة تتغلب على سلطة التصورات القديمة.
أما العنصر الثالث الذي نود الإشارة إليه، فهو أن الفاعل الجديد، البطل الجديد، يعمل ويتحرك بصفته إنسانًا فعالاً داخل المسرح الاجتماعي، إنه يحمل مصيره بملء يديه وليس شيئًا أصم دون إرادة خاضعًا للمسلمات اليقينية. هنا، يصبح الإنسان خالقًا لنفسه، ليس بالشكل التعسفي لإيديولوجيا الكتابة، فكل قصة قصصية، كل رواية روائية، تحتوي –حسب عالم اللسانيات جيرار جينيت- على تمثيلات للأحداث والأفعال تشكل السرد القصصي، السرد الروائي، من ناحية، ومن ناحية ثانية على تمثيلات الأشياء والشخصيات، والتي هي ما ندعوه اليوم بالوصف القصصي، بالوصف الروائي.
ج) ميلاد أدب فلسطيني جديد
في الفترة الواقعة بين ثورة 36-1939 ونكبة 1948، استولت الإقطاعية بالتحالف مع الاستعمار على الفن (الأدب على الخصوص)، واستخدمته للتعبير عن قيمها ومصالحها، فبقي الأدب عاجزًا تحت سيطرتها –إلا من بعض الأمثلة القليلة كإبراهيم طوقان وخليل السكاكيني وعبد الرحيم محمود- إلى أن أعلن احتلال فلسطين جهرًا الإخفاق التاريخي لهذه الطبقة وميلاد أدب فلسطيني جديد، وذلك عند ربطنا الظروف الخارجية للأدب بأدبيته، ونحن بهذا نفعل ما فعله رولان بارت لَمَّا لم يعتمد المضمون السردي في تسلسله التاريخي، وجعل من مهمته التوصل إلى إعطاء وصف بنيوي لوهم التسلسل التاريخي، إذ على المنطق السردي أن يعرض للزمن السردي.
بعد 1948، صدرت مجموعات قصصية عديدة، كُتب بعضها عن الهزيمة، نلمس من خلالها تأثير الأحداث التاريخية على الواقع الاجتماعي، والانتقال الملموس من رؤية عامة وغيبية إلى رؤية واقعية وتقدمية، ونلمس كذلك إبراز بعض الملامح الأدبية الإبداعية، فالزمنية كما نرى رؤية رولان بارت ليست سوى طبقة بنيوية للقصة (للخطاب)، والزمن لا يوجد إلا تحت شكل نظام، تمامًا كما هو عليه في اللغة، وهو هنا كمرجع عند اختيارنا للثلاثة نماذج الأدبية التالية.
1 – نجاتي صدقي: الثقافة الوطنية
شُحنت الثقافة الوطنية بمعايير إبداعية جديدة، وهي وإن ظلت عاجزة عن رؤية عينية للصراع مع قوى الاستعمار، وبقيت مشدودة إلى كل ما هو نظري، إلا أنها ساهمت في تحديد دور الأديب “الصحيح –مثلما يرى الدكتور عبد الرحمن ياغي- … الذي يضرب مساوئ الحاضر بحسنات الماضي، ويصور مستقبلاً جميلاً… وأن الأدب هو علم الإنسان… يرمي إلى إدراك كنه حقيقة الإنسان.” (26)
بالأحرى نحن نضرب محاسن الحاضر بمساوئ الماضي، وعند هذا المستوى من التحليل، المعايير الإبداعية هي أحداث قصصية، نراها رؤية عالم اللسانيات تزفيتان تودوروف بحد ذاتها، دون الأخذ بعين الاعتبار ما تقيمه من علاقات بالعناصر الأخرى. لهذا قلنا ساهمت المعايير الإبداعية الجديدة في تحديد دور الأديب، المعيار إبداعي، والدور الذي هو الحدث أدبي، وكلاهما، أي المعيار والحدث، في السياق النقدي الذي نحن بصدده، واحد. وتجاوزت المعايير الإبداعية الجديدة كذلك المعايير القديمة التي تستند إلى العادات والتقاليد البائدة وكل ما هو متخلف من أجل ثقافة أوسع كما يواصل الدكتور ياغي: “والإنسان لا يكون مثقفًا إلا إذا تحلى بثلاث سجايا: التحرر من الخرافات، والتفكير في غده وغد غيره من أبناء قومه، والقدرة على تخطي الحدود الضيقة في تفكيره.” (27)
المعايير هنا هي في الوقت ذاته أحداث: التحرر، التفكير، القدرة، وهي بعض المعايير الرئيسية لقصة “جثة حية” من مجموعة نجاتي صدقي “الأخوات الحزينات” المكتوبة بين 1939 و 1948. ورغم ما يؤكده أحد أبطالها بأن “الأدب الواقعي إنما هو تصوير الحياة بدقة وصدق، ومن مميزاته انتقاء الحقائق المحيطة به” (28)، إلا أن ذلك يبقى عند حدود النظرية في جميع قصص المجموعة، فالنظرية هي المعايير، وهي الأحداث، إنها التقنية، فيما يخص المعايير، فيما يخص الأحداث. حتى أن الرمز في “الأخوات الحزينات” الذي يستعمله الكاتب لم يكن باستطاعته عكس الواقع بوضوح، بما في ذلك الكفاح ضد الاستعمار والصهيونية، فيما يخص التعابير.
يتميز هذا الكفاح في بعض أشكاله الاستعارية بموضوعة محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية التي أعطت موضوعة التعلق بالأرض، فللتعلق بالأرض صفة الأولوية في الأدب الفلسطيني خصوصًا والأدب العربي عمومًا، ولنذكر مثلاً على ذلك توفيق الحكيم في علاقته المتينة بالأرض بالمفهوم العام وأرضه بالمفهوم الخاص، كما يقول المستعرب الكبير أندريه ميكيل في كتابه “الأدب العربي”، بغض النظر عن موقفنا المعارض لموقف الحكيم من مسألة الفلاح المِصري الذي يعتبره سعيدًا بتعاساته.
هاتان الموضوعتان إذن (موضوعة محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية وموضوعة التعلق بالأرض) مرتبطتان سيميائيًا، ولا يمكن تفسير إحداهما إلا بعلاقتها بالأخرى، بمعنى أن كل واحدة منهما تقترح تحت شكل قصصي ما يماثلها في الثانية.
وتتطور موضوعة التعلق بالأرض لتأخذ سمة اجتماعية أكثر عمقًا وأخرى لغوية أكثر جذرية عندما يقدم الأدب الفلسطيني الجديد صورة واقعية عن الأرض مع صاحبها الفلاح كممثل للفئات المسحوقة، وعندما يدلل سيميائيًا على ألا معنى لكل منهما إلا بعلاقتهما الوثيقة المتبادلة (سيصل التحليل البنيوي إلى استخلاص بعض الصور الجمالية المفروضة فرضًا على هذه العلاقة).
2 – أسمى طوبي: الأرض
في قصة “أمنا الأرض” من مجموعة أسمى طوبي “أحاديث من القلب” لدينا صورة “للعم مصطفى، وهو يزيل عرقه من جديد عن جبينه، ويقلب أرض حديقتنا. كانت القطرات المبلورة تنحدر لتمتزج بالتراب، وسمعته يهمس: ما أصدق هذا! إن عرق جبيني وقوة عضلاتي في الأرض، دم قلبي أيضًا هناك. لقد حرثها آبائي وأجدادي لعشرات السنين، فلن أكون الرجل الذي يضيعها.” (29)
يبدو التماثل هنا بين الموضوعتين (موضوعة محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية وموضوعة التعلق بالأرض) في التتالي، فالمفردات “الأرضية” مفردات القاصة وبطل القص، التي هي واحدة، كما لو كانت لشخص واحد، وبالتالي لم يكن هناك تعارض في المضمون، ولا في النبرة. العلاقة بين القاصة وبطل القص علاقة متماثلة دافعها الصدق، صدق الشعور، صدق التعبير، صدق الصورة. لكن الحديث عن صدق الصورة لا يعني جمالها، وفي الوقت ذاته لا يعني استقلال الوظيفة الجمالية (كدت أقول الشعورية) التي هي جنينية هنا، بالمقارنة مع مولد الأدب الفلسطيني الجديد، والتي نرى من خلالها أن للتأكيد على موضوعة الأرض في الأدب الفلسطيني دلالات عديدة منها: امتزاج الإنسان الفلسطيني بالأرض الفلسطينية، وتعلقه بها، وفي سبيلها يقف ليواجه التحديات (امتزاج قطرات العرق بذرات التراب، وكذلك القوة والدم، وفي الأخير صرخة التحدي: لن أكون الرجل الذي يضيعها!)
هذا التعلق بالأرض الذي نجده يعود دومًا ليطبع الأدب الفلسطيني، فهو الشكل الأكثر انتشارًا لمبدأ التماثل، كما يرى تودوروف في سياق آخر، وكما يعبر عنه بمصطلح “التوازي”، فكل توازٍ يتكون من متتاليتين على الأقل تحتويان على عناصر متماثلة ومتخالفة. بفضل المتماثلة تزداد المتخالفة بروزًا، واللغة، كما يرى عالم اللسانيات، تعمل قبل كل شيء عَبر الاختلافات. بناء على ذلك، سنرى لاحقًا كيف تعددت دوافع التعلق بالأرض عند غسان كنفاني، وتنوعت أشكاله التعبيرية بعد أن غدا محور الكفاح الفلسطيني غداة نكبة 48.
3 – سميرة عزام: الالتزام الاجتماعي
جاءت قصة “في الطريق إلى سليمان” من مجموعة “أشياء صغيرة” لسميرة عزام، لتصور دفاع الإنسان الفلسطيني عن الأرض أمام هجمات الصهاينة عام 1948، فأخذ هذا الدفاع شكل التوازي القصصي، وطغى على كل العناصر الأخرى في النص. فالصراع من أجل الأرض يأخذ مداه في قصة “خبز الفداء”، حيث تعيد الكاتبة صياغة الواقع الذي عاشته قبل احتلال عكا، وذلك عندما يتحدى البطل العدو، ويسيل دمه فداء للأرض.
التوازي هنا بين قطبي الصراع السياسي، الفلسطيني والإسرائيلي، وعلى مستوى القص بين خيوط الحَبكة، كما يرى تودوروف، يتعلق بالوحدات الكبرى للقصة، محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية والتعلق بالأرض، وهناك توازٍ بين الصيغ اللغوية، الذي سنتركه جانبًا، عند هذا المستوى من التحليل.
اعتمادًا منا على التوازي بين قطبي الصراع السياسي، نجد أن عنصر تحدي العدو يرافق عنصر تحدي القيم التقليدية في المجتمع، فقد تميزت قصة “أشياء صغيرة” بموقف جديد يرفض كل ما هو “خالد ومقدس وأصيل” في العائلة، تحت معنى سلبي للخالد والمقدس والأصيل، عبّر عنه مستوى العلاقات السائدة. إذ تدور القصة حول فتاة كانت تظن نفسها من سلالة متميزة عن سائر البشر، لِمَا كرسه والداها في عقلها من أفكار محافظة. لكنها اليوم أصبحت شخصًا جديدًا متفتحًا استرد ثقته بنفسه، وامتلأ حسه بالوجود في اللحظة التي اكتشفت فيها زيف وضعها الاجتماعي السابق، بعد أن أحبت رجلاً فتح عينيها على أمور كثيرة غابت عنها في الماضي.
كذلك، تتطرق الكاتبة إلى التوازي بين قطبي الصراع الاجتماعي، الفلسطيني والفلسطيني، فتطرح “قصة في رسالة” موضوع سقوط المرأة المسحوقة، و “على الدرب” كيف يتخلى الخطيب عن فتاته الفقيرة بعد أن أصبح سائقًا خاصًا لصاحب المصنع (دون أن نربط –عند هذا المستوى من التحليل- هذه العناصر بمستوياتها الدلالية).
ترمي الكاتبة من طرح مشاكل المرأة إلى البحث عن عالم أفضل ينتهي فيه اضطهادها، فهي ترى أن ليس هناك فصل بين التصدي للاحتلال ومواجهة العدو وبين التصدي لآفات المجتمع ومواجهة الفكر المتخلف. وترى الناقدة نادرة جميل السراج أن القاصة قد حاولت: “في قصتي “إلى حين” و “زواج العمة” أن تصور صورتين من صور الانتهازيين من الأقارب، فالعمتان في القصة الأولى تريدان اقتناص شاب غني لابنة أخيهما… أما في القصة الثانية، فهي تصور طمع الأخ وزوجته في مال شقيقته الأرملة…” (30)، مع ملاحظة أن النقد الوصفي هنا لا يتناول عمليات التركيب النصي، ويكتفي بتلخيص الواقعة، فالتركيز على الواقعة، والاكتفاء بهذا التركيز، لا يخدم النص في تركيبه، ولا الشخصيات في علاقاتها.
أخيرًا نقول إن في باقي قصص المجموعة موقفًا اجتماعيًا واضحًا يرفع مطلب “التحول” الذي رسمته علاقات الشخصيات المتبادلة بشكل غير مباشر من خلال التأكيد على ظاهرة الفقر والبحث عن القوت اليومي، وقد عبرت سميرة عزام بهذا عن بعض سمات الحياة الفلسطينية التي شكلت البنية الاجتماعية والاقتصادية العريضة لعدم استقرار الإنسان الفلسطيني وشعوره المعذب في المنفى.
المراجع
(17) إميل توما: المرجع السابق، ص ص 216-217
(18) إميل توما: المرجع السابق، ص 217.
(19) إميل توما: المرجع السابق، ص 218.
(20) عباس محمود العقاد: عبقرية عمر، المكتبة التجارية، القاهرة 1948، ص 11.
(21) عباس محمود العقاد: المرجع السابق، عناوين بعض الفصول التي تركز على الأنا الأرستقراطية.
(22) جلال فاروق الشريف: الشعر العربي الحديث والتحديات الجديدة، مجلة الموقف الأدبي رقم 6، دمشق 1974، ص 7.
(23) جمال عبد الناصر: خطاب 9 آذار 1958 في دمشق، مجموع الخطب والتصريحات والبيانات، الجزء الثاني، القاهرة، ص 1957.
(24) إحدى التركات المفجعة للاستعمار ما يطلق عليه فرانز فانون “تجهيل” Déculturation الشعب المسحوق، ويجري التعبير عن ذلك التجهيل بواسطة “تلقين” Acculturation اللغة الفرنسية في الجزائر، والذي لا يمكن استبداله بعملية تعريب بسهولة، وهكذا فقد كتب محمد ديب روايته “صيف أفريقي” بالفرنسية، وقام بترجمتها إلى العربية جورج سليم في دمشق عام 1964.
(25) أحمد إبراهيم الفقيه: الجراد، مجلة المعرفة عدد 64، دمشق 1967، ص ص 99-116.
(26-27) عبد الرحمن ياغي: حياة الأدب الفلسطيني، المكتب التجاري، بيروت 1969، ص ص 503-504.
(28) عبد الرحمن ياغي: المرجع السابق، نفس الصفحات.
(29) عبد الرحمن ياغي: المرجع السابق، ص 514.
(20) نادرة جميل السراج: سميرة عزام في ذكراها الخامسة، مجلة شئون فلسطينية، أكتوبر، بيروت 1972، ص ص 74-75. حول “أشياء صغيرة” لسميرة عزام، دار العلم للملايين، بيروت 1954.
3 – غسان كنفاني: طريق الكاتب الفلسطيني
1 – فترة توجه المنفي
أ – دمشق والكويت: عدم الاستقرار الحياتي-البحث عن تحديد إيديولوجي
(أ1) موت سرير رقم 12
تنعكس على مراحل حياة غسان كنفاني المراحل التي عاشها الشعب الفلسطيني بشكل مباشر، أولاً ترحيل بالقوة، وثانيًا إقامة غير مستقرة في لبنان وسوريا. بدأ غسان كنفاني الحياة المهنية عام 1952، وعمره ستة عشر عامًا، معلمًا في أحد مخيمات اللاجئين بدمشق، فرأى المصير الذي آل شعبه إليه، وأخذ يعي بنفسه ما وقع من أحداث. لقد أكسبته هذه المرحلة الأولى من حياته الفعالة في دمشق تجربة المنفى المُرَّة، والتي شملت: حياة التغرب في المخيم، والشعور الشديد بالعجز أمام عدو أقام دون عناء في بيتٍ كانَ للفلسطينيين، وما كان في الإمكان تصديق ذلك ضمن حقيقته الشرسة.
بناء على ذلك، سنقوم بتقديم عرض أولي للموضوعات الرئيسية التي طرحتها أعمال غسان كنفاني بالنسبة إلى التطور التاريخي للتحرر الذي عبره الشعب الفلسطيني ومعه غسان كنفاني منذ نكبة 1948 حتى سنوات السبعين. وأول موضوعة (31) نُعنى بإبرازها من خلال هذا التسلسل التاريخي (أوضحنا ما نقصد بالتسلسل التاريخي في الفصل السابق) هي شعور المنفي المعذب الذي يلتفت إلى الوراء لحاجة له إلى فهم الحقيقة. عبرت عنها الثلاث قصص الأولى من مجموعة “سرير رقم 12″، المعنونة: 1- البومة في غرفة بعيدة 2- شيء لا يذهب 3- منتصف أيار.
ما هي الصور الفنية (32) التي تقابل هذا الشعور؟
إن صورة القصة الأولى هي صورة البومة التي كان البطل قد رآها عند هزيمة 1948، وهي تظهر بالوصف التالي: “كان يومض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوف غريب… وبدت لي أنها مصرة على وقوفها المتحدي، وأنها سوف تبقى رغم الرصاص والموت.” (33)
يحتفظ البطل في حجرة المنفى بصورة فوتوغرافية للبومة، وبما أن البومة طائر ليلي، فهي تبعث تدقيقًا بذكرى ماضٍ معذب، أذهَبَ الغضب، وأبقى الخوف، ولم يمنع التحدي عدم البقاء! وهكذا فإن الصورة الفنية للبومة في الليل تعبر جماليًا عن الشعور بالذكرى المفجعة في ليل المنفي.
أما صورة القصة الثانية، فهي الورود التي يريد البطل وضعها على قبر عمر الخيّام في طهران، إذ كانت حبيبته في حيفا، قبل احتلال فلسطين، قد أهدته كتابًا عن شاعر الرباعيات، آخر ما تبقى من ماضٍ سعيد بعد أن ماتت دفاعًا عن الوطن عندما نسمعه يقول: “لماذا أُصر على الاحتفاظ بكتاب الخيّام؟ إن أحدًا لا يعرف الحقيقة، تراني أريد من الكتاب أن يوهم الآخرين بأنني ما زلت مرتبطًا بحيفا؟” (34)
صورة الورود على القبر مثيرة بشكل خاص، تعبر عن دفن ماضٍ سعيد دون التطلع إلى المستقبل، فتتجه الرؤيا هنا، من خلال الاحتفاظ بكتاب الخيّام، نحو الماضي، وتبقى مشلولة أمام تعاسة الحاضر الفاجعة.
لكن صورة القصة الثالثة تبعث على الحزن أكثر من سابقتيها: إنها صورة رسالة إلى ميت، فالبطل المنفي يكتب رسالة إلى صديقه الذي مات خلال أحداث 1948، حيث تطغى ذكراه على الحاضر، على الآن، من خلال سؤال إشكالي، يسائل شروط المنفى الصعبة، ويؤسس للخروج منها، في اللحظة التي يقول فيها: “والسؤال الذي يجأر في رأسي هو: لماذا أذكرك الآن، وأكتب لك؟ أما كان من الأجدر بي أن أستمر في صمتي؟” (35)
يجدر بنا التذكير من جديد بالموضوعة الأساسية التي سبق لنا طرحها لهذه المجموعة “موت سرير رقم 12″، شعور المنفي المعذب الذي يلتفت إلى الوراء، والذي تعبر عنه كافة الصور من خلال التعلق الأحادي الجانب بالماضي، أما باقي قصص المجموعة فتؤكد: دافع العار لدى المنفي، إشارة إلى فهم أول يبعث على التساؤل: كيف يمكن محو العار، وبالتالي، شق طريق نحو المستقبل؟
لنتابع عرضنا للصور الأساسية الأخرى التي رسمتها باقي قصص المجموعة:
في قصة “كعك على الرصيف” يتطور الشعور بالعار من خلال صورة أكثر تعقيدًا: اكتشاف الحقيقة التي تختفي وراء شبكة من الأكاذيب. القصة هذه سمة من سيرة الكاتب الذاتية، إذ يتضح لمعلم أن أحد تلاميذه كذب عليه ليخفي أوضاع عائلته السيئة، مدعيًا أنه يعيل أسرته، عوضًا عن أبيه الميت، ببيع كعكٍ على الرصيف، بينما الحقيقة هي أن الأب أصبح مجنونًا عندما شاهد المِصعد، وهو يقطع رأس ابنه، ولم يكن التلميذ غير ماسح أحذية. يكمن دافع الموضوعة الأساسية للمنفى في الورطة التي سببتها الأكاذيب لتغطية العار، هذا العار الناجم عن وضع الطفل البائس، الذي يعتبره وضعًا منزوعًا من الكرامة، لكنه يعترف لأستاذه عند نهاية القصة: “إنه لم يمت (أبوه)، إنه مجنون يدور في الشوارع نصف عارٍ.” (36)
يقدم الكاتب صورة مزدوجة تعبر عن هذه الأكاذيب في العنوان “كعك على الرصيف”، صورة ماسح الأحذية الذي يدعي أنه بائع كعك بينما هو في الحقيقة يقضي كل وقته راكعًا على الرصيف لمسح الأحذية.
أما قصة “في جنازتي”، فتعطي تعبيرًا واضحًا عن دافع موضوعة المنفى، يختلف عن غيره، ألا وهو الحقد الذي يملأ قلب من ضاع. إنها حكاية مريض غير قابل للشفاء، يكتشف أن لحبيبته عشيقًا، فيشعر أنه مقطوع تمامًا عن عالم الأحياء، ويكشف: “ولكن من يستطيع أن يمنعني أنا الآخر من الحقد عليكما، على الجميع، وعلى نفسي؟ من يستطيع أن يحرمني من أن أكرهكم جميعًا، وأتمنى الموت لكم، ولكل شيء؟ القيم والمثل؟ كلا، إنها قيمكم ومثلكم أنتم، الناس الأصحاء، السعداء…” (37)
يتضمن دافع الحقد الذي يملأ قلب من ضاع معنى آخر جديرًا بالذكر: دافع خيانة الحبيبة الذي يتضح شيئًا فشيئًا، والذي سيحتل مكانًا هامًا في باقي أعمال كنفاني.
إن أهمية التضامن وقت الشدة لمواصلة القتال يدفع البطل القصصي إلى معاتبة حبيبته عندما يقول: “أنتِ لا تعرفين كم حرمتني من وسيلتي الوحيدة التي كنت أريد فيها أن أقنع نفسي بأنني ما زلت أستطيع أن أكون شجاعًا.” (38) لكن استبعاد الشجاعة يعزل البطل عن قيم الآخرين ومُثُلِهِم، ويكرس عالم المرضى مقابل عالم الأصحاء.
ختامًا لتقييم هذه القصة نقول إنه يوجد فيها تطور واضح للصورة الفنية أكثر مما هو عليه في القصص الأخرى، إذ تكمن الصورة المعبرة عن هذا الحقد وهذه العزلة وهذا اليأس في رسالة الوداع التي يكتبها المشرف على الموت.
سنتطرق الآن إلى القصة التي حملت المجموعة اسمها “موت سرير رقم 12″، هنا تتطور موضوعة المنفى الأساسية تحت دافع الموت الكاشف عن سر الحياة: يأخذ أحد المرضى بمراقبة مريض آخر يحتضر، أصله من عُمان، لا يؤثر وجوده في أحداث القصة، فيشرع المريض الراوي بتكوين فكرة عن حياته. تخيله منفيًا شق طريقه بشجاعة رغم العقبات العديدة، لكن الحياة نبذته بعد إصابته بمرض فتاك. وتخيَّلَ كذلك في صندوقه الذي يمسك به على الدوام ثروته المكونة من: “عباءة بيضاء شفافة مذهبة الأطراف… حلق خزفي لأخته سبيكة تزين به أذنيها، وزجاجة من عطر قوي، وصرة بيضاء مصرورة على ما يسره الله له من نقود.” (39)
يموت العُماني فنكتشف الحقيقة: إن ما كان خيالاً كان صورة رومانسية للحياة، فحياة العُماني في الواقع أكثر قسوة: يقيم في الكويت بعيدًا عن وطنه وأطفاله الخمسة، بينما يتخيله الراوي رجلاً غادر بلاده ليجمع المال، ويرجع غنيًا، كي يستحوذ على حبيبته، غير أن ما كان في الصندوق سوى: “مجموعة فواتير بديون الدكان الجديدة للمخازن المورِّدة تملأ أنحاءه، وكانت في الظرف صورة قديمة لوجه مليح، وجلد ساعة قديم، وخيط من القنب، وشمعة صغيرة، وبضع روبيات منثورة بين الأوراق.” (40)
هكذا لم يحتو الصندوق على “قيمة” ثمينة (ذهب وعقد ونقود) وإنما على قيم لحياة الفقر والمنفى الشاقة (فواتير وجلد ساعة قديم وخيط وشمعة وبضع روبيات).
الصورة الفنية هنا تتمثل بالمحتوى المزدوج للصندوق: إن الصندوق الخيالي يتضمن محتوى ذا طابع مثالي “مُجَمَّل” ومفعم بالأوهام، بينما الصندوق الحقيقي يحتوي على أشياء حزينة يذوق الفقير مرارتها. من هنا، القيم الوهمية كالعباءة الجميلة تفقد “قيمتها”، بينما الأشياء الصغيرة التي “لا معنى لها” تستمد قيمة إنسانية عظيمة.
أثار الراوي، الذي هو مريض أيضًا، مسألة موت الإنسان، فهو يرى أن حياة الشقاء والألم، ذات المحتوى المحدد، لا تترك سوى آثار عديمة الجدوى كالفواتير والشموع. هذا ما يفكر الراوي فيه: “إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضية الباقين… إن علينا أن ننقل تفكيرنا من نقطة البداية إلى نقطة النهاية. يجب أن ينطلق كل تفكير من نقطة الموت.” (41)
ما هو سبب إعطاء موضوعة الموت تفسيرًا فلسفيًا؟ ما هي علاقتها بدافع الحياة الوهمية والحياة الحقيقية؟ الصورة هي صورة الموت الكاشف عن سر الحياة، تسامي مشكلة المنفى، وموت الشعب الفلسطيني الذي كان يحتضر غداة النكبة. نقول “تسامي”، لأن المشكل المثار يبقى مركزًا في صدمة موت “عديم الأهمية”، ولا يتطرق حقيقة إلى ما يكشفه هذا الموت، فكان الموت لازمًا لمعرفة الحقيقة التي كانت فيما مضى “لا معنى لها”. لقد أعطى الموت في هذه القصة معنى لِمَا لم يستطع الراوي معرفته سابقًا، فهل من اللازم أن ننتظر الموت دائمًا لمعرفة الحياة؟ إذا طبقنا هذه الفكرة على مصير الشعب الفلسطيني نقرأها هكذا: يجب أن نفهم حقيقة الشعب الفلسطيني قبل أن يموت. ومع ذلك، لم تُطرح هذه المسألة عند غسان كنفاني بشكل واضح إلا في وقت لاحق، فهي لا تحمل في الوقت الحالي سوى طابعها الفلسفي القائل: “يجب أن ينطلق كل تفكير من نقطة الموت.” (42)
القصة الأخيرة التي اخترناها من هذه المجموعة تُبرز جانبًا هامشيًا من القصة السابقة. كما قلنا سابقًا، إن الراوي المريض قد صنع لنفسه صورة رومانسية للمنفى، كالسعي الشره وراء الثروة. تطورت هذه الصورة في قصة “لؤلؤ في الطريق” لتأخذ بُعد اللؤلؤة التي في المحارة الأخيرة. إنها حكاية رجل ألقى رحاله في الكويت طامعًا في الحصول على ثروة، لكنه يفشل. قبل أن يعود إلى بلاده، يجرب حظه للمرة الأخيرة بشراء بعض المحار، دفع ثمنه ما كان عليه أن يدفعه للحصول على تذكرة سفر أعطاه إياه صديقه، آملاً أن يجد فيها إحدى اللآلئ. يأخذ بفتحها دون أن يجد فيها شيئًا، وعندما يفتح المحارة الأخيرة يسقط ميتًا. يتساءل صديقه راوي الحكاية: “لماذا مات…؟ هل كانت ثمة لؤلؤة داخل تلك المحارة الأخيرة الملعونة، فمات فرحًا، أم كانت فارغة كأخواتها العاقرات، فمات غمًا.” (43)
تعبر صورة اللآلئ في المحار عن وهم الثروة الساقطة من السماء، فالموت هنا صورة شعرية تعبر عن دمار كل من سار في هذه الطريق (سيموت في كل الأحوال فرحًا أو غمًا). لقد أوضح غسان كنفاني في أعماله اللاحقة بشكل أعمق موضوعة الحل الوهمي هذا الذي يستبدل به الإنسان بؤس الحاضر. وتكمن العلاقة بين صورة اللؤلؤة في المحارة الأخيرة وبين الموضوعة الأساسية لشعور المنفي المعذب في السؤال الذي يطرحه غسان كنفاني: كيف يمكن التحرر من هذا الشعور؟
المراجع
(31) بموضوعة “Thème” نطلق على مجموعات إيديولوجية تنضوي تحت هيكل واحد، وتتحدد مقولة الموضوعة في المنهج الإيديولوجي للعمل الأدبي، ولا يمكننا أن نستخلص سوى موضوعة واحدة من عمل أدبي يحوي في المقابل عدة دوافع “Motif”، وهكذا فإن الدافع عبارة عن “موضوعة-مساعدة” تُظهر جوانب أخرى من مركّب “موضوعة”.
(32) بصورة فنية “Image artistique” نفهم تشخيص الموضوعة عن طريق الرموز، الأشياء، أو الحالات. والصورة عبارة عن مجموعة جمالية تقدم نفسها كتكثيف “بصري”، بمعنى أنها تجمع أو “تكثف” مظاهر جِد مختلفة من الموضوعة. وتتشكل الصورة الفنية من عدة “صور-مساعدة” نطلق عليها تفاصيل تخيلية، وهكذا تقوم كل من الموضوعة والصورة في منهجين مختلفين للمضمون الواحد، الأولى في المنهج الإيديولوجي، والثانية في المنهج الجمالي، فهما تمثلان بالتالي الشعور الأعظم (للأفكار والجمال) للعمل الأدبي.
(33) غسان كنفاني: الآثار الكاملة، المجلد الثاني، موت سرير رقم 12، دار الطليعة، بيروت 1973، ص 52.
(34) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 67.
(35) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 78.
(36) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 97.
(37) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 111.
(38) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 110.
(39) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 142.
(40) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 151.
(41) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 149.
(42) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 149.
(43) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 163.
(أ2) أرض البرتقال الحزين
تدور المجموعة القصصية الثانية لسنوات الخمسين حول نفس الموضوعة الأساسية: شعور المنفي المعذب الذي يلتفت إلى الوراء، بعد أن بدأ يرصد الماضي، ويثير الأسئلة حول أوهامه. تميزت القصص بميلها إلى التحول باتجاه الحاضر، وأصبح الإنسان المنفي متسائلاً بشكل جذري، بلغة سردية تحاول تمثيل نظام الأشياء في عطوبيتها. من هذه الناحية اللغوية، تضيق هذه المجموعة القصصية سيميائيًا، وتقل عمقًا، لأن ما يلفت انتباهنا -كما يقول عالم اللسانيات جيرار جينيت- في تطور الأدب والوعي، الجانب الفريد، الصُّنعي، المشكوك فيه، للفعل السردي، ليس في مضمونه فحسب، وهي حال كل قصص هذه الفترة، بل وفي شكله. لكننا لن نقيّم أعمال كنفاني، في هذه المرحلة من التحليل، على هذا الأساس اللغوي، وسنكتفي بالتركيز على الصورة مقابل الأدب والموضوعة مقابل الوعي، بالنسبة إلى أدب ووعي غسان كنفاني، وليس بالنسبة إلى الأدب والوعي.
بعد هذا التوضيح نقول: إن دافع الكشف عن الأكاذيب في قصة “الأفق وراء البوابة” يعود من جديد، وتبدو في العنوان صورة: البوابة التي تفصل بين الكذب والحقيقة. إنها حكاية شاب يجتاز بوابة مندلبوم قادمًا من الأرض المحتلة عام 48 (إسرائيل حيث عاش مع الكذب) إلى الجانب الآخر من مدينة القدس ليواجه الحقيقة. القصة في ذاتها بسيطة جدًا: يحاول الشاب إخفاء موت أخته التي قتلها الإسرائيليون عن عمته، بينما تحاول عمته بدورها إخفاء موت الأم عنه. عندما يلتقيان، وكل منهما يحمل هدية للأم وللأخت، يفهمان أكاذيبهما المتبادلة.
هناك ثلاث قصص أخرى تحمل عنوان “ثلاث أوراق من فلسطين”، نقع فيها لأول مرة على دافع الماضي الإيجابي. في قصة “ورقة من الرملة”، يفقد رجل امرأته وابنته بعد أن قتلهما الإسرائيليون، فيبيع أملاكه ليشتري أسلحة ومتفجرات يفجر بها نفسه ومن معه من المحققين وقت استجوابهم إياه.
أما القصة الثانية “ورقة من الطيرة”، فهي تحكي عن المقاتل القديم المنفي في دمشق، يبيع الكعك، ويسأل الماضي، مبديًا الجوانب الإيجابية للكفاح المسلح، وفي الوقت نفسه معبرًا عن استيائه من رؤساء الدول العربية الذين كانت في يدهم القيادة، فيقول: “الخطأ لم يكن مني أنا، كان من فوق.” (44) بكل ما تحمله لفظة “فوق” من سلطة بالمتداول الشعبي.
أخيرًا القصة الثالثة “ورقة من غزة” تعيد من جديد وبشكل مباشر موضوعة المنفي الذي يبحث عن “السعادة” في أمريكا، وقد دعاه صديقه إلى العودة إلى الوطن ليقوم بواجبه في الصراع بعد أن قص عليه قصة ابنة أخته الصغيرة التي فقدت ساقها أيام حرب 1956، فيقول له: “عد لتتعلم من ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ ما هي الحياة وما قيمة الوجود. عد يا صديقي، فكلنا ننتظرك.” (45)
أظهرت الأوراق الثلاث ثلاثة جوانب للماضي: الشهيد ذو المشاعر الوطنية، المقاتل الذي خاب سعيه، والهارب أمام الحقيقة.
قصة “أرض البرتقال الحزين”، التي تحمل اسم المجموعة، من التعقيد بقدر ما كانت عليه “موت سرير رقم 12″، وذلك بسبب تعدد الدوافع التي تشتمل عليها موضوعة المنفى. للمرة الأولى لدينا نَفَسٌ يكاد يكون ملحميًا، نجد فيه ممرًا نوعيًا أدبيًا من القصة إلى الرواية، ف “أرض البرتقال الحزين”، يمكن اعتبارها رواية صغيرة، فهي في بنائها تقوم على متعارِضات ومتوافِقات تتداخل فيما بينها.
الصورة الجمالية لهذه القصة هي: البرتقالة الجافة، وللقصة بعض من سيرة الكاتب الذاتية: عائلة تغادر عكا إثر الاحتلال إلى لبنان، وعندما يرى رب العائلة البرتقالة في طريقه، ينفجر باكيًا. لم يستطع احتمال خزي المنفى: بلا عمل، بلا سلاح، بلا أمل (فقد حتى إيمانه بالله)، فيتمنى الموت، وهكذا نجده يحتضر، وإلى جانبه برتقالة جافة.
المنفي هنا هو اليائس، الإنسان الذي حارب، والذي اقتُلِع، وأُفْرِغ من جوهره الإنساني مثل ثمرة انتُزِعت من غصنها. حتى الله في نظره صار منفيًا، بعد أن أضاعه خلال الرحيل عندما نقرأ: “لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر، وأنه لاجئ من حيث لا أدري، غير قادر على حل مشاكل نفسه، وأننا نحن، اللاجئين البشر، القاعدين على الرصيف منتظرين قدرًا جديدًا يحمل حلاً ما، مسئولون عن إيجاد سقف نقضي الليل تحته.” (46)
بالنسبة لموضوعة الشعور المعذِّب للمنفي، نجد هنا تغيرًا هامًا لها، ألا وهو: كبرياء المنفي الذي يفضل الموت على الخزي، أو مسئولية المنفي الذي يصبح وحيدًا في عالم لا رحمة فيه. وفي كلتا الحالتين، نرى ما يراه عالم اللسانيات كلود بريمون، عندما يفضل الراوي من بين أشكال التجميل الأدبي ما يرمي إلى التحول في “الواجب” المناط بالبطل، المنفي هنا، واجب “التضحية” التي هو أهل بها.
لنلخص أعمال غسان كنفاني لفترة سنوات الخمسين نقول إنه كان يبحث عن تحديد إيديولوجي تميزت به بنية أعماله، فهو قد كتب خلال بحثه هذا معظم قصصه بين سنتي 56 و 1959 في دمشق والكويت، أي عندما كان يعيش تجربة المنفى، وفي الوقت نفسه كان يعمل على تثقيف ذاته، وقد زوده هذا التثقيف الذاتي بموقف ازداد أكثر فأكثر وضوحًا في تلك المرحلة التي كانت امتحانًا لفكر غسان وممارساته الأدبية وغير الأدبية.
هذا ما قالته زوجته عن سنواته في الكويت: “تابع غسان عمله السياسي خلال السنوات الست التي قضاها في الكويت، وكان يعلّم الرسم والرياضة. وفي الحقيقة، تشهد هذه السنوات على أهميتها الكبيرة في حياته، إذ كان يمارس أثناء فراغه الرسم والكتابة والقراءة، قراءة الأعمال السياسية، خاصة ماركس، إنجلز، لينين… وغيرهم.” (47)
المراجع
(42) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 149.
(43) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 163.
(44) غسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين، الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، ص 338.
(45) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 350.
(46) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 368.
(47) آني كنفاني: غسان كنفاني، المكتب المسكوبي للشرق الأدنى، بيروت 1973، ص 13.
ب – بيروت: أول إشارة إلى فهم عميق
(ب1) رجال في الشمس
في عام 1960، جاء غسان بيروت، وعاش حياة غير مستقرة: بلا جواز سفر، ولا إذن عمل، ولا مصدر مالي يعتمد عليه، على الرغم من عمله في جريدة “الحرية”، وفوق كل هذا كان يشكو من مرض السكري. عكست إقامته الأولى في بيروت شعور عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي اتسمت به هذه المرحلة في دمشق والكويت، ولكن بشيء من تحديد النظر، والبحث عن جواب. من هذه الزاوية كانت رواية “رجال في الشمس” التي كتبها كنفاني مختبئًا عام 1962، لتأزم الوضع السياسي آنذاك، والتي سيطرت عليها نفس الموضوعة دومًا، أي شعور المنفي المعذب الذي يلتفت إلى الوراء، ولكن بتطور أكثر نحو اكتشاف حقيقة المنفى، وصلب الألم، ليجد الفلسطيني خلاصه.
قبل أن نعرض الجوانب الأخرى من موضوعة المنفى، أي الدوافع التي أعطتها، وكذلك الصور التي عكستها، يجدر الإشارة إلى ما سبق لنا قوله عن قصة “أرض البرتقال الحزين”، عندما اعتبرناها رواية صغيرة، فرأينا فيها ممرًا نوعيًا إلى الرواية، مما أعطى بالفعل رواية “رجال في الشمس” التي لو دققنا النظر فيها لوجدناها تحتوي –مقسمة إلى فصول- على عدة قصص، ولولا خط الأحداث الواصل بينها لاعتبرنا كلآً منها قصة قصيرة ذات ميزات مستقلة “كأرض البرتقال الحزين”. لهذا، نحن نرى أن “رجال في الشمس” ليست رواية كاملة بالمعنى الأدبي (سنرى أنها تنتمي إلى أدب الروي الأدب الشفهي)، فيها ملامح القصة القصيرة، مثلما رأينا أن “أرض البرتقال الحزين” ليست قصة فحسب، بل ولها ملامح الرواية. أنتج التقطيع إلى فصولٍ الشكلَ في وَحَدات، وأنتج تنسيق هذه الوحدات في وحداتٍ أعلى منها المعنى، وهاتان القضيتان المزدوجتان، كما يرى رولان بارت، توجدان في لغة الرواية، التي تعرف هي كذلك التنسيق والتقطيع، المعنى والشكل.
بناء على ما سبق، “رجال في الشمس” عمل أدبي انتقالي نحو رواية فلسطينية ناجحة، وهي في الوقت نفسه تمثل المرحلة الانتقالية التاريخية ذاتها، من عدم الاستقرار الاجتماعي والإيديولوجي، إلى الاستقرار الاجتماعي والإيديولوجي، كأول إشارة إلى فهم أكثر عمقًا للواقع.
وجدنا في الرواية صورتين فنيتين مترافقتين على الدوام، رغم تناقضهما، الأولى تمثل الماضي الخصب الصائن للكرامة، صورة الأرض الخضراء ببرتقالها وزيتونها، والثانية تمثل الحاضر الصعب المليء بالمشقات، صورة الصحراء القاحلة بحرارتها ورمالها.
ملخص الرواية اعتمادًا منا على العلاقة التناقضية السابقة للصورتين هو التالي: يقطع أبطالها الصحراء مهرَّبين إلى الكويت للحصول على ثروة يتمكنون بها من قلب الحاضر الصعب إلى ما كانوا عليه من ماضٍ رغيد، لكن هذه العملية اللاعقلانية تكلفهم الموت اختناقًا في خزان الصهريج الذي كانوا يختبئون فيه، إذ يلقون حتفهم عند حدود الكويت دون أن يصلوا إلى تحقيق غرضهم.
إن لانتصار الصحراء، أي الصورة اللاسعة للحقيقة، على ما هو وهم، وزوال صورة الأرض الخضراء بمثل هذه النهاية التراجيدية، دلالات عميقة: بداية الشعور بالوعي الذي يقر بالصحراء، وما ترمز إليه من وعورة المسار، فضاءً لا يمكن اجتيازه والتغلب عليه إلا عن طريق مواجهة حقيقية، وليس بالهرب سعيًا وراء ثروة سهلة.
أما الدوافع التي شكلت موضوعة المنفي هنا، فهي كثيرة، عبرت عنها هيئات الشخصيات، فكان دافعا الأنانية وعدم الشرف اللذان اتصف بهما أبو الخيزران، هذا الرجل الذي يحمل اسمًا هو شكل للمضمون وشكل للتعبير، حسب اعتقاده أن “القرش يأتي أولاً، ثم الأخلاق.” (48)
كذلك دافع الخضوع للقدرية الذي اتصف به أبو قيس، فهو عاجز عن السيطرة على شروط وضعه البائس، ويقضي وقته حالمًا واهمًا متوهمًا أن تنقذه المعجزات عندما نقرأ: “وراء هذا الشط توجد كل الأشياء التي حُرم منها، هناك الكويت، الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحُلم والتصور.” (49)
وأيضًا دافع السلبية التي اتصف بها أسعد، فهو متحمس لقضيته، لكن حماسه أجوف بلا قاعدة حزبية متينة، فجاء دعمه للقضية محدودًا، وعندما أحس بالخطر يداهمه، ترك كل شيء هاربًا: “لماذا تهربون من هناك”… “إنها قصة طويلة” (50)، حتى الجواب يتهرب منه!
أخيرًا دافع المغامرة التي تقاذفت أهوالها بمروان، الفتى المراهق، لتحقيق المستحيل، ما تعجز عنه إمكانياته وقدراته، فهو “كان يريد أن يعرف سبب ذلك الشعور البعيد الذي يوحي إليه بالاكتفاء والارتياح، شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد أن ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي، فيحس بأن الحياة كبيرة وواسعة، وأنه سيكون في المستقبل واحدًا من أولئك الذين يصرفون حياتهم، لحظة إثر لحظة، وساعة تلو ساعة، بامتلاء وتنوع مثيرين.” (51) كمن يرتل المزامير، فالشعور ما كان يسيّره، وليس إمعان النظر!
من هنا لم يكن الموت قدريًا بل حتميًا، فمثل هذه الشخصيات المستسلمة التي ربطت مصائرها بما هو وهمي ولا أخلاقي ليست سوى نِتاج للمنفى مثلما كان المنفى نتاجًا للموت، تحت كل دلالاته، وخاصة تلك التي تؤشر إلى الطريق المعاكس لفلسطين، وتكامل المعادلة أمر عادي جدًا رغم ما فيه من تعقيد، لكن مجرد الطرح الفني يعتبر إشارة متطورة إلى فهم أشمل وأعمق لهذه المرحلة. إذن مستوى الروي مليء بالدوافع، مليء بالإشارات، وهي –كما يرى رولان بارت- مجموع العلامات التي تشتمل على الوظائف والأفعال في التوصيل الرَّوْيِي، والتي تَبِين بفضل المرسِل (المؤلف)، وبفضل المرسَل إليه (القارئ). بعض هذه الدوافع، بعض هذه الإشارات، تمت دراسته في الآداب الشفهية، وعرفنا بعض كودات هذه الدوافع وهذه الإشارات قبل أن نعرفها لدى غسان (الأنانية، عدم الشرف، الخضوع للقدرية، السلبية، المغامرة… حكايات ألف ليلة وليلة مليئة بها). وفي الواقع الفلسطيني، نحن نعرف أن “الراوي” كنفاني، أن كنفاني كراوٍ لم يخترع هذه القصص “الفظيعة”، لكنه يسيطر بشكل أفضل على الكود الذي يشترك في استعماله مع القراء. لهذا كان التعاطف الشعبي كبيرًا مع الصرخة الأخيرة في الرواية: “لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟” وكما يضيف رولان بارت (52) بخصوص هذه الكتابة في الأدب، ولماذا هي شعبية: لأن المستوى السردي واضح جدًا، قوانينه مجبِرة جدًا، ولأنه من الصعب إدراك “رواية” لا تفرض نفسها بإشارات كودات الروي. لهذا، نحن نرى أن “رجال في الشمس” رواية تنتمي أكثر إلى الآداب الشفهية منها إلى الآداب الكتابية.
المراجع
(48) غسان كنفاني: رجال في الشمس، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 84.
(49) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 46.
(50) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 65.
(51) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص ص 73-74.
(52) مرجعنا في كل ما نقوله من كلام عن علماء اللسانيات الفرنسيين مجلة كومينيكاسيون 8 1966.
(ب2) الباب
تعتمد هذه المسرحية الصادرة عام 1964 على أسطورة عربية قديمة كما جاء في المقدمة، وتُعتبر جزءًا من المرحلة الانتقالية للقضية ولتصور الكاتب (53)، فموضوعة الموت هي المهيمنة كنظير للحياة. اعتمادًا منا على ذلك، وعملاً بما يقوله عالم اللسانيات جريماس، اختصاصي الأساطير، نحن لا نستبعد المرجع الخاص بالسياق، لكن وصف الأساطير يعتمد على استعمال معلومات خارج-نصية دونها يكون من المستحيل إقامة النظائر السردية.
لهذا نحن نختلف مع كنفاني في ملاحظته الواردة عند نهاية المسرحية: “عصر المسرحية هو الزاوية التي ينظر الأبطال منها إلى الأحداث، وهم يخضعون لأفكار ذلك العصر دون أي اعتبار لما عرفته واكتشفته العصور الأخرى. ولذلك فإن أية محاولة لتطبيق أفكار لاحقة وحقائق تاريخية حدثت فيما بعد على وجهات نظر أبطال ذلك العصر لن ينتج عنه سوى تشويش المسرحية… إلخ.” (ص 75)
في رأينا، لا يكون العمل الأدبي ناجحًا إلا عندما ينحو نحو التاريخ لا عكسه، فيتراجع إلى الوراء (عصر عاد وإرم ذات العماد)، ويخضع لأفكار ذلك العصر بفصل تعسفي عن قضايا العصر الذي نعيشه. هذا ما نفهمه من قول جريماس “معلومات خارج-نصية”، خارج النص في زمن الكتابة، وليس خارج النص في الزمن الكتابي. وكذلك، لا يقيد عالم اللسانيات الفرنسي نفسه تقييد كنفاني لنفسه، عندما لا يحصر نفسه في تأويله للنصوص المنطوقة المعبر عنها، لأنه يرى أن على النظرية الدلالية التي تبحث عن تحليل قراءة الأساطير أن تعمل مع لقطات تعبيرية تمثل جانبًا من المسرحية، وتتمفصل في حكايات قائمة بذاتها.
هذا ما سنقوم به عند عرضنا السريع للباب، حسب لقطات تعبيرية كل منها حكاية قائمة بذاتها، وبالنسبة لزمن الراوي لا لزمن الروي، فتناول المواضيع القديمة بطريقة وصفية عمل ميت، لأنه يريد الإبقاء على ماضٍ بعيد، له طابعه وميزاته، وكأنه لم يزل حاضرًا إلى اليوم، بينما للحاضر اليوم طابعه وميزاته الخاصة به.
لقد كان شكل المسرحية هو الأسطورة، أو المادة التراجيدية الإنسانية التي تظل خلفيتها، والتي لا يختلف حولها اثنان، هذه المادة التراجيدية الإنسانية تظل “مخضعة” لأفكار ذلك العصر وكل عصر على المستوى الإنساني، أما مادة المضمون، فهي فكر الأبطال وواقعهم اللذان يمثلان جزءًا من الحقيقة التاريخية الراهنة، والزاوية المعاصرة التي ينظرون منها إلى الأحداث، لا التي يفرضها الكاتب عليهم. وما يؤكد ذلك، المشهدان الرابع والخامس، عندما يلتقي الإله هُبا والملك شدّاد في عالم الموت الذي هو نِتاج بحت لخيال الكاتب، وعَبْره تمتد كل فلسفته.
بناء على ما سبق، تركز المسرحية عل شخصيتين رئيسيتين: الملك والإله، نظيران، وفي نفس الوقت نقيضان، الملك عاد الذي يقتله الإله هُبا لخروجه عن طاعته، والملك شدّاد الذي يقتله الإله هُبا كذلك لأنه بنى مدينة “إرم ذات العماد”، الجنة على الأرض، وخرج عن طاعته، والملك مرثد الذي يرث عرش أبيه ومشروعه لمواجهة الإله، وليكون نظيره على الأرض، بالخروج عن طاعته. بمعنى أن لدينا ثلاث حكايات لثلاثة ملوك هم واحد في جلد الشخصيات الثلاث، لا يكتفي بأن يكون للإله نظيرًا، لكنه يسعى إلى أخذ مكانه، فيكون التناقض بينهما لتكون التراجيديا، ويكون المسعى: قلب العَلاقة الإله-الملك إلى الملك-الإله، وبتحديد أكثر دقة، إله ذاته: “أن يجعل من نفسه هُبا، لا يريد أن يطاع، ولا يريد أن يطيع” محررًا نفسه من قيود هذه العَلاقة.
في الحكاية الأولى، يفشل الملك عاد عندما يختار الموت ليقضي على الموت (الجدب). إنه “لا يريد الطاعة ولا الماء، (بل يريد أن ينازل الإله) بسلاحه الأشد” (54): الموت. وكان يعتبر ذلك “فرصته الوحيدة للخلاص منه” (55)، لكن اختياره تحول ضده، فاختار “رمادًا ومددًا لا تُبقي من عاد أحدًا” (56)، ولم يحقق الحل بالموت.
في الحكاية الثانية، يفشل الملك شدّاد أيضًا، فهو “يريد أن يثبت أنه أقوى من هُبا… (وذلك) بأن يبني جنته” (57)، فاحتاجه لدخولها إلى أن يختار الموت، “إنه الاختيار الحقيقي الباقي لنا جميعًا” (58)، لكنه هو الآخر لم يحقق الحل بالموت.
أما في الحكاية الثالثة، فالملك مرثد لم يبدأ بعد، “وسيبدأ كأبيه وجده، دائمًا من نفس البداية… يعطي الإله حياته وقوته وسلطانه… (ليعطيه الإله فرصة بناء جنته على الأرض) دون أن يعرف أنه يحكم على هذه الجنة بالدمار منذ البدء.” (59)
الاختيار عبثي في الحكايات الثلاث طالما أن المنتصر دومًا في معركة الموت هو الإله، وكذلك لا معنى للخروج عن طاعته، إذ بعد الموت –وهذا هو استخلاصنا- تتحقق الطاعة المطلقة لإرادة الإله. أي لا فائدة هناك منذ البداية، طالما أن قوة الإله من صنع الإنسان، يصنعها لتترصد له، وتحطمه، بمعنى أنه بإرادته يصنع دماره. وطوال شعوره بأنه مهدد، يبقى ملاحقًا بدافع الموت الذي غايته الانعتاق: المهم اجتياز البداية، فبعد أن اكتشف المنفي بالموت (نحن هنا في صُلْب الخارج النصي كما يرى جريماس) في قصة “سرير رقم 12” الحقيقة، كان عليه أن يحقق نفسه باسترجاعها من يد الأقوى (الإله هنا) أيضًا بالموت، ليس الموت “عديم الأهمية” الماضي، بل المتطور أكثر نحو حياة “ذات أهمية”.
لقد أثبت المشهدان الرابع والخامس من المسرحية أن الحل لا يتحقق بالموت، ولكنه يتحقق بالحياة. إذن دافع موضوعة المنفى الأساسية، الذي يَبْرُز بعد لقاء الملك شدّاد بالإله هُبا في عالم الموت، هو تحقيق الحل بالحياة. فالإله “يعيش بالموت، لولا ذلك لما استطاع أن يستمر، ولهذا يغلق الباب بيننا وبين العودة (إلى الحياة).” (60) أن يقلب الإنسان العَلاقة من الإله-الملك إلى الملك-الإله، هذا القلب يتحقق بالحياة لا بالموت، المعنى الكلي لصراع المنفي ومحاولات اجتيازه الباب: من المنفى/الموت إلى فلسطين/الحياة. لا جنة بديلة عن جنة فلسطين، ومحاولات بناء جنة أخرى في المنفى ستبوء بالفشل، وفي الوقت ذاته، سَتُثَبِّت سلطة الحاكم العربي (تحت رمز الإله).
هذه هي الصورة التي تداوم على الظهور في كل مشاهد المسرحية: الباب الفاصل بين الحياة والموت، بين فلسطين والمنفى. وحتى تلك المرحلة، يبقى سر المفتاح التاريخي خفيًا بعد أن بدا للعيان استبدال فلسطين بفلسطين أخرى في المنفى –تمامًا كما فعل أبطال “رجال في الشمس”- لا يفتح الباب إلى فلسطين/الجنة، هذا وإن وقفنا على وعي نقض عبث الوجود فكريًا.
المراجع
(53) غسان كنفاني: الباب، دار الطليعة، بيروت 1964، ص 22.
(54) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 16.
(55) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 16.
(56) غسان كنفاني، المرجع نفسه، ص 16.
(57) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 22.
(58) غسان كنفاني: المرجع نفسه ص 31.
(59) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص42.
(60) غسان كنفاني، المرجع نفسه، ص ص 67-69
(ب3) عالم ليس لنا
تستوجب هذه المجموعة الصادرة عام 1965 عناية خاصة تُلزم بترتيبها ضمن هذه الفترة، حيث تبرز موضوعة المنفى بشكل أكثر تطورًا، وعلى الخصوص شعرية الصورة المعبرة عنها. ونحن لن نقف، بأي حال من الأحوال، عند حد الشعر في هذا العمل الأدبي، كما لم يقف عالم اللسانيات تودوروف عند حد الوصف في كل عمل أدبي، ليس هذا هدف كل علم، فالنقد علم، وليس دردشة، ليس خطابًا عن الخطاب. بدل أن نُسقط العمل الأدبي على نوع آخر من الخطاب –كما يقول تودوروف- نُسقطه هنا على الخطاب الأدبي، فنحن لا نقرأ العمل الأدبي، وإنما افتراضيات الخطاب الأدبي، التي جعلت منه خطابًا ممكنًا، أي عملاً أدبيًا: هكذا يمكن للدراسات الأدبية أن تصبح علمًا للأدب.
اعتمادًا منا على ما سبق، اخترنا ثلاث قصص، عنوان الأولى “جدران من الحديد”، حيث تفسر صورة العنوان الشعرية نفسها بنفسها، كصورة افتراضية لطائر في قفص حديدي. وبالفعل، تحكي القصة عن طائر يضرب بجناحيه قضبان قفصه بلا انقطاع، حتى عندما يقدمون له قفصًا أكبر، ولا يوقف ضرباته إلا في اللحظة التي يبدأ فيها احتضاره.
بالنسبة لموضوعة المنفى، هذه الحكاية تصفه كالسجن، وتجعل مطلب الحرية دافعها الأساسي، لكن النهاية غامضة: هل يموت الطائر لأنه استنفد قواه أم لأنه توقف عن الضرب؟
القصة الثانية “كفر المنجم” تعطينا صورة شعرية يذكّر مضمونها بصورة اللؤلؤة في المحارة الأخيرة، وهي تروي أيضًا قصة البحث عن ثروة يتوج صاحبها بنجاح هذه المرة، ولكن على حساب كرامته، فالمقصود هنا جمع الذهب المدفون في البصاق. إنها صورة هذه القصة التي تتبنى تقنية الأساطير، وذلك بسردها مغامرة شاب أراد أن يجرب حظه للمرة الأخيرة قبل أن ينتحر، فيبحر إلى مدينة من الذهب في عُرْض البحر، وهناك يجمع ذهبًا كثيرًا مطمورًا في البصاق الأسود رغم نفوره منه.
إن دافع فقدان الشخصية بواسطة النقود يظهر واضحًا جدًا للمرة الأولى، وهذه إشارة هامة أكثر عمقًا لفهم أسباب الصراع الاجتماعي الساعي لإعادة الشخصية عن طريق آخر غير طريق الحصول على النقود الملوثة.
وكذلك إن فهم الفلسطيني “الذي يبيع نفسه” كصورة افتراضية للشعور بالوعي، يذهب بنا إلى طريق الوعي بالمستقبل الذي بدأ يمثله أكثر فأكثر. هذا وإن كان الكاتب يطرح مسألة ذاك الذي ضيعته القضية، فهو يطرح في الوقت نفسه مستقبل وطريق القضية.
القصة الثالثة “العروس” تتجه بشكل واضح نحو المستقبل: إنها حكاية رجل يبحث في كل مكان عن عروسه، له هيئة مجنون، لكنه مقاتل قديم أضاع بندقيته.
الصورة الافتراضية هي في الوقت نفسه صورة واقعية، فالمطابقة واضحة بين صورة العروس الوهمية وصورة البندقية التي تسم الكفاح بسمة جديدة، والدافع هو أمل وخلاص هذا المقاتل اللذان يوجدان في نصفه الآخر: “ابحث معي عنه (عن المقاتل) حيث أنت، فلدي أخبار جديدة عن العروس.” (61)
فالمقاتل يبحث عن العروس، والراوي يبحث عن المقاتل، ولهذا الارتباط المتبادل تعميق للدافع، وتعزيز للصورة، وتمكين للتأثير المباشر على الفعل القريب أو البعيد، كما يرى جوستاف فلوبير، وليس من غث الكلام انطلاقة الثورة عام 1965، العام الذي كتبت فيه هذه القصة.
ختامًا لهذا الفصل، يجدر بنا أن نشير إلى أن غسان كنفاني في ذلك التاريخ قد أصبح عضوًا في حركة القوميين العرب، وتبوأ منصب رئيس تحرير جريدة “المحرر” عام 1963 ذات الاتجاه الناصري، وكانت أعماله في تلك الفترة تمثل بالفعل المرحلة الانتقالية من بحثه عن تحديد إيديولوجي واضح. فالتطور الإيديولوجي في أعماله الذي رافق التطور التاريخي لمسار الشعب الفلسطيني يلتقي بانطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965، ليبدأ الطريق الجديد نحو استقرار إيديولوجي واجتماعي، مع ملاحقة مؤقتة لشعور المنفي المعذب، ولكن الذي يتطلع إلى الأمام.
مراجع
(61) غسان كنفاني: عالم ليس لنا، المجلد الثاني، دار الطليعة، بيروت 1973، ص 606.
ج – بيروت: نحو استقرار اجتماعي وإيديولوجي
(ج1) ما تبقى لكم
كان الإنتاج الأدبي لكنفاني في فترة ما بين انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 وبين الفشل التاريخي للأنظمة السلطوية بعد حرب 1967 ينمو وينضج مع نمو ونضج المرحلة الثانية لحركة التحرر الوطني، فميز هذه الفترة الشعور بالوعي ذاتًا، والعامل المحدد للسلوك شرطًا: أنَّ تجاوز الحاضر البائس إلى مستقبل أقل بؤسًا لن يتم إلا إذا تحرك الفلسطيني اعتمادًا على نفسه، لمواجهة العدوين السياسي والاجتماعي، وذلك قبل أن تطفو على سطح المستنقعات الامتيازات السلطوية للسلطة الفلسطينية، وتنحدر هذه السلطة بالكيان السياسي، الذي هو منظمة التحرير، إلى أسفل سافلين. والحال هذه، استُعمل مفهوم الشعور بالوعي ذاتًا سَلبيًا، وجرى تنفيذ شعار “التحرير مهمة فلسطينية بحتة”، لتنصل الأنظمة العربية من مسئوليتها، ولخدمة هذه الأنظمة، فالقضية الفلسطينية ستظل وتبقى قضية العرب. بهذا الشعار المغرض، أصاب السلطويون من عندنا وعندهم رَمِيَّتَيْنِ بِرَمْيَةٍ واحدة: رفع ضغوط الشعوب العربية عن الأنظمة العربية، ورفع ضغوط الشعب الفلسطيني عن “النظام الفلسطيني”، فكان القبول بالشعار بتواطؤ السلطة الفلسطينية مع السلطات العربية تحت غطاء القرار المستقل، الذي هو في حقيقته قرار هذه السلطات بما فيها السلطة الفلسطينية، وليس قرار الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، القرار الوطني المشترك، ليتحول المفهوم من الشعور بالوعي ذاتًا فلسطينية إلى الشعور بالوعي ذاتًا سلطوية.
لكن ما أدركه كنفاني في الفترة التي كان فيها ناصريًا شيء آخر تمامًا، أن مصر أو أي بلد عربي آخر غير مصر لن يتحرك لتحرير فلسطين ما لم يتحرك الفلسطيني بإرادته الحرة على طريق التحرير ذاته للجميع، فكانت الموضوعة الأساسية الثانية التي شملت إنتاج هذه الفترة هي: شعور المنفي المعذب الذي يتطلع إلى الأمام.
من هنا جاءت رواية “ما تبقى لكم” عام 1966، التي اكتملت فيها عناصر الرواية، وأعطت مضمونًا أدبيًا شاملاً للتحول السياسي في تلك الفترة، قبل أن يتم “تحول التحول”، أي قمع الشعور بالوعي ذاتًا، للحيلولة دون استقرار اجتماعي واستقرار إيديولوجي يكونان قاعدة انتقال من حركة وطنية إلى حركة اجتماعية.
إذن، تلجأ “ما تبقى لكم” إلى أحداث واقعية أو خيالية، لتنقلها بلغة روائية، لغة الكتابة لا اللغة، فتنأى عن الوضوح، تحت معنى “البداهة” التي اتصفت بها كل أعمال كنفاني السابقة (واللاحقة)، ولهذا كان هذا العمل أهم أعماله، إذا أخذنا بعين الاعتبار ما اعتبره جيرار جينيت: أن ما يُروى لا يجري بسهولة، أن ما يُحكى لا يكون طبيعيًا، أن ما يُنَظَّم لا يدور حول مجموعة من الأحداث، وكفى الله الأدباء القتال، لأن ما يلفت الانتباه –كما سبق لنا القول- الجانب الفريد، الصُّنعي، المشكوك فيه، للفعل السردي.
ملخص الرواية: حامد يقطع الصحراء في طلب أمه (لن نقول فلسطين، مثل هذا التأويل خطورته على القيمة الأدبية للنص كبيرة، فلسطين نعم من خارج النص لا من داخله، وكنتيجة من نتائج التحليل، ما نقوم به عند هذا المستوى من عرضنا السريع بدءًا من النهاية)، وهو في الطريق، يلتقي بأحد الجنود الإسرائيليين، يخلصه سلاحه، ويتصدى له، في الوقت الذي تقتل فيه مريم، أخت حامد، زكريا الذي تزوجته بعد أن اعتدى عليها.
الدوافع هنا كلها إيجابية، وكذلك الصور الفنية. كما أن الصورتين الأساسيتين هما ذاتهما اللتان في “رجال في الشمس”، الأرض بجنانها وخيراتها، والصحراء بشموسها ورمالها، متناظرتان دومًا، ليستا متناقضتين، بل تسعيان في طلب بعضهما، في عَلاقة توافقية، تكاد عناصرها المتنوعة تمتزج الواحدة بالأخرى، طالما أن الطريق الآن هو الصحيح، الذاهب إلى فلسطين/الحياة/الجنة، إلى الجهة الأخرى من “الباب”… فالأرض الخضراء التي تمثل فلسطين كنتيجة واستنتاج هي الأم التي يذهب إليها حامد طوعًا لتحريرها، مواجهًا أهوال الصحراء، هذه الصحراء التي تتعاطف معه لهدفه النبيل: “وفجأة جاءت الصحراء، رآها الآن لأول مرة مخلوقًا يتنفس على امتداد البصر، غامضًا ومريعًا وأليفًا في وقت واحد.” (62)… تصبح طوع يده، ويصبح جزءًا من جسدها عندما “يحس ببدنه يعلو ويهبط فوق صدرها” (63)، مما يستحيل ذلك اللهم سوى مع أرضه ذاتها! وبما أن دافع مهمته هو الخلاص الحقيقي مما يعيشه من عذابات في مخيمات الجحيم، تساعده الصحراء على العبور، تعطيه الحياة –نكرر- لا الموت، كما حصل مع “رجال في الشمس” الذين لم يدركوا جيدًا بأن طريقهم لم تكن طريق خلاصهم، وتصبح كأرضه: لها طبيعة تربتها الطرية وكفها الندية.
صورة أخرى إيجابية هنا هي صورة طريق الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، فرافق هذه الصورة دافع خلق حياة جديدة تستجيب للموضوعة الرئيسية، وتؤكد التجاوز والتطلع إلى الأمام، ليَظهر هذا التجاوز بشكل متطور كدافع لِمَا تميزت به شخصية مريم: تجاوز الحرمان والأنانية، هذا التجاوز الذي يتبع الشعور بالبؤس تحت شرط التخلص منه بالممارسة الفعلية لا المشيئة القدرية. لقد حققت مريم ذلك في اللحظة التي قتلت فيها زكريا: العدو الثانوي وأحد أسباب الهزيمتين السياسية والاجتماعية، في الوقت الذي يقف فيه أخوها في منتصف الصحراء، منتصف الطريق إلى الوطن -الخلاص من العدو الداخلي يعني إنجاز نصف طريق التحرير- مواجهًا الجندي الإسرائيلي، العدو الأساسي، من أجل القضاء عليه: في منتصف الطريق، هو وعدوه وجهًا لوجه، بانتظار الحركة التالية، كل هذه العناصر السياقية تفسر أولى خطوات الثورة كعنصر تاريخي لا كعنصر عرفاتي.
المراجع
(62) غسان كنفاني: ما تبقى لكم، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 161.
(63) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 162.
(ج2) القبعة والنبي
كتبت هذه المسرحية في مطلع عام 1967، وهي تمثل الحلقة السردية الفاصلة بين كتابات كنفاني السابقة وكتاباته اللاحقة في عملية بحثه عن تحديد فكري، مثلما مثلت رواية “ما تبقى لكم” الحلقة السردية الفاصلة بين نفس كتاباته السابقة واللاحقة في عالمه الإبداعي، وفي كلتا الحالتين تنتظم الوقائع بالنسبة للمشروع الإنساني الذي تعبر عنها انتظامًا زمنيًا بنيويًا، كما نرى رؤية عالم اللسانيات كلود بريمون. وإذا استثنينا ما تشير المسرحية إليه من دلالات سياسية عميقة، نجدها تطرح على الخصوص مسألة الإيديولوجيا كأداة دافعها العمل والكفاح، أو العكس، دافعها القمع والخداع، وهذا ما ترمز إليه القبعة كصورة فنية لها.
سنعتمد علم الأعراض في تلخيصنا “للقبعة والنبي”، ليس في تحليل تقنياتها عند هذا المستوى من المقاربة النقدية، ولكن في البحث عن قوانينها العاكسة للحركة القسرية التي هي حركتها، نقول قسرية صفةً للأحداث التي أنتجتها عوامل إناسية (الإناسة هي علم الإنسان، علم يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته)، والتي كابدتها جوامد إناسية كذلك، ونعني بالجامد في علم الأعراض الجَلود من المرضى، المرضى الخاضعين للمعالجة الطبية، أو المخضَعين لحالة اجتماعية غير طبيعية تعبر عن آفة من آفات المجتمع، “فالقبعة والنبي” حكاية رجل ألقي القبض عليه، واقتيد للمحاكمة، وهو يعتقد طوال الوقت إنما جيء به من أجل التعارف، فإذا به متهم بقتل “شيء” يشبه القبعة.
تلتزم كل وقائع المسرحية بهذه الحركة القسرية قانونًا، فللأعراض هنا دلالات مرضية إجبارية واضحة (طريقة القبض، المحاكمة، قتل الشيء…)، وعن هذا القانون الإكراهي يصدر قانون آخر إرضائي تبدو بإملاءٍ منه قيمةُ الشيء للمتهم خلال المحاكمة، فيصبح الأول حافزًا على العمل، ويساعد الثاني على فتحِ بابِ عالمٍ يولد لأول مرة مليء بالدهشة، عندما “يكتشفه (يكتشف المتهم هذا العالم) حبة حبة مثلما يكتشف الطفل أصابعه إصبعًا إصبعًا، دونه (أي دون الشيء) سيرتد هذا العالم إلى الغبار والصدأ…” (64)
تضفي هذه القوانين على ما تُكْرِه –كما يرى كلود بريمون- أعراف عالمها الخاص، المتميز بثقافة، بعصر، بنوع أدبي، بأسلوب الكاتب، أو، على الأقل، بأسلوب هذه المسرحية التي لعالمها خصوصية خاصة بها: إنه اكتشاف العالَم الجديد كدافع للبحث عن تنظيم هذا العالم، وعلى الخصوص عن تجدده، وتحضره، ما يرمز إليه خلوه من الغبار والصدأ، ولا طريقة هناك إلا في البحث عن تصور إيديولوجي واضح للعمل، ما يدل عليه الحوار التالي:
“- صرتَ نبيًا يبحث عن قبعة.
– بالضبط…” (65)
النبي هنا هو المقاتل الذي سيبشر بإيديولوجيا جديدة (الشيء/القبعة)، ولهذا الانشطار الثنائي بين القبعة والشيء، اللذين هما في جوهرهما واحد، قانون التسامح الذي طبع فكر غسان، وفي نفس الوقت قانون التجميل الأدبي لديه، هذا التجميل المتراوح بين تطور وتقهقر، بين كتاباته السابقة وكتاباته اللاحقة، كما جاء في مقدمة هذا الفصل. لكن للشيء ذاته قيمًا تجارية وإنسانية في وقت واحد يتبارى القضاة بالدفاع عنها بحجة دفاعهم عنه، وتتنافس الشركات والوزارات وشتى المؤسسات التجارية حتى العملاء مقابل مبالغ طائلة لاقتنائه. إذن الشيء مصدر إثراء لطرفين نقيضين في عالم تتصارع فيه الأفكار، تُكَرَّس فيه الأفكار لصالح هذه الجهة أو تلك، ولكي يظفر المتهم به في النهاية، عليه أن ينزع عن الشيء تَشَيُّأَهُ، بمعنى أن يواجه كل من هم خارج القفص، كل المتهمين بالنسبة له، عَبَّر عن ذلك جماليًا التعاقب في أطواره (أطوار المرض) ألسنا بصدد عرض حالة مرضية؟ وهذه مهمة صعبة في مجتمع مريض، سيصفه المتهم بالضال، لكنها عملية عندما نسمع: “إنني أوظف نفسي عندكَ كالعبد (يقول المتهم مخاطبًا الشيء)، وأبني لكَ عالمًا كاملاً من أشياء مثلك، ومقابل هذا أنتظر أنا حتى يتكوّن عالمك، وبه أغزو عالمي الضال هذا، أخلق رجالاً مثلي عبر أشيائك.” (66)
عن هذا الطريق العملي، وبكلمات عالم اللسانيات الروسي بروب، عن طريق “الإمكانيات المنطقية” للمسرحية، يمكن الوصول بالتشيؤ إلى أقصاه، لتأنيس العالم بخلق الرجال الواعين وعي من هو في قفص الاتهام، فيتحقق دافع التبشير بالإيديولوجيا الجديدة، ولا بد إذن من تعجيل عجلة التاريخ من أجل “عالم أفضل.” (67)
يجب استبدال القبعة الأمريكية-الإسرائيلية-العربية، هذه القبعة الضخمة التي تسحل على الجبين لتغطي العينين، فتغشي على البصر، إلا أن صورة الاستبدال، مقابل دافع التبشير، تبرز هنا بشكل ملح: إنها مهمة “النبي”، فبعد أن اكتشف الفدائي عالم البندقية عام 1965، يكتشف الآن عالم الفكر.
المراجع
(64) غسان كنفاني: القبعة والنبي، مجلة شئون فلسطينية عدد 20، بيروت نيسان 1973، ص 60.
(65) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 66.
(66)غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 66.
(67) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 67.
(ج3) عن الرجال والبنادق
ويأتي عام 1968 ليعطي بقلم كنفاني عملاً أدبيًا جديدًا، ويعود الكفاح ضد الاحتلال قبل نكبة 1948 ليشمل القسم الأول من الكتاب. أربعة فصول متسلسلة تحكي عن الماضي البطولي بكل “إيجابياته”، وهي إن تطرقت إلى “سَلبيات” هذا الماضي، فلتسحب منها العبرة، لحاضر بدأ التنظيم الفدائي فيه يأخذ مداه.
تطرح هذه المجموعة القصصية مسألة تصنيف الشخصيات بقوة، فشخصية المقاتل تطغو على كل الشخصيات، وكأنها شخصية واحدة، وهو أقل أهمية في أشكاله مما هو عليه في تحولاته، ليكون نموذجًا فاعليًا (من فاعل) للقصص. هذا ما تفرضه “إيجابيات” الماضي، لكن تحت سلطة “القولبة”، تقل قيمة التعبير الأدبي عن الشخصيات في تعدديتها، ما دام على تقديمها أن يكون حسب آفاق مستقبلية، ما يأمل كنفاني من العمل الفدائي، فيتخلخل نظام الشخصيات. هذا “العيب” البنيوي كبير لدى غسان، ليس في هذه المجموعة القصصية، في كل أعماله.
من ناحية ثانية، الصورة لدى غسان ليست أحادية التكافؤ، ولأول مرة في هذا العمل الأدبي تبدو صورة البندقية الفلسطينية واضحة المعالم، قوية، وجميلة، في قبضة المقاتل، كدافع للقتال، وكدافع للتحرير، لكن القصة، أية قصة، لا تتشكل من بعض الصور وبعض الدوافع، بل من عدد لا يحصى من العناصر التي واحدها الصورة وثانيها الدافع، وبالتالي الوصف القصصي، كما أورده رولان بارت في هامش دراسته عن مستويات المعنى، ليس وصفًا صادقًا أو كاذبًا، هو أفضل أو أسوأ، أكثر أو أقل جدوى، ولدى غسان كانت صورة البندقية صورة صادقة، تستمد هويتها من قبضة المقاتل، ولا معنى للمقاتل دونها، في علاقات متبادلة لا نهاية لها، وكان دافع القتال دافعًا صادقًا، يستمد جوهره من طلقة البندقية، ولا معنى للبندقية دونه، في علاقات متبادلة لا نهاية لها، بينما أظهرت الوقائع التاريخية أنه الأسوأ وأنه الأقل جدوى، فتجاوز الواقع النص في حينه لا بعد حين، لأن هذا النص ونصوص كنفاني الأخرى كانت كتابتها تتم على الورق مع تمام حدوثها في الواقع. هذا “العيب” البنيوي كبير لدى غسان، وهو على كل مستويات الوصف (سياقي، استعاري، رمزي، نحوي، صوتي، إيقاعي…)، للتواشج القائم بين هذه المستويات، ولا معنى للمستوى الواحد دون الآخر.
تزودنا نظرية المستويات لعالم اللسانيات بنفينيست، بنمطين من العلاقات، النمط الأول توزيعي، إذا ما قامت العلاقات على نفس المستوى، وهكذا كانت للبنادق صورة، وللرجال الذين يحملون البنادق صورة (عنوان المجموعة “عن البنادق والرجال”)، للماضي “البطولي” صورة، وللحاضر “البطولي” صورة. النمط الثاني تكاملي، إذا ما قامت العلاقات على مستوى وآخر، وهكذا كانت للبنادق وللرجال صورة، للماضي “البطولي” وللحاضر “البطولي” صورة، مما يؤدي إلى عدم كفاية العلاقات التوزيعية لإدراك المعنى التعددي للكفاح المسلح، وقد غطت العلاقات التكاملية عليها. هذا “العيب” البنيوي كبير لدى غسان، فتعصيره لأحداث ووقائع الماضي، بإعطائها طابع أحداث ووقائع الحاضر، ليقول إنها تمثل مرحلة ماضية من “النضال”، لكنها في الوقت ذاته حافز على “نضال” المرحلة الحاضرة، لا يتضمن منطقًا للأحداث ولا للجمل ولا للشخصيات، وكذلك خطابه لا يتضمن نظامًا للأزمان ولا للفضاءات ولا للحالات.
لكن اعتمادًا منا على كون القصة، أية قصة، عبارة عن طبقات من الدوافع والصور، يمكننا أن نستنتج دافع استرداد الثقة، ما أعطته موضوعة المنفي الذي يتطلع إلى الأمام، وكذلك دافع الاستمرارية بعد اجتياز المرحلة الانتقالية لغاية التحرير، فلم يعد المنفى تلك الصحراء ذات الأهوال، وإنما ذلك الفضاء الذي من الممكن أن نجتازه، مع الاستمرار في العبور، طالما أن في القبضة بندقية، وأن للثورة هدفًا واضحًا يرمي المقاتل إلى تحقيقه.
هذا ما نقف عليه في القسم الثاني من المجموعة القصصية، المؤلَّف من أربع قصص قصيرة، يعيد فيها الكاتب تطور الكفاحين الاجتماعي والسياسي بمراحلهما التي سبق لنا التطرق إليها: المخيم حيث الضياع والبؤس (68)، الشعور بالوعي ذاتًا (69)، مواجهة الاحتلال الإسرائيلي (70)، الإيمان بالبندقية كناية عن الكفاح المسلح (71).
ستتحدد معالم هذا التطور بصورة أدق وأشمل في الإنتاجات اللاحقة، من خلال التوصيل السردي بين كنفاني كراوٍ والقارئ كمستمع، وسنقوم بوصف مدلول الكود بينهما.
مع انتهاء هذه المرحلة، يبدأ غسان كنفاني مرحلة الكاتب والمقاتل، فبعد حرب الأيام الستة، استقر فكره السياسي، وأصبح قائدًا من قادة الثورة، الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، إلى جانب مهمات رئيس تحرير مجلة “الهدف”، اللسان المركزي للجبهة.
المراجع
(68) غسان كنفاني: عن الرجال والبنادق، الصغير يذهب إلى المخيم، المجلد الثاني، دار الطليعة، بيروت 1973، ص 710.
(69) غسان كنفاني: المرجع نفسه، الصغير يكتشف أن المِفتاح يشبه الفأس، ص 729.
(70) غسان كنفاني: المرجع نفسه، صديق سلمان يتعلم أشياء كثيرة في ليلة واحدة، ص 739.
(71) غسان كنفاني: المرجع نفسه، حامد يكف عن سماع قصص الأعمام، ص 755.
2 – فترة الكاتب والمقاتل
بيروت: حركة اجتماعية، سياسية، ثقافية
(أ1) عائد إلى حيفا
الأعمى والأطرش
لاحظنا أن التطورين الإيديولوجي والسياسي لغسان كنفاني قد رافقا التطورين التاريخي والاجتماعي للقضية الفلسطينية، وبالتالي تطور الموضوعات الرئيسية في أعماله. في هذه المرحلة التي تحددت فيها المعطيات التاريخية للثورة، تأتي موضوعة المقاتل كتعبير موضوعي وحي للواقع التاريخي المعاصر، وتتعدد جوانبها ليأخذ كل جانب قسمًا من إنتاج هذه المرحلة يكمل بعضه البعض، هذه الإنتاجات التي ترتقي صعودًا نحو مفهوم اجتماعي عميق للثورة، فكيف يدرك القارئ هذا المفهوم؟
أولاً وقبل كل شيء، نريد أن نفرق بين المفهوم، أيًا كان المفهوم، والتعبير الأدبي عن المفهوم. من هذه الناحية، ليس المشكل استنباط دوافع الراوي، كما نرى رؤية رولان بارت، ولا الآثار التي يُحْدِثُها الروْيُ على القارئ، وإنما وصف الكود الذي يُبَلَّغان إياه طوال الرواية. في كل مرة يتوقف الراوي فيها عن “التمثيل”، ويأتي بوقائع يعرفها تمام المعرفة، لكن القارئ يجهلها، تنتج عن ذلك إشارة للقارئ، فلا معنى لأن يعطي الراوي لنفسه معلومة يعرفها.
على هذا الأساس، المعلومة من الراوي، والإشارة إلى القارئ، تقوم العلاقة بين القارئ والكاتب، فالراوي تحت تعدد أشكاله هو الكاتب في نهاية المطاف، علاقة تتكون حسب معلومات تتعلق برمز هو الكود يتبادلانها، أو برموز هي الكودات، وهي خمسة: تفسيرية، دلالية، رمزية، لقطاتية، ثقافية، فيتحول الأدب من كونه وصفًا إلى كونه عملاً متعديًا، عمل يتعدى إلى شيءٍ خارجٍ مؤثرًا فيه.
هذه هي كل العلاقة القائمة بين كنفاني وقارئه، علاقة متعدية، فأدبه عامةً عمل متعدٍ، يعتمد النُّطق حتى في أكثر حالاته وصفًا، وروايته “عائد إلى حيفا” خاصةً، المكتوبة عام 1969، تعتمد النُّطق، كذلك روايته “الأعمى والأطرش” المكتوبة عام 1972، هاتان الروايتان اللتان تنتميان إلى هذه الفترة رغم صدورهما في تاريخين متباعدين.
في الرواية الأولى، يذهب البطل، بعد هزيمة 1967، بصحبة زوجته إلى حيفا بحثًا عن ابنه الذي تركه رغمًا منه في المهد صغيرًا، وهاجر عام 1948. عندما يصل بيته، يجد فيه عجوزًا إسرائيلية أشرفت على تربية الطفل، فنشأ وترعرع في كنفها، ولم يقبل دونها أمًا، ولا دون زوجها أبًا، وصار جنديًا في الجيش الإسرائيلي.
الأهم من كل شيء هنا فعل التعدي للكودات في رموزها السابقة، القائم بين الكاتب والقارئ، على شكل معلومات يجهلها هذا الأخير، وتبعًا لفعل التعدي تبين أبواب مدينة حيفا المفتوحة للمهزومين كصورة فنية. لكننا نريد أن نلح على صفة المنطوق لأعمال كنفاني، وبالتالي على “شعبيتها” -أنا لا أرى في شعبيتها امتداحًا بوصفها تنتمي إلى الابتداع لا الإبداع- عندما نعلم أن البطل، وهو في طريقه إلى حيفا، كان يتحدث طوال الوقت عن بيته وابنه والبحر، عن الماضي الذي فتحت النكسة بابه على مصراعيه، والذي يجد البطل نفسه مكرهًا على الدخول فيه. لكن العودة إلى الماضي بشكل حقيقي فعلي لا حُلمي، ستنكشف دونها الحقيقة، عندما نسمع الراوي يقول: “كنت أتساءل فقط، أفتش عن فلسطين الحقيقية، فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد…” (72)
فلسطين المنطوقة، ففي النُّطق، في الكلام، يحاول الناطق (لِنُذَكِّر من ناحية أخرى أن كنفاني الناطق الرسمي للجبهة الشعبية) أن يصنع حاضرًا “ثوريًا” يتطابق فيه كل الخطاب والفعل المحرر إياه، عندما يتمنى أن يكون ابنه الثاني قد انخرط في حركة المقاومة، وأصبح فدائيًا.
إن دافع الانخراط في صفوف الثورة لهو جانب من جوانب موضوعة المقاتل، وهو تأكيد على عدم تكرار خطأ 48، إنه يقيم الفرق بين الهزيمتين، هزيمة 48 وهزيمة 67، ليقول إن الماضي المكبِّل انتهى دون رجعة، وإن الحاضر المحرِّر مليء بالأمل، والهزيمة هزيمة للهزيمة، فلا رحيل جديد، ولا شتات آخر، بل تنظيم واستعداد، ما كانت تفترضه ظروف حركة المقاومة آنذاك، التي هي ظروف غش واحتيال، إلى آخر نظام النُّطق، فكل المستوى السردي، كما نرى رؤية رولان بارت، مشغول بإشارات عملية السرد، وكل الرموز التي ترجع إلى الوظائف والأفعال في التوصيل السردي تتركز على الكاتب وقارئه.
وفي الوقت الذي يحصل فيه الطلاق النُّطقي (طالق بالثلاثة!) بين الفلسطيني والماضي الوهمي الذي أنتجته النكبة، يجتاز الفلسطيني، بدافع كودات أدب شفهي من صيغ ابتدائية وبروتوكولات تقليدية للتمثيل الأدبي، يجتاز بؤس المخيم واغترابه المتمثل بالعمى والطرش. في رواية “الأعمى والأطرش”، لا يعبر كنفاني عن نفسه بصفته كاتبًا لأجمل الحكايات والقصص، ولكن بصفته أفضل من يتحكم بالكود الذي يتقاسم استعماله مع قرائه، كما نرى رؤية رولان بارت. فالأعمى كود، والأطرش كود، يطمعان في الشفاء على يد أحد الأولياء الدجالين، ويكتشفان أن ذلك وهم بوهم، عند لحظة حادة من الشعور بالوعي، وأن كل ما هو غيبي لا صلة له بالواقع، كما أن الخيار الوحيد هو الثورة.
المستوى السردي هنا واضح بقوانينه “التعسفية”، لكنه أدب النُّطق، من الصعب أن نفهمه بلا إشارات كودية للرواية. لهذا نرى أن صورة الليل والصمت تحت كود العمى وكود الطرش تحتوي ضمنيًا على صورة النهار والصراخ اللذين يعنيان الحياة الجديدة والغضب المفجر لروح الحياة، كتأويل “براني” يكمن فيه الدافع المسيطر لتدخلات الكاتب، في كَوْدَدَة لبداية روايته ونهايتها.
وهكذا فقد:
1 – تحددت الحركة الاجتماعية على مستوى السرد بإدراك الشروط الفردية لحالة البؤس، نحو إدراك جماعي عندما نقرأ: “نستطيع مثلاً أن نذهب، فنحطم قبر الولي… نستطيع أن نذهب، فنضرب مصطفى (مدير مكتب الإغاثة)، ونرغمه على الزواج من زينة (التي اعتدى عليها)، نستطيع أن نلقي خطابًا في جموع اللاجئين… نستطيع أن نفعل ذلك وأكثر، نستطيع أن نعود إلى الطيرة (في إسرائيل) أَلا نستطيع؟” (73) سؤال كهذا لا يشكك في كل تلك الأفعال فحسب، بل ويطرح مسألة كتابة هذه الرواية بمجموعها وبكل أدوارها وليس فقط بدور الإبلاغ.
2 – تحددت الحركة السياسية على مستوى السرد بالمقاومة المعقودة باستراتيجية الحرب: “تستطيعان البقاء مؤقتًا في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب… أرجو أن يكون خالد قد ذهب ليشارك في العمل الفدائي.” (74) رجاء كهذا لا يتجاوز مضامين الرواية وأشكالها السردية فحسب، بل ويذهب بتحليلنا تحليل رولان بارت إلى أقصى كود سردي نستطيع الوصول إليه.
3 – تحددت الحركة الثقافية على مستوى السرد بوضع حد للمعايير الغيبية، وبالحقيقة الكامنة في جمع الإرادة والاستعداد في اللحظة التي نقرأ فيها: “ورأيت بعين الحقيقة ما رأيته ليلة أمس مائة مرة بعين الحُلم، إنهم يجمعون إرادتهم في أكتافهم وراء هذا الباب. يكورون قبضاتهم، فتصبح مثل الصخور في صفد، ويستعدون.” (75) استعداد كهذا لا يجعل السرد قادرًا على استقبال معناه من العالم الذي ينهل منه فحسب، بل وما وراء المستوى السردي يبدأ العالم، بمعنى –يقول العالم اللساني الفرنسي- أنظمة أخرى (اقتصادية، اجتماعية، إيديولوجية…)، حدودها لم تعد فقط الرواية، وإنما عناصر من نوع آخر (وقائع تاريخية، تحديدات، سلوكات، إلى آخره).
المراجع
(76) غسان كنفاني: عائد إلى حيفا، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 411.
(77) غسان كنفاني: الأعمى والأطرش، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 544.
(78) غسان كنفاني: الأعمى والأطرش، ص 531.
(أ2) العاشق
برقوق نيسان
من حصة هذه الفترة الإنتاج الأدبي لعامي 1971 و 1972، “العاشق” و “برقوق نيسان”، فالمحاور الوظيفية تندرج ما بينها فضاءات متنوعة هذا صحيح، ولكن حسب مضمون الوظائف، التي هي واحدة في هذين العملين. في الرواية الثانية، هناك عودة إلى الماضي، ولكن ماضي الصمود، كنظام للرواية عماده الماضي الهزيمة قبل وبعد 1948، مقابل الماضي الكفاح قبل وبعد 1948، في عملية سردية يتجاوز فيها الماضي الثاني الماضي الأول، لتحديد كل ما يغلي من عوامل “إيجابية” في الثورة لغويًا.
التحديد السياسي يتطلب التحديد اللغوي، لتقام قضيتان أساسيتان، قضية البيان المنتج لِوَحَدات، وهذا هو الشكل، حسب بنفينيست، وقضية الانسجام المستقبِل لهذه الوَحَدات في وَحَدات أعلى، وهذا هو المعنى. توجد هذه القضية المزدوجة، حسب بارت، في لغة الرواية.
لنلاحق هذا التحديد كما يراه بارت من خلال عملي كنفاني المذكورين:
يقع الشكل تحت إمْرة سلطتين، سلطة تَمَدُّدِ الإشارات طوال الرواية، وسلطة إدراج توسعات طارئة غير متوقعة في هذه التمددات. تحت إمْرة السلطة الأولى يتم إلحام الصمود بالمقاتل على امتداد تاريخ هذا الصمود قبل وبعد 1948، تحت إشارات كثيرة تتمدد من فصل إلى آخر، “فالعاشق” هو قاسم الذي واجه الإقطاعية والاستعمار البريطاني قبل احتلال فلسطين عام 1948، وداوم على الهرب والاختفاء في الجبال والحقول خوفًا من أن يقع في شباكهما، وهو قاسم (ليس اختيار قاسم لنفس اسم البطل عفويًا)، نفس المسحوق في رواية “برقوق نيسان”، الذي قتله الإسرائيليون بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 لكونه فدائيًا. تحت إمْرِة السلطة الثانية يتم امتداد جسد المقاتل ليملأ تاريخ الكفاح، امتداد جسد الفلاح كجذع متين للثورة، وسيتجسد هذا بالتحالف بين المسحوقين والمثقفين، مثلما هو عليه في “برقوق نيسان”.
الوَحَدات البيانية للشكل كثيرة في الروايتين: وَحْدة العشق، وَحْدة المواجهة، وَحْدة الاحتلال، وَحْدة الهرب، وَحْدة الاختفاء، وَحْدة الخوف، وَحْدة السحق، وَحْدة القتل، وَحْدة الفداء، كل هذه الوَحَدات البيانية للشكل تجمعها الوَحَدات الانسجامية في المضمون، ومن الطبيعي أن تكون أعلى منها لتستطيع استقبالها: وَحْدة الكفاح، وَحْدة الصمود، وَحْدة المقاومة، وهي وَحَدات يتكون منها المعنى.
لكن ليس هذا ما يشغلنا لدى غسان، ما يشغلنا نوع اللغة لديه.
تَمَدُّد الإشارات موجود في اللغة بشكل عام، تعميم هذا التمدد يعطي للغة الرواية طابعها الخاص، وهذه ظاهرة منطقية خالصة، بما أن هذا التمدد العام يقام على علاقة، كما يشرح بارت، غالبًا ما تكون بعيدة، تعبئ هذه العلاقة نوعًا من الثقة في الذاكرة الفكرية، وتستبدل باستمرار المعنى على نسخ الأحداث التي يتم سردها.
وهذا بالضبط غسان ولغته: العلاقة البعيدة هي الكفاح، هذه العلاقة تعبئ الثقة في الذاكرة، وتستبدل نسخ الأحداث بمعنى الأحداث، كما يحدث غالبًا في النص الكنفاني: زهر البرقوق الأحمر المخضب بلون الدم (نسخ): دم الفلاح دم الطبقة المسحوقة (معنى). حتى أن الطبيعة، وكذلك الربيع، طبيعة وربيع الطبقة التي أعطت كل قواها، أعطت دمها لأجل الخصب: “بدن الأرض مثل بدن رجل مثقب بالرصاص، يتضرج بزهر البرقوق، ويكاد يسمع نزيز الدم يتدفق من تحته، ولا ريب أن قاسم بدا كذلك بعد هنيهات من سقوطه…” (76)
كل هذه الوَحَدات المتجاورة في الفقرة السابقة تعبر عنها صورة زهر البرقوق الأحمر، ويرفدها دافع الصمود.
لكن ماذا دومًا عن غسان ولغته؟
الوَحَدات المتجاورة بالإمكان فصلها عن بعضها بإدراجات تنتمي إلى حقول وظيفية مختلفة، فالاستشهاد السابق ينتقل من بدن الأرض إلى بدن قاسم لتوظيف التشابه بعد الاختلاف، ولكن عندما يتم فصلها عن بعضها في الاستشهاد اللاحق، تتعدد الحقول الوظيفية، من جمالية إلى سياسية إلى نفسية إلى حسية إلى فلسفية: “أحسست بالنار تسلخ راحتي قدميّ، وكدت أسمع نزيز الدم ينطفئ بصوت مسموع تحت بدني… وظل يتقدم، كأنه يمشي على عشب. لقد هزني الرعب، وسمعت نبض قلبي جنبًا إلى جنب مع الفحيح المكتوم للنار الراقدة تحت قدميه الحافيتين، وقلت بيني وبين نفسي: نبي أو مجنون!” (77)
وهكذا يقام زمن منطقي –نتابع مع بارت- قليل في علاقته بالزمن الحقيقي، فصورة النار، وقبلها صورة الدم، ليستا عبثًا، من منطق الزمن السردي، والتوتر عند لحظة التوقف بين الفقرتين في العبارة السابقة، يُبقي العبارة مفتوحة، عن طريق تصرفات شاذة (سلوك البطل)، وطرق مفخّمة (وصف هذا السلوك)، فيقوي الكاتب بالشاذ والمفخّم اتصاله بالقارئ.
وهكذا فقد:
1 – تحددت الحركة الاجتماعية على مستوى السرد بإدراك طبقي للصراع الاجتماعي: “ثمة أمور كبيرة تجري، وهو بلا ريب يلعب فيها دورًا كبيرًا… على أنه تيقن من أن هذا الرجل… هو الذي ينبغي له أن يقود خطواته منذ هذه اللحظة (في المواجهة القائمة).” (78) تبقى الصيغة الصرفية مفتوحة، ودائمًا بطريقة مفخّمة.
2 – تحددت الحركة السياسية على مستوى السرد باتساع قاعدة المقاومة الشعبية في الأوساط المسحوقة وامتداد التنظيم السياسي والتنظيم العسكري إلى داخل الأراضي المحتلة مما أدى إلى مواجهة يومية مع العدو: “كانت تشعر بشيء من الاعتزاز حين كلفت القيام باتصال صغير في نابلس (الأرض المحتلة)… وكانت القدرات التي أظهرتها في الاتصال وفي العمل هي التي أوصلتها في فترة وجيزة إلى مرتبة قيادية في نابلس.” (79) تبقى الصيغة السردية مباشرة، من خارج اللعبة مع البنية، لا تخاطر بها ولا تمجدها، تخاطر بالخطاب السياسي وتمجده.
3 – تحددت الحركة الثقافية على مستوى السرد بمساهمة المثقفين “الثوريين” في القيادة، وإعطاء الكفاح المسلح مضمونًا “علميًا”: “كان زياد عضوًا قديمًا في الحزب الشيوعي… وكان يُعتبر من المثقفين الأكثر إطلاعا في نابلس.” (80) “إن المفتاح في يد الأستاذ زياد، وهو وحده الذي يجيب على هذه الأسئلة.” (81) تداوم الصيغة السردية المباشرة على السيطرة، فتلغي كل سلطة أخرى غير سلطتها.
المراجع
(76) غسان كنفاني: برقوق نيسان، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 585.
(77) غسان كنفاني: العاشق، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 424.
(78) غسان كنفاني: برقوق نيسان، ص 652.
(79) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 586.
(80) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 600.
(81) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 607.
(أ3) أم سعد
هذه الرواية هي العمل الذي كلف غسان كنفاني غاليًا، فهي أسوأ رواية في الأدب العربي، إلا أن النقاد اعتبروها الجواب لمسار مليء بالشوك منذ الوقت الذي بدأت فيه معاناة الشعب الفلسطيني، وقالوا عنها إنها التجسيد الكامل لموضوعة المقاتل بكل دوافعها، والتعبير الشامل عن التطور الجدلي للمرحلة الثانية من تاريخ شجرة الثورة قبل اقتلاعها، فرواية “أم سعد” في نظرهم هي الرواية الجمعية، رواية الإنسان الجديد!
لماذا هي أسوأ رواية في الأدب العربي؟
الموديل البنيوي، حسب رولان بارت، يساوي في شكله الكَنَسي أقل مما يساويه بتحولاته المضبوطة ضبط الساعة، هذه التحولات التي يقرها هذا الموديل، مما يجعلنا نأمل في نموذجية فاعلية للرواية (النموذجية علم النماذج البشرية منظورًا إليها من حيث العَلاقات بين الطبائع العضوية والذهنية)، في تصنيفية فاعلية للرواية (التصنيفية علم دراسة الأصناف الذي يسهِّل تحليل واقع معقد ويؤدي إلى التصنيف).
أم سعد، كموديل بنيوي، على العكس تمامًا، تساوي في شكلها الكَنَسي، بمعنى الموافِق لأنظمة الكنيسة، وبالتالي لنظام إيديولوجي صارم، تساوي في شكلها الكَنَسي أكثر مما تساويه بتحولاتها المضبوطة، فإذا بشكلها قالَب من تسعة فواعل (الفاعل هو البطل الروائي)، عبرت عنها الفصول التسعة للرواية.
غير أن –يواصل عالم اللسانيات الشهير- عندما يكون للقالَب سلطة مُصَنِّفة (انظر التعريف فوق)، وهذه هي حال فواعل أم سعد، يعرض هذا القالَب بشكل سيء تعددية الإسهامات ما دام يتم تحليلها بمصطلحات عمادها الرئاية (فن الرسم المنظوري المستقبلي): رسم الصورة الأولى في العُنوان الذي أعطاه كنفاني (كنفاني كان رسامًا) للفصل الأول “أم سعد والحرب التي انتهت”، فلنلاحظ التركيز على القالَب “أم سعد”، لكن في السياق الذي نحن فيه، يُبرز هذا التركيز صورة حرب 1967التي انتهت في علاقة منظورية مستقبلية بأم سعد التي تواجه الهزيمة بإرسال ابنها لينخرط في حركة المقاومة، وبزراعة دالية عنب.
عندما يتم احترام الرئاية، يتجزأ نظام الشخصيات، وهذا ما تعبر عنه الصورة الثانية الكامنة في عُنوان الفصل الثاني “خيمة عن خيمة تفرق”، خيمة البؤس وخيمة الفدائي، الفرق بينهما أكيد صوريًا، وبسبب هذا الفرق الصوري تنقسم الشخصيات فيما بينها إلى شخصيات “سَلبية” وشخصيات “إيجابية”، بينما نظام كل شخصية هو نظام السلبي والإيجابي، في اللحظة التي تقر فيها أم سعد بكون خيمة الفدائي هي الخيمة التي يجب أن تضم الجميع: “لو لم يكن لدي هذا الطفلان للحقت به (بابنها الفدائي)، لسكنت معه هناك. خيام؟ خيمة عن خيمة تفرق. لعشت معهم، طبخت لهم طعامهم، خدمتهم بعيني…” (82)
الصعوبة الحقيقية التي يطرحها تصنيف الشخصيات –كما يواصل بارت- هي مكان، وبالتالي وجود “الفاعل”، في كل قالَب فاعلي (بطولي)، مهما كانت الصيغة. من هو الفاعل (البطل) في الرواية؟ هل هناك – أو هل لا هناك طبقة محظوظة (بكل الامتيازات السردية) من الممثلين (الأبطال)؟ في رواية كنفاني هذه يتم التشديد بشكل سَلبي على أم سعد كبطلة إيجابية، فالتشديد سلبي دومًا حتى ولو كان على الإيجابي.
الصورة الثالثة المتمثلة في عُنوان الفصل الثالث “المطر والرجل والوحل” تشير إلى صمود أم سعد في الوحل والمطر اللذين قضت في جرفهما طوال الليل، فهي الفاعلة، البطلة، وليست هناك طبقة محظوظة من الأبطال، بل بطل “بريشتي”.
عوضًا عن الطبقة المحظوظة من الأبطال، لدينا خصمان يتصارعان حول رِهان من الرِّهانات السياسية، فتتساوى أفعالهما، كما يقع في الفصل الرابع تحت عُنوان “في قلب الدرع”، فالصورة الاستدلالية هي قتال سعد ورفاقه بعون أهل القرية كدرع يحميهم، سعد ورفاقه كمقاتلين، مقابل من يقاتلهم سعد ورفاقه.
اللعبة نفسها في الفصل الخامس، وصورة “الذين هربوا والذين تقدموا”، الخصمان هما أصحاب السيارات الأغنياء الذين هربوا وقت الغارات، والفقراء الذين تصدوا للطائرات، وصمدوا في أماكنهم.
الفاعل –أي البطل نكرر- هنا مزدوج، حسب الناقد الفرنسي، لا يمكننا إبداله، ربما كان شكلاً قديمًا شائعًا، وكأن الرواية، على منوال بعض اللغات، عرفت هي أيضًا مثل هذا الازدواج. إذن للعبة، بصفتها لغة، نفس البنية الرمزية التي نجدها في اللغة وفي الرواية، وهذا ما ينطبق على رواية أم سعد، لكن ما لا ينطبق على رواية أم سعد: أن الرواية، أية رواية، لا ترينا أي شيء، بينما رواية أم سعد ترينا كل شيء. في الفصل السادس الذي عُنوانه وصورته “الرسالة التي وصلت بعد 32 سنة”، هناك رسالة إنذار بالقتل من فدائي اليوم (بالنسبة لزمن الرواية) إلى إقطاعي خان الثورة عام 1936 بقتله فدائي الأمس، كيلا يكرر فعلته. كاتب رسالة الإنذار، التي كان من المفترض أن يكتبها فدائي الأمس منذ 32 عامًا (بالنسبة لزمن الرواية)، فيحول دون انطفاء ثورة 36. التضمين هنا واضح، نراه رأي العين، بينما الانفعال الذي يمكنه إشعالنا عند قراءة الرواية، أية رواية، في رأينا الذي هو رأي رولان بارت، ليس انفعالاً صادرًا عما نرى (في الواقع نحن لا نرى شيئًا)، وإنما انفعال صادر عن المعنى، أي من نوعٍ عالٍ من العلاقة، علاقة تمتلك هي كذلك انفعالاتها، آمالها، تهديداتها، انتصاراتها. ما يجري في الرواية، أية رواية، من وجهة نظر مرجعية (واقعية): لا شيء، كما يقول مالارميه نقلاً عن بارت: “يُبدي العمل الدرامي تتابع ما يجري خارج الحدث دون أن يحتفظ في أية لحظة كانت بالحقيقة، وما يجري، في نهاية المطاف، لا شيء.” ما يجري، اللغة وحدها، مغامرة اللغة، التي قدومها لا يتوقف أبدًا عن الاحتفال، مثلما يختم الناقد الفرنسي، فلغة العمل الدرامي احتفال بالمعنى، والمعنى أساس كل انفعال.
لكن ما يجري لدى غسان اللغة والحدث والرسالة التي يسعى إلى إيصالها، على شاكلة الفدائي كاتب رسالة الإنذار، وخاصة إيديولوجيا الصورة “الشعبية” لأم سعد، ما توجزه الفصول الثلاثة الباقية تحت صورة “الإنسان الفلسطيني الجديد في المخيم الثوري الجديد”: “عينك عالشباب في المخيم، كل واحد منهم يحمل مرتينة أو رشاشًا، والكاكي في كل بيت.” (83)
وهكذا فقد:
1 – تحددت الحركة الاجتماعية على مستوى السرد بإدراك جمعي وإرادة شعبية: “وحدي؟ كل نساء المخيم وأولاده وشبابه خرجوا كأنهم اتفقوا على ذلك سلفًا، ووقفنا جميعًا هناك…” (84) “وبسرعة انتشروا كالأشباح على طول الطريق، ينظفونه من العراقيل…” (85) “أطفال المخيم وبناته ورجاله يقفزون عبر النار، ويزحفون تحت الأسلاك، ويلوحون بأسلحتهم.” (86) الشيء ليس نفسه فنيًا.
2 – تحددت الحركة السياسية على مستوى السرد بما توجبه الثورة من تغيير في الفعلين السياسي والعسكري يتفق مع مطامح الناس وآمالهم: “أما الآن فقد تغير كل شيء… (إنه يتحدث) عن الكلاشينكوف الذي كان يفضل أن يشير إليه بمجرد كلمة “كلاشن” مثلما يفعل سعد حين كان يزورهم.” (87) “ترى ذلك الولد الذي يحمل المرتينة؟ -يقول أبو سعد- إنه ابني سعيد… وأخوه الكبير سعد مع الفدائيين في الأغوار… هذه المرأة تلد الأولاد، فيصيرون فدائيين… وتغير أبو سعد منذ تلك الظهيرة… قالت لي أم سعد: الحالة صارت غير، الزلمة قال لي إنه صار للعيشة طعم الآن… الآن فقط.” (88) الشيء ليس نفسه لا فنيًا ولا واقعيًا، فلا علاقة لكل هذا بما يجري اليوم من انحطاط سياسي.
3 – تحددت الحركة الثقافية على مستوى السرد بذوبان المثقف في المقاتل والمقاتل في “جماهير” المخيمات: “إننا نتعلم من الجماهير ونعلمها… المعلم الحقيقي الدائم، والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءًا لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكدح ونبض القلب.” (89) الشيء ليس نفسه لا فنيًا ولا واقعيًا ولا حتى في باب الإنشاء، بل صف كلام وشعارات، لا شيء غير شعارات.
لم تنته بعد هذه المرحلة –تاريخ كتابتنا للأطروحة عام 1975- ولن يرافقها غسان كنفاني، ويتطور معها –أو يتقهقر- بعد أن انقطع إنتاجه الأدبي بمصرعه.
المراجع
(82) غسان كنفاني: أم سعد، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص ص 264-265.
(83) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 334,
(84) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 294.
(85) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 295.
(86) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 332.
(87) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 332.
(88) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 334.
(89) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 231.
القسم الثاني
أعمال غسان كنفاني
التمثيل الأدبي من المنفى إلى الثورة
أ – القصة والرواية
1 – أرض البرتقال الحزين: البحث عن هوية
1 – مقدمة حول المجموعة وموضوعاتها
وضعنا في القسم الأول من تحليلنا أعمال غسان كنفاني الكاملة في سياقها التاريخي، ولاحظنا التوازي القائم بين مراحل الشعب الفلسطيني التاريخية وتطور وعي الكاتب البطيء الذي أدرك أن مكانه لن يكون إلا وسط شعبه، فكان التصور السردي الخاص “بالتقليد” الكنفاني، وكان المفهوم القِداسي في أدب يُعنى بالسِّيَر المعظِّمة لبسطاء الناس.
أما قسمنا الثاني، فسيختص بتحليل مفصّل للبناء الأدبي والتمثيل الجمالي “للمسألية” الفلسطينية كما استنتجناها عبر الهزيمة، ثم استسلام المنفي، فانطلاقة المقاومة. سنختار عملاً أدبيًا تمثيليًا لكل مرحلة من المراحل الأربع لتطور غسان كنفاني الأدبي، كي نُبرز التحول الطارئ على تقنية الكاتب الروائي، وسيعتمد هذا التمرحل الذي نقترحه، حسب الخطة الفنية، على منهجية مفصلة.
إن المرحلة الكبيرة الأولى هي “عدم استقرار الحياة – البحث عن تحديد إيديولوجي”، وتغطي هذه المرحلة سنوات الخمسين حين كان الكاتب يقيم في دمشق والكويت. إنها أيضًا المرحلة الأكثر مرارة للمنفى، التي عبرت عنها الخطابية السردية، والتي بدأت مباشرة بعد نكبة 48، حيث تواصل الذكريات المؤلمة إثارة المرارة العميقة.
لقد جمع غسان كنفاني قصص هذه المرحلة في مجموعتين: الأولى “موت سرير رقم 12″، وتحتوي على 17 قصة، 15 صفحة الواحدة تقريبًا، يسيطر عليها التشاؤم العام. سبق لنا أن أظهرنا شعور المنفي المعذب الذي يلتفت إلى الوراء، عَبر صور فنية، أكثرها إثارة صورة اللؤلؤة في المحارة الأخيرة: لؤلؤة في متناول يد الإنسان لكنها تقلت منه دون أن يفلت من الموت.
يذهب هذا التشاؤم العام واستسلام مُشِلّ، لنذكّر بصورة البومة المعلقة على جدار عتيق لحجرة في المنفى، التي تقوم مقام العنصر المرجعي لباقي العناصر، والتي تشكل سدًا حاجزًا دون انفتاح ممكن على المستقبل.
أما المجموعة القصصية الثانية “أرض البرتقال الحزين” التي سنحللها بالتفصيل، فقد أظهرت حالة المنفي ذاتها، مع إدخال بعض العناصر الجديدة التي تدل على تطور أولي. لذلك، تعبر هذه المجموعة عن بداية الانتقال من حالة البطل المستسلم إلى حالة البطل المتمرد. (1)
2 – الانتقال من حالة البطل المستسلم إلى حالة البطل المتمرد
يوجد في هذا العمل الأدبي اقتصاد في الشخصيات، وبناء على ذلك، بإمكاننا أن نميز نموذجي البطلين المذكورين سابقًا بلا أقل تعب وبكل بساطة، فكل القصص تقريبًا تحاول إبرازهما. لا يعني ذلك أن هذين البطلين متشاكلان، بل على العكس، هما يختلفان في شكلهما، ويشكلان القطبين الأبعدين للبنية السردية، وحولهما يحاول كنفاني أن يُدخل نصوصًا مختلفة.
أول ما نلاحظه أن الشخصية الرئيسية لنصف القصص هي شخصية “البطل المتمرد”، ولاثنتين منها شخصية “البطل المستسلم”، وللثلاث الباقية أشكال مزدوجة من هذه وتلك.
تتضمن قصة “ورقة من غزة” نوعي البطلين اللذين هما صديقان في الواقع: أحدهما يقيم في كاليفورنيا، والثاني في غزة. أما قصة “الأفق وراء البوابة”، فهي تقدم “البطل المستسلم” الذي عاش طويلاً في/مع الكذب، والذي يدرك ذلك فجأة، دون أن يسعى رغم ذلك لتحقيق التمرد. تقع هذه القصة إذن في منتصف طريق التمرد المفتوح على المبالاة في قصة “قتيل من الموصل”، حيث يهزأ البطل المستسلم من “المناضلين” أولاً، ثم لا يلبث أن يتبدل تدريجيًا، وفي إهاب البطل المتمرد، ينتقل إلى العمل في العراق، ليشارك في القتال ضد الثورة المضادة التي أعقبت ثورة تموز.
هذه هي سمات نموذجي البطل المستسلم والبطل المتمرد:
يسافر البطل المستسلم في قصة “ورقة من غزة” إلى الكويت، ولديه قناعة راسخة بالحصول على ثروة عندما يؤكد: “سنصير أغنياء.” (2) في بداية إقامته، يرسل مبالغ صغيرة إلى عائلته، لكنه لا يلبث أن ينقطع عن الإرسال ليكون باستطاعته دفع تكاليف سفره إلى أمريكا، مما يدل على أن البطل المستسلم يهرب من صعوبات الحياة والواجبات العائلية بحثًا عن السعادة في مكان آخر بعيد أكثر ما يكون بعدًا “كاليفورنيا”عندما يقول: “سأمضي إلى كاليفورنيا، أعيش لذاتي التي تعذبت طويلاً، إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض.” (3)
في قصة “أرض البرتقال الحزين” هناك سمة أخرى لهذا البطل المستسلم: بعد أن استقبل الأب بحماسٍ الجيوش العربية القادمة إلى فلسطين، يجد نفسه مرغمًا على الاعتراف بالهزيمة: “لقد خدعتنا البلاغات، ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها.” (4) أُرغم الأب وعائلته على الفرار، وَتَرْك كل ما لهم صوب مستقبل مجهول يفضل عليه الموت: “أريد أن أقتلهم (الأطفال)، وأريد أن أقتل نفسي، أريد أن أنتهي… إن الأمور قد وصلت إلى حد لم تعد تجدي في حلها إلا رصاصة في رأس كل واحد منا.” (5) وبسبب العجز النفسي، يلازم الأب الفراش، وإلى جانبه “برتقالة جافة” رمزًا للأرض الضائعة التي كانت تستمد الفاكهة منها الحياة.
سنتناول بالعرض من جديد قصة “ورقة من غزة” لتحديد نموذج “البطل المتمرد”: يغادر صديق “البطل المستسلم” الكويت إلى غزة، ليساند عائلته في صراعها ضد الفقر، وفي اللحظة التي يرى فيها ساق ابنة أخته التي فقدتها إثر انفجار عام 56، كعنصر محرك للوعي، يكتشف عند ذلك أن غزة “جديدة كل الجدة، أبدًا لم نرها هكذا أنا وأنت… كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائدًا إلى داري، لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل يصل إلى صفد.” (6)
الدور الحقيقي للبطل: أن يكون مكانه بين أهله وليس في كاليفورنيا، فيقوم بمبادرة، وذلك بالكتابة إلى صديقه (القصة هي هذه الرسالة)، ليذكّره بواجبه، وليدفعه إلى ترك سعادته الأنانية (نحن نقرأ بحيادية ما يرمي إليه الكاتب ولا نحلل بنيته الأخلاقية)، وبهذه الكلمات ينهي رسالته: لا يا صديقي! لن آتي إلى سكرامينتو… لن آتي إليك، بل عد أنت إلينا، عد لتتعلم من ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ ما هي الحياة وما قيمة الوجود، عد يا صديقي، فكلنا ننتظرك.” (7)
تتمثل السمة الثانية للبطل المتمرد في قصة “أبعد من الحدود”، حيث يُلقى القبض على شاب لأنه أفرغ وعاء الحليب على رأس أحد موظفي الأنروا، فيحاولون إرغامه على الاعتراف بجنونه، لكنه يحتج: “تيقنت أكثر من أية لحظة مضت بأنها كانت لحظة العقل الوحيدة في حياتي كلها.” (8)
ينتج فعل التمرد خلال لحظة من اللاوعي، ومع ذلك، فهو نفس الفعل الذي يصفه الفاعل بالعقلاني، والذي يعبر عن تمرده على حياة المخيم البائسة: “أنا إذن حقير… لست صوتًا انتخابيًا، وأنا لست مواطنًا بأي شكل من الأشكال… وأنا ممنوع من حق الاجتماع، ومن حق الصراخ…” (9)
وكأن البطل يرمي إلى تنظيم ما يفعل ليبني كود التمرد، فيهرب من مكان التحقيق لِيَظهر بشكل مفاجئ في بيت “رجل هام”. هنا يتجلى التنظيم النموذجي للتمرد، عندما يقص قصة حياته متحديًا السلطة مستمدًا من كرامته الجريحة –ينعتونه بالخنزير وغيره من النعوت- الحافز على التمرد: “أنتم الآن أمام حالة، فإذا خطر لكم أن تسموها لصوصية، فإنهم لصوص… خيانة؟ كلهم إذن خونة!” (10)
لنر كيف ينهي كلمات التحدي أمام “الرجل الهام”: “والصراخ يا سيدي عدوى، فإذا الجميع يصرخ دفعة واحدة: أية حياة هذه، الموت أفضل منها! ولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرًا، فلا بد أن يفكروا في أمر آخر.” (11)
تدل الفقرة الأخيرة هذه على أن هناك وظيفة للبطل المتمرد وحاجاته، مما يرسم حدود دائرة “الفعل الثوري”. لقد أثبت الاستسلام أن من الممكن إزالة المشاكل على المستوى الفردي دون التوصل إلى حل المسألة العصيبة للمنفى. أما التمرد، فقد أثبت أكثر فأكثر أن العلاقات القائمة يجب أن تتغير، وبالتالي، أن من الضروري البحث عما هو أبعد من ذلك، بمعنى آخر، خلق “روح ثورية”.
ختامًا لهذا الفصل، نود الإشارة إلى أننا نعالج، إلى حد الآن، “البطل المتمرد” كمرحلة أولى، أما “البطل الثوري”، فسيظهر في وقت لاحق.
المراجع
(1) غسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين، المجلد الثاني، دار الطليعة، بيروت 1973، من ص 277 إلى ص 402.
(2) ص 342.
(3) ص 343-344.
(4) ص 373.
(5) ص 374.
(6) ص 349.
(7) ص 350.
(8) ص 280.
(9) ص 281.
(10) ص 285.
(11) ص 288.
3 – بنية الشخصيات
أ – الراوي وموقفه الروائي
في المجموعة القصصية “أرض البرتقال الحزين”، لا يوجد راوٍ “أدبي” بالمعنى الكلاسيكي القديم، يتوجه “إلى القارئ العزيز”، أو يعلق على الأحداث والشخصيات. وكما سنرى فيما بعد، ليس هناك على التقريب سرد بكل معنى الكلمة، أي فيما يخص اللغة ووصف الأمكنة والأحداث، نعني أن هناك غيابًا للراوي “الكلي الوجود” “الكلي العلم” الذي يسيطر على الحَبكة كلها كما هو عند بلزاك. وعبثًا نجد لدى كنفاني راويًا يتدخل بين القارئ وما يقرأ (رأيناه في القسم الأول يرسل للقارئ الإشارات) لنشكل انطباعًا عن أدب “بلا وسيط” حر مباشر وخالٍ تقريبًا من التعليقات التفسيرية. ومثلما نلاحظ في الرواية التقليدية، يتدخل الراوي تدخلاً مباشرًا حيث يماثل دوره للعبة الساحرة عند لورنس ستيرن، الذي يبالغ في اللعب بالشخصيات إلى حد يقطع معه مسار الحكاية لِيُدخل حكاية أخرى، مدعيًا تذكرها فجأة. مثال ذلك: تقرع إحدى شخصيات ستيرن الباب دون أن تستطيع الدخول قبل أن يستطرد الكاتب خمسين صفحة بعيدًا عن الموضوع.
أو أنه الراوي “الكلي الوجود” “الكلي العلم” الذي يغيّر عن عمد منظور الشخصية، ليروي كل ما يعتقد بكونه ضروريًا للحكاية، مثل فيكتور هيجو الذي “يَعْلَم” في الوقت نفسه كل أسرار وتطورات شخصياته.
أو أنه الراوي “بكوده”، الذي هو الروي، الذي لا يعرف سوى نظام الإشارات الشخصي ونظام الإشارات اللاشخصي، أنا وهو، كما هو عند سارتر، أي لا يعرف سوى ما يعرفه البطل، فيبني كل الحكاية على أساس قضية الخطاب، وكما يفضل رولان بارت، على أساس فعل التعبير.
إن منظور الراوي في الرواية التقليدية يبقى أكثر من منظور شخصياته ذاتها، وما يرمي إليه هذا النوع من الرواية هو تقديم حَبكة بكل مكوناتها وكل توجهاتها، وبناء على ذلك استعمل لوكاتش المقولة الهيجلية “الكلية” لرواية القرن التاسع عشر البرجوازية، هذه الرواية التي تطمح إلى تقديم نظرة شاملة للمجتمع، ومن هنا تأتي أهمية “رواية المرحلة التاريخية”.
لكن الراوي عند غسان كنفاني، على العكس من ذلك، يمحي أمام ما يروي، لا “يعلم” من فوق تاريخ الشعب الفلسطيني ليقصه على القارئ، لكنه يستعمل، على العكس تمامًا، منظوره من تحت، ذلك الذي يوصله كمعلومة تتعلق برمز (كود) يشارك القارئ فيه، ذلك الذي يقيم العلاقات بين الأحداث العادية المختلفة، علاقات هي جوانب أخرى من علاقته بالقارئ. هكذا تصبح الوقائع التاريخية البارزة مجرد حوادث بدلاً من تصنيف تصويري شامل، فقصص “أرض البرتقال الحزين” عبارة عن مقاطع تاريخية.
يجد هذا “التمقطع” بعده الفني على مستوى منظور الراوي بفضل وسيلتين مختلفتين:
1 – يبقى الراوي غير مرئي دون أن يُبدي تعليقًا، ويعمل على أن يكون للسرد المباشر دور ثانوي.
2 – يشارك الراوي مباشرة في الحكاية، ويتبنى المنظور الضيق للشخصية.
ترمي هاتان الوسيلتان الفنيتان إلى هدف واحد: يجب أن تَنْتُج مشكلة البطل المستسلم ومشكلة البطل المتمرد مباشرة من أقوال وأفعال الشخصيات لا من “تفسيرات الراوي”، فتحاشى كنفاني كل أثر بحثي نجده عند توماس مان على الخصوص أو بروست، لشرح فعل أو لوصف كاتدرائية أو لوحة. لهذا لم يكن كنفاني راويًا بالمصطلح المتعارف عليه، إنه، وبصفة جوهرية، “معلم الشكل المختصر”، فأصغر قصة في مجموعته “أرض البرتقال الحزين” خمس صفحات، وأكبرها أربع عشرة صفحة، والقصص الباقية تتراوح بين سبع صفحات وتسع.
لماذا امحاء الراوي هذا؟
يعبِّر الشكل الأدبي هنا عن نقطة أساسية لمضمون أعمال هذه المرحلة: إنه زمن “البحث” و “التساؤل”.
يبحث الشعب الفلسطيني عن جواب، ويتردد غسان كنفاني بين موقف المراقب والمشارك، من هنا تأتي رغبة الكاتب في أن “يجعل شعبه يتكلم” ليفهم هو نفسه سبب الهزيمة.
يؤكد المثال التالي الوسيلة الفنية الأولى التي تقلل من أهمية السرد المباشر، وتحيله إلى دور ثانوي، إذ تحتوي القصة الأخيرة “لا شيء” على مقاطع سردية غير ذات أهمية، عدا عن مقدمة ليست من الراوي، بل عبارة عن حدث صحفي مكتوب: “نقلت الأنباء أن جنديًا على الحدود صب فجأة رصاص رشاشه على الأرض المحتلة، فاقتيد إلى مستشفى الأمراض العصبية.” (21)
تبدو الوسيلة الفنية الثانية التي تُكثر من مشاركة الراوي معاكسة للأولى، مع الامحاء التام للكاتب “الكامل العلم”، إذ لا يعبِّر الراوي عن مشاركته بتبنيه نفس منظور الشخصيات (بصفته صديقًا للشخصية أو فردًا من أفراد العائلة) فحسب، بل ويعبِّر عن جو من الشك والتساؤل، مع محاولة اتخاذ بُعْدٍ مما يجري.
في قصة “أرض البرتقال الحزين” التي هي عبارة عن سيرة ذاتية، كما سبق لنا ذكره: تهرب عائلة من هجوم للإسرائيليين يضطرها إلى قطع الحدود اللبنانية، يكون الراوي فردًا من أفراد العائلة، يحادث الراوي أخاه، ويصف أحداث الهرب بعد وقوعها.
يمكننا تفسير الذكرى المُرَّة، وعدم فهم أسباب الهرب، بتغير المنظور الذي يذهب من “أنا” المشارِكة إلى “أمك” (كما لو أن ذلك لا يعني أمه هو كذلك)، ويمتد إلى “هُمْ”، بمعنى أن الراوي يراقب ويلاحظ من الخارج عندما نقرأ: “لم أكن أستطيع أن أجد بشرًا ألتجئ إليه، وأن نظرة والدك الصامتة تلقي رعبًا جديدًا في صدري، والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النار، والجميع صامتون، يحدقون في الطريق الأسود…” (13)
هكذا يمكننا اختصار الموقف الرويي في الامحاء خلف الحكاية، أو في المشاركة المباشرة في الحَبكة، وبالتالي ليس الكاتب كنفاني حاضرًا حضورًا مباشرًا بصفته راويًا، وإنما غير مباشر بواسطة الشخصيات.
ب – الشخصيات الرئيسية والشخصيات الثانوية
تجد ملاحظاتنا حول موضوع الراوي ذي الشكل المختصر توازيًا على مستوى الشخصيات، ويمكننا تفسير “الشكل المختصر” هنا بتخفيض عدد الشخصيات. إضافة إلى ذلك، لم تظهر هذه الشخصيات بصفتها خاصيات، بل نماذج. للشخصيات/النماذج علاقات تعاقدية من خلال التنظيم الكلي للقصة، عمادها لعبة الرفض والقبول، لهذا لا يصف كنفاني أية نفسية لشخصياته، بل يُبرز “الفعل” بشكل جوهري.
وهكذا فقد اختصرت الشخصيات بتجريد كبير: هناك “رجل هام” (14)، “شاب” (15)، “جندي” (16)، “ممرض” (17)، “بائع كعك” (18)… إلى آخره، وفي كثير من الأحيان لا يحملون أسماء. كما أن كنفاني لا ينسب إليهم سوى صفة واحدة، عندما يصلهم ببعض للتفريق بينهم، وليس لدمغهم بصفات ذاتية. تتعلق هذه الصفات إما بالمهنة (بائع كعك)، أو بالعمر (شاب)، وكذلك غالبًا ما يكون التعيين الوصفي بالنسبة إلى العلاقة بين أفراد العائلة. في قصة “أرض البرتقال الحزين”، تنتسب كل الشخصيات إلى نفس العائلة، ويقدمها الراوي هكذا: الأم، الأب، العمة، العم، الأخت، الأخ… (19). ويبلغ اختصار الشخصيات أقصاه بواسطة الضمير “هو” أو “أنت” (ورقة من غزة) (20) التي هي عبارة عن رسالة مرسلة إلى صديق، تعيد توزيع الأدوار بين الضمائر.
يوجد الاقتصاد الفني ذاته في عدد الشخصيات، إلى جانب بعض الشخصيات الثانوية الأخرى التي على هامش الحدث، وعندما تظهر مجموعة من الناس مثل “الجنود الصهاينة” في قصة “ورقة من الرملة”، فهم يتصرفون كشخصية واحدة، وعلى مستوى توزيع الأدوار تتم حل مسألة التحول من شخصية عدوة إلى شخصية صديقة أو من شخصية مستسلمة إلى شخصية متمردة.
أية خاتمة يمكننا أن نستنتج من تجريد الشخصيات وتحويلها إلى “أرقام”؟
أولاً: الوسيلة الفنية التي استخدمها كنفاني هي لتحاشي التفرد، وإبراز مصير كل الشعب الفلسطيني، فهو لا يريد أن يُظهر قدرًا فرديًا، لكنه على العكس، يرغم القارئ على أن يرى حالة “نمطية” بين حالات من المعاناة.
ثانيًا: اعتمادًا منا على عالم اللسانيات جريماس، بتبني النظام المختصر البسيط للشخصيات، ولتسجيل فواعل القصة، يمكننا أن نقدم، تحت شكل مكثف، الالتزامات المتعلقة بالأدوار في الوضع “النمطي” للروي.
ثالثًا: يجب رؤية المسافة التي تفصل ذلك العهد (سنوات الخمسين) عن المكان الذي يستحقه كنفاني وسط شعبه، فالتشخيصان الفردي والتاريخي في جميع أعماله يسيران وتطوره الإيديولوجي. ومع ذلك، نجد بعض التمهيدات التي عبرت عنها قصص المجموعة، والتي تُبدي عناية كاملة كيلا يضيع المضمون التاريخي لقدر هذا الشعب.
في “ورقة من الطيرة”، يُذْكَر اسم البطل الوطني إبراهيم أبو دية الذي شارك مع عبد القادر الحسيني في الكفاح السابق لمعارك 48. وفي معركة ميكور حاييم عام 48، يحكي الراوي عن مفاخر حامد الحميطي رئيس حامية حيفا الذي دك إحدى المطاحن المليئة بجنود الهاجانا. أما ثالث الوقائع التاريخية، فيتعلق بحادثة “ريفانيري”، مصفاة البترول المعروفة في حيفا، حيث قاتل عمال المصنع، مما أدى بالسادة الإنجليز إلى طردهم، فتجد المراجع حول الإنجليز مكانها بنفس الأسلوب التجريدي الذي يقدم الحادثة كحالة “نمطية”، تكمن أهميتها في وظيفتها كمؤشر لكفاح الشعب الفلسطيني الصعب بمجموعه.
المراجع
(12) ص 395.
(13) ص 368.
(14) ص 277.
(15) ص 277.
(16) ص 302.
(17) ص 395.
(18) ص 329.
(19) ص ص 363-374.
(20) ص ص 241-350.
(21) ص ص 319-327.
(22) ص ص 329-339.
4 – بنية الحدث
أ – مكان الحدث
جرى تطبيق نفس تقنية التجريد والتشخيص على مكان الحدث، وبهذا الخصوص يمكننا تمييز نوعين من الأمكنة: العامة والتاريخية.
في حالة التجريد المحلي تظهر أماكن مثل المستشفى، ففي قصة “لا شيء” (23) مثلاً، يقتادون جنديًا إلى مستشفى المجانين، دون تحديد للمكان أو حتى لاسم المكان. إن هذا المستشفى “أيًا كان” هو في الوقت نفسه المستشفى بمعناه العام حيث يعالج المرضى. بإعطائه بُعْدًا كهذا، يسحب كنفاني منه خِفية كل أهمية بالنسبة للدور الذي يلعبه في القصة. وحسب العُنوان الذي تحمله القصة “لا شيء”، هذا المكان افتراضي، فهو لا يؤثر على مجرى الأحداث، لأن لا شيء يحدث فيه، ولا يُستخدم إلا كحجة لجعل الشخصية تتكلم، والحقيقة أن ما يهم هنا أكثر من المكان هو اعتراف الجندي.
لنوضح دلالات أمكنة أخرى مثل: المنعطف، التراب، الطريق، في قصة “الأخضر والأحمر” (24).
تتكرر هذه الأماكن باستمرار كلازمة موسيقية، إلا أنها غير محددة. “المنعطف” هو المجهول، القدر الذي يترصد بمن يتابع “طريقه المعتم” في “التراب”! أين؟ لن نكون مخطئين لو تجرأنا وقلنا: في أي مكان، لكننا نستطيع أن نبتعد أكثر لنقول إن “المنعطف” هو المعلوم، الموجود، وبالتالي لا يمكن تفاديه (25). من ناحية ثانية، التراب هنا ليس متطابقًا مع التربة الجميلة الناعمة، إنه بالأحرى “حار جاف”، وقد أُجبرت الشخصية القصصية على أن تعيش عليه ومنه تتغذى: “أن تأكل ترابًا وتتنفس وتشرب عصير التراب.” (26)
هذه الكلمة “تراب” يجري تكرارها ثلاث مرات بعد ذلك، على نفس السطر، وتكمن أهميتها في تعييناتها المختلفة لا في دلالاتها. باستطاعتنا إثبات أن “المكان” يتطابق مع الدلالة التي يحملها، بينما الأحداث الناجمة عن تعيينات المكان وحدها المحدَّدة.
يمكن تطبيق نفس التفسير على “الطريق” عند السؤال: “أين سينتهي بك الطريق الضيق الشاق؟” (27)، فهو بالتالي الطريق الذي يجب علينا جميعًا أن نقطعه مرة واحدة في حياتنا.
من الملاحظ أن الراوي يستعمل صيغة الأمر عندما يتكلم عن هذه الأماكن الثلاثة، فهي ترمي إلى تحديد مرحلة أُجبرت عليها حياة كل فرد، يدعمنا في ذلك عُنوان القصة المفعم بالرمزية، فالأحمر هو الدم، إنه العرق والتعب اللذان يجب على الفرد إنفاقهما للحصول على الأخضر، على الأمل. باختصار، النتيجة هي التي تسيطر: الأخضر، لا الوسائل: الأمكنة.
يتبنى النوع الثاني من الأمكنة التاريخية تقنية التشخيص في “الأفق وراء البوابة” (28)، حيث ينزل البطل الرئيسي في فندق، قبل أن يعبر بوابة مندلبوم إلى القدس العربية. القدس وبوابة مندلبوم تحددان أحداث القصة، وتربطانها بسياق واقعي لا يمكنها معه أن تنطبق على سياق آخر.
كذلك في قصة “ثلاث أوراق من فلسطين” (29)، هناك ذكر لا للبلد فحسب (العُنوان الرئيسي)، بل وللمدن الثلاث (التي ظهرت في العناوين الصغيرة): الرملة في الوسط، الطيرة في نواحي حيفا، غزة في الجنوب.
تدعم هذه الأماكن العينية الطابع المحلي للمضمون، بمعنى أن للأحداث الدائرة روح المدن الثلاث، فما يجري لساكن معين من دائرة معينة لا يجري بالضرورة لساكن آخر من دائرة أخرى. ازدادت هذه السمة المحلية بروزًا عَبر القصص الثماني مع ذكر اسم الحي والشارع والجامع والمستشفى، مثل حي الشجعية في غزة (30)، وشارع الكرمل في حيفا (31)، وجامع الشيخ حسن (32)، ومستشفى غزة (33).
وإذا وازينا بين قصتي “ورقة من الطيرة” و “أرض البرتقال الحزين”، رأينا كيف يشرح الكاتب ظروف الرحيل بدءًا من تداخل الأماكن العينية والأماكن المجردة.
تكشف “ورقة من الطيرة” عن الشخصية القصصية: مناضل فلسطيني قديم، يقف عند أحد منعطفات شوارع دمشق، ويروي للكاتب ذكرياته عن الوقائع التي سبقت احتلال فلسطين عام 1948، يقول كيف وقعت الهجرة، فتتكرر كلمة فلسطين ست مرات في فقرة (34).
يتكلم عن فلسطين ضائعة، وعمن أضاع فلسطين، ينتقد البيروقراطيين الذين لم يفعلوا سوى الكلام عن فلسطين، وهم يدخنون السجائر، ثم يذكر كيف امتد الكفاح، وأين. لم يكن الكفاح في القدس فحسب، بل وفي كل مكان(35)، معركة ميكور حاييم (36)، إضرابات العمال في مصفاة بترول حيفا (37)، الانتفاضات الشعبية في هادار ضواحي حيفا وفي الشوارع (38).
أَجبرت هذه الأحداث المحلية السكان على ترك يافا إلى عكا (39)، بينما انتقلت عدوى الهزيمة إلى كل البلاد، فأُرغم السكان من جديد على ترك عكا: “كانت الحبيبة عكا تختفي شيئًا فشيئًا من منعرجات الطرق الصاعدة إلى رأس الناقورة” (40)، “وحقول البرتقال تتوالى على الطريق” (41). ثم الوصول إلى رأس الناقورة على الحدود اللبنانية حيث “بدأ الرجال يسلمون أسلحتهم إلى رجال الشرطة الواقفين لهذا الغرض” (42)، ويقطعون الحدود، “وعندما يصلون صيدا في العصر يصيرون لاجئين” (43).
ما هي دلالة الأمكنة في هذا العمل الأدبي كله؟
أوضح كنفاني عند ذكره لهذه الأمكنة وقائع تاريخية عينية بواسطة تقنية أدبية محضة، فعرض للأماكن التي جرى فيها الكفاح، ولمراحل الهجرة بالترتيب، ونتيجة لذلك، حددت الأماكن طريق الطرد من الوطن بالقوة، هذه الطريق التي يصفها كنفاني بالصعبة والشاقة في قصة “ورقة من الطيرة”.
لنذهب بتحليلنا إلى نقطة أبعد عندما نقول إن عملية الطرد هي أيضًا صعبة وشاقة، وهي قابلة للانطباق على المكان: الطريق. أية طريق؟ طريق الشعب الفلسطيني الذي بدأ مساره إلى المنفى. نحن نجهل بدورنا إلى أين ستقوده هذه الطريق، ونعلم، في الوقت ذاته، أنها لا تفتح أفقًا واضحًا نحو المستقبل، لكنها ليست أيضًا بلا مخرج –زيادة على ما سبق تُظهر هذه الطريق امتداد الدياسبورا الفلسطينية- ففي قصة “قتيل في الموصل”، يهرب البطل من اللد، وينتهي به المقام في الموصل حيث يلقى حتفه (44).
طبعًا، يمكن لِما قيل مثلاً في شخصية قصة “قتيل في الموصل” أن ينطبق على كامل الدياسبورا التي تعيش في وسط عربي، ثم كل أعمال كنفاني تذكر أماكن مثل الكويت، قطر، أبو ظبي، لبنان، الأردن… والتي هي عبارة عن مسرح أحداث الشخصيات القصصية.
وعلى العكس، لدينا في قصة “ورقة من غزة” وجه آخر للشكل، إذ يرحل البطل إلى الكويت أولاً ليجمع ثروة توفر له العيش في ساكرامينتو (ص ص 341-350)، هنا تتحدد الدياسبورا الفلسطينية ضمن سياقها الدولي.
حتى أننا يمكننا أن نقول إن هناك علاقة بنيوية بين هذين النوعين من الرحيل، ترتبط بظاهرة الاقتلاع، حيث تكمن بشكل جوهري كل مشكلة المنفى: حتى ولو كان المنفي في وسط عربي، فسيشعر بنفسه غريبًا بين أخوته. لهذا لن تبدل حالته، في وسط مختلف، شيئًا من الواقع.
على ضوء تفسيرنا هذا، نستطيع أن نفهم لماذا سعى كنفاني إلى استعمال التجريد والتشخيص في أعماله، فقد ساعده التجريد على إبراز قدر فرد يمكن أن يكون مطابقًا لقدر كل الأفراد، واستعمل التشخيص فيما يخص الشعب الفلسطيني فقط، مشاكله، معاناته، منفاه، دون أن يعني ذلك بالضرورة شيئًا لغيره من الشعوب. لهذا كان الأسلوبان المستعملان متكاملين، ولم يكونا متناقضين: عند توضيحهما الخاص يمتدان إلى العام.
ب – زمان الحدث
سبق أن رأينا غسان كنفاني يستشهد بأماكن وأحداث تاريخية محددة في أعماله، فهو يهتم كثيرًا بالعامل الزمني ليؤرخ ويتابع تطور الهجرة ابتداء من نكبة 48، ونجده يحدد بواسطة الفلاش باك في “أرض البرتقال الحزين” يوم وساعة النكبة: “وأتى يوم 15 أيار بعد انتظار مُرّ، وفي الساعة الثانية عشرة تمامًا لكزني بقدمه: قم فاشهد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين.” (ص370)
يوضح كنفاني بشكل أدق التسلسل التاريخي للأحداث في قصة “قتيل في الموصل” عندما يقول في مقدمته إنه كتبها عام 1959 ليهديها إلى صديقه م الذي ذهب إلى الموصل وانقطعت أخباره، لكنه لم ينشرها لأن قصة صديقه لم تنته في نظره، فأراد أن يكون إهداؤه كالتالي: إلى صديقي م وقبره يغتسل بالشمس الحقيقية (ص 379)، وكان عليه أن ينتظر حتى 8/3/1963.
يبدي الكاتب هنا دقة في اتباع التسلسل التاريخي، أولاً: لأنه ينوي الحفاظ على تاريخ فلسطين. ثانيًا: لأنه انتظر أن يصبح صديقه م ثوريًا، ويكتشف حقيقة قضيته: القبر الذي يغتسل بالشمس الحقيقية. ثالثًا: لأنه يبني سلوك بطله على أساس علاقاته به، علاقاته التي هي علاقات النص السابقة واللاحقة ما بينها، فحسب عالم اللسانيات جريماس، تُعتبر الوَحدة الخطابية، التي هي القصة كتسلسل تعبيري، بوظائفها وإسناداتها، وهي بهذه الوظائف والإسنادات تتظاهر بالقيام لغويًا بمجموعة من التصرفات ذات هدف. بصفتها تسلسلاً تعبيريًا، تمتلك القصة بُعدًا زمنيًا: التصرفات التي تجد نفسها موزعة فيه (في هذا البُعد الزمني) تحافظ ما بينها على علاقات سابقة ولاحقة.
ويقوم نوع آخر من التقنية الزمنية بتحديد عدد السنوات التي انقضت منذ نكبة 48: في قصة “أبعد من الحدود” يقول البطل: “إنه سؤال صغير يمكن للمرء أن يطرحه ولو بعد خمس عشرة سنة.” (282) إذا أخذنا العام الذي كُتبت فيه القصة (1962) لاحظنا أن هناك خمس عشرة سنة تفصلنا عن النكبة. تتكرر هذه الطريقة في قصة “الأفق وراء البوابة” التي كُتبت عام 1958 حيث يقول البطل: “يجب أن أضع حدًا للكذب الطويل الذي مارسته مختارًا أو مرغمًا، لست أدري، طوال عشر سنين.” (292)
قصة “السلاح المحرم”، تدور أحداثها في فلسطين قبل 1948، مقابل ذلك، قصة “ورقة من الطيرة”، تدور أحداثها عام 1948، بينما ترقى قصة “ورقة من الرملة” إلى شهر تموز 1948. تشير هذه التواريخ الثلاثة إلى أهمية السنة المعينة والمستعملة كمرجع لتحديد بداية ونهاية عصر بقي أثره عميقًا على الشعب الفلسطيني أجمع. البعد الزمني الذي تقام عليه القصص كحكايات درامية، حسب جريماس، ينقسم ثنائيًا إلى قبل مقابل بعد، قبل النكبة وبعد النكبة، هذا القَبْل مقابل البَعْد الخطابي يطابق ما نسميه “انقلاب الوضع”. على مستوى البنية الضمنية، انقلاب الوضع ليس شيئًا آخر سوى قلب إشارات المضمون (تقول أحداث قبل 1948 غير ما تقوله أحداث بعد 1948، الأولى عن رغد العيش والثانية عن شقائه، وفي السياق الكنفاني الأولى عن الكفاح والثانية عن المنفى، أحداث مفروضة كمضمون)، وهكذا توجد علاقة متبادلة بين المستويين، بين قبل (المضمون المقلوب) وبين بعد (المضمون المفروض).
إلى جانب هذا الزمن التاريخي يوجد زمن تجريدي: “أيار يبرعم في جبينه وكفيه وأضلاعه” (الأخضر والأحمر ص 353)، “كل لحظة، كل ساعة، كل يوم، ووراءه كان يجري جدول الدم كأنه يلاحقه، كأنه قدره” (ص 358)، “عند منعطف أيار قبل سنوات وسنوات” (ص 359)، “صار عمرك أربع عشرة سنة، أربعة عشر أيار من فوقك” (ص 360/عام 1962). يرمز شهر أيار إلى شهر النكبة، مما يؤكد مرة أخرى ملاحظتنا السابقة حول أهمية هذا التاريخ كمرجع. ويتركز التجريد على هذا الشهر مشيرًا، في نهاية الأمر، إلى الانسحاق والقدرية بصورة عامة. تتطابق هذه الخاصية في السرد، حسب جريماس، مع بيان الوقائع، فالمضمونان النموذجيان اللذان أحدهما مفروض والثاني مقلوب، يضمان مضمونين آخرين في علاقة متبادلة، وبينهما رابط تحويلي واحد كما هو عليه في المضمونين النموذجيين. أيار كمضمون مفروض هو شهر النكبة، وكمضمون مقلوب هو شهر الربيع، لشهر النكبة مضمون الانسحاق والقدرية، ما هو مفروض، ولشهر الربيع مضمون البراعم والزهور التي هي براعم الدم وزهوره، ما هو مقلوب.
من ناحية أخرى، عندما يذكر كنفاني السنوات أو الأيام لا يحدد التاريخ بالضبط: سنوات وسنوات، كل ساعة، كل يوم… إلى آخره، فما يهمه تحديد إشكالية وصفه للعالم القصصي ككلود ليفي-شتراوس، المركِّزة على الميزات الشكلية لبنية “لازمنية”، تكون عامة وتاريخية في وقت واحد.
بإمكاننا أن نقف على تعاقبية واضحة بين زمان مجرد وزمان مشخص: “صار عمرك أربع عشرة سنة، أربعة عشر أيار من فوقك”، لتَبِين العَلاقات المتبادلة بين التجريد الزمني والتشخيص الزمني. هنا أيضًا يمنح التجريد العصر المعني بُعدًا لازمنيًا واسعًا يجعل من شهر أيار، شهر البؤس الفلسطيني، شهرًا للبؤس، مما يقودنا إلى القول بوجود تأكيدات تاريخية لا شك فيها، نستطيع أن نحدد بواسطتها توقيت التاريخ الفلسطيني، ومع الأسلوب الرمزي والمجرد أحيانًا، بوجود تأكيدات لاتاريخية، كونية.
المراجع
(23) ص 395.
(24) ص ص 353-365.
(25) ص 354.
(26) ص 359.
(27) ص 358.
(28) ص ص 281-296.
(29) ص ص 319-350.
(30) جاء ذكره مرتين ص 342 وص 349.
(31) ص 333.
(32) ص 337.
(33) ص 346.
(34) ص 330.
(35) ص 332.
(36) ص 331.
(37) ص 334.
(38) ص 333.
(39) ص 363.
(40) ص 364.
(41) ص 364.
(42) ص 367.
(43) ص 367.
(44) ص ص 379-391.
5 – البنية السردية
أ – بنية الحوار
أبرزنا في الفصول السابقة الخصائص الأساسية لقصص غسان كنفاني التي تُركز حَبكتُها على بطلين، والتي يجري التعبير فيها عن حالة “الوجه للوجه” هذه، على مستوى البِنية، بسيطرة الحوار، حيث نجد النوع الأدبي دراميًا بشكل أساسي، وليس نثريًا.
لا يمنع الشكل المختصر من التعبير عن كل شيء عَبر الحوار المباشر، ويساعد الوصف السردي بِنية الحوار، في حين يشكل في الرواية التقليدية ركيزة الشكل الروائي. ليس هذا الوصف ثانويًا من وجهة النظر التقنية الأدبية فحسب، بل وبالنسبة للدلالة. وهكذا فإن وصف دار البطل، أو تصوير أسواق المدينة، أو الحديث عن تنوعات إحدى الرحلات، لا يمثل كل هذا سوى أهمية قليلة جدًا.
ما يهم كنفاني المواجهة بين موقفين متناقضين، أو بالأحرى “نمطية” هذين الموقفين، لتأخذ بِنية الحوار أشكالاً متنوعة، يمكنها أن تبدو أولاً “حوارًا داخليًا” على شكل رسالة، كما في قصة “ورقة من غزة”، وفي الواقع ليس هذا الحوار سوى قطعة من حوار بين صديقين حول موقفين مختلفين. ويمكنها أن تبدو ثانيًا “سردًا داخل سرد”، كما في قصة “ورقة من الطيرة”، حيث يتحدث الراوي مع بائع الكعك الذي يقص عليه قصة حياته إلى درجة ينسى فيها القارئ أن بائع الكعك يتوجه إلى الراوي بل إليه. هنا، البِنية الأساسية حوار كذلك.
تشير قصة “أبعد من الحدود” إلى الخاصية ذاتها: في القسم الأول يتحدث “الرجل الهام” مع امرأته، ويحكي لها قصة الشاب الذي أوقفوه بعد الظهر، فنحن لا نعرف شيئًا من الراوي بل من الرجل الهام. وفي القسم الثاني، يروي الشاب باقي الأحداث من خلال مواجهة الرجل الهام. علاقة التناقض بين عنصرين مختلفين (الرجل الهام والشاب) هي في الوقت نفسه علاقة تبادل ستؤدي إلى فصل الأسباب عن بعضها، كما يرى جريماس، من داخل نوع دلالي معين، يجعلنا نعتبر العنصر الثاني (الشاب) كتحول للعنصر الأول (الرجل الهام).
غير أن ما نلاحظه من نتيجة لتحول أحد العنصرين هو إحداث تحولات متوالدة على طول القصة، بهذه الطريقة توضح لنا بِنية الحوار الدلالة الحقيقية للتمرد دون أن يتدخل الراوي، كما أنها تعطينا التفسير بأكمله: إن الشاب لا يريد أن يقول لنا كم هو يعاني من بؤس المخيم، وإنما يتكلم عنه ليتحدى الرجل الهام، فتضفي بِنية الحوار على تمرد الشاب دلالته العميقة كلها بصفته مواجهة بين موقفين متناقضين.
كي نحدد إلى أية نقطة يمكن أن تكون للحوار الأولوية على السرد، نأخذ قصة “الأفق وراء البوابة” بفصليها، حيث يسود في الفصل الأول السرد، عندما يقص الراوي حكاية الشاب الذي فقد أخته خلال أحداث 48، مخفيًا ذلك عن أمه، إلى أن يصمم على الاعتراف لها بالحقيقة، ونرى أن المنظور حتى الآن أحادي الجانب، فليس هناك أي حوار، وبالتالي ليس هناك أي تحول ملازم.
أما في الفصل الثاني، فينقلب الوضع رأسًا على عقب، إذ يلتقي الشاب بخالته بعد أن يجتاز بوابة مندلبوم، وتنكشف كذبة مزدوجة عَبر حوار يدور بين الشخصيتين، يظل السرد بأكمله في خدمتهما ليعبر عن مشاعر اللحظة بعد كل جملة، ويتطابق السرد مع منظور كل فاعل، كل بطل، ليكتشف الحقيقة.
يتم اللقاء بين علي وخالته كالتالي:
يريد علي أن يعرف أين أمه بينما تفتش الخالة عن أخته، فالسؤال الذي يولد على المستوى النحوي يصبح علامة استفهام على المستوى الوجودي. تسأل الخالة: “أين دلال؟” (ص 296) يتبع سؤالها وصف سردي ليوضح أهمية السؤال الذي يبدو سهلاً للغاية: “وفي العينين الصغيرتين المترقبتين ذاب كل الإصرار الذي حمله معه، كأن قوة خفية أمسكت بحلقه، وأخذت تهزه بلا هوادة.” (ص 296)
يُبرز السرد القلق الذي يحبس الكلمات: يجب على البطل أن يعترف بالحقيقة المُرَّة، وفي الوقت نفسه يخشى أن يقف بدوره على نبأ فاجع. إنه لا يجيب بل يسأل كذلك: “ولكنك لم تقولي لي أين أمي؟” (ص 296)
يشكل هذا السؤال ردًا على سؤال، وكلاهما يعلم أنه يجهل الحقيقة، فالحوار الذي يتم بواسطة تساؤلات متبادلة ينقلب إلى طرح الأكاذيب على بساط البحث عن حقيقتها، هذه الأكاذيب التي كانت سببًا للقاء القاسي.
يتطور التركيب الدرامي تدريجيًا، فنرى كيف يقطع الراوي التساؤل من جديد دون أن يعطي جوابًا، إذ يجب على كل واحد أن يبحث عن جواب لدى الآخر، وهذا ما يفهمه كلٌّ من الفاعليْن أثناء التقائهما: “وتلاقت العيون مرة أخرى، نقل علي السلة من يد إلى أخرى، وحاول أن يقول شيئًا، ولكن حلقه كان مسدودًا بغصة عريضة كأنها نصل معقوف، مدت خالته يدها، فوضعتها فوق ذراعه، وأتاه صوتها مشحونًا بأسى لا يصدق:
– أين دلال؟” (ص 296)
يزيد تكرار السؤال من حدة التوتر: لم يعد هناك جواب بل سؤال موجه ليس إلى الآخر بل إلى الذات. يجيب علي دومًا على السؤال بسؤال:
– “دلال؟” (ص 296)
إن ما كان سؤالاً بسيطًا يصبح لحظة حقيقة عميقة وتساؤلاً ذاتيًا:
“مرة أخرى أحس بالضعف يأكل ركبتيه، وبدا كأنه يدفع عن نفسه إحساسًا بالإغماء، رفع يده ومد السلة باتجاه خالته:
– خذي، هذه السلة لأمي، فيها بعض اللوز الأخضر، الذي…” (ص 296)
تشير النقاط الثلاث إلى عدم استطاعته إتمام جملته، فهو يعلم الآن أنه حان وقت الاعتراف بالحقيقة. حتى الآن، يتَّبع هذا الحوار البسيط “نوعًا مسرحيًا” يعبر بواسطة البِنية عما لا تعبر عنه الكلمات، ويرفع كل سطر من حدة التوتر حتى يصل قمته، فتنحل العقدة، وتنطلق الحقيقة دون أن تُنطق الكلمات. هكذا يأخذ لقاء “الوجه للوجه” الحواري قيمة المعاناة الإنسانية ليجعلنا نكتشف الجوهر وراء المظهر (45):
“ولم يستطع أن يكمل، كانت نظرة فاجعة قد انسكبت من عيني المرأة العجوز، وبدأت شفتها ترتجف، نظر وراء كتفها، وأكمل بوهن:
– …كانت تحبه.” (ص 297)
وهكذا يعترف علي لنفسه بموت أمه، ويفسر اعترافه على المستوى النحوي باستعمال الفعل الماضي: كانت تحبه.
أما الفقرتان الأخيرتان، فتصفان أثر اكتشاف الحقيقة على الفاعليْن دون أن يستطيع كل منهما الكلام: تخفف الخالة من عبئها بالدموع، بينما يسألها علي “كيف تركْتِ يافا؟” (ص 297) وتنتهي القصة بلفتة رقيقة: تضع الخالة ذراعها على كتف علي، في حين يلقي علي نظرة على الأفق الممتد وراء بوابة مندلبوم، رمز الفِراق والحقيقة في وقت واحد.
نعيد هنا ما ذكرناه فوق: إن نتيجة تحول العنصرين، علي وخالته، لهي إحداث تحولات متوالدة على طول القصة، مما يسمح –حسب جريماس- بتأكيد وجود علاقات ضرورية بين العناصر التي تتلازم تحولاتها، كما تم ذلك مع علي وخالته، وعرضناه بالتفصيل، وكذلك مما يسمح بتحديد التراكيب التعبيرية، وبتحديد العناصر السردية، ليس بعلاقات تبادلية نموذجية فحسب، بل وبموضعها ووظيفتها داخل الوَحدة الدلالية للتركيب التعبيري، داخل القصة بكل بساطة، التي هذه العناصر جزء منها.
المراجع
(45) علق سقراط أهمية كبرى على “الحوار” بصفته طريقة فلسفية تساعد على اكتشاف الحقيقة عَبر أسئلة تكون أجوبتها متوارية في صدر كل كائن إنساني: “هذه هي السخرية السقراطية التي لا تعني هزءًا على الإطلاق بل تساؤلاً، وأصلها يوناني (Eironeia) هدفها إيقاظ أو بالأحرى “توليد” المعرفة الموجودة في الذات.” (ص 286) قاموس الفلسفة، ديديه جوليا، دار لاروس، باريس 1964.
ب – المنطق السردي
على حَسَب أية وسائل فنية يمكننا أن نمنح العمل الأدبي معنى؟
وجدنا ثلاثة عناصر محددة للإجابة على هذا السؤال الهام:
– الحِوار.
– السرد.
– التركيب الدرامي.
لهذه العناصر الثلاثة منطقها الخاص، لكنها تلتقي لتوضيح ونقل المعنى.
نعني بالمنطق السردي: دورة الأحداث المتتابعة، ونقطة التقاء العناصر الخاصة بتركيب أدبي. بمعنى آخر، يمكن لهذه العناصر في مجموعها أن تعطي، بواسطة بِنية، كلاً جديدًا تمامًا، ومختلفًا نوعيًا.
لنحاول تطبيق هذا المنطق السردي على قصة “السلاح المحرم” (ص 301-ص 315).
ينبسط التدرج الدرامي على امتداد أربع مراحل متميزة، تظهر كتغيير تسلسلي لموازين القوى: إنها حكاية “أبو علي” الذي يخطف من الجندي البندقية، ويهرب بها.
المرحلة الأولى: يصف الراوي الوضع الأول، وذلك عندما يواجه رجال القرية جنديًا مسلحًا ببندقية، بصحبة أبي علي وأَخَوين عدوين.
المرحلة الثانية: يتطور الوضع، أبو علي ورجال القرية يريدون الاستيلاء على بندقية الجندي.
المرحلة الثالثة: يذهب أبو علي وحده أكثر فأكثر، ويتجاوز رجال القرية إلى الفعل، فيخطف البندقية، ويهرب.
المرحلة الرابعة: يحدثنا الراوي عن آخر تطورات القصة، وذلك باتحاد الأخوين العدوين ضد أبي علي ليقتلاه، ويخطفا البندقية منه.
تكمن دلالة القصة في التطور الطارئ على فعل الأخوين العدوين اللذين يغرقان في صراعات دائمة فيما بينهما من أجل السلطة، لكن إن أراد أحد أن يأخذ السلطة منهما، وهذا ما يرمز إليه حصول أبي علي على البندقية، اتحدا معًا ليهاجماه.
بِحَسَب أية وسائل أمكن التعبير عن هذه الدلالة؟
لا الراوي وحده، ولا الحوار وحده، استطاع أن يعبر عنها، التقاؤهما هو الذي أنشأ المعنى.
سنرى كيف يصف الراوي الوضع في المرحلة الأولى:
يزعزع وجود الجندي علاقات رجال القرية العادية عندما نقرأ: “لو كان الأمر عاديًا إذن لما وقف عبد الله إلى جانب فاروق، فإنهما يكرهان بعضهما كراهية مقيتة، لا بد إذن أن يكون الأمر خطيرًا.” (ص 302)
يقودنا هذا إلى طرح سؤال على مستوى الحكاية: ما هو ذلك الأمر غير العادي؟ ولماذا؟ هذا السؤال يطرحه أبو علي على نفسه، عندما ننتقل من منظور الراوي إلى منظور أبي علي، من السرد إلى الحوار، ويتتابع منطق المحاولة الحكائية بلا صعوبات بين خطة الحوار وخطة السرد.
في المرحلة الثانية، يتطور الحدث بواسطة الكلام المباشر:
“صاح أبو علي مرة أخرى:
– سآخذها أنا يا شباب!
وأتاه صوت من طرف الحلقة المقابلة:
– أنت سيدها يا أبا علي!
كرر بصوت أعلى كأنما ليبعث الحماس في نفسه:
– سأخطفها منه.
قال نفس الصوت:
– إنها حلالك!
صاح مؤكدًا:
– إنها حلالي، سآخذها…” (ص304-ص 305)
في المرحلة الثالثة التي ينقلها الراوي، يهرب أبو علي مع البندقية باتجاه بيته، ليوقفه الأخوان العدوان، ولا بد أن يكون قد حصل شيء لتفسير هذا الانقلاب المفاجئ، فقد اختلفت موازين القوى، وبرز السؤال التالي: كيف ولماذا أمكن أن يحصل ذلك؟
“- أعطنا إياها وإلا قتلناك.
– عرفتكما.
وفكر بوجل: كيف حدث أن اتفقا معًا رغم الكراهية التي يحملانها لبعضهما؟” (ص 314)
بعد ذلك، يخنقانه لينتزعا منه السلاح.
رأينا من خلال مجموعة العناصر التركيبية كيف يستطيع شكل أدبي مختصر أن يعبر عن معنى عميق بواسطة اقتصاد كبير، ولكي ينعكس كل العام على كل الخاص، على هذا الشكل الأدبي المختصر أن ينجح، داخل المنطق السردي، في جمع الوَحدة البِنيوية التي تحيل دومًا الفردي إلى كل المجتمع الإنساني.
ج – الشكل المفتوح
يكون الشكل المفتوح عند الدخول في الموضوع على الفور وبلا مقدمات: نتعرف مباشرة على الأبطال دون أن نعرف حياتهم أو دوافعهم، وغالبًا ما يختفي الراوي ليترك أبطاله يتحدثون، يوضحون حالاتهم، فيتمظهرون، وبذلك يكون قد تم إلغاء المقدمة السردية التقليدية.
أما الحدث الذي يبني الروي، فيتشكل شيئًا فشيئًا كلما تقدمنا في قراءتنا، لأن الحدث حاصل قبل ذلك بكثير، ونتيجة لذلك يدخل القارئ مباشرة في قلبه “in medias res” ليقوم التوافق التدريجي بينه وبين الشخصيات، تدعمه فيما بعد إنارة تاريخية كافية.
تبدأ قصة “أبعد من الحدود” كالتالي: “صعد الرجل الهام الدرجات القليلة إلى بينه، فتح الباب، ألقى محفظته الجلدية فوق الطاولة… قبّل زوجته، نظر إلى طفله النائم في السرير الأزرق، فك رباط عنقه.” (ص 277)
يؤخذ القارئ فورًا في دورة الأحداث: على عكس ما يحمله الأَخَوان العدوان في قصة “السلاح المحرم” من اسم، عبد الله وفاروق، اختيار الاسمين ليس جُزافًا، فالمقصود الملك عبد الله والملك فاروق، على عكس الاسم الدامغ لهذين الفاعلين، “الرجل الهام” شخص غامض لا يحمل اسمًا بل صفة فقط. إضافة إلى ذلك، نراه يدخل داره، فنفكر بالتالي في أن عمله الهام يشغله طوال النهار في الخارج: هناك حدث سابق. هذا وتخلق التقنية الوصفية “المباشرة”، البعيدة عن المغالطة، جوًا أوليًا حارًا يرتبط بفعالية باقي الحدث.
قصة “ورقة من الطيرة” تحتوي على سمة أخرى للطريقة المباشرة “in medias res”: “ماذا كنت أريد أن أقول؟ نعم كنت أريد أن أحكي قصة ذلك الزَّبون الذي يشتري مني كل مساء ثلاثة أقراص من العجوة…” (ص 329)
هنا توجد أيضًا فعالية للحدث الذي ينشأ في مرحلة سابقة وصلت الآن إلى مرحلة معينة.
بينما تبدأ قصة “لا شيء” بحوار:
“وسألَ الممرضَ فيما كان يقتاده إلى الخارج:
– ماذا يعني انهيار عصبي؟
أجاب الممرض بجفاء:
– يعني أنك لست على ما يرام!” (ص 395)
في جميع الوَحَدات السردية التي عرضناها، بكلام آخر، في جميع الحالات السردية التي عرضناها، يترك القارئ نفسه ينجذب بسهولة مع مجرى الأحداث التي تبدو بلا نهاية محددة واضحة، فالقصة التي لا تعرف المقدمات التقليدية لا تنتهي بخاتمة تقليدية كذلك، بل “بخاتمة مفتوحة”، إذ تنتهي القصة بعدة أسئلة يخيل للقارئ معها أن شيئًا ما لم يُقَلْ بعد: “سيدي، أخشى أن يكون حَساؤك قد برد، فاسمح لي أن أنصرف.” (ص 228)
عندما نعلم أن البطل الذي يتكلم هو الذي يبحث عنه في الوقت ذاته محدثه، الرجل الهام، نتساءل كيف سينصرف؟ كيف سينفد بجلده منه؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ كما لو كان الكاتب يريد أن تنتهي الأشياء بعلامة استفهام.
تفتح قصة “ورقة من الطيرة” أفقًا أوسع من القصة السابقة “أبعد من الحدود”، في اللحظة التي تنتهي فيها كالتالي: “لكني يومًا ما سآتي من فلسطين ماشيًا على قدمي كما أتيت في المرة الأولى، وسأبحث عن الشرطي هذا ما استطعت، ثم سأدعوه ليقضي شهرًا كاملاً في طيرة حيفا على حسابي… له الخيار أن ينتقل فيها كما يشاء، ويقف حيث يشاء.” (ص 339)
لدينا هنا إنارة تاريخية لماضي الشخص المتكلم، فهو يعود بالخيال إلى وطنه، ويأتي منه ليدعو الشرطي الذي أساء معاملته في دمشق. يكمن البعد الذي أراد كنفاني إعطاءه في هذا التمني: تحرير أرض الوطن المرتبط بمصير غير معروف في المستقبل.
وتنتهي قصة “لا شيء” التي هي عبارة عن حوار بشكل أساسي كالتالي: “حسنًا… دعنا نذهب إلى الرئيس.” (ص 402) لا شك أن الحدث سيتواصل فيما بعد، والجندي الذي واجه الممرض خلال الحوار السابق كله سيواجه رئيس المستشفى، ويفحمه أو يستسلم له. هذا الاحتمال مخفي وراء النهاية بعد أن أعطاها إياه المنطق السردي للقصة، وبناء على ذلك يتواصل دوران الأحداث إلى ما بعد النهاية.
ألا يلتقي هذا “الشكل المفتوح” بمصير الشعب الفلسطيني المفتوح الباحث عن هوية؟ لقد استطاع هذا الشكل بغموضه وفتحه آفاق المستقبل أن يحمل في طياته بذور مرحلة جديدة، وغني عن البيان أن نلح إلحاح اللساني الفرنسي جريماس على أهمية هذا التحديد الشكلي للوَحَدات السردية التي بتقديرها الاستقرائي وتطبيقها على عوالم دلالية أخرى لن يفوتها أن تفرض نفسها.
6 – الأسلوب
أ – المفردات
يسمح لنا الحقل الدلالي للعمل الأدبي بالتمييز بين حقلين آخرين: أحدهما تصوراتي والآخر مفرداتي. سنجمع داخل الحقل التصوراتي المفردات النمطية الخاصة بكل من البطل المستسلم والبطل المتمرد، أما الحقل المفرداتي، فسيحوي طبيعة المفردات المستعملة سواء أكانت مجردة أم مشخصة، قديمة أم حديثة.
نلاحظ في مفردات البطل المستسلم تكاملية دلالية تعبر عنها على المستوى التصوراتي فكرة مُرَّة (التصور عملية عقلية يقوم بها الفَهْم لإدراك المعاني المجردة أو تكوينها): مثال ذلك قصة “قتيل في الموصل” حيث يتطور البطل المستسلم إلى بطل متمرد. في المرحلة الأولى، تتفاوت أفكاره في درجتها بين الاستسلام الكلي والاستسلام السَّلبي، فهو “يتمتع بروح فكهة تخفي في أعماقه قلقًا له جذور سوداء…” “ولكن هل سمع أحد في يوم ما أن معروفًا يريد شيئًا من هذه الحياة؟ يهمه أمر ما؟ يطمح إلى مستقبل ما؟ يناضل من أجل هدف؟ يعيش لغاية؟ كلا.” (ص 280-ص 291)
الكلمات الغالبة هي “القلق”، “الجذور السوداء”، “انعدام المستقبل”، “انعدام الهدف”، “انعدام الغاية”… غياب النضال هنا يشكل قلق البطل، وتدل الجذور السوداء التي تنتسب إلى المفردات المجردة على العقم التصوري لدى الفاعل. يجدر الإشارة إلى أن مفردات البطل المستسلم تنطبق عادة على بطل متمرد، وحتى على بطل ثوري: “الطُّموح”، “المستقبل”، “النضال”، “الهدف”، “الغاية”. وبالمقابل، حالته موصوفة بمفردات مشخصة ومجردة في وقت واحد: “قلق له جذور سوداء”. الجذور مصطلح مشخص يمكن استخدامه كاستعارة لمصطلح مجرد: “قلق”.
عندما يتداخل الحقلان المفرداتي والتصوراتي يُبَيِّنَان نفسية البطل المستسلم: مقتلَع الجذور منذ البداية، يترك لغيره مسئولية الكفاح من أجل مثل أعلى، فها هو يقول: “حينما تعبرون الحدود إلى فلسطين سوف أكون خلفكم. أنا صرصار صغير. سأحتمي بظلال فيلة هنيبال.” (ص 382)
وعلى العكس، عندما ينقلب الوضع، ويأخذ البطل المستسلم بالتساؤل حول سَلبيته، تصبح مفرداته حارة وفاعلة: “يجب على بعض الرجال أن يقودوا الأفيال” (ص 383)، “إنه يريد أن يخطو نحو اللد” (ص 387)، “الحياة هناك تقوم على خطأ أنه يحسه إحساسًا صلبًا، ويحاول أن يقتلعه من شروشه” (ص 397)، “لقد رفض معروف أن يهرب” (ص 389).
يُختصر التقارب الدلالي بين المفردات في أفعال تدل على الحركة: “يقود، يخطون، يحس، يحاول، يريد”، تدل جميعها على المسئولية الملقاة على عاتق البطل المتمرد: “يَقتلع، يرفض” فعلان آخران يُبرزان الانتقال من الاستسلام إلى التمرد.
تعود مفردة “الجذور” المشخصة مرة أخرى لتتعاقب ومفردة مجردة: “جذور الخطأ”، نفس الصورة الفنية السابقة. جذور هنا شيء سَلبي، والمقصود هنا الخطأ الذي يقودنا الاستسلام إليه.
انتقى غسان كنفاني للتعبير عن كل هذا كلمات سهلة، لكنها ممتنعة، بأسلوب حديث غير تقليدي، أحيانًا شعبي كاستعمال “شروش” مثلاً، وخففت كثرة الحِوار من ثقل الشكل بصورة ملحوظة، وذلك بفضل الأسلوب المباشر والجمل القصيرة، لنصل إلى ثلاثة أنواع في التراكيب التعبيرية تتعلق بالخصائص (مستسلم/متمرد)، بالبِنيات (استسلام/تمرد)، بالانفكاكات (فصل بين استسلام وتمرد).
أضف إلى ذلك أن الاختلاف بين المفردات “السالبة” و “الفاعلة” عبارة عن وسيلة فنية لإبراز المعنى: الأولى مثلت لغة عاجزة لبطل عاجز تجاه قضيته، قاعدته الاستسلام لأخف المتاعب، الثانية عكست اللغة الحازمة لبطل حازم وعازم على التخلص من الاستسلام.
ب – الصور
تدعم الصور بساطة الأسلوب، فهي في أكثر الأحيان عبارة عن استعارات مستمدة مباشرة من الطبيعة. كان غسان واحدًا من أولئك الذين لم يستسلموا لضياع الوطن، فامتد ذكره عنده في مجمل أعماله عَبر صور فنية بسيطة: “وجدتُ غزة كما تعهدها تمامًا، قوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ.” (ص 344)
لا تحتوي الأوصاف هنا إلا على صور عينية مشخصة: “قوقعة صدئة” تشبه على المستوى المفرداتي وجه المدينة الحزين، وعلى المستوى التصوراتي حالة الفاعل.
بالمقابل، نجد أوصافًا مختلفة لمدينة غزة: “كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم.” (ص 349) تشير الشمس الساطعة إلى نهاية وجود مظلم تزيدها كلمة الدم تأكيدًا، وتحرض هذه الصورة المحركة على فكرة انبعاث البطل المتمرد على المستوى التصوراتي. بالشكل نفسه، يشبّه كنفاني شقائق النعمان الحمر الآتية من فلسطين بفلسطين نفسها، ثم بجرح المقاتل الفلسطيني:
“- هذا الحَنُّون من هناك.
وأمسك إبراهيم الزهر، وضمه بعنف إلى صدره، ثم ابتسم، وهو يقول:
– أيها الجرح!
ومات، وهو يشد على الزهر الذي دفن معه.” (ص 332)
إن العلاقة-القاعدة الموجودة بين الصور بصفة دائمة هي بلا شك أرض الوطن فلسطين، وهي في وقت واحد الشقائق والجروح، فالصورة مرتبطة بسياق تاريخي مُشَعَّر (من شِعر): الجروح جميلة لأنها انسكبت من أجل قضية نبيلة، ونتيجة لذلك، يصبح الموت عظيمًا، إنه يعلن عن انبعاث الفلسطيني.
حتى الآن جميع الصور مستمدة من الوسط الفيزيائي، فهي ترمز إلى الالتحام بين الإنسان والطبيعة بصفة عامة، وبين الفلسطيني ووطنه بصفة خاصة.
ويلجأ كنفاني أحيانًا إلى صور مجردة للتعبير عن رسالة فلسفية: “لفظته العينان مثلما يلفظ الرحم المترع الوليد، وإن في عين كل رجل يُقتل ظلمًا يوجد طفل يولد في نفس لحظة الموت.” (ص 356)
يُثري التجريد رغبة الكاتب، فالمقارنة جِد رمزية: “العينان اللتان تلفظان الطفل” تشيران إلى الشخص الذي لا يمكننا أن نحتمل رؤيته بعد أن يتخلى عن الدفاع عن قضيته، ويبلغنا غسان رسالته في الاستعارة الثانية الواضحة في الصورة السابقة، الموت لا يلد العدم، بل على العكس، إنه يخلق حياة جديدة يرمز إليها الرحم المترع والوليد.
لقد استطاع التجريد وحده أن يعطي للصورة بُعدًا فنيًا وأثرًا دراميًا بواسطة مفردات جِد بسيطة ومختصرة: طفل، وليد، رحم.
وتصف الصورة المجردة أحيانًا عالم الإنسان الداخلي: إنها تجسد المشاعر الإنسانية على المستوى الأدبي عندما نقرأ: “عندها اكتشف أنه وحيد تائه… وكان يحس فيما هو يشق طريقه المظلم أقدام الناس فوق رأسه تروح وتجيء… أصوات أقدام، هدير أنهار، هرج أمواج، كل ساعة، كل لحظة، كل يوم، ووراءه كان يجري جدول الدم كأنه يلاحقه، كأنه قدره.” (ص 358)
بسبب التجريد، هذه الصورة رمزية جدًا، وهي مستوحاة من الطبيعة كالصور السابقة. كذلك لدينا عدة أفعال مثل: يهرج ويهدر ويروح ويجيء ويجري ويلاحق، تأتي هذه الأفعال لتصف شعور العنف إلى جانب حالة الطبيعة، حالة الشخص. من ناحية أخرى، تَعَاقُب مصطلح الدم ومصطلح القدر يدل على الشعور باللعنة التي تصيب العنصرين السابقين (الإنسان والطبيعة)، وهناك مفردات، مثل “يحس” و “يلاحق”، تدل على نفسية الشخصية القصصية.
ما ينجم عن ذلك كله أن للتشخيص والتجريد عند كنفاني وظيفة محددة، إنهما ينيران ويدعمان الفكرة المعبر عنها، وهما العنصران الجماليان الوحيدان للديكور، وليس هناك سوى البساطة والمتانة المستمدتين من الواقع، واللتين تُبرزان ما هو ضروري فقط، فما يزودنا السياق الكنفاني من معلومات يتم تحديد موقعه على خارطة العناصر السردية التي تتجلى في الخطاب، كما أن الخصائص السردية تحتوي على خصائصها الضرورية التي تتلاءم معها.
ختامًا نقترح باختصار الخطوط العريضة لتحليلنا السابق:
1 – تمثل هذه المجموعة القصصية فترة المنفى بعد تهجير 1948، وهي عبارة عن وثيقة تاريخية كبرى على المستوى الأدبي.
2 – تعطي هذه المجموعة القصصية ميلادًا لنموذجين “نمطيين” للبطل: البطل المستسلم في بداية الخمسينات والبطل المتمرد في أواخر الفترة نفسها.
3 – تقترح هذه المجموعة القصصية تطورًا في تصور الفلسطيني الذي سيرى فيما بعد العلاقات الاجتماعية كعلاقات تضم المضطهَدين من ناحية والمضطهِدين من ناحية.
4 – تميز هذه المجموعة القصصية بين نمطيها وتطوراتهما، هذه التطورات التي هي انقلابات في المضامين تتوافق مع متطلبات الموديل الكنفاني.
5 – تثير هذه المجموعة القصصية مسألة أساسية في اللعبة السردية بوجود طريقتين أساسيتين، وذلك على كافة مستويات التعبير، واحدتهما حقيقية وثانيتهما وهمية، تتجليان في الخطاب على شكل أشخاص قصصية أو أشياء قصصية، ليكون التمييز بين استثمار السياق واستثمار المعارف السياقية.
2 – رجال في الشمس: الفهم العميق لحقيقة المنفى
1 – مقدمة حول الرواية وموضوعها
تعتبر رواية “رجال في الشمس” نقطة تقاطع بين سنوات الخمسين وسنوات الستين، نقطة تقاطع بالنسبة إلى حياة الشعب الفلسطيني وتطور غسان كنفاني. لأول مرة يكتب كنفاني رواية، ولأول مرة ينجح في إعطاء صورة للمنفى عارضًا في الوقت نفسه كل بؤس الإنسان المنفي ومحاولاته الواهمة للهرب منه. هذه الرواية في زمنها، بقدر ما هي أمنية غالية من الأماني يتلهف الكُتَّاب إلى تحقيقها هي معرفة عميقة للوصف تسمح بتحديد حدود النص الذي هو بلا حدود، وبقدر ما هي حصيلة قاسية من التجارب تجرد البشر من إنسانيتهم هي معرفة واضحة للنفس تتيح انطلاقًا جديدًا في الحياة.
مع “رجال في الشمس”، لا نزال بعد في الفترة الانتقالية للمنفى الممتدة من “جحيم الحقيقة” إلى “نعيم الوهم”، ويعتبر مضمون هذه الرواية “ثوريًا” بالمعنى التاريخي للكلمة، لأنه يكشف عن الهرب حلاً خاطئًا يؤدي إلى الطريق المسدود، ولأنه يحدد بالنفي إشارة “العودة” بالمعنيين الطوبوغرافي والمجازي.
تناول النقاد هذه الرواية بالتحليل، وأجمعوا على أهميتها وقيمتها. كتب ف. المنصور، الباحث السابق في مركز الأبحاث الفلسطينية، غداة مصرع غسان عام 1972:
“لا شك أن رجال في الشمس هي أفضل ما كتب غسان كنفاني، فهي من ناحية المضمون أول محاولة جدية ناضجة لإبراز مأساة اللاجئين…” (46)
تجد هذه الرواية أصالتها في مضمون واقعي جدًا عرفه معظم الفلسطينيين بكل حقيقته المؤلمة، وكل وجوهه المؤثرة، فأوضح إحسان عباس، أستاذ اللغة العربية السابق في الجامعة الأمريكية، والباحث اليوم في الجامعة الأردنية، أوضح في مقدمة المجلد الأول من آثار غسان كنفاني الكاملة، أثر هذا المضمون الواقعي المباشر على القارئ الفلسطيني، والذي يدفع إلى نسيان البُعدين الرمزي والحِكَمِي للرواية بالنسبة إلى الأهمية المعطاة لمشاكل الشعب الفلسطيني عندما قال:
“وبالجملة، فإنها تشدنا إلى واقعيتها الدقيقة شدًا مأساويًا متوترًا، بحيث ننسى أن نتساءل عن أي مدلول أو عمق رمزي وراء ذلك.” (47)
سنعود إلى مسألة البُعد الرمزي هذا عند نهاية تحليلنا، ولنتابع في الوقت الحاضر عرض الأهمية الكبرى التي نسبها النقاد إلى هذه الرواية، هذه الأهمية –نسمح لنفسنا بأن نكرر- التي تأتي من حقيقة أن “رجال في الشمس” تحكي قصة تراجيدية تمثل لكثير من الفلسطينيين خيبة أملهم بالحلول الواهمة لسنوات الخمسين.
نقدم الآن استشهادًا آخر حول شهرة الرواية وأثرها على الضمير الفلسطيني فيما كتب فضل النقيب، الباحث السابق في الشئون الفلسطينية:
“فجأة تظهر رجال في الشمس، وتُستقبل بشكل غير عادي، يكتب عنها النقاد، يتحدث عنها القراء بإعجاب متزايد. الكل يؤكد أنها عمل أدبي ممتاز، ما أن تبدأ بقراءة كلماتها الأولى حتى تملك عليك نفسك وأحاسيسك ولا تتركك إلا مع كلمتها الأخيرة.” (48)
لهذا الأثر الأدبي دلالته العميقة التي تدفعنا إلى اقتراح فرضية عمل تقود تحليلنا على شكل الأطروحة التالية:
تُظهر هذه الرواية إخفاق الحلول الزائفة المتمثلة بالهرب من بؤس المنفى.
سيُبرز تحليلنا القادم الوسائل الفنية التي تعبر عن بِنية هذا الإخفاق ابتداء من منطلق خاطئ حتى المأساة النهائية. (49)
2 – بِنية التواقت والتتابع
لنعرض أولاً الِبنية العامة: تشمل الرواية سبعة فصول، تتوزع بشكل واضح في قسمين كبيرين، يحوي القسم الأول الفصول الثلاثة الأولى، والتي عناوينها أسماء أعلام:
أبو قيس
أسعد
مروان
ويحوي القسم الثاني الفصول الثلاثة الأخيرة بعناوين تشير إلى أسماء جمادات، ينعكس عنها بشكل مباشر عمق الرواية كطريق مأساوي:
الطريق
الشمس والظل
القبر
ويشكل الفصل الرابع نقطة تقاطع بين القسمين، يعبر عُنوانه، تحديدًا، عن فعل إنساني:
الصفقة
يجري التعبير عن هذا التقسيم بين الشخصيات (القسم الأول) وبين الأحداث (القسم الثاني) بشكل أوضح في المضمون والبِنية.
يمثل القسم الأول لوحة متواقتة في نفس الوقت وحياة كل شخصية من الشخصيات الثلاث، والتي لا توجد بينها أية علاقة مباشرة، ما عدا المشروع الواحد الذي لديها: قطع الحدود الموصلة إلى الكويت بالخفاء. (50)
يحكي كل فصل من الفصول الثلاثة للقسم الأول عن الحياة السابقة لكل فاعل، لشرح الدوافع المتبادلة التي حثت أبطال الرواية الثلاثة على السفر حتى البصرة في العراق، فالبصرة هي المكان الذي يوجدون فيه جميعًا عند أول الرواية، وقد تكرر أول الرواية ثلاث مرات على التوالي، لأن الكاتب يتناول بالعرض حياة كل واحد من جديد دون أن يبدي أية إشارة للثلاثة معًا.
يظهر أبو قيس مضنى من التعب، بعد سفره الطويل حتى البصرة، مستلقيًا قرب شط العرب، فيصفه النص كالتالي:
“أراح صدره فوق التراب النديّ، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل: مرتجة، ثم تعبر إلى خلاياه…” (ص 32)
أما أسعد، فهو يظهر على هذا الشكل: في مكتب المهرب وهو يساوم على ثمن نقله اللاشرعي:
“وقف أسعد أمام الرجل السمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، ثم انفجر:
– خمسة عشر دينارًا سأدفعها لك، لا بأس! ولكن بعد أن أصل، وليس قبل ذلك قط.” (ص 53)
أبو قيس وأسعد لا يعرف أحدهما الآخر، غير أن القارئ يربط مصيرهما عَبر حقيقة أنهما يتوجهان هما الاثنان إلى نفس المهرب.
يبدأ الفصل المعنون “مروان” بما يلي:
“خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة التمر وسلال القش الكبيرة…” (ص 71)
من الملاحظ هنا تقنية التواقت التي تقدم للقارئ حياة كل شخصية من الشخصيات الثلاث واحدة تلو الأخرى، ولكن في وقت واحد، ضمن لوحة تجميع، هذا من جانب. ومن جانب آخر، تتطور الرواية في الوقت نفسه داخل التتابع، أي بشكل متتابع. كان تقديم الاتصال القاسي بشكل متواقت في مكتب المهرب: مع أبي قيس، مباشرة مع أسعد، ومع مروان، لتبدأ الرواية بعد ذلك.
تعبِّر هذه التقنية التواقتية التي تقع تحتها التقنية التعاقبية فنيًا عن وجود الأفعال/الأبطال الثلاثة عند أول الرواية في نفس الوقت في البصرة، وخلال العرض يُدخل الراوي الفلاش باك الذي يمثل دورة الأحداث المتتابعة السابقة لوجودهم في البصرة، مبديًا بهذه الصيغة السردية حالتهم في الماضي إلى جانب حالتهم في الحاضر.
ماذا يمكننا أن نستنتج؟
على المستوى الأدبي، يمثل هذا تراكبًا في الأشكال السردية يروي المراحل الهامة للطريق الذي شقه أبو قيس والشعب الفلسطيني.
على المستوى الدلالي، يمثل هذا اعتبار أن مرحلة الانطلاق الحالية هي في الوقت نفسه وصول، وأنه لا يوجد على الإطلاق نقطة صفر، ولكن فقط نقطة واقعة في الوسط. وتنطلق العلاقة التبادلية بين الحاضر والمستقبل من الماضي، بينما يجد هذا القانون تعبيره الأدبي هنا بإدخال التتابع في التواقت. هذه التقنية، تقترن بمنظور كل فرد لا يستطيع أن يعيش حقيقةً إلا في الحاضر، ولكنه مرتبط دومًا بماضيه وبمشاريع المستقبل.
هذا البعد الأكثر تغلغلاً في الماضي عند أبي قيس هو أقل عمقًا عند أسعد، فهو من نمط البطل قصير النظر، الذي يسعى إلى منفعة اللحظة، والذي يتصف بأنانية كاملة، بينما يمثل أبو قيس نمط البطل بعيد النظر. وهذا التحديد للعنصرين المتمثلين بأبي قيس وأسعد، في هذه المرحلة من التحليل، لا يعود إلى السياق، وإنما إلى المنهج، لصالح الموديل السردي الذي نحن في صدد الكشف عنه، كما يرى اللساني الفرنسي جريماس، أي لصالح البِنية.
ما يدهش في قصة أسعد أن ماضيه “حالي”، فهو قريب جدًا: يروي القسم الأول من هروبه، بين عمان والبصرة، قصة إخفاقه الأول، فبعد أن خدعه السائق تاركًا إياه وحيدًا في الصحراء، التقطه بعض السياح، بمعنى أن ماضيه هو الرغبة المشخصة جدًا في الهرب بأسرع ما يمكن من أجل كسب النقود.
أخيرًا، تكون قصة مروان، قبل أن تلتقي حياة كل شخصية من الشخصيات الثلاث في الفصل الرابع على طريق مشترك. لحاضر مروان بِنية من يكابر في المحسوس، ولماضيه بُعد شاب مراهق، الماضي الذي عرفه في وسط عائلته. هناك إذن تحديد زمني وآخر نفسي لمروان يسمحان بتحديد التراكيب التعبيرية التي يحتوي عليها هذا الفصل الخاص به، لكنها في تجليها تتوقف عن كونها متواقتة، بالنسبة للنص نعم، بالنسبة للفصل لا، على اعتبار أن الفصل قائم بذاته، وكذلك الحال بالنسبة للفصلين السابقين الخاصين بأبي قيس وأسعد.
من ناحية التقنية الأدبية، يصب الفصل الثالث مباشرة في أحداث الفصل الرابع، الذي يُعتبر نقطة التقاء الرجال الثلاثة وأبي الخيزران: من يأخذ على عاتقه مهمة تهريبهم، والذي يُعتبر كذلك نقطة التقاء الأقدار الأربعة.
يقع الفصل الرابع في موقع وسط بين القسمين الكبيرين اللذين سبق لنا الإشارة إليهما، ولن تبدأ القصة الحقيقية للسفر المشترك إلى الكويت إلا الآن، فيقترن منظور الراوي الآن كذلك بتتابع مراحل الطريق. وهكذا تكون وظيفة القسم الأول عبارة عن عرض درامي للفواعل قبل ابتداء الرواية (ما عدا أبي الخيزران الذي سيجري إدخاله خلال الرحلة المشتركة)، هذا العرض الضروري لفهم ما سيتبع.
لقد أفادت التقنية التواقتية هذا العرض السابق لما سيقع، وستفيد التقنية التعاقبية التطور الدرامي لإخفاقهم التراجيدي.
فلندرس الآن لماذا عرض الراوي لحياة الشخصيات الثلاث ثم أتبعها بحياة المهرب؟ ما الفرق بينها؟ وماذا تمثل بصفتها أنماطًا للشعب الفلسطيني؟
المراجع
(46) ف. المنصور: غسان كنفاني في كتبه الأحد عشر، مجلة شئون فلسطينية عدد 13، ص 212.
(47) إحسان عباس: المجلد الأول من آثار غسان كنفاني الكاملة، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 16.
(48) فضل النقيب: عالم غسان كنفاني، مجلة شئون فلسطينية العدد 13، ص 198.
(49) سيعتمد تحليلنا على رواية رجال في الشمس، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، من صفحة 37 إلى صفحة 152.
(50) بعد احتلال فلسطين عام 1948، أخذ الفلسطينيون يبحثون عن مكان يقيمون فيه، ويعيدون حياتهم من جديد، وفي الفترة نفسها حازت الكويت على استقلالها، وأكثر من هذا جذبت مواردها البترولية الضخمة الفلسطينيين الذين جاءوا جماعات للإقامة فيها، مما دفع الحكومة الكويتية إلى الحد من الهجرة، وربط وجود الفلسطينيين على الخصوص بفيزا لا تسمح بإعطائها بسهولة. لهذا السبب، حصل دخول الكثيرين بالخفاء.
3 – أربعة أنماط للبطل المنفي: قرار الهرب من البؤس
ماذا تمثل هذه الشخصيات الأربع الرئيسية للرواية؟ تمثل في رأينا أربعة أوهام مختلفة، في عمر مختلف، وتختلف خصوصًا فيما بينها بحَسَب شعورها “بالذنب”. نقول هذا منذ البداية لنضع حدًا لكل غموض في القراءة، فنؤكد، بالنسبة للشخصيات الثلاث الأولى، أن من اللازم عدم رؤيتها بصفتها ضحايا بريئة وقعت في يد انتهازي، إذ ليس هذا سوى أحد وجوه الحقيقة. لقد أظهرت الرواية وجهًا مختلفًا تمام الاختلاف من وراء تراجيديتها، يشكل التمفصل الدلالي للجمل الخبرية، فلعبة الوهم والحقيقة تثير التحابك السردي، المعروف تمام المعرفة في علم النفس، كما يرى اللساني العالمي جريماس. هذا ولا يكمن المعنى العميق لموت الشخصيات الثلاث في أن ما جرى على الحدود ما هو سوى نتيجة لحادث “عارض”، بينما هو النتيجة المنطقية لطريق لم يكن صحيحًا منذ البداية. لقد كان قرار الارتباط بهذا الطريق أصل المأساة، وليس حادثًا خلال السير.
لم تتخذ أية واحدة من الشخصيات الثلاث هذا القرار في صحو التفكير الهادئ، لكونها مدفوعة من الخارج، تدفعها ظروفها التي كان بإمكان هذه الشخصيات ألا تذعن لأمرها، لذلك كانت هي نفسها مسئولة عن هذا الارتباط التراجيدي. وقبل أن نلقي عليها المسئولية، ونقبض عليها متلبسة بالذنب، نود ملاحقة ظروف هذا القرار.
أبو قيس:
من هو أبو قيس؟ إنه رجل عجوز، فلاح يحب أرضه بعنف بعد أن طُرد منها، ويعني له الطرد من أرضه اختطاف كائن عزيز عليه، والحقيقة أن أبا قيس يحب الأرض كما لو كانت امرأة، عندما نقرأ:
“كلما تنفس رائحة الأرض، وهو مستلق فوقها، خُيل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام، وقد اغتسلت بالماء البارد، الرائحة إياها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد، وفرشت شعرها فوق وجهه، وهو لم يزل رطيبًا، الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورًا صغيرًا.” (ص 37)
الطرد من الأرض بالنسبة له عبارة عن خزي عظيم تصدعت له حياته، فالصور دالّة عكسيًا في الاستشهاد السابق: المرأة العارية التي يتنسم شعرها بعد أن اغتسلت بالماء البارد كاستحضار حُلمي للماضي يؤشر إلى وضع حاضر بائس. وبالتالي، خلال فلاش باك، يكون استغلال المعلومات التي يزودنا السياق بها، عندما يعيد أبو قيس التفكير في أستاذ قريته الذي مات مقتولاً أثناء اغتصاب فلسطين، ويقيم حوارًا صامتًا معه ليبرر هذا الوضع الحاضر البائس:
“ولكنك على أي حال بقيت هناك، بقيت هناك! وفرت على نفسك الذل والمسكنة، وأنقذت شيخوختك من العار…” (ص 43) وليبرر بالتالي فعل عدم احتمال هذا الوضع.
وهكذا يتخذ أبو قيس قرار مغادرة بؤس المخيم ليجرب حظه في إيجاد عمل، فالرفاهية، وذلك في لحظة قلق ممزوجة بعدم اليقين. إن النصيحة الخادعة لأحد الأصدقاء ودموع زوجته هما اللتان حثتاه على اختيار حاسم، فكيف قدم الراوي ساعة القرار هذه؟
بمفردات ترتبط بما تعبر عنه من عناصر سردية تتجلى في الخطاب، وبكلام آخر، بشعور يربط حالة قبل الاختيار بحالة بعد الاختيار، وتبقى لحظة الاختيار غير معبر عنها، أو بالأحرى، يبقى أبو قيس مختطفًا بتيار خارجي، وليس بقرار واع.
لنر كيف يمر النص مرور الكرام عن اللحظة الحاسمة:
نتابع أولاً بشكل مفصل الحِوار بين أبي قيس وزوجته وصديقه حول ما سيكون باستطاعته أن يبني ويشتري ويعمل لو كانت له بعض الموارد. هنا، يتدخل الراوي، بقفزة عريضة تشمل الزمن اللاحق للحِوار، لينقلنا مع أبي قيس بعد وصوله إلى البصرة حيث سيحاول العبور اللاشرعي إلى الكويت… بينما كان الخيار قد تم خلال ذلك:
“لقد عرف أنها سوف تبكي، سترتجف شفتها السفلى قليلاً، ثم ستنساب دمعة واحدة تكبر رويدًا رويدًا ثم تنزلق فوق خدها المغضن الأسمر. حاول أن يقول شيئًا، ولكنه لم يستطع، كانت غصة دامعة تمزق حلقه، غصة ذاق مثلها تمامًا حين وصل إلى البصرة، وذهب إلى دكان الرجل السمين الذي يعمل في تهريب الناس من البصرة إلى الكويت…” (ص 49)
إنه الإحساس بالغصة الذي يربط، على المستوى الروائي، طورين أساسيين من حياة الفاعل، يحتويان بالضرورة على سمات ثانوية، هذان الطوران اللذان يمثلان منعطفًا كبيرًا بالنسبة له، هما في الوقت نفسه سمتان ثانويتان، تحتويان بالضرورة على سمات أساسية، وفي كلتا الحالتين التبادليتين، هذه السمات الأساسية والثانوية هي خواص إنسانية وفي نفس الوقت سردية تقوم بقيام الدور الوظيفي لأبي قيس كمنفي وكعنصر من عناصر السرد. ومع ذلك، فكل ما نعلمه عن هذا المنعطف الحياتي والدلالي عبارة عن انعكاس في الإحساس: لقد ترك أبو قيس نفسه مدفوعًا بحجج خارجية، وليس بقرار واع داخلي، لهذا رافقه الشك خلال الطريق كله. ونجده في حواره الصامت مع الأستاذ الشهيد يطرح بعض الأسئلة التي يتوجه بها، بعد كل حساب، إلى نفسه:
“ترى لو عشتَ، لو أغرقكَ الفقر كما أغرقني، أكنت تفعل ما أفعله الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك، وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت، كي تجد لقمة خبز؟” (ص 43)
لو عشت، لو أغرقك، أكنت تفعل، أكنت تقبل، كل هذه الأسئلة يطرحها أبو قيس بالأحرى على نفسه، لتبرير القرار هذا صحيح، ولكن على الخصوص لاحتمال نتائجه.
ولتلخيص ما سبق نقول إن أبا قيس فلاح فلسطيني اتخذ قرارًا على الرغم منه، مع شكه في أن الطريق الذي عبره هو الصحيح.
أسعد:
هو نمط الفلسطيني الذي يريد الهرب لأسباب فردية تمامًا، فبعد أن شكل لنفسه حجة أنه “ثوري” يبحث عنه البوليس –دون أن يؤكد الراوي إن كان هذا الخطر حقيقيًا- يهرب لمنفعته الشخصية، على عكس أبي قيس.
يقابل أسعد صديق والده، سائق إحدى الشاحنات، فيقترح عليه أن يصحبه إلى بغداد، مقابل عشرين دينارًا. يحدثه كذلك عن الاضطهاد السياسي كي يدفعه إلى الهرب:
“إنني أنقذ حياتك بعشرين دينارًا، أتحسب أنك ستمضي عمرك مختفيًا هنا؟ غدًا يلقون القبض عليك.” (ص 57)
وهكذا يغريه السائق.
عندما يتساءل أسعد كيف سيتدبر أمر الحصول على النقود، يحثه على الاستدانة:
“استدن، استدن، أي صديق بوسعه أن يعطيك عشرين دينارًا إذا عرف أنك ستسافر إلى الكويت.” (ص 57)
وكمن يسقط في دوامة، ينصت أسعد لسائق الشاحنة، وهو يتكلم عن السهولة التي يمكن معها تكوين ثروة في الكويت، فيستدين في الحال خمسين دينارًا من عمه:
“سوف يكون بوسعي أن أرد لعمي المبلغ في أقل من شهر، هناك في الكويت يستطيع المرء أن يجمع نقودًا في مثل لمح البصر.” (ص 61)
ويبدأ أسعد في الاعتقاد جديًا بهذه الثروة الخارقة العادة التي لا يمكن الحصول عليها في عمان، لكن السائق يخدعه تاركًا إياه في الصحراء، بين عمان وبغداد، لينقله بعض السياح معهم، دون أن يخفوا رأيهم، واصفين محاولة أسعد بالهرب. يهرب ممَّ؟ ممن؟ ليس من السلطات على التأكيد، التي لا يفكر فيها إطلاقًا، فالسائق هو الذي زوده بهذه الحجة المشرفة. إن أسعد لا يفكر إلا في النقود، مفتاح المستقبل، لكنها في الواقع السراب في الصحراء.
يكون رد فعله التالي، بعد أن أدانه عمه خمسين دينارًا، بهذا الوصف:
“شد على النقود في جيبه، وتحفز في مكانه، ولكنه حين لمسها هناك، في جيبه، دافئة، ناعمة، شعر بأنه يقبض على مفاتيح المستقبل كله…” (ص 61-ص 62)
يتمالك عن غضبه أمام عمه الذي يريد شراءه ليتزوج ابنته بعد عودته من الكويت، لكنه خسيس لدرجة أنه يستطيع دحض مساومة كهذه، فيأخذ النقود ساخرًا من عمه في داخله:
“يا إله الشياطين! من الذي قال له إنه يريد أن يتزوجها؟ من قال له إنه يريد أن يتزوج أبدًا؟” (ص 61)
كما نرى رؤية جريماس، البِنية الفاعلية لأسعد كفاعل، كبطل، كموديل سردي، لهي جزء من البناء، وما يجري من ألعاب في توزيع الأدوار، في تعدد الوظائف، في فصل الدَّعاوى عن بعضها، لهو جزء من مهارة الموزع كنفاني، الراوي، السارد، هذه المهارة السابقة على السرد، وبمصطلح لساني، هذه المهارة السابقة على “الكوددة”. نقول هذا لنشير إلى إظهار السياق تحت شكل مضامين يتم استثمارها باستقلال عن الرواية نفسها التي حسب تقنيتها التواقتية لم تبدأ بعد، فيأخذ الموديل السردي هذه المضامين على عاتقه، أسعد هنا، أبو قيس هناك، أو مروان كما سنرى.
ولكي نوجز سمات أسعد نؤكد على ما يسعى إليه من مصالح أنانية بحجة الثوري الهارب.
مروان:
هو نمط الفلسطيني الشاب الذي يرحل لأسباب نبيلة كي يعيل عائلته، عمره ستة عشر عامًا، ترك المدرسة لشعوره بأنه مسئول عن مشكل صعب: طلّق أبوه أمه، وتركها وحيدة، فتحتّم على الأم إطعام إخوته الصغار، لهذا كان على الابن أن يقوم مقام الأب. لقد تزوج الأب من امرأة أخرى –ذات عاهة- ليعيش آخر أيامه بهدوء بلا عبء عائلي، مؤجرًا بعض حجرات المنزل الذي تملكه الزوجة الجديدة.
يكره مروان أباه بسبب فعلته هذه، لكنه يفهم في الوقت نفسه الأسباب التي يولدها البؤس، ويعبر مروان عن ذلك برسالة يوجهها إلى أمه يقول فيها:
“لقد كان طموحه كله، كل طموحه، هو أن يتحرر من بيت الطين الذي يشغله في المخيم منذ عشر سنين، ويسكن تحت سقف من إسمنت.” (ص 80)
البؤس إذن أصل فعلة أبيه اليائسة هذه، ليبحث مروان عن إنقاذ أمه وإخوته منه. أضف إلى ذلك أن أخاه، الذي يعمل في الكويت، قد توقف عن إرسال النقود بسبب زواجه. لهذا، يقرر مروان السفر. هل هو مذنب لاتخاذ مثل هذا القرار؟ لقد كان مدفوعًا، مثل أبي قيس، لكنه يشارك كذلك كل أوهام أسعد حول مفهوم الثروة السهلة، دون أن يعرف الحقيقة التي تنتظره هناك، فالنص التالي يعبر عن ذلك:
“لسوف يرسل كل قرش يحصّله إلى أمه، سوف يغرقها ويغرق إخوته بالخير حتى يجعل من كوخ الطين جنة إلهية.” (ص 85)
مروان صغير جدًا ليقف على أبعاد قراره، حقًا يعرف جيدًا ما هو البؤس، لكنه يجهل الطريق الصحيح للتخلص منه، فأشار الراوي إلى التناقض القائم بين أوهام مستقبل سعيد والطريق الصحيح الموصل إليه، محدِّدًا منذ البداية أن مروان:
“لم تكن لديه أية فكرة محدَّدة عن وجهته الجديدة.” (ص 71)
هذه المضامين الخاصة بمروان التي يتم استثمارها هي في الوقت نفسه مضامين يتم تشكيلها، مضامين تصوراتية، يمتلكها مروان هنا، أسعد وأبو قيس هناك، أو أبو الخيزران كما سنرى.
ختامًا لعرضنا الخاص بمروان نقول إنه نمط الشاب المثالي الذي يظن أن باستطاعته مقاتلة البؤس بقواه وحدها.
أبو الخيزران سائق شاحنة الماء:
من “يقود” الركاب الثلاثة إلى الموت، مؤكدًا أنه يصحبهم إلى الجنة، نمط الانتهازي الذي لا يهمه سوى النقود، بينما يُبدي للآخرين مظهرًا مختلفًا، هو في الحقيقة قناع، ليغطي على جشعه المادي.
لنر كيف يقدم نفسه لمروان:
“سأخبرك الأمر بكل صراحة، أنا رجل مضطر للذهاب إلى الكويت، قلت لنفسي: لا بأس من أن أرتزق، فأحمل معي بعض من يريد أن يذهب إلى هناك.” (ص 81)
يعتبر نفسه إذن تاجرًا شريفًا (مضطر-أرتزق-أحمل معي)، ويجعل من سلوكه هذا مبدأً فلسفيًا يطرحه على اعتبار أنه “قانون الحياة”:
“أنا مبسوط أنك ستذهب إلى الكويت، لأنك ستتعلم هناك أشياء عديدة، أول شيء تتعلمه هو أن: القرش يأتي أولاً، ثم الأخلاق.” (ص 84)
لكن هذا القناع الذي يغطي الحقيقة بشكل رديء يبدأ بالسقوط، لتنكشف الحقيقة، قليلاً قليلاً، كلما توغلنا في الرواية، فنعرف أن أبا الخيزران خدم في الجيش البريطاني، وكان سائقًا ممتازًا:
“كان أبو الخيزران سائقًا بارعًا، فقد خدم في الجيش البريطاني في فلسطين قبل عام 1948 أكثر من خمسين سنة.” (ص 94)
يضيف الراوي دون تعليق، ومع ذلك، كان سائقًا سيئًا عندما استدعاه المقاتلون الفلسطينيون ليعمل في صفوف المقاومة. لقد “فقد” مواهبه فجأة، ليجدها فقط في اللحظة التي أتبعه فيها التاجر الغني حاج رضا بخدمته. إنه ليس فقط انتهازيًا لا يبحث سوى عن الثراء، بل زيادة على ذلك، وبسبب هذه الحقيقة، يتخلى عن قضيته: لم يعرف أبدًا كيف يقاتل في سبيل قضية شعبه، فيعبر كنفاني عن هذا النمط للمنفي بالصورة الفنية التالية “للخِصاء”:
“مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه، ولقد عاش هذا الذل يومًا وراء يوم، وساعة إثر ساعة، مضغه مع كبريائه، وافتقده كل لحظة من لحظات هذه السنوات العشر، ومع ذلك فإنه لم يعتده قط، عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن، وتبًا لكل شيء في هذا الكون الملعون.” (ص 109-ص 110)
ويتضح وجهه الحقيقي شيئًا فشيئًا من وراء قناعه حتى يعترف بصراحة قاسية بأن لا شيء يهمه غير النقود:
“أقول لك الحقيقة؟ إنني أريد مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، ولقد اكتشفت أنه من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب.” (ص 114)
كان قناعه على التحديد أصل المأساة التي وقعت على الحدود، بعد أن جعل الحاج رضا موظفي الجمارك يعتقدون بأن أبا الخيزران “دون جوان” زمانه، فأراد أحدهم أن يعرف عنه المزيد، عندما راح يطرح عليه أسئلة حول موضوع علاقاته الجنسية (الملفقة طبعًا)، معيقًا إياه عن إخراج الركاب الثلاثة من الخزان، وكان هذا التأخير اللامتوقع سببًا لموتهم: كان الموت، كإجراء سياقي، الحل لعدم التوافق في طبع أبي الخيزران.
لتلخيص ما سبق نقول إن أبا الخيزران واحد من جرذان الصحراء التي يتحدث عنها أسعد خلال حواره مع السياح. لقد اعتقدت السائحة بأنها ترى ثعلبًا بدلاً من جرذ، لكن أسعد يخبرها بأنه ليس أكثر من جرذ بسيط من جرذان الصحراء. إنه المظهر الذي يخدع! جرذ يقتات بأكل جرذان أصغر منه:
“-أوف! إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان، تراها ماذا تقتات؟
أجاب بهدوء:
-جرذانًا أصغر منها.” (ص 67)
يمثل أبو الخيزران السائق البائس الذي يقتات بأكل أناس أكثر بؤسًا، فها هو يعلق بعد أن يسأل:
“-…ما اسم الفندق الذي تنزل فيه؟
-فندق الشط.
-آه! فندق الجرذان!… لكن حاذر أن تأكلك الجرذان قبل أن تسافر.” (ص 62-ص 68)
هذه الجرذان موجودة رغم ذلك في الكويت، تنذر الرواية بالخطر، لكن أسعد لا يبدي أي اهتمام.
على المستوى الأدبي، الصورة الفنية هنا عبارة عن تشخيص مسبق للنهاية، تشير إلى أن الطريق هو طريق جرذان لا طريق عَرَضي، لكن للضرورة السردية أحكامها، ليكون التوسيع الأسلوبي، ويقوم التوازن بين عوالم الشخصيات الأربع.
4 – بِنية الطريق: الخط البياني للإخفاق
أظهرنا إلى حد الآن الطريق الذي قطعته الشخصيات الرئيسية الثلاث، أبو قيس، أسعد، ومروان، حتى البصرة، قبل السفر إلى الكويت. في البصرة، تم عقد صفقة بينها وبين الشخصية الرابعة، أبي الخيزران، سائق شاحنة الماء، فأخذ أبو الخيزران على عاتقه مهمة نقلهم إلى الكويت عن طريق الصحراء مقابل بعض المال، لكن أبا قيس لم يكن مطمئنًا لشروط الرحلة:
“- اسمع يا أبا الخيزران، هذه اللعبة لا تعجبني! هل تستطيع أن تتصور ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟” (ص 96)
يُبدي أبو قيس حذره من السائق، وفي الوقت ذاته اهتمامًا كبيرًا أكبر من أي شيء آخر بإنجاح الصفقة. يحزر أبو الخيزران ما يجول في خاطره، فيعمل على تبديد مخاوفه:
“- لا تجعل من القضية مأساة، هذه ليست أول مرة، هل تعرف ما الذي سيحدث؟ ستنزلون إلى الخزان قبل نقطة الحدود في صفوان بخمسين مترًا، سأقف على الحدود أقل من خمس دقائق، بعد الحدود بخمسين مترًا ستصعدون إلى فوق. وفي المطلاع على حدود الكويت، سنكرر المسرحية لخمس دقائق أخرى، ثم هوب! ستجدون أنفسكم في الكويت!” (ص 97-ص 98)
يبدو السائق واثقًا جدًا من صَنْعته: تلك السهولة التي يصف فيها العملية عبارة عن عنصر إقناع يستعمله ضد من هم أكثر منه ضعفًا. من يسمعه يتكلم يظن أن ليس هناك من مكدر غير المُقام السريع داخل الخزان. أضف إلى ذلك أن أبا الخيزران يتكلم بمصطلحات رياضية، خمسون مترًا، خمس دقائق، خمس دقائق أخرى، ليختصر الطريق الطويل، فيبدو الطريق كأنه خال من العقبات.
قليلاً قليلاً، يترك أبو قيس نفسه يقع أسير كلامه، ويتشبث بنوع آخر من الشك في اللحظة التي يقول فيها:
“…سأقول لك الحقيقة، وأرجو ألا تغضب: أنا أشك في أنك تملك سيارة.” (ص 99)
نلاحظ أنه لا يشك أبدًا في السائق، مثلما كان ذلك في البداية، بل تُظهر كلماته جيدًا أنه يريد الوصول إلى الكويت مهما كلفه ذلك من ثمن، لهذا يريد أن يطمئن إلى وسيلة نقل تحقق له ما يريد، فها هو يقول:
“أنا أفضل أن أدفع خمسة عشر دينارًا، وأذهب مع مهرب عن طريق الصحراء، لا أريد مزيدًا من المشاكل.” (ص 99)
هذا التطور في كلام أبي قيس لافت للنظر على اعتبار أنه يكشف لنا إلى أية درجة يلتصق رجل عجوز بآخر “عون” يمكن أن يحوّل حياته.
كذلك يبدأ أسعد ومروان بالشك في أبي الخيزران، كيف لا يمكن فهم هذا عندما يتكلم السائق عن الكويت، وكأنه يتكلم عن جنة على الأرض؟ ولكن لا تلبث عقبات الطريق أن تختفي تحت قوة الكلمات، تحديات الصحراء الحارقة، مخاطر الحدود، ولا تبقى غير الثروة وحدها التي تعبئ الشخصيات.
وهكذا بكلمات تحل محلهم كفواعل، ينتمي ثلاثتهم إلى “نظام من الكلمات” تُصَنَّف فيه كل الشخصيات، لكنه تصنيف لن يكون حقيقيًا في ذاته، انتماؤهم إلى صنف ليس له معنى ووضعهم الجديد، فلم يعد الواحد منهم نمطًا، كل واحد منهم طريقة في التعبير، لأن الرواية على عكس الأسطورة التي لا تهتم سوى بالأطر التصنيفية، ولا تعمل إلا بمعايير التصنيف، أي بأنواع رمزية، الرواية عملية تعبير يتم التصنيف فيها على مستوى الكلمات، لهذا قلنا التصنيف ليس حقيقيًا في ذاته. ولهذا السبب، يغلب التعبير عن مروان وأسعد وأبي قيس، في الفصل الرابع، في مرحلة ما بعد النمط الذي وقفنا عليه في الفصول الثلاثة التواقتية، يغلب التعبير عن أبي قيس وأسعد ومروان كمواقف لا كرموز، كنظام من الكلمات مقابل نظام من الكائنات، فرأينا تردد أبي قيس في تصديق أبي الخيزران، فأسعد، والآن مروان:
“…اعفنا من تصديق رحلة القنص! يبدو لي أن الحاج رضا وجنابك تعملان بالتهريب…” (ص 100)
نلاحظ على الرغم من كل شيء أن مروان في موقف القوة، فالتعارض التصنيفي بينه وبين أبي الخيزران موجود في العلاقة التبادلية بينهما على مستوى اللغة داخل الرواية، من هو أبو الخيزران؟ مهرب في الماضي، سائق في الحاضر، موديله السردي بين السابق واللاحق، وفي هذه الحال يعمل التعارض بين السابق واللاحق –حسب جريماس- كتمفصل للمضامين بصفتها مضامين مطروحة ومضامين معكوسة: مروان يثير أبا الخيزران بما يطرح إلى حد الضيق، ولكن لا يدوم ذلك إلا لمدة قصيرة، لأن أسعد يعكس ما يطرحه مروان، ما يهمه فقط الوصول إلى المحطة الأخيرة:
“أنا شخصيًا لا أهتم إلا بموضوع وصولي إلى الكويت، أما ما عدا ذلك، فإنه لا يعنيني.” (ص 82)
بحسب الكلمات المتبادلة كأن أسعد هو مروان أو مروان هو أسعد، فها هو مروان يطرح من جديد أمر التشكيك في نوايا أبي الخيزران “الحسنة”:
“ولكن كيف تريدني أن أثق بك؟” (ص 82)
وبسرعة يعكس ما يطرحه، كما فعل أسعد، ويقرر بحماس، والصفقة على وشك الإتمام:
“وأنا سأسافر معكما.” (ص 101)
لأن مروان، كأسعد، وكما سنرى كأبي قيس، ثلاثتهم مضمون كلامي، يتراوح بين المضمون المطروح والمضمون المعكوس، ليس صِنافيًا حقيقيًا، (الصِّنافة علم قوانين التصنيف)، بل موقفي مفهومي (بالنسبة لموقف): يسأل أبو قيس، الذي يسيطر عليه الشك دومًا، أصحابه فيما لو كانوا “يعتقدون أن بوسعه مرافقتهم، فهو رجل عجوز.” (ص 192) يُبدي هذا التردد تجاه نفسه جيدًا أنه يشك في قدراته الخاصة، هذا هو المضمون المطروح، وليس لأنه يشك في قدرات أبي الخيزران، ورحيله عَبر هذا الطريق يأتي لأنه الطريق الوحيد الذي ينفتح أمامه، وهذا هو المضمون المعكوس. المضمون الكلامي لأبي قيس، الذي لِمَعْنَاه آثار تحتوي على اسمه، “أبو قيس”، يتم الاحتفاظ به كصفة وثيقة الصلة بالموضوع –حسب جريماس- يتوقف عليها النظير العام للرسالة، أي لبعد العالم الروائي والذي به الرواية هي التجلي. بكلام بسيط، أبو قيس ليس ما تعنيه كلمة “أبو”، ليس ما تعنيه كلمة “قيس”، أبو قيس هو ما يقوله أو ما يقال عنه من كلام.
وما يثير الاهتمام، بالمقابل، أن أبا الخيزران كمضمون كلامي، هو ما يقوله أو ما يقال عنه من كلام، وهو كذلك ما يعبر عنه اسمه من معانٍ (يمكننا أن نطبق الشيء نفسه على أسعد ليس على أبي قيس ليس على مروان لاسميهما إحالات تاريخية لا نعتية) عندما ينكشف وجهه الحقيقي مع تساقط قناعه تدريجيًا، كلما توغلنا في الرواية. أبو الخيزران اسم على مسمى، دال على مدلول، فالخَيْزُران هو نبات من فصيلة النجيليات، كما يقول القاموس، وهو مشهور بكبر حجمه، وسرعة نموه، وقلة أزهاره، تُستعمل عوده لصنع الكراسي. إذن هو كبير في حجمه صغير في مقامه، سريع في نموه بطيء في انتشاره، قليل في زهره كثبر في ظلاله، واستعماله لصنع الكراسي دليل على خضوعه لكل من يريد الجلوس عليه. يضيف القاموس أن الخَيْزُران هو كل عود لين، فسميت الرماح بذلك لتثنيها ولينها، لكنه كمضمون لاسمه، التثني واللين صفتان للتحايل والانتهازية، فها هو يرد على أبي قيس بضحكة مغتصبة، وهو يأخذه من الذراع:
“له! له! يا أبا قيس، من الذي أوهمك أنك عجوز إلى هذا الحد؟ ربما أم قيس! له! يجب أن تأتي معنا.” (ص 102)
تثير مجاملة/محايلة أبي الخيزران نفورًا عفويًا تجاهه، فنحن نحس بوقاحته وروحه النفعية، عندما يستعمل أبا قيس، الرجل العجوز، جارًا إياه عَبر مغامرة خطرة. وحتى قبل أن يبت أبو قيس في قضية سفره، يقرر أبو الخيزران عنه ذلك بسرعة، وتتم الصفقة عندما يؤكد أن على أبي قيس أن يأتي معهم.
والآن تبدأ أولى مراحل الرحلة الثلاث، إنها بداية الطريق الحقيقي:
“لم يكن الركوب فوق ظهر السيارة الجبارة مزعجًا كثيرًا، فرغم أن الشمس كانت تصب جحيمها بلا هوادة فوق رأسيهما إلا أن الهواء الذي كان يهب عليهما بسبب سرعة السيارة خفف من حدة الحر.” (ص 105)
نلاحظ أن الركاب يحاولون إظهار تآلفهم مع المناخ الحارق عندما يعتبرون هبات الهواء كالمَنِّ الساقط عليهم من السماء، بينما هم في الحقيقة في نار الجحيم، والهواء مصطنع، فمضمونهم الكلامي، كما سبق لنا القول، موقفي، تبعًا للموقع الذي يكونون فيه، وهو زائف أو سَلبي، بعيد عن كل منطق ما عدا التعاقب المنطقي للطريق، فمتابعتنا لتساقط القناع عن الوجه الحقيقي لأبي الخيزران يكشف ضمنيًا عن هذا التعاقب المنطقي للطريق. وبإمكان القارئ أن يقف على الخطر الذي يتهدد الركاب الثلاثة دون أن يدركه هؤلاء، بل على العكس، يظهرون سَلبيتهم تجاهه:
“هل تتصور؟ إن هذه الكيلومترات المئة والخمسين أشبهها بيني وبين نفسي بالسراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار، فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل الجنة. أما الملائكة هنا، فهم رجال الحدود.” (ص 105-ص 106)
يتقمص أبو الخيزران شخصية الإله: السراط الذي وعد الله به خلقه، يصبح السراط الذي وعد أبو الخيزران به ركابه. إن السراط المعني هو الطريق الذي اقترضه الركاب الثلاثة، والذي هو، في الواقع، مصيرهم الحقيقي. ومن الواضح أن أبا الخيزران من يحجز لهم جهنم (الصحراء المُحرقة) أو الجنة (الكويت المُغنية). من ناحية أخرى، إن كانت الملائكة مخلوقات مفضلة عند الله، أصبحت شرطة الحدود، ضمنيًا، شريكًا متواطئًا مع أبي الخيزران، فيعامله النص معاملته للمهرب في وظيفته، ويعتبره النقد اعتباره للمهرب في مضمونه، لكنه ليس المضمون ذاته في اعتبار الركاب الثلاثة، ضحايا الطريق الذي أخذوه وإياه. بالنسبة لهم أبو الخيزران سيد اللعبة، على الأقل في بعض المواقف هو سيد اللعبة، وفي بعضها هو ضحية كغيره من ضحايا اللعبة. ما يفترضه اسمه قاموسيًا من سَلبي وعكس سَلبي، يوائم تصنيف العالم الروائي (يقول جريماس العالم الأسطوري) حسب أبعاد ثقافية أساسية جوهرية يمكنه أن يحتوي عليها.
كيف يرى الركاب الثلاثة أبا الخيزران كبعد ثقافي يمثله كل واحد؟
يرى أسعد في هذا الرجل رجلاً سعيدًا، فأسعد كمضمون كلامي شيء، وكبعد ثقافي شيء آخر، كمضمون كلامي هو الكلمات التي يتم وصفه بها في الرواية، وكبعد ثقافي هو الرؤية التي يتم وصفه هو بها للأشخاص والأشياء في الرواية.
هكذا يرى أسعد أبا الخيزران:
“كنت أقول لنفسي إن حياتك رائعة، لا أحد يشدك من هنا، ولا أحد يشدك من هناك، وتطير أنت منفردًا حيث تشاء، تطير، تطير، تطير…” (ص 106)
إن ما يقوله أسعد عبارة عن تبرير لشخصه، فحسب ثقافته هكذا يجب أن يكون هو “الثوري” الفاشل، الذي هرب من مسئولياته، والذي يرغب، على التحديد، في أن “يطير، يطير، يطير، منفردًا حيث يشاء”. بناء على ذلك، وجهة نظره أنانية، دون أن يعرف محدثه يعطيه الصورة التي يتمنى إعطاءها لنفسه. أبو الخيزران الشخص المخصي رأى فيه أسعد الرجل “الطائر” بينما هو الرجل المحروم من عالم الحب، فبحسب تحديد لهيجل “الحقيقة هي اللاحقيقة”، وبمعنى آخر المظهر لا يعكس الجوهر دومًا، لكنه البعد الثقافي لأسعد، أسعد كبعد ثقافي ينطبق عليه تحديد هيجل إثباتًا، فالنفي الفلسفي هو البعد الثقافي لهيجل، هيجل كبعد ثقافي.
ويتأكد هذا البعد الثقافي في وقت لاحق عندما يكشف أبو الخيزران لأسعد عن نواياه الحقيقية:
“أقول لك الحقيقة؟ إنني أريد مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود…” (ص 114)
يسقط القناع، ويظهر أبو الخيزران على حقيقته كبعد ثقافي، وبالتالي كصنف من أصناف العالم الروائي (نحن هنا بعيدين جدًا عن مفهوم النمط الذي عرضناه في الفصول الأولى). كان بإمكان الركاب أن يفكروا، ويبدلوا رأيهم، فيعدلوا عن إتمام الطريق، لكن شيئًا من هذا لم يحصل، فالتحولات السردية مرهونة بتحولات العناصر السردية، وتحولات العناصر السردية مرهونة بتحولات الأبعاد الثقافية، بتحولات الفواعل/الأبطال كأبعاد ثقافية، هذه التحولات التي لن تكون إلا عند نهاية طريق الفاجعة. لهذا السبب ينزلون في الخزان حتى عندما ينذرهم أبو الخيزران قائلاً: “سيصبح الخزان من الداخل فرنًا حقيقيًا.” (ص 115)
وفي الواقع، هم لا يتأخرون عن الاعتراف بأقوالهم:
“هذه هي جهنم! إنها تتقد!” (ص 116)
“لا أعتقد أن أحدنا سيعطس في هذا الفرن!” (ص 116)
“إنها بئر ملعونة…” (ص 116)
هذا هو أول اتصال لهم “بجهنم”، كما يقولون، فتكون التحولات اللغوية داخل المواقف الثقافية لا تحولات المواقف الثقافية، مما يبرر ذلك على مستوى المتطلبات البنيوية، يعني كيف يتم بناء هذا الاتصال لغويًا؟ وهم إذ يقبلون بذلك، يقبلون بأن يتكدسوا في الخزان، بأن يخاطروا بحياتهم، يثبتون في نفس الوقت إلى أية درجة هم مستعدون للذهاب من أجل أن يصنعوا ثروة، لنرى في الموقف الثقافي أن المفهوم لم يتبدل، المضمون بلى.
يكمل أبو الخيزران توقيع أوراقه من حرس الحدود بسرعة، ويتحرك بسرعة إلى الطرف الآخر، ليُخرج الركاب نصف موتى:
“كان وجه أسعد محمرًا ومبتلاً، وكان بنطاله مغسولاً بالعرق، أما صدره فقد انطبعت عليه علائم الصدأ، فبدا وكأنه ملطخ بالدم. نهض مروان، وهبط السلم الحديدي بإعياء، كانت عيناه حمراوين، وكان صدره مصبوغًا بالصدأ، وحين وصل الأرض، وشع رأسه فوق فخذ أبي قيس، ومدد جسده ببطء إلى جانب العَجَل… ولولا أن صدر مروان كان يرتفع ويهبط، ولولا أن أبا قيس كان يتنفس بصفير مسموع، لخيل إليه إذن أنهما ميتان.” (ص 121-ص 122)
والحال هذه، هل بإمكاننا أن نتخيل “رجوعهم” بعد أن عرفوا خطورة سفرهم؟ هل سيزن الركاب نتائجَ خطرٍ كهذا ليبحثوا عن حل آخر؟ ليبدلوا رأيهم؟
لا يبدو ذلك، فالمضمون لا يتبدل إلا بتبدل المفهوم، وها هم يتابعون طريقهم، ويشرعون في المرحلة الثانية من رحلتهم، التي تبدأ بالفصل السادس تحت عنوان “الشمس والظل”:
“شق العالم الصغير الموهن طريقه في الصحراء مثل قطرة زيت ثقيلة فوق صفيحة قصدير متوهجة، كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرة متوهجة براقة، ولم يعد أحد منهم يهتم بتجفيف عرقه. فرش أسعد قميصه فوق رأسه، وطوى ساقيه إلى فخذيه، وترك للشمس أن تشويه بلا مقاومة. أما مروان، فقد اتكأ برأسه على كتف أبي قيس، وأغمض عينيه. وكان أبو قيس يحدق إلى الطريق مطبقًا شفتيه بإحكام تحت شاربه الرمادي الكث.” (ص 129)
معرفتنا للبناء الروائي في هذه اللحظة الحاسمة من لحظات الرواية لا تقوم على أساس التحولات الثقافية، معرفتنا للبناء الروائي تقوم على أساس كودات واضحة عن العياء واليأس: عالم صغير موهن أمام سلطة الصحراء وقدر الشمس المسلط، فالركاب يقعون فريسة عجز فيزيائي ونفسي بعد أن اختفت الشجاعة والحيوية التي أظهروها في بداية الرحلة، وأصبح اليأس وحده “الحافز” المشروع على الاستمرار.
وهكذا كبنية شكلية، يبدو كود اليأس كما يبدون وكأنهم مأخوذون في دائرة مفرغة: يهربون من بؤس المخيم الذي تركوه من ورائهم، ومن الطبيعة الشرسة التي تنتصب أمامهم في وقت واحد. لم يعد بإمكانهم أن يقاوموا، وكأنهم يعلنون مسبقًا أنهم مهزومون، وهم لهذا السبب يتركون أنفسهم للأحداث تتقاذفهم:
“كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم وحطامهم وآمالهم وبؤسهم وبأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم، كما لو أنها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول. وكانت العيون كلها مغلقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية.” (ص 129)
هنا يكثف كود اليأس كل مضامين البعد الثقافي للفواعل، فيبدو “عالمهم الصغير الموهن” (ص 129)، ما ترمز إليه الشاحنة، وقد أصبح القدر المهدد للفلسطيني المنفي، الذي يخوض صراعًا خطيرًا مع قدر حقيقي “مجهول وجبار” (ص 129). نحن هنا في صميم البعد الميتافيزيقي للطريق الخاطئ، وكنتيجة لذلك، تفلت منهم قيادة قدرهم، لأنهم ضحايا قوة عظمى، يحاولون الالتصاق بعيونٍ “مشدودة إليها بحبال غير مرئية” (ص 129). أبو الخيزران ضحية كذلك، حتى ولو بدا أنه يتحكم بوضعه، فله أحلامه ومطامعه التي يتوقف تحقيقها حسب إرادة هذا القدر المجهول!
الأحداث اللاحقة التي تتوالى بسرعة تلفت الانتباه إليها، فكل حدث عبارة عن تركيب دلالي، وكل دلالة عبارة عن مضمون يُستثمر في صالح الحدث الأخير: الموت اختناقًا.
قبل الوصول إلى حدود الكويت، يخاطب أبو الخيزران الركاب:
“لنسترح قليلاً قبل أن نبدأ التمثيلية مرة أخرى.” (ص 132)
وها هم ينزلون من جديد داخل الخزان، لأن في استثمار دلالة نزولهم إكراهًا لهم كموضوع لكود اليأس. ولهذا السبب، الذي هو إكراه الأبطال على فعل ما لا يقدرون عليه، يتأخر أبو الخيزران في مكتب رجال الجمارك عندما يطلب الجمركي منه أن يحكي له عن علاقته بإحدى الراقصات:
“فكر فيها ليل نهار، ركّب فوقها كل المجون الذي خلقه حرمانه الطويل الممضي، كانت فكرة أن صديقًا له قد ضاجع عاهرة ما فكرة مهيجة تستحق كل تلك الأحلام.” (ص 138)
المسافة أسلوبية هنا بين كود اليأس وكود الجنس، للتشويق، ولتبرير الحدث الأخير، وذلك بوضعه بين محورين سرديين على صعيد الشكل وعلى صعيد المضمون: الشكل عَبَّر عنه هذا القطع بين دخول الفواعل الثلاثة في الخزان ودخول أبو الخيزران في مكتب رجال الجمارك. المضمون عَبَّر عنه “هذا الخروج عن الموضوع” لسلطات الحدود وكيف ترى العالم عَبْر الجنس، وبسبب الجنس يتهدد خط الرحلة كله، فبعد أن تحرك أبو الخيزران بالشاحنة، وذهب ليفتح الخزان، كان الركاب الثلاثة قد ماتوا اختناقًا، ليقول التركيب الكودي لمضمون الاختناق إن السلطة هي العامل الأساسي الذي أدى إلى هذه النهاية المأساوية.
هكذا كانت حدود الكويت للركاب مانعًا لا يمكن اجتيازه، وعليها تحطمت كل أوهامهم، وهكذا كانت خاتمة فصل من فصول رواية لمجموعة من الناس المنفيين الذين ربطتهم فيما بينهم ثقافة المنفى.
الآن نجد نفسنا في المرحلة الثالثة من الرحلة، بعد أن توقف الطريق للركاب الثلاثة، ولم يزل مستمرًا للسائق:
“قاد أبو الخيزران سيارته الكبيرة حين هبط الليل متجهًا إلى خارج المدينة النائمة…” (ص 147)
يتقدم أبو الخيزران تدريجيًا في الصحراء الغارقة في العتمة، يلقي الجثث حيث تُلْقِي البلدية قاذوراتها، ويسحب النقود من جيوبها بعناية، ثم يعدو على رؤوس أصابعه، لتنبثق هذه الفكرة في رأسه:
“لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟
وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى:
-لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟” (ص 152)
لصرخة أبي الخيزران هذه دلالة رمزية سنحللها في وقت لاحق.
5 – أبعاد الموضوعة الأساسية للطريق كعنصر بِنيوي
إن الموضوعة الأساسية لتحليلنا هي إخفاق الحلول الزائفة المتمثلة ب: الهرب من بؤس المنفى، وسنرى أن الصور الفنية كلها ترجع إلى السراب، الأوهام، الأحلام، التي ترافق الطريق، وأن للشخصيات الروائية كلها مطامعها وأوهامها الفردية، فاختيار هذه الشخصية أو تلك لإظهار التركيب الكودي لا يتوقف على البِنية الشكلية –حسب اللساني جريماس- إنه يشكل حقيقة دامغة يكون معناها الخفي كما يكون معناها الجلي لدى جماعة ثقافية معينة.
من الملاحظ أن الفصل السادس، “الشمس والظل”، يعيد من جديد كل ما سبق وقيل عن أحلام كل شخصية، ليحصل الانجلاء لحظات قبل الاختفاء المتمثل بالموت، فالقاموس اللغوي يُستخدم كتركيب مغلق، بينما الكود يُستخدم كتركيب مفتوح. لهذا ارتكزت التقنية الأدبية على تعاقب ماضي كل فرد مع “لايتموتيف” الحاضر، عبرت عنه السيارة التي تواصل عبور الطريق.
إن لتماثل الكود في هدفهم، أن يصنعوا ثروة، دوافع مختلفة تعبر عن عوالم مختلفة: أبو قيس يريد أن يشتري بعض شجيرات زيتون، ويبني حجرة، ويعلم ابنه. أسعد يريد نقودًا ليثأر من عمه الذي يرمي إلى إجباره على الزواج من ابنته. مروان يريد إعانة عائلته. أبو الخيزران لا يبحث إلا عن المزيد من النقود ليرتاح في وقت لاحق.
من الملاحظ أن هذه الدوافع قد تولدت من البؤس، وفوق ذلك تمايزت ما بينها: من جشع أبي الخيزران الذليل إلى إخلاص مروان النبيل. لكن ليس هذا ما أرمي إليه، ما أرمي إليه انجلاء البؤس بشكل مغاير، ليشكل موديلاً عامًا يؤسس للمقارنة الروائية نفسها، صديقنا جريماس يقول للمقارنة الأسطورية. لهذا ارتبط تحقيق الدوافع ارتباطًا وثيقًا بتحقيق الرحلة، بتحقيق الرواية، فالرحلة هي الرواية، وبناء على ذلك، سنرى على ماذا يقوم الحقل الدلالي للطريق.
لقد كان لعناصر خارجية عديدة فعلها على الطريق: مناخ العراق الحارق، الصحراء وشمسها الرصاصية التي تؤدي إلى الموت. وبالمقابل: شط العرب الذي يرمز إلى الماء، وبالتالي إلى الحياة. المياه والرمال، هذان الحقلان الدلاليان متعارضان، ليتولد من تعارضهما التحدي للطريق كما يشير إليه التعاقب التالي:
“الشمس في وسط السماء ترسم فوق الصحراء قُبة عريضة من لهب أبيض، وشريط الغبار يعكس وهجًا يكاد يعمي العيون، كانوا يقولون لهم إن فلانًا لم يعد من الكويت لأنه مات، قتلته ضربة شمس. كان يغرس معوله في الأرض، سقط فوقه وفوقها، وماذا؟ ضربة شمس قتلته، تريدون أن تدفنوه هنا أم هناك؟ هذا كل شيء، ضربة شمس! هذا صحيح، من الذي سماها ضربة؟ ألم يكن عبقريًا؟ كان هذا الخلاء عملاقًا خفيًا يجلد رؤوسهم بسياط من نار وقار مغلي. أيمكن للشمس أن تقتلهم وتقتل كل الزخم المطوي في صدورهم؟” (ص 131-ص 132)
يرسم هذا الوصف لوحة الرحلة، ونرى أن الدعائم الثلاث بالطبع هي: الشمس، الصحراء، الموت. يكفي الجو الخانق وحده كي يكون أحد العوامل التي أدت إلى النهاية التراجيدية، ففي لحظة ما يصبح هذا الجو هو الكود وهو البناء وهو الموديل السردي وهو الموديل الصِّنافي، فيوضح الرسالة التي يريد النص إيصالها.
إنه عبارة عن تهديد يمكنه تعريض الحالة للخطر، يحلق فوق رؤوس الركاب كالشؤم. وفوق ذلك، إن كل ما كان يقال لهم من حكايات تدور حول هذا الجو الخانق عبارة عن إنذار آخر: قتلته ضربة شمس! كذلك إن فكرة الموت موجودة بحضورها الكلي في هذه الاستعارة عن الصحراء: عملاق خفي يجلد رؤوسهم، الرامزة إلى تحدي الطبيعة الشرسة، الطبيعة التي تلتهم الإنسان بالتدريج، هذا من ناحية، وإلى قلق الركاب المستفحل في وحدتهم مع أنفسهم، من ناحية أخرى.
لكن وجود شط العرب يلطف من جو اللوحة:
“نحن في آب! إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ إنه الشط! ألست تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك؟” (ص 38) “في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقًا قاسيًا إلى النور…” (ص 37)
الرطوبة، حضور الماء، خفقان الأرض، كل هذا يتعارض مع اللوحة الأولى، إضافة إلى أن الابتهال إلى فلسطين الماضي منذ أن استلقى هناك أول مرة، يوازن “الديكور” الحقيقي، ويخفف من وطأة الجو الحالي. لكن هذا المناخ اصطناعي، ليس له أثر المناخ الحاضر، لأنه مؤقت، بينما ترافق الصحراء القاحلة الركاب على الدوام.
إذا كان هذا هو الجو العام للرحلة، فكيف لا نتوقع تدهورًا تراجيديًا للأحداث؟ ما الذي لم يكن مُرْصيًا منذ بداية الرحيل؟ سبق لنا القول إن الاختيار لم يكن حرًا: لقد دفعت ظروف الوسط الركاب إلى الهرب من شبح البؤس. ولكن إلى أية وسائل كان لجوؤهم لتحقيق هدفهم؟ هنا يكمن المشكل كله: لقد اختاروا تعريض أنفسهم للخطر، بينما كل استعدادات السفر، وكل شروط الصفقة، تُظهر بوضوح أنهم تورطوا في طريق زائف:
“كل تلك الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود، أنسيتها؟” (ص 38)
لنلاحظ أن هذا الاستشهاد ظهر في بداية الرواية: على المستوى البِنيوي، يأخذ الطريق أبعادًا جديدة، فالسارد يطرحه على بساط البحث كرهان حقيقي لدرجة أن قصة الرحلة كلها تصبح معه عبارة عن عِبرة لطريق خادع، وهكذا تذوب أوهام الركاب كلها في سراب طريق يقودهم إلى الإخفاق.
إلى أي حد كان الطريق رمزيًا؟ (51)
لقد أطلق أبو الخيزران، عند نهاية الرواية، صرخة على شكل سؤال، هذا السؤال الأخير هو ما أعطى الرواية كل المغزى الرمزي الذي أراده كنفاني:
“لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟”
فكيف نفسره؟
1 – يجري طرح هذا السؤال على النفس، مما يعبر، بالتالي، عن الإحساس بالخطأ، وبداية الشعور بالوعي.
2 – في السؤال أيضًا محاولة لتبرئة الذات، وإلقاء التَّبِعة على الغير.
3 – يفسر هذا السؤال، من ناحية أخرى، أن أبطال الرواية كانوا سَلبيين فعلاً، وذلك عندما لم يروا كم كان الطريق وهميًا، فلم يكن السبب الأساسي لموتهم هو الاختناق بين جدران الخزان، إذ لم يحصل ذلك إلا بعد فوات الأوان، ولكن لأنهم وقعوا في فخ الثروة السهلة.
4 – يلخص هذا السؤال مفهوم التطبيق العملي، “البراكسس” في الفلسفة الماركسية، محاولات تغيير العالم، وبخاصة وسائل الإنتاج التي تقوم عليها البِنى الاجتماعية، وفي الفلسفة الوجودية، ما به ينكشف الوجود في التاريخ.
5 – يدوم هذا السؤال في أصدائه دوام عدم وجود حل للقضية الفلسطينية، هذا من السهل قوله، لكن من الصعب قوله شيئًا آخر: المعرفة التي يعمل على إبرازها سؤال كهذا في شروط تاريخية معينة –حسب جريماس- ما هي سوى جزئية، فيبدو الوصف الروائي “كبراكسيس” يعمل معًا والرسالة-الحالة وموديلات البناء والكودات، ليصل إلى زيادة فهمنا للرسالة وفهمنا للموديلات التي هي ماثلة فيه.
ختامًا لتحليلنا، نستخلص ميزات الرواية الرئيسية التالية:
1 – تصور هذه الرواية قسوة المنفى تحت كافة أشكاله، وهي تمثل نقدًا ذاتيًا للفلسطينيين يكشف عن عدم القدرة على حل بؤس المنفى.
2 – لا تزود هذه الرواية بعد بحل إيجابي، ولا تخلق بطلاً ثوريًا، ليس لأسباب الشتات الذاتية، ولكن لأسباب موضوعية ترجع إلى عدم كفاية تطور حل تاريخي.
3 – توضح هذه الرواية وهم “الفارويست” الذي كان أصل الانقضاض على الذهب اعتقادًا بأن الثروة توجد بعيدًا في “أرض النعيم”. لقد كلف هذا الوهم تاريخيًا حياة آلاف البشر الراحلة صوب كاليفورنيا على العربات، لتكتشف في طريقها كل البؤس (هنود مسافات بعيدة صحراء). كذلك، تتطابق أسطورة الولايات المتحدة الأمريكية، “البلد ذات الفرص اللامحدودة”، على أسطورة الكويت، حيث كل الإمكانيات متوفرة –كما يدَّعون- لصنع ثروة.
4 – من وجهة نظر إيديولوجية، يثبت كنفاني أن هذه الرواية تمثل فهمًا عميقًا لحقيقة المنفى، ومن وجهة نظر بِنيوية، أن هذه الرواية تشير إلى دراية كبيرة بعالم المنفى، بالمبادئ التي ينتظم بها هذا العالم، وبالتعبير عنها تحت شروط تاريخية معينة.
5 – من وجهة نظر نقدية، تذهب هذه الرواية ذهاب الخطة التي اتبعناها في التحليل اعتمادًا منا على نظائرها المختلفة –كما يرى جريماس- باحثين في الوقت نفسه عن الوصول إلى النظير البِنيوي الأوحد للرسالة التي تحملها، وإلى تحديد، بالقدر المستطاع، الإجراءات التي تسمح بذلك.
مراجع
(51) أورد الدكتور إحسان عباس، في مقدمة المجلد الأول من الأعمال الكاملة، أنه قابل غسان كنفاني برأي معارض مفاده أن رجال في الشمس لم تنجح جيدًا في إيصال البعد الرمزي الذي أراده الكاتب، وقد دحض كنفاني اعتراضه مؤكدًا أن روايته قد عبرت على نحو رائع عن كل الرمزية المبتغاة، ولنذكُر أن عباس قد انحاز إلى كنفاني بعد قراءة ثانية للرواية.
3 – ما تبقى لكم: مواجهة الحقيقة
1 – مقدمة حول الرواية وموضوعها
لهذه الرواية المكتوبة عام 1966 أهمية تاريخية كبرى بسبب وقوعها بين انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 وحرب الأيام الستة عام 1967، وهي في تراكيبها السردية تعبر عن مرحلة بين حدثين كان لهما أثر كبير على الفلسطينيين من ناحية، وعلى العرب من ناحية ثانية، كذلك تعتبر هذه الرواية نقطة انطلاق إلى أفق جديد.
في “أرض البرتقال الحزين”، يقدم غسان كنفاني نوعين للبطل: البطل المستسلم والبطل المتمرد. في “رجال في الشمس”، يعيد بتطور أكثر، وبالتفصيل، وصف البطل المستسلم حتى نهايته التراجيدية. وعلى العكس، يقترح في “ما تبقى لكم”، البطل المتمرد الذي يتطور نحو حالة البطل ما قبل-الثوري. نقول يقترح لعدة أسباب منها: ما يطبع بطل كنفاني من ازدواج المسيطِر والمسيطَر عليه، مما يشكل إمكانياته وحدود إمكانياته، وليس إمكانياته وعدم إمكانياته، كما يدعي النقاد، وهم بذلك لا يقيّمون الرواية كأساليب متداخلة الأشكال، ولا يرونها كنظام موحَّد في العلاقات، فالشخصيات الخمس في الرواية، حامد ومريم وزكريا والساعة والصحراء، تتقاطع فيما بينها، وهي قادرة على تكوين تبلرات مزدوجة بنسب مختلفة، وبالتالي هي ازدواج فردي، وازدواج جماعي، “لا تتحرك في خطوط متوازية أو متعاكسة، كما سيبدو من الوهلة الأولى، مثلما يقول كنفاني في التوضيح السابق للرواية، ولكن في خطوط متقاطعة تلتحم أحيانًا إلى حد تبدو فيه وكأنها تكون في مجموعها خطين فحسب.” (ص 159)
استخلاصنا السابق يجعل من نص كنفاني حقلاً مفتوحًا على “الوضوح”، بينما موقف النقاد يجعله حقلاً مغلقًا على “الغموض”، كما يؤكد إحسان عباس في مقدمة المجلد الأول من الأعمال الكاملة، أن النقاد قد وجدوا هذه الرواية “غامضة” (ص 11). ما يهمنا ليس موقف النقاد الذي يحل محل موقف البطل، كالعادة، ليغدو النص غامضًا، ما يهمنا هذه الازدواجية التي يتم بناؤها على كل مستويات السرد، والتي من الضروري لازدواجية كهذه أن تكون غامضة، يقدمها كنفاني في توضيحه تحت استعارة “عالم مختلط” (ص 159)، وعلى العكس، يضفي هذا العالم المختلط على الرواية، من وجهة نظر بسيكولوجية، أهمية خاصة.
على غرار “رجال في الشمس” التي أثبتت للمرة الأولى أن وهم البحث عن الثروة ليس إلا سرابًا، تُظهر هذه الرواية للمرة الأولى أن إحدى الوسائل الأساسية للتغلب على الوهم تكمن في مواجهة الفلسطيني المباشرة لعدوه الإسرائيلي، ليس بحسب لغة خشبية، وإنما بحسب سردية تطرح الفاعل الإسرائيلي كواضع اليد على معلومة كاملة تخص الأحداث، كما يقول أومبرتو إيكو، مما يدفع إلى حال يتفوق فيها الفاعل الفلسطيني على الفاعل الإسرائيلي، ليضع يده على المعلومة، هذا التفوق الذي يتوقف عليه، أي على الفاعل الفلسطيني، والذي يذهب باتجاه مهماته العديدة، تحت شرط قيادته لنفسه، فلا أمر لأحد عليه، وبدافع استغلاله للمعلومة كما يجب عليه استغلالها، لهذا هو لا يعرف المخرج الذي ستؤدي مغامراته إليه.
قبل أن نبدأ تحليلنا نقترح كفرضية عمل الأطروحة التالية:
يتمرد البطل على حاله البائسة في اللحظة التي يشق فيها طريقًا آخر يسمح له بمواجهة حقيقة المنفى. (52)
2 – بنية التحام الأبطال الرئيسيين الخمسة
الأبطال هنا عبارة عن نتاج للمنفى، لكل منهم وضعه المختلف: حامد ومريم أخوان، زكريا عشيق مريم وخائن للوطن، وهم يمثلون جميعًا وجهًا لفلسطين المنفى. ترمز الساعة والصحراء إلى الزمان والمكان اللذين يحويانهم، واللذين يرتبطان بشكل وثيق بحياتهم، وسيتطور هؤلاء الفواعل الخمسة بالتدريج نحو حال جديدة تظهر بوضوح عند آخر الرواية. إضافة إلى ذلك، إنهم يتبادلون فيما بينهم علاقات ثنائية: حامد/مريم، حامد/زكريا، حامد/الصحراء، حامد/الشمس، مريم/زكريا، مريم/حامد، زكريا/مريم… يتواجهون عَبرها، يتقاربون، يتباعدون، يفترقون، ليلتحموا في فصل التمرد الأخير عند آخر الرواية.
حامد هنا، إن صح القول، المحور الذي يتحرك من حوله باقي الفواعل، ليجدوا سبب وجودهم، وهو يمثل عنصر المتمرد الذي يشعر بنفسه قويًا وضعيفًا في وقت واحد، عندما نقرأ:
“…فخطا إلى الأمام تاركًا لخطواته أن تصدر فحيحًا مخنوقًا، مستشعرًا ذلك الإحساس الذي كان يملأه دائمًا حين كان يلقي بنفسه في أحضان الموج: قويًا وضخمًا ويتدفق بصلابة لا تصدق ولكنه مملوء، أيضًا، بالعجز المهيض الكامل.” (ص 162)
هذا التناقض السيكولوجي: قوة/عجز هو أساس ما يتصف به حامد، ويدرك حامد عجزه منذ بداية الرواية عندما تستسلم أخته لزكريا:
“لقد حرصتُ عليكِ حرصي على حياتي ذاتها أيتها البقرة، أمضيت كل أيامي وأنا غارق في خدمتك الصغيرة ليلاً نهارًا بلا كلل. وكنت أريدك امرأة شريفة تتزوج ذات يوم رجلاً شريفًا، ولكنك فتحت فخذيك لأول رجل. لأول نتن. وجئت تحملينه في أحشائك، دون أن تكترثي لحظة واحدة بي.” (ص 186)
لن نتطرق إلى كل ما يحمله النص من معان: الرجولة، العالم البطريركي، النظرة الدونية للمرأة، قمعها، معنى التضحية، معنى الشرف، معنى الاكتراث، لكننا سنحاول إثبات فرضيتنا بكل حيادية.
بناء على ذلك، يدرك حامد عجزه من خلال استسلام أخته لأول رجل رغم أنه كان “رجلها” الذي لم يقصر في حقها، ويدرك أيضًا – للازدواج البِنيوي- أن البؤس مصدر هذا الانحطاط، وبالنتيجة، يصبح وسطه الاجتماعي حافزًا يدفعه إلى البحث عن تعويض في مكان آخر، فيأتي هذا الإحساس بالقوة الذي يستحوذ عليه من حين إلى حين. كذلك، يجدر الإشارة إلى أن تبكيت الضمير يسيطر على أخته مريم، فهي تشعر بأنها مذنبة لاقترافها هذا الفعل: خمس وثلاثون سنة من العمر، تحس بلا شك بأنها عانس، وهي على اقتناع بضعفها التام، فتستسلم لقدرها عندما تخاطب نفسها:
“أيتها المسكينة الصغيرة يا مريم! أي بؤس أمضيت حياتك فيه جعلك تقبلين بهذه النهاية أنت يا وردة “المنشية” بأكملها، الطموحة المتعلمة، ذات الأصل والفصل، أية حياة تعيسة جعلتك تقبلين زكريا بأعوامه كلها وزوجته وأولاده زوجًا؟” (ص 195)
يبدو الاستسلام للقدر بسبب الازدواج القائم بين مريم الوردة الطموحة المتعلمة وحياة مريم التعيسة، ازدواج هو في الوقت نفسه تعارض، بينها وبين نفسها، وبينها وبين أخيها. هذا التعارض بين مريم وأخيها قائم أيضًا بشكل لافت للنظر بينها وبين زكريا الذي تنفر منه بكل الأحوال حينما تقول:
“كان ضئيلاً بشعًا كالقرد…” (ص 167)
وحينما يقول لها أخوها:
“أتعتقدين حقًا أنه سيستحق الحياة ذلك الطفل الذي سينشأ في ظل رجل مثل زكريا؟ وتردد لحظة واحدة، ثم قالها كما اعتاد وكما توقعت: النتن.” (ص 217)
فكيف من الممكن أن تقوم علاقة اتفاق بين وردة “المنشية” ونتن المخيم؟
ولمريم طبع أقل حزمًا من حامد، فهي لا تظن لحظة واحدة أن باستطاعتها العيش بشكل مختلف، بينما يبحث حامد بكل الوسائل عن إيجاد معادل في مكان آخر. أما زكريا، فهو نذل بعيد عن الشرف لم يحس “بالذنب” الذي اقترفه، وفي سوابقه إثبات بكونه رجلاً انهزاميًا مثلما يدل عليه الاستشهاد التالي:
“…تقدم الضابط فركله، وتولى جنديان إيقافه على قدميه الواهنتين: أنا أدلكم على سالم (المقاتل)… ثم جاء صوت طلقة واحدة، فيما أخذنا ننظر إلى زكريا، وكأننا جميعًا متفقون على ذلك.” (ص 176)
زكريا إذن، كعنصر بِنيوي، عدو وطني خان قضية شعبه، كتركيب تعبيري: لقد وجد نفسه في المنفى مع آخرين أكثر منه بؤسًا دون أن يمنعه ذلك من سوء معاملتهم، مما يؤكد أنه لم يسحب أية عبرة من حاله.
إذن مما في زكريا من قيم مذلة للواقع، يجد حامد في تعلقه العميق بالأرض سببًا آخر ليبعد عنه اليأس، وليفك كود المنفى:
“ودون أن ينتابه خوف أو تردد استلقى على الأرض، وأحس بها ترتعش تحته كعذراء… فغرس أصابعه في لحم الأرض، وذاق حرارته تسيل إلى جسده.” (ص 169)
تتطور صورة الأرض المرأة هنا عما هي عليه في “رجال في الشمس”، هناك كانت وهمًا، وهنا حقيقة فاعلة: عذراء، ترتعش، تسيل. الحب هذا سيدفعه خلال تمرده، وسيعمل كأهم عنصر دلالي من عناصر “برنامجه”.
بالمقابل، لا يرتبط زكريا بشيء، يهزأ من هؤلاء الذين يدعون القيام بأعمال كثيرة، مثل حامد –على حسب رأيه- ولا يعملون شيئًا في الواقع.
أما مريم، فتتراوح بين الموقفين السابقين، إنها تكابد لوعة التعلق بالأرض عَبر أخيها، وفي الوقت نفسه تقترب من زكريا الذي يتجسد فيه عارها عندما تقول:
“لا تقل لي ذلك حتى لو فكرت فيه، فأنا خائفة منه إلى درجة لا أجرؤ فيها القضاء عليه، عاري، لكنه زكريا، عاري الوحيد في خمس وثلاثين سنة طاهرة ومخزونة.” (ص 180)
يثبت موقف مريم من عارها الذي هو زكريا أن استسلامها مصحوب بفهم إن لم يكن بوعي لا يتعدى هذا الطور في الوقت الراهن، لكن الأهم بِنيويًا هذا “التقاطع” بين الشخصيات الذي تكلم عنه غسان، وهذا التعارض الذي هو تقابل في نفس الوقت في خطين ظاهرين بين ثلاثتها، فنجدنا هنا في صميم العالم الخارجي، وفي خطين خافيين لدى مريم، فنجدنا هنا في صميم العالم الداخلي، هناك جماعيًا، وهنا فرديًا، فالعامل هنا نفسي، والعامل هناك واقعي.
من ناحية ثانية، هذه الشخصيات الثلاث تعبر عن التقاطع فيما بينها عندما تعيش في نفس الإطار المكاني، وتعيش أيضًا في نفس الإطار الزماني، وبينما الزمن التاريخي هو نفسه بالنسبة للجميع، فإن الزمن النفسي ليس نفسه في مجراه وسرعته بالنسبة لكل واحد منهم.
إن الساعة، بطل الرواية الرابع، هي التي تمثل الزمن. لقد قدمها حامد هدية لأخته، وهكذا تشكل الساعة رابطًا بينهما. وهي ذات أهمية، لأنها تصاحب حياة الشخصيات في المخيم:
“ومنذ ذلك اليوم وهي معلقة هناك، تدق خطواتها الباردة كصوت عكاز مفرد بلا توقف. تدق. تدق. تدق…” (ص 171)
إنها جزء لا يتجزأ من حياة الشخصيات (معلقة دومًا هناك). إضافة إلى ذلك، إنها شخصية حظت بالحياة (تدق وتدق وتدق)، لكنها حبيسة “داخل نعش خشبي” (ص 170)، بمعنى أنها تحوي حياة المخيم حيث اللاجئون أموات-أحياء. وإذا كانت الساعة تختنق على هذا النحو، فلأن الزمن النفسي يشير إلى الصفر.
بالنسبة إلى حامد ومريم وزكريا، ستساير الساعة الأحداث: مثلاً عندما يقرر حامد الرحيل ليرى أمه، وتجلس مريم وحيدة، فإن دقات الساعة تدوي وخطوات حامد في الصحراء، بينما تواصل رنينها البارد المعدني في حجرة مريم.
عند زكريا، الزمن النفسي ليس موجودًا، يحدُّه لاوعيه على العيش من يوم ليوم، لا يعيش إلا لرغائبه.
ويجمعهم الزمن في مكان معطى: الصحراء، فالكاتب لا يعطي تفاصيل كثيرة عن المخيم ومدينة غزة، ولكن عن الصحراء التي برزت بجلاء على امتداد الرواية، وعَبر هذا العنصر البِنيوي الهام ستتم عودة حامد إلى فلسطين. ليس لأن حامد فاعلاً استثنائيًا، ولكن لأن الصحراء هنا كقيمة وطنية، ليس لأن قراءة النص تدفع إلى تخيل حامد كبطل استثنائي، كشاب كما كان دومًا، كما سنرى، ولكن لأن المفارقة هنا كقيمة تعبيرية، التعارض والازدواج بين الصحراء (الانبساط الذي لا نهاية له) والمخيم (التل والطريق) جعلا منه ذلك.
تقول الصحراء:
“وكنت مبسوطة أمامه، مستسلمة لشبابه بلا تردد، ولخطواته وهي تدق في لحمي. ولكنه مثلهم كلهم، خاف من الانبساط الذي لا نهاية له، حيث لا تلة ولا طريق… ثم سار فجأة، شابًا كما كان دائمًا، مملوءًا بالغيظ والاختناق والحزن.” (ص 173)
الصحراء شخصية من لحم ودم، تتعاطف مع حامد (مستسلمة لشبابه)، تنزع منه الخوف، بعد أن عرف طريقه الصحيح (إلى فلسطين وليس إلى الكويت).
وهكذا، فإن للشخصيات الخمس ميزات خاصة تتقاطع في مجموعها لتكوِّن قطرين، الأول زماني، والثاني مكاني، وبمعنى آخر، تلتحم هذه الشخصيات في نفس الزمان وفي نفس المكان.
لهذا، عندما غادر حامد مريم لم يبق لها سوى زكريا والساعة، فتصف لنا حالها حينما تقارن بين دقات الساعة وخطوات أخيها: “لم يبق منه إلا أصوات خطوات معدنية تدق على الجدار بلا نهاية مثل عكاز فقد اتجاهه.” (ص 172) لقد توقف لزكريا هذا الزمن السائب ببطء، إنه ينام قربها، فَتَرِدُ على لسانها المقارنة التالية: “أنت مستغرق في النوم على بعد شبر واحد مني. بعيد… كالموت.” (ص 172) نائم أم ميت الأمر سيان لفاقد الإحساس بالزمن!
نفس الإطار الزماني الذي يجمع الشخصيات الثلاث في مكان مختلف، بينما يتطابق الزمان التاريخي على الزمان النفسي لمريم وحامد اللذين يقضهما القلق، هما الاثنين، بسبب البعاد.
هذا وقد تم التعبير عن تجميع الشخصيات في نفس الإطار المكاني عَبر هذه الاستعارة المبتكرة:
” أرض خصبة مزروعة بالوهم والمجهول تتكسر كل أنصال الفولاذ في العالم إذا مرت فوق صدرك الأصفر العاري، صدرك الأجرد الممتد إلى أبدي وإلى آبادهم، والسابح بجلال في بحر من العتمة، كل أنصال الفولاذ في العالم ليس بمقدورها أن تحصد من فوقك عرقًا واحدًا. ولكنها تتكسر، واحدًا وراء الآخر، أمام حصادك الصلب النامي أكثر فأكثر كلما خطا الرجل إلى أعماقك خطوة وراء الأخرى، حتى ليتحول هو ذاته إلى عرق مجهول مشرش يستقي منك انتصابه وخطواته.” (ص 179-ص 180)
يتوجه زكريا هنا بحديثه إلى مريم، فيشبهها بالأرض الخصبة، ولكن الغريبة، التي لا نعرفها جيدًا، والتي تتطابق مع الصحراء بصدرها الأصفر، الأجرد، ومن نفس الزاوية يطابق قدره على وجود مريم الممتد إلى أبده، أي يطابق قدره على الصحراء. أما الرجل الذي يخطو في أعماقها، فهو حامد الذي يستمد قوته وانتصابه من هذا المدى الأجرد. بالإجمال، يتم الالتحام بين الشخصيات الثلاث داخل الإطار المكاني: الصحراء، الذي يشكل مع الإطار الزماني خطين متقاطعين يلتحمان أحيانًا.
المراجع
(52) يعتمد تحليلنا على رواية ما تبقى لكم، المجلد الأول من الأعمال الكاملة، من ص 159 إلى ص 233.
3 – بِنية الالتحام الزماني والمكاني (53)
سنرى الآن كيف تَجمع هذه الرواية الأزمان الثلاثة (ماضي حاضر مستقبل) داخل وَحدة زمانية ومكانية واحدة، ولنحدد بدقة أن المقصود هنا الزمان التاريخي العيني والمكان الحقيقي الواقعي حيث تتحرك الشخصيات.
نلاحظ أن الماضي ينقسم إلى اثنين: ماض في فلسطين سابق لاغتصاب 48:
“وفي اليوم التالي تمامًا اشتعلت يافا كلها، وأصبحت المنشية مكانًا مسودًا لا تكف فيه أصوات الرصاص…” (ص 190)
وماض في المخيم سابق لرحيل حامد:
“لقد تركته يلوثها، أعطته نفسها في ربع ساعة مسروقة منه، وحين زرع الطفل في رحمها، كان قد أمسك به من عنقه: أنت حر، زوجنيها أو لا تفعل، فلست أنا الذي أخسر.” (ص 167)
يتراكب الماضي في فلسطين والماضي في المخيم ليلتحما في دائرة زمنية واحدة تنتمي إلى عصر انتهى بالنسبة لحامد، على الرغم من دورانه المستمر في الحاضر. (54)
كذلك يمثل المكان في فلسطين والمكان في المخيم نفس الوجه: فلسطين المقهورة التي أدت إلى المخيم في المنفى، مما يفرض التحام هذين المكانين.
ونفس الشيء، ينتمي الحاضر إلى واقع المخيم:
“وجاء بهدوء، وأشعل الضوء، وجلس في الكرسي المقابل، وأخذ ينظر إليّ عازمًا على الخوض في حديث طويل.” (ص 191)
وإلى واقع الصحراء:
“أضحت الأضواء الآن ورائي ملتصقة في نهاية الأفق باهتة وصامتة، وتصاعد الهدير متصلاً وراء الهضبة حيث مضت الشاحنات تشق طريقها الليلي، إلا أنني كنت في مأمن.” (ص 190)
لدينا هنا حدثان حاليان يسيران في وقت واحد: سير حامد في الصحراء وحياة مريم في المخيم، بينما يواصل الحاضر مجراه لكلتا الشخصيتين: في تواصله التحام ينتهي –مثلما سنرى- بالتحام فعل الشخصيتين الأخير عند نهاية الرواية.
من ناحية أخرى، ليست الصحراء سوى الامتداد المكاني للمخيم، مع حركة تعاقبية: تتصادى خطوات حامد في الصحراء بينما تحصي مريم دقات الساعة إلى أن تصبح الحركة واحدة عَبر مكان واحد متمثل بالتحام المخيم والصحراء.
كذلك فإن المستقبل عبارة عن زمان مزدوج لخطين ملتحمين، فهو ينفتح نحو أفق جديد، طبقًا لحركة حامد التي لا تني، إلى نقطة بعيدة في الصحراء، وكذلك طبقًا لحركة مريم المتواصلة إلى نقطة ما بعد المخيم.
وتتعاقب الأزمان الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، مع تداخلها في الوقت نفسه، قليلاً قليلاً، كلما توغلنا في الأحداث، دون أي فاصل واضح بينها. لقد ساهمت أحاسيس وأفعال الشخصيات في مزج هذه الأزمان الثلاثة في وَحدة زمنية مشخصة وحقيقية تتطابق مع الأمكنة المتوافقة إلى حد لا يمكننا معه أن نميز أي انفصال بينها. من هنا كان الالتحام القائم بين الوَحدة المكانية والوَحدة الزمانية، حيث تتلاقى كل الشخصيات.
4 – انفتاح الطريق: نحو آفاق جديدة
كانت فرضيتنا: يتمرد البطل على حاله البائسة في اللحظة التي يشق فيها طريقًا آخر يسمح له بمواجهة حقيقة المنفى.
كيف يمكننا إثباتها؟
يقرر حامد، بعد حادثة استسلام أخته، أن يقطع الصحراء ليرى أمه في الأردن، يضيع في الطريق، وبدل أن يتجه إلى الأردن، يسير نحو الجنوب، كما يقول النص: “وانصب بشكل يكاد يكون مستقيمًا نحو الجنوب…” (ص 178) ليجد نفسه في الطريق المؤدي إلى فلسطين (قال لنا أحد أصدقاء غسان المقربين إن الحادثة وقعت لغسان بالفعل عندما ضاع في الطريق إلى الكويت، فقلب الطريق روائيًا إلى فلسطين).
ابتداء من هذه اللحظة، لا يتراجع حامد أبدًا. بعيدًا عن أن يُحِلَّ منفى محل آخر، يحاول أن يتحكم بخوفه العابر، فالحل الذي يبحث عنه هناك، في الوطن الأم عندما يقول الراوي: “لقد جعل من أمه البعيدة ملجأً يؤمه ذات يوم صعب…” (ص 194) نقول “الحل” لا لنضيف إلى “الإنشائيات النقدية” ما هو مليء بها، ولكن لأن حامد غدا قيمة تحريرية وطريقة وظيفية في برمجة العودة مقابل ما فيه من نزعة نموذجية إلى التحرير. لتحقيق ذلك، على حامد أولاً أن يواجه الطريق المزروع بالعقبات:
“وأخذ يغوص في الليل، مثل كرة من خيوط الصوف مربوط أولها إلى بيته في غزة، طوال ستة عشر عامًا لفُّوا فوقه خيطان الصوف حتى تحول إلى كرة، وهو الآن يفكها تاركًا نفسه يتدحرج في الليل.” (ص 162)
تفسر المواجهة الأولى هذه بين حامد والليل: أنه كان مجبرًا على حياة غير عادية مثقلة بالبؤس يعيشها في المخيم حيث أوثقوه بالقوة. والآن يحاول أن يقطع كل صلة له بالماضي، وذلك بتحديه العتمة وكل ما ترمز إليه. يؤكد هذا التحدي النجاح، ما دام حامد يشعر بأنه هو والليل على مستوى واحد:
“لقد شعرتُ، من ثَمَّ، براحة أكبر وأنا أنفرد بالليل دون وسيط. انهدم الجدار فجأة، وأصبحنا نِدَّيْن في مواجهة مباشرة لعراك حقيقي بسلاح متكافئ، وبشرف.” (ص 190-ص 191)
حامد ليس سلوكًا استثنائيًا إلى هذه الدرجة، ليس تأويلاً نقديًا مبالَغًا فيه، إنه كجيمس بوند –حسب أومبرتو إيكو- الذي جعل المؤلف فليمنج منه شخصًا عاديًا، لكن بالمفارقة مع زكريا كما رأينا، ومع الجندي الإسرائيلي كما سنرى، انبثق قَوامه الحقيقي قَوام المغامر الشجاع المُعارِك المواجه للصعاب دون أن يملك هذه الصفات بالفعل. ما يقوله عن مواجهته لليل دافعه قوة أخلاقية بالأحرى، تمامًا كجيمس بوند، ووفاء لواجب، مع مطاردة فعلة أخته المتمثلة بالعار، هذا العار هو الذي يسمح له بالقيام بأفعال “ميتافيزيقية” فوق-طبيعية (يقول عنه وعن الليل أصبحنا نِدَّيْن) دون أن يمارس قوى فوق-إنسانية.
يفسر شعور حامد بالراحة تطوره التدريجي منذ تركه المخيم، وينسب هذا الشعور إلى حقيقة أن حامد المغامر قد أصبح حامد المتمرد عَبر مواجهة مباشرة مع الليل، الكيفية كما قلنا وأسبابها شيء آخر، وبالنتيجة، يجتاز حامد الطور الأول للتمرد ليتقدم نحو طور أعلى. وبينما يواصل سيره في الصحراء، يسمع بعض الخطوات، ثم يقع على جندي إسرائيلي:
“كنت مسلحًا بقدرتي على مفاجأته فقط. وأورثني هذا السلاح شعورًا بقوة مجهولة تعمل إلى جانبي. لقد أخذت أصوات خطواته تعلو بوضوح، وخمنت أنه لا بد أن يكون مسلحًا… وفجأة، صار أمامي تمامًا، فدفعتني الأرض دفعًا إلى فوق، ووقعنا معًا. وفي اللحظة التي أمسكت فيها عضديه بكفيّ وأنا أضغط جسدي فوقه، تيقنت أنني أقوى منه.” (ص 205)
كما حصل مع الليل، يحصل الشيء نفسه مع الجندي الإسرائيلي، القدرة على مواجهته دافعها قوة مجهولة، تناقض وجداني، حب-كره متبادل: حامد لا يواجه عدوه الأساسي، حامد يبحث عن تفسيرات نفسية لتمرده، فيحرر على طريقته نفسه من المأزق الذي أوقعه فيه كنفاني: الأرض التي تدفعه، ضغط جسده فوق جسد الجندي كمن يعانقه، قوته الأقوى، إنه نوع من محاولة قتل الأخ (أو الأخت فلا ننس مريم التي كانت السبب في كل هذا)، فها هو يجرده من السلاح، ويحتفظ بالسكين:
“كانا في ذلك الخلاء المترامي جالسين كشبحين لا يفصل بينهما إلا نصل، وظهرا كشيئين غير حقيقيين تحوم حولهما ريح الموت الباردة، بانتظار لحظة الحقيقة…” (ص 207)
في نهاية المطاف، كنفاني هو من اضطر حامد إلى أخذ هذه الطريق (ألم نذكر أن كنفاني هو من ضاع بالفعل؟)، طريق التحرير بأي ثمن (لجيمس بوند كانت طريق الواجب حسب أومبرتو إيكو)، ليدخل حامد، كما دخل بوند، في اتصال “بالشرير”، فيعمل التماثل بينهما (يقول كشبحين) على صنع قيم عديدة غير حقيقية (يقول كشيئين غير حقيقيين) للحقيقة التي هي بالانتظار.
بانتظار الحقيقة: هزيمة حامد لعدوه كما يريد النص، بينما ما لا يريده النص هزيمة الجندي الإسرائيلي لحامد، مما يوقع كنفاني بطله في مأزق لن يكون الخروج منه بقتل الجندي وإنما بقتل زكريا، لأن حامد والجندي الإسرائيلي شخص واحد في نهاية المطاف، زوج مَثَلي، لا يفصل بينهما إلا نصل اللواط، بما أن حامد يمثل الرجولة والجندي العجز.
لقتل زكريا لا بد إذن من وسيط فاعلي: مريم، التي تواجه في نفس اللحظة، زكريا في المخيم، وهي حامل بأربعة شهور، عندما يطلب إليها زكريا أن تتخلص من الجنين، فتعترض:
“ليس بوسعنا التخلص منه بعد، ليس بوسعنا التخلص منه.” (ص 225)
أول رفض يصطدم به زكريا، وكذلك أول شعور بالشناعة، وكأخيها، كقيمة أخلاقية تدفعها إلى اجتراح ما لا تقدر عليه، ولكن لتنفيذ ذلك لا بد من دور استبدالي تستعيض به عن ضعفها وبؤسها، ولن تلعب هذا الدور بسهولة، فتتردد بتركها زكريا:
“وفجأة تَكَشَّف لي، وأنا واقفة هناك، أنه ليس بوسعي أيضًا التخلص من زكريا.” (ص 225)
على غرار أخيها أول ما بدأ، تحس بنفسها ضعيفة وقوية في وقت واحد، في اغتراب دائم، مغتربة بوسطها ومغتربة بجسدها. تتهرب من واجباتها الحقيقية، وتترك الأمور على علاتها، فتسقط مرة أخرى في التردد: لا يمكنها أن تتخلص من الطفل ولا يمكنها أن تتخلص من زكريا، وأن تتخلص من زكريا يعني أن تنجز أحد الاختلافات الخلقية التي لها، تمامًا كأخيها مع الجندي الإسرائيلي كاختلاف خلقي له، إلا أنها في مرحلة الاغتراب القمعي تلك، تفعل العكس، تلتصق بزكريا، بالبؤس.
لكن هذا لا يعني سرديًا ألا يكون زكريا شخصية استبدالية، بما أنه يمثل “الشر”، وله منه الكثير من السمات الأخلاقية، التي تتناقض مع السمات الأخلاقية لمريم، بما أنها تمثل “الخير”، فعندما تصل الأمور إلى حدها الأخير، وتدرك مريم تمامًا كيف أصبحت حياتها الجحيم، تنتصب في وجه زكريا:
“وأخذتُ فجأة أصرخ بكل ما في حنجرتي من قوة، محاولة أن أطفئ صوته في صراخ مجنون يملأ كل شيء.” (ص 229)
أول مواجهة مباشرة تعارض فيها مريم القوة بالقوة، أول محاولة لإطفاء صوته بصراخ يملأ كل شيء، فهي تستبدل هنا شخصيتها بشخصية زكريا، أليسه شخصية استبدالية. عند تلك اللحظة، وبشكل تناظري، في الصحراء، يدرك حامد أن بقدرته استبدال شخصيته بشخصية الجندي، أي بالقضاء عليه:
“ولمحتُ في وجهه، من جديد، تلك المسحة الخرساء من الرعب العاجز، وأدركتُ أنه سيكون بوسعي ذات لحظة أن أجز عنقه دون رجفة واحدة، وأن هذه اللحظة ستأتي لا محالة…” (ص 228)
بانتظار هذه اللحظة، تكون مريم قد نفذت فعل أخيها، عندما طعنت زكريا، فانتقلت من الإدراك إلى الفعل:
“كان النصل مندفعًا بين كفيّ المحكمتي الإغلاق، وأحسست به حين ارتطمنا يغوص فيه، فأنَّ أنينًا طويلاً، وحاول أن يرتد، إلا أن النصل جذبه من جديد، فأنزل كفيه ووضعهما فوق يديّ المتشنجتين فوق المقبض وأغمض عينيه.” (ص 230)
زكريا والجندي الإسرائيلي، ما هما سوى “بديلين غامضين” (هذا هو الغموض الذي لم يفهمه النقاد)، كما يدعوهما أومبرتو إيكو، بديلين غامضين لمريم ولحامد، بينهما وبين حامد ومريم هناك نوع من التحالف التنافسي، فهما يحبانهما ويخشانهما في وقت واحد، يستخدمانهما ويعجبان بهما، يسيطران عليهما ويخضعان لهما.
لقد التحمت حركة حامد وحركة مريم في فعل واحد كان “كل ما تبقى لها، ما تبقى لكم، ما تبقى لي، حساب البقايا، حساب الخسارة، حساب الموت.” (ص 215)
الرهان الكنفاني هنا يضع البدائل خارج السرد على رأس جيش عارم، الوقائع التي تلت تاريخيًا أثبتت الهزيمة تلو الهزيمة، فجمعت هذه البدائل في بدنها كل القيم السلبية، وأصابت صاحب البلد (الفلسطيني) والمستوطن فيه (الإسرائيلي)، “فللبرمجة” التي ترمي إليها العبارة “ما تبقى لكم” منهجية لن توفر أحدًا، إلا أن شعاع الشمس: “وأضاء شعاع الشمس الضيق المتسرب من النافذة خطًا رفيعًا من الدم” (ص 233) يشير إلى التحول كضرورة تاريخية (انتبه أنا لا أقول كحتمية تاريخية) عَبَّرَ عنها شعاع الشمس عندما أضاء.
المراجع
(53) يؤكد كنفاني في “توضيحه” أن التحامًا يوجد كذلك بين “الزمان والمكان بحيث لا يبدو هناك أي فارق محدد بين الأمكنة المتباعدة أو بين الأزمنة المتباينة، وأحيانًا بين الأزمنة في وقت واحد.” (ص 159)
(54) أطلق المستعرب الكبير أندريه ميكيل على الماضي الذي يستمر في دورانه خلال الحاضر “الماضي الذي يمضي”، أي “le passé passant” مأخوذًا من الاسم “ماضي”، بمعنى سارٍ مع دوام السريان. وهكذا عندما يذكر حامد يافا سنة 1948 وحياة المخيم، فهو يعيش من جديد كل الأحداث التي دارت في ذلك الوقت، ويصبح للماضي نفس أثر الحاضر.
5 – التقنية الأدبية
البِنية السردية معقدة جدًا، فالراوي هو الكاتب، الذي يبقى محايدًا، وكذلك هو حامد ومريم، وعدا عن دور الراوي، يلجأ حامد ومريم إلى الحِوار الداخلي (المونولوج) والحِوار.
من الواضح أن المونولوج هو أكثر الوسائل الثلاث أهمية هنا، لكنه في الواقع حِوار داخلي، تقوم خطته على تفاصيل معقدة هي خليط من وقائع النفس ووقائع العالم، ألم يتكلم غسان كنفاني في توضيحه عن “عالم مختلط”؟ إنه جهاز من الكودات التي يجري فكها إلى ما لا نهاية. وبما أن هناك انفصام الشخصية للشخصيات، يرجع المونولوج إلى واحدة أو أخرى منها، باستثناء زكريا الذي يشذ عن القاعدة، فهو لا يتكلم مطلقًا، بل حامد ومريم هما اللذان يتكلمان عنه.
في بداية الرواية، يتكلم الراوي عن حامد الذي يقطع الصحراء: “صار بوسعه الآن أن ينظر مباشرة إلى قرص الشمس معلقًا على سطح الأفق…” (ص 161)، ويستمر الراوي في الحديث حتى صفحة 169. يأخذ حامد الكلام بدلاً منه، ويقيم حوارًا مع الصحراء: “ليس بمقدوري أن أكرهك، ولكن هل سأحبك؟ أنت تبتلعين عشرة رجال من أمثالي في ليلة واحدة…” (ص 170) وفي الحال تواصل مريم: “ليس ثمة من تبقى لي غيرك، وأنت تبدو بعيدًا، رغم أنك في فراشي.” (ص 170) وبعد عدة أسطر يعود الراوي إلى الظهور: “ونظر إليها بين ذراعيه: ساعة حائط، ولكنها تشبه نعشًا صغيرًا، أليس كذلك؟” (ص 170) وتضيف مريم: “ودخلنا، واتجه مباشرة إلى الغرفة التي كنا ننام فيها…” (ص 170)
يمضي هذا التتابع حتى نهاية الرواية… إنه التصور البِنيوي للرواية، الذي هو أقرب إلى منهج سيرة (سي في)، تحاول كل شخصية إيجاز حياتها لتحقيق ذاتها الإنسانية، فتدخل في تفاصيل معقدة لا غنى عنها.
كذلك فإن تقنية الفلاش باك معقدة جدًا: تبدأ الرواية بداية مفتوحة، وقد صار حامد في وسط الصحراء، ثم يأخذ الراوي باستعمال الفلاش باك ليعيد وضعه في الماضي، وعلى التحديد في المخيم، معطيًا إيضاحًا عن شخصيته، حوافزه، سوابقه. هنا يحدثنا حامد عن أخته مريم وزكريا، فيبدأ الحدث في التطور لنفهم سبب رحيله.
بإمكاننا تحليل هذه التقنية كالتالي: الحاضر في الصحراء (ص 161-ص 162)، فلاش باك عن الحالة في المخيم (ص 162-ص 168)، الحاضر في الصحراء (ص 168-ص 169)، فلاش باك عن الحالة في المخيم (ص 170-ص 173)، الحاضر في الصحراء (ص 173)، فلاش باك عن الحالة في المخيم (ص 173-ص 175)، فلاش باك مضاعف عن الحالة في فلسطين (ص 175-ص 176)، فلاش باك عن الحالة في المخيم (ص 176-ص 178)، الحاضر في الصحراء (ص 178).
يتعاقب الحاضر والماضي بانتظام، وينطبقان في الوقت ذاته على أماكن متوافقة: الحاضر هو الصحراء، والماضي هو المخيم. ونلاحظ أن البداية المفتوحة، أي الحاضر في الصحراء، تلتحق بالنهاية المفتوحة (55)، أي الحاضر ذاته في الصحراء ذاتها.
يعطينا هذا التعاقب المتماسك إنارة ضرورية وكافية لاستباق الأحداث، وتوقع النهاية. وبمكن تفسير الرجوع إلى الحاضر باكتمال ماضٍ سَلبي، وانفتاح مرحلة إيجابية، على أساس تحقيق الوهم السردي، فنحن في صميم التقنية الروائية التي هي وهم سردي لحقيقة تاريخية، وبكلام آخر تقوم العلاقة بين المرحلتين السلبية والإيجابية على أساس حل التعارض بينهما للدخول في علاقة جديدة إيجابية، ولكن تحت سلطة العامل السَّلبي الذي يقوم بدور المنشط للإيجابي، تحت معنى تأنيس الإيجابي بنقيضه، وعدم الوقوع في شَرَك الأخلاقية الأحادية الجانب.
يوجد أيضًا توافق زمني على مستوى الشخصيات: يتكلم الراوي في الحاضر أولاً قبل إدخال الفلاش باك، ومتى وضع حامد في الماضي، يبدأ حامد التكلم في الحاضر، لتتدخل مريم معبرة عن نفسها من خلال الماضي، لأنها لا تستطيع بعد أن تتخلص من بؤس المخيم الذي يلقي بثقله على كتفيها، طالما أنها لم تنجز بعد فعل التمرد. يعود الراوي إلى التدخل من الحاضر إلى الماضي، نظرًا إلى الموقف المحايد الذي له تجاه الأحداث الجارية، فيظهر حامد من جديد ليذهب بنا عَبر الحاضر دائمًا، محاولاً أن يفتح ثغرة على المستقبل.
تثبت هذه التقنية مرة أخرى أن الشخصيات تتقاطع فعلاً على مستوى الأحداث التي تربطها بالحاضر، أو، بالماضي، وتترك كل منها المجال للأخرى كي تتدخل في الوقت المحدد، هذا يعني كذلك أنها بعيدًا عن تعارضها لبعضها تتكامل فيما بينها.
في هذا الصدد، نجد في اختيار الضمائر إيحاءات هامة، فضمير الغائب “هو” متبوع بضمير المتكلم “أنا”، الذي يخلفه ضمير الغائب “هو” من جديد، ثم ضمير المخاطب “أنت” أثناء الحِوار، وأخيرًا عودة إلى ضمير الغائب “هو”. أي يقوم الضمير بصيغة المفرد بإقصاء الضمير بصيغة الجمع للتشديد على الطابع الفردي للشخصيات، ولتوضيح أن الفعل الأخير في الرواية ليس فعلاً جماعيًا بل فرديًا. كذلك يجسد استعمال الضمير بصيغة المفرد بساطة الوسط حيث يعيش الفقراء، وهو يحمل في “تلوثه” كل النقاء.
لنختم تحليلنا بهذه الملاحظات:
1 – تستبدل هذه الرواية، على عكس “رجال في الشمس”، لحظة البؤس بلحظة ما-بعد البؤس، لحظة تمضي بفعل تراجيدي، يجري التعبير عنه ابتداء من فهم الأسباب الموضوعية للمنفى.
2 – تتشكل هذه الرواية من عالم مختلط تصعب جدًا متابعته، لكنه الانعكاس الحي لواقع مختلط حاول الكاتب ترتيبه حسب عملية جبرية يجهل حلها، وإلى اليوم لم يتحدد كودها، لهذا كانت نهايتها المفتوحة كبدايتها.
3 – لجأ كنفاني في تقنياته الأدبية إلى اللوحات (رجال في الشمس)، أو الحبكة الروائية المكثفة في لوحة واحدة (ما تبقى لكم)، وسنرى في أعماله اللاحقة (أم سعد على الخصوص) هيمنة اللوحات من جديد، كما يدعو الكاتب كتابته، وليس هذا من الصدف الغريبة، لكون غسان كنفاني رسامًا، والرسم مفتاح كتابته.
4 – أثر الرسم كبير في هذه الرواية، كل صورها توحي بعمل فنان، لكن جمالها ليس شكليًا فقط، جمالها ينهل من مضمونها النفسي الذي كان التأثر بويليام فوكنر من ورائه، فقد أوردت زوجة كنفاني أنه قرأ رواية “الصخب والغضب” بالإنجليزية، مما يطرح مسألة التوازي بين بطلتي الكاتبين.
5 – تدفع هذه الرواية إلى مقارنة بطلها بجيمس بوند كما حصل معنا، وبالتالي دور الصدفة في لعبة الكتابة لدى غسان وفي لعبة الواقع، فالصدفة هي التي تجعل من جيمس بوند ما هو عليه، وكذلك الحال بالنسبة لحامد، ولكل الأبطال الكنفانيين، كل واحد عبارة عن بِنية لصدفة مختلفة.
المراجع
(55) يفسر إهداء الكاتب “إلى خالد، العائد الأول الذي ما زال يسير” تطور الحركة التي نستشعرها في الرواية، كذلك طول الطريق الذي يجب عبوره.
4 – أم سعد: حركة ثقافية اجتماعية سياسية
1 – مقدمة حول الرواية وموضوعها
كتبت رواية أم سعد عام 1969، بعد حرب الأيام الستة بعامين، فلم تستسلم للهزيمة على طريقتها، وحاولت أن تقاتل القيم السَّلبية الموروثة لعالم عربي في أزمة منذ زمن طويل. منذ الصفحة الأولى، يتكلم غسان كنفاني عن “تلك الطبقة المسحوقة التي تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة، تدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع.” (ص 242) بهذه الكلمات القليلة أراد الكاتب أن يوجز الأبعاد الرمزية لشخصيته الرئيسية “أم سعد”، وأن يعبر على طريقته عن غنى معاركها الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولن تمنع لهجتنا الصارمة بخصوص القيمة الفنية لهذه الرواية من القيام بتحليل بِنيوي لها، لأن كل إنتاج أدبي هو موضوع نقدي، ولأن كل رواية –في رأي اللساني الفرنسي كلود بريمون- ترتكز على خطاب دامج لتعاقب أحداث ذات منفعة إنسانية، هذه المنفعة هي التي من وراء “غنى” أم سعد، والتي ارتبطت بمشروعها الإنساني. بفضل المشروع الإنساني للرواية، أية رواية، تأخذ الأحداث معنى –كما يضيف بريمون- وتنتظم في سلسلة زمنية بِنيوية، عَبَّرت لوحات أم سعد التسع عنها، هذه اللوحات التي سنقسمها في دراستنا، القائمة على علم الأعراض، تقسيم مجموعات ثلاث اعتمادًا منا على القوانين التي تحكم العالم السردي، وعلى حَسَب هذه القوانين لكل مجموعة علاقة مستقلة، هذه اللوحات كذلك التي سنبرزها في تقسيمنا، القائم على التعاقبات، إبراز تقنيتها اعتمادًا منا على غياب الخط القيادي في الرواية وفي الحَبكة مقابل الصيرورة في السلوك وفي الحدث. (56)
2 – أم سعد: سمات خاصة لعالم خاص
أ – البعد الزماني
يكمن عامل الزمان الباني للرواية في عُنوان اللوحة الأولى “أم سعد والحرب التي انتهت”، أي نحن غداة حرب 67، ويحوي هذا المدى الزماني الواسع عشرين عامًا من عمر المنفى بعد اغتصاب فلسطين، وهو المستوى الزماني الأول.
أما المستوى الزماني الثاني، فيخص عمر أم سعد، أربعون عامًا تندرج في إطار سابق للمستوى الأول تمثل تطور الفلسطيني بصفة عامة: كانت أم سعد شاهدًا عينيًا لثورة 36-1939، لنكبة 1948، ولحرب 1967. عاشت تحت الاحتلال البريطاني، وتابعت عن مقربة الكفاح من أجل الاستقلال، شاهدت التغلغل الصهيوني، وبسرعة فهمت البِنية الخائنة للوجهاء والحكومات العربية.
ب – البعد المكاني
مزدوج كذلك: يجري قسم كبير من الرواية في مخيمات ضواحي بيروت والباقي في إسرائيل، ويتفرع عن المكان الإسرائيلي بُعد مكاني مزدوج قائم في فلسطين الجغرافية، فلسطين 1939 وفلسطين 1967.
يتوافق هذا البعد المكاني المزدوج مع البعد الزماني المزدوج المذكور أعلاه: تعيش أم سعد في الأماكن ذاتها حيث تدور الأحداث، من ناحية، بينما يقوم ابنها الفدائي بشن العمليات العسكرية في إسرائيل، من ناحية ثانية.
الانقسام المتفرع عن البعد المكاني في إسرائيل عبارة عن “فلاش باك” تستخدمه أم سعد دومًا، وهو ينتمي إلى خريطة الإمكانيات المنطقية للرواية.
ج – التعاقبات السردية
اعتمادًا منا على اللساني الفرنسي بريمون، قمنا بتصنيف لوحات الرواية التسع في ثلاث مجموعات لكل مجموعة ثلاث لوحات تبقى الوَحدة القاعدية فيها “الوظيفة”، وظيفة الأفعال والأحداث التي في مجموعها يجري توليد الرواية على شكل تعاقبات:
التعاقب الأول: بعد نهاية حرب 67، تأتي أم سعد عند الراوي الذي من عادتها تنظيف بيته، والذي يقوم بدور المثقف: “عالية، قوية مثل شيء ينبثق من رحم الأرض…” (ص 245) ومعها عرق عنب يابس قطعته من دالية صادفتها في الطريق. ستزرعه له، ليأكل عنبًا في المستقبل. تحدثه عن ابنها الذي يرغب في أن يصبح فدائيًا (نهاية اللوحة الأولى).
في الغد تعود أم سعد إلى العمل عند الراوي، وتخبره بشيء من الزهو أن ابنها قد التحق بصفوف المقاومة (نهاية اللوحة الثانية).
خلال صباح ماطر، تأتي عند الراوي من جديد، وهي تغرق في ماء المطر، وثيابها ملوثة بالطين. تنفجر باكية، بعد قضائها طوال الليل، وهي تجرف الوحل في المخيم. تقول للراوي إن ابنها يتسلح الآن ببندقية، ولن يبكي أحد بعد اليوم (نهاية اللوحة الثالثة).
التعاقب الثاني: نشاهد كيف انخرط سعد في صفوف المقاومة، فقد دفعت نكسة 67 الكثير من الشباب الفلسطيني إلى ساحة القتال، لكن كانت السلطات تلقي القبض عليهم. وهو يحاول الاتصال بالفدائيين، تلقي القبض عليه، وترميه في السجن. يسعى المختار إلى إطلاق سراحه قائلاً إنه أساء التصرف، فيرفض سعد الاستماع إليه، ويرفض وساطته. رغم ذلك، كانت أم سعد تفكر في أن هناك “أحدًا” سينقذ سعد، وتتحقق فكرتها كنبوءة عندما يلتحق ابنها بالفدائيين، ويرسل إليها من يقول بأنه سيهديها سيارة. في نفس اليوم، يسمع المثقف خبرًا من المذياع مفاده أن سيارة عسكرية إسرائيلية تفجرت.
أفعال متعاكسة: ظهر في التعاقبين السابقين فاعلان متعاكسان: المثقف الذي يشارك أم سعد رأيها، ويبدي تأييده للثورة، والمختار الذي يمثل السلطة، وتشكل أفكاره المتخلفة عقبة في وجه الثورة. بينما يزود الأول رؤية جديدة للعالم، يؤبد الثاني الوضع القديم للأشياء، وهذه مرحلة أولى من صيرورة تمثلها المجموعة الأولى للوحات الثلاث، في وظيفتها تحت شكل السلوك الذي من اللازم اتباعه، أو الحدث الذي من اللازم التنبؤ به.
نتناول الآن المجموعة الثانية للرواية التي تحتوي على اللوحات الرابعة والخامسة والسادسة، والتي تقترح التعاقبات السردية التالية:
التعاقب الأول: يقدم هذا التعاقب من جديد حِوارًا بين أم سعد والمثقف، فتحكي الأم كيف دافع ابنها عن نفسه أثناء إحدى المعارك، وهو محاصر من طرف قوى العدو، وكيف ظن أن أمه قد طارت لنجدته، بينما في الواقع، لم تكن الأم سوى تلك القروية التي تسكن في نفس الناحية، والتي جاءت لتجلب المؤونة لسعد ورفاقه: طويلة، قوية، تذكّر قامتها بقامة أم سعد (نهاية اللوحة الرابعة).
نجد أنفسنا مرة أخرى في مخيمات ضواحي بيروت، فتخبر أم سعد محدثها عما فعله السكان ضد طائرات العدو، فقد ذهبوا جميعًا لالتقاط الحدائد المدببة التي رمتها لإعاقة عبور سيارات الثوار في اللحظة التي هرب فيها الأغنياء تاركين سياراتهم (نهاية اللوحة الخامسة).
تحكي أم سعد عن بعض أحداث إضراب 36، فتتذكر، وهي تحكي، المقاتل القديم “فضل” الذي قضى عليه أحد الوجهاء الإقطاعيين، والظروف التي انتهت بها الثورة. لقد كان موت “فضل” موت كفاح شريف، وكانت خيانة هذا الإقطاعي الذي حصد ثمار معركة “فضل” تؤكد، في رأي أم سعد، خيانة الحكومات العربية (نهاية اللوحة السادسة).
التعاقب الثاني: يعود سعد إلى البيت بعد تسعة شهور قضاها مع رفاقه الفدائيين، فتحكي أمه للمثقف عن جرح في ذراعه، وتقول إنه سيلتحق برفاقه حالما يبرأ جرحه، ثم نعلم أن سعد قد بعث رسالة بواسطة أمه إلى عائلة “ليث”، رفيقه المقاتل الذي تم اعتقاله، مهددها بالموت فعلاً سيكون واجبًا عليه إن طلبت من ذلك الإقطاعي الذي قضى على المقاتل القديم “فضل” التدخل لإطلاق سراحه.
أفعال متعاكسة: يظهر تعاكس واضح بين فعل الفقراء الذين يخوضون غمار المعركة أو يتقدمون بلا خوف تحت قذائف طائرات العدو وبين فعل الأغنياء الذين يمتلكون مساكن مريحة آمنة بعيدًا عن كل خطر. كذلك الشيء نفسه بشأن مقاتل 36 الذي استسلم للإقطاعي ليصبح ضحيته يعاكسه مقاتل 67 الذي لا يتردد عن تهديد “عبد المولى” دون استسلام، وهذه مرحلة ثانية من صيرورة تمثلها المجموعة الثانية للوحات الرابعة والخامسة والسادسة، في وظيفتها تحت شكل السلوك الذي من اللازم اتباعه، أو الحدث الذي من اللازم فعله.
أما المجموعة الثالثة لفصول الرواية الأخيرة، فتحتوي على التعاقبات السردية التالية:
التعاقب الأول: تحكي أم سعد –خلال حِوارها مع المثقف- كيف لوحقت من طرف حارس العِمارة التي كانت تنظف درجها، فقد رفضت العودة إلى الشغل بعدما عرفت أنه كان يخص امرأة لبنانية من الجنوب، أم لأطفال عديدين. كانت الأجرة سبب إعطاء أم سعد هذا الشغل، بعد أن وافقت على قُبول خمس ليرات يوميًا بدلاً من سبع يدفعونها للأم اللبنانية. كان الحارس يجري من ورائها لترجع، فقط من أجل أن يوفر على مالك العِمارة ليرتين، فيحصل على رضاه (نهاية اللوحة السابعة).
تُلاحَق أم سعد أيضًا من طرف “الأفندي”، أحد رجال المباحث، لتوقيف ابنها بسبب نشاطاته الفدائية، لكنها تواجهه بثقة، “تخاف عليه” (ص 325) من غضب ابنها وإرادته. أمام إرادة البندقية، تتلاشى إرادة رجل المخابرات، ويصبح موضع سخرية وتحدٍ. وكذلك تبدو معتزة بسلسلة من المعدن تنتهي برصاصة تعلقها على صدرها (نهاية اللوحة الثامنة).
تتكلم أم سعد في الوقت الحاضر عن التغيير الذي لاحظته على زوجها: أصبح قليل التذمر، ولم يعد عابسًا كالسابق. يتكلم عن السلاح بدلاً من سفاسف الأمور، ويتابع بأمل بريقه في الشمس. زد على ذلك، كل شيء تغير الآن، أصبح الجميع، وليس أبو سعد وحده، أكثر تعلقًا بأولئك الشباب، فخورين بحملهم السلاح (نهاية اللوحة التاسعة).
التعاقب الثاني: تدلي أم سعد بانطباعاتها عن المخيم، لم يعد مخيم الماضي الموحل، أصبح بفضل الفدائيين نقطة انطلاق نحو تحرير فلسطين. تعود إلى الوراء، وتذكر كيف كابد أبو سعد وأشباهه كل أنواع الذل: بطاقة الإعاشة، أكواخ الزنك، اضطهاد السلطة، هذه هي العناصر التي تفسر بؤس الماضي. عندما ذهب سعد ليقاتل، خلصهم من هذا الجو الخانق، أصبح أبوه يرى الحياة من زاوية نظر أخرى، فلديه، على الأقل، شعور بأن الكفاح هو الوسيلة الوحيدة لتحطيم سلاسل العبودية.
تنتهي أم سعد من الإدلاء بانطباعاتها، وتخرج لترى نتيجة ما صنعته يداها، غصن العنب الذي زرعته في اللوحة الأولى، فتزف للمثقف بشرى أن الدالية برعمت، والغرفة تفوح برائحة الريف.
أفعال متعاكسة: بدت بوضوح مصالح مالك العِمارة ومالك السلطة اللذين عبَّر عنهما الحارس ورجل المباحث، والتي يعاكسها تحدي أم سعد وسعد وبندقيته. كذلك يعاكس الحجاب القديم الذي تحمله أم سعد منذ عامها العاشر، والذي صنعه شيخ دجال، يعاكس ويعارض الحجاب الجديد الذي قدمه لها ابنها الفدائي. أفعال متعاكسة لكنها برعمت كدالية العنب، مثلما رأينا في التعاقب الثاني، وهذه هي المرحلة الثالثة من صيرورة تمثِّلُها المجموعة الثالثة للوحات الثلاث الأخيرة، تختم في وظيفتها هذه الصيرورة تحت شكل نتيجة تم التوصل إليها.
ختامًا لهذا الفصل، نلاحظ أن مجموعة اللوحات الأولى للرواية تُظهر وجهًا أوليًا للمخيم وللإنسان الفلسطيني مباشرة بعد حرب 67، بينما تلقي المجموعة الثانية الضوء على أنواع الكفاح، أما المجموعة الثالثة، فتظهر وجهًا آخر للمخيم وللإنسان الفلسطيني، وذلك تبعًا للوظيفة التي تقوم بها كل منها، مثلما رأينا بالتفصيل، في الصيرورة السردية عندما عمل الراوي على جعل السلوك أو الحدث حينيًا، والحسم في التحيين –في رأينا- سبب من أسباب لهجتنا الصارمة بخصوص القيمة الفنية لهذه الرواية، فهو لا يترك للحدث حريته في السير أو عدمها إلى ما هو متوقع بل إلى ما هو مُلْزِم.
الآن نقترح فرضية العمل التالية التي ستعيننا كنموذج لتحليل الرواية:
أم سعد كأدوار تتوافق مع حقول الفعل “الثوري” رغم قسوة المضمونين التاريخي والاجتماعي
المراجع
(56) سيعتمد تحليلنا على رواية أم سعد، المجلد الأول من الآثار الكاملة، دار الطليعة، بيروت 1972، من صفحة 241 إلى صفحة 336.
3 – بِنية المكان: تعارض فلسطين/منفى
تبدو ثلاثة أماكن رئيسية بشكل واضح، وذلك طبقًا للتسلسل التاريخي القائم في النص: المنفى في مخيمات اللاجئين في لبنان، فلسطين، مخيمات اللاجئين من جديد. تبعًا لذلك، هناك تعاقب لأحداث يجرى التعبير عنها بلا تناسق غير الزمان، وبلا ترابط غير المكان. ولأن هناك مكانين متعارضين، فلسطين والمنفى، تتعاقب الأحداث في نوعين من الحالات، المتدهورة في مخيم البؤس، والمتطورة في مخيم الثورة. في المكان الأول تعيش أم سعد مع زوجها وأطفالها وعائلات أخرى، وفي المكان الثاني يتدرب سعد كفدائي. إذن تعاقب الأحداث في نوعيها ضروري لتحديد الأمكنة في نوعيها، فتصبح الأمكنة إطارًا لِلَّوحات كنظام سردي، إطارًا للأحداث كعناصر لِلَّوحات، وشرطًا للتطور السردي، في مخيم البؤس حيث الحالات متدهورة كمخيم الثورة حيث الحالات متطورة، أي أن التطور في السرد يكون لَمَّا هو متدهور كحالة ولَمَّا هو متطور كحالة، وإلا لَمَا اكتمل رسم اللوحة، ولَمَا كانت بين أيدينا “أم سعد” كنص.
إذن ليكون النص، تتحرك عناصر المكان سَلبًا أم إيجابًا، وفي تحركها السَّلبي كالإيجابي ينبني النص، وسياقيًا تتحرك هذه العناصر إيجابًا، حتى في المكان الذي من المفترض أن يكون ساحة للحالات المتدهورة: مخيم البؤس. لهذا، مع أن مخيم البؤس مكان كابح لساكنيه، إلا أن هؤلاء يرمون إلى التحرر منه بأفعالهم اليومية، فتقودهم أم سعد، وتحاول إخراجهم من هذا المكان، وذلك بتشجيعها ابنها على الالتحاق بصفوف المقاومة، بالمكان النقيض، فالتطور كإمكانية سياقية، مقابل التدهور، هو الذي سيمشي. لقد استطاع الشباب الذين أصبحوا فدائيين تحطيمَ القيد، وتجاوُزَ الكابح كمكان ضيق، إلى المكان الشاسع الأرجاء، فلسطين، حيث يقومون بإجراء عملياتهم ضد العدو.
لنر كيف يتعارض المخيمان في المجموعة الأولى للوحات الرواية:
“…ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب؟ الحبوس أنواع يا ابن العم! أنواع! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والراديو حبس، والباص والشارع وعيون الناس، أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية حبس، والمختار حبس، تتكلم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس، أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس الذي تعيش فيه مزهريات؟ حبس، حبس، أنت نفسك حبس…” (ص 255)
تتتابع التعاسات كالشلال –مثلما يرى كلود بريمون- بحيث أن التدهور ينادي التدهور، غير أن القصور الذي يطبع نهاية التدهور الأول، والحال هذه، ليس المنطلق الحقيقي للتدهور الثاني. يعادل دِعام الوقف هذا –التأجيل- وظيفيًا مرحلة من مراحل التطور، أو على الأقل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. منطلق المرحلة الجديدة للتدهور –مثلما يضيف اللساني الفرنسي- ليس الوضع المتدهور، ولكن الوضع الذي لم يزل مُرْضِيًا، لم يزل قابلاً للتطور، لهذا تتعاكس مع الصورة الكامدة (الحبس الذي أخذ شكل الوجود) صورة المخيم الذي اشتعل “مثلما يضع الإنسان عود كبريت في كوم تبن…” (ص 335)
الشيء نفسه فيما يخص صيرورة التطور نحو الأفضل، ليست هناك صيرورتان، ولتضمين هذا القصور، يُدخل الراوي في روايته ما يساوي مرحلة التدهور: أم سعد تعي تمامًا أن المخيم حبس، وهي تقاتل ضد هذا الوضع، بجرف الوحل مثلاً، بالتقاط متفجرات العدو، بإرسال ولدها إلى الجبهة، فتؤدي هذه الأفعال (من جوه التدهور) إلى خلق تصور جديد للمنفى، وعلى الرغم من دوام وضع القصور نسبيًا، سيُستخدم هذا الوضع ليكون منطلق مرحلة التطور. لم يعد لدينا تشيؤ الفلسطيني في المخيم، وإنما انقلاب كلي في موازين القوى: من داخل هذا المكان المتدهور يجري الاتصال بفلسطين، إذ يذكِّر عرق العنب بدوالي الخليل، كذلك “حين يُسقى فولاذ الرشاشات تُضحي له رائحة الخبز…” (ص 281)
في المجموعة الثانية للوحات الرواية يتبدل المكان، نحن في إسرائيل، لقد دخلنا، بفضل عمليات الفدائيين، إلى قلب فلسطين 48 نفسها:
“قال إنه كان في فلسطين، غرَّب كثيرًا، وظل يمشي جمعة أو أكثر مع أربعة من رفاقه. قال إنه قرَّب كثيرًا من البلد، ثم اختبأوا في الزرع…” (ص 281) ومن ناحية أخرى، يجري الاستشهاد بفلسطين 36، لنكون في قلب هذا المكان أيضًا (على لسان أم سعد ص 303-ص 315).
على عكس ما يريده النص -نقول “على عكس” تبريرًا لموقفنا المعروف من الرواية- نحن هنا في أرض محصورة، في حالة حصر وعدم وجود منفذ للمرور، فيكون فشل صيرورة التطور الناجم عن إدماج صيرورة معاكسة تمنعها من الوصول إلى غايتها الطبيعية، كما نرى رؤية بريمون، بعد أن أثبتت الوقائع أن “قلب” فلسطين ليس الساحة التي يتحقق فيها النصر. حقًا هذه الفلسطين هي دِعام الماضي كدافع ومحفز الحاضر كفعل، لكن التطور المبتغى كصيرورة، من هذه الناحية، يعادل التقهقر الممكن كصيرورة، فيعادل التطور الذي لم يحصل التقهقر الذي تم.
نجد المخيم من جديد في المجموعة الثالثة للوحات الرواية، لكن تحت شكل آخر، فالحدث يجري في مخيم ثوري، ولا يمكن بحال ربط صيرورة التطور بصيرورة التقهقر. هذا المخيم يقوم في المنفى غير أنه لا يتواقت معه، فهو يرمز إلى التغيير الذي أجراه الشباب على حالهم البائسة، وذلك عندما اختاروا الكفاح المسلح في مقابل كل موقف سَلبي: “فجأة تغير كل شيء…” (ص 331) التواقت ممكن بين الصيرورتين عندما يكون المكانان ممثليْن لمصالح متعارضة، المنفى بصفة عامة وفلسطين بصفة عامة، مخيم البؤس كتصغير للمنفى ومخيم الثورة كتصغير لفلسطين.
يجب علينا إضافة أن الكاتب، عندما يصف أبطاله، يُجري أحيانًا مقارنة بينهم وبين الأماكن: “فجأة رأيتها قادمة من رأس الطريق المحاط بأشجار الزيتون، وبدت أمام تلك الخلفية من الفراغ والصمت والأسى مثل شيء ينبثق من رحم الأرض.” (ص 245) “ودخلت أم سعد، ففوَّحت في الغرفة رائحة الريف…” (ص 246) إذ ترتبط الأماكن، على الرغم من كل شيء، ارتباطًا وثيقًا بحياة الفلسطينيين اليومية، فتقهقر مصير الواحد يتماكن مع تطور مصير الآخر: لنفهم أثر الشخصيات على المكان، والعكس بالعكس، يجب قياس أهمية المكان عند الشخصيات، وبالتالي إدراك أهمية مفهوم البطل، فلكل بطل مفهوم بطولته. وفي السياق الفلسطيني، لكل بطل مفهوم مكانه. لهذا، لم يعرض كنفاني أماكنه كتفاصيل بسيطة. أضف إلى ذلك، إن أحداث الرواية تنتقل داخل هذا التعارض: فلسطين/منفى، وإن تغيير الأماكن يعبِّر عن تطور البطل إلى ثائر أو تقهقره إلى بائس. يجب ألا يحتار البطل فيما يختار: لقد قبلت أم سعد بحرية انخراط ولدها سعد في صفوف المقاومة، وسيطلق هذا الاختيار أكثر من بديل على المستوى الفردي، وأكثر من بديل على المستوى الجماعي.
4 – بِنية البديل: الثقافي الاجتماعي السياسي
يكمن البديل الأول، أي أحد الأمرين المخير بينهما، في التعارض القائم بين المثقف والمختار، ومع أن المثقف لا يعرض أفكاره إلا عَبر أفعال أم سعد، إلا أننا نعرف أنه يؤيد معارك المسحوقين: “…أنت تعرف كيف تكتب الأشياء، أنا لم أذهب إلى مدرسة في عمري، ولكن نحن مثل بعضنا. يا ربي! ماذا أقول؟ أمس في الليل فكرت بذلك جيدًا، ووجدت الكلمات المناسبة، وفي الصباح نسيتها، طيب! أنت تكتب رأيك، أنا لا أعرف الكتابة، ولكني أرسلت ابني هناك، قلت بذلك ما تقوله. أليس كذلك؟” (ص 271)
يقتصر الراوي هنا على الضروري، وذلك بإعطاء إشارات عن صيرورة التطور دون أن يوضح المراحل، في رأي كلود بريمون، دون أن يخصص كيفها، فلا نستطيع تمييز بِنيته كقلم يرتبط دوره بدور الرصاصة (هو يكتب وهي ترسل ابنها ليقاتل)، نعرف أنه يؤيد معارك المسحوقين، ويقف الأمر عند هذا الحد، لا يتعدى ذلك إلى تفاصيل عنه تسمح لنا بالوقوف على أنواع التطور.
يُقَدَّم الشيء نفسه بخصوص المختار، كنقيض للمثقف، ليست لدينا تفاصيل عنه تسمح لنا بالدخول إلى المفاصل الداخلية لشخصيته، وذلك عن طريق عرض لحياته تتشكل منها العمليات السردية، ونقصد بهذا المتن الروائي. مما لا شك فيه أن اختيار تقنية اللوحات هو السبب، لكنه عائق، بالنسبة لعلم الأعراض ليس عَرَضيًا: المختار يفضل الحد من نشاطات الفدائيين التي يصفها بالهدامة، مما يشير إلى صيرورة التقهقر بلا إيضاح لمراحلها، كما حصل مع صيرورة التطور، ويضطر الراوي إلى القفز عن “كيف”، استجابة لتقنيته، وليس استجابة لشخصيته: عندما يذهب المختار ليطلق سراح سعد ورفاقه من السجن، يطلب منهم أن يتصرفوا بتعقل وحكمة، وذلك بالتوقيع على تعهد يلزمهم بهذا السلوك، فيرفض الفدائيون، ويرجعونه من حيث أتى هازئين.
نبقى هنا في الحيثيات.
حتى أن اختيار أم سعد للمثقف عنصرًا من عناصر صيرورة التطور لن يكون بدافع “لماذا” بل بإملاء “لأن” عندما تتكلم عن ابنها: “لماذا تعتقدون أن سعد هو المحبوس؟ محبوس لأنه لم يوقع بطريقة أو بأخرى، ومع ذلك فأنتم محبوسون.” (ص 255)
تتضمن حالة الضُّعف لدى كنفاني، في رأي اللساني الفرنسي، وجود عائق يعارض تحقيق حالة أكثر موائمة –نحن هنا في صميم علم الأعراض- والشفاء من هذا الضُّعف يكون عندما يستبعد هذا العائق نفسه بالقدر الذي تتطور فيه صيرورة التطور. لكن ما يجري في النص شيء معاكس، ما يجري في النص تطور صيرورة التقهقر، عندما تشير أم سعد إلى مثقف الماضي الهزيل روحيًا قبل سقوط فلسطين، لتقول فيما معناه إنه لغياب ثقافة قادرة على قيادة الناس (عكس الروح التي يتمتع بها مثقف الرواية كما تعتقد) تجرجرت فلسطين إلى الهزيمة عام 1948، ولا تدري، أم سعد طبعًا، أن العنصر الذي لجأت إليه، أي مثقف أمس، المثقف الهزيل روحيًا، كدواء لما يعانيه مثقف اليوم لم يكن عاملاً من عوامل استبعاد العائق، بل تأكيدًا لهذا العائق، فلو كان مثقف الماضي السبب في عدم سقوط فلسطين (نحن نعكس المقولة)، وبالفعل هناك الكثير من الأسماء النيرة السليمة روحيًا، لو كان مثقف الماضي من نوع مثقف الحاضر، لتم استبعاد العائق، وأكثر من هذا لما أصيب المثقف الكنفاني بحالة من الضُّعف تبدو في ظاهرها ليست يائسة.
ما يريد كنفاني بتفسير التعارض الداخلي بين مثقف المنفى ومثقف الماضي: أن الذهنية المتخلفة هي أصل البلاء الوطني، وهذا صحيح، وأن الفكر المثالي القائم على أساس أن “كل الفلسطينيين أخوة في الدين” هو أصل البلاء الثقافي، وهذا صحيح، وأن اختيار أم سعد “الأمية” يلزم المثقف بتنوير الناس وتثويرهم (ص 310)، وهذا صحيح، لكن ما ليس صحيحًا فنيًا أن الذي من المفترض أن يكون المستفيد في هذا الطور من صيرورة التطور، والذي هو المثقف الثوري، لن يعود عليه النص بأية فائدة، فالنص يشاء بمشيئة أم سعد كبِنية لمديح مغالى فيه، لنبقى في حدود اللفظ لا الفعل الذي هو من مسئولية المثقف الجامع، هو وليس أم سعد، لكل الوسائل المزيلة للعائق، فلا يزيل العائق، وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
البديل الثاني من طبيعة اجتماعية، ومن طبيعة مختلفة عما رأينا بخصوص البديل الثقافي، هناك كان المثقف كفاعل “محايد” لا يتدخل في شيء، وهنا أم سعد كفاعل “مبادر”، من المفترض أن يؤدي مهمته على أكمل وجه، فتنتظم صيرورة التطور في السلوك –كما يقول العالم الألسني كلود بريمون- مما يفترض منطقيًا أن تنبني هذه الصيرورة من شبكة من الوسائل الغائية التي من الممكن أن تُروى بالتفصيل إلى ما لا نهاية. مع الأسف ليست هذه حالة أم سعد، كرواية وكبطلة للرواية، كرواية، صيرورة التطور أعاقتها تقنية اللوحات، وكبطلة، أفلت زمام الأمر من يدها، فلم تقم بدورها كفاعل يؤدي مهمته لصالح المنظفة اللبنانية الفقيرة، السَّلبية في فعلها، في الواقع لا فعل لها، ولهذا هي سَلبية الفعل، فتلعب أم سعد بينها وبين حارس العِمارة دور الوسيط، وهذا شيء جميل، لتبدو “الحليف” لطبقة مسحوقة، لكن الشيء الذي ليس جميلاً نقل الوضع من سيء إلى أسوأ أعراضيًا. عندما أراد الحارس المدافع عن مصالح المالك أن يبث الشقاق بين المرأتين، اختارت أم سعد بدافع موقعها الطبقي التضامن مع الفقيرة اللبنانية، المسحوقة مثلها، وذلك بإعادة العمل إليها، وهي تعبر عن ذلك بهذه الكلمات:
“يريدون ضربنا ببعضنا، نحن المشحرين، كي يربحوا ليرتين. تلك العمارة الكبيرة تساوي أكثر من ألف ليرة، أكثر بكثير، وهم لا يهمهم مع ذلك أن يدفعوا واحدة منا لتقطع رزق الأخرى، وانظر ماذا يفعل ذلك الناطور الكريه! إنه يستجيب لهم…” (ص 319)
المشكل الاجتماعي الكبير ليس في البديل كموقف “طبقي”، كما يريد غسان أن يبلغنا، ولكن كموقف “بِنيوي”، فالعائق الكامن وراء ضُعف العلاقة “الطبقية”، ليس الحارس كفاعل مَرَضي، تواجهه أم سعد كفاعل للشفاء، لكن أم سعد كفاعل للشفاء لا يتشخص في الفاعل “الطبقي”، المرأة اللبنانية الفقيرة، التي من المفترض أن تقوم هي أيضًا بالمبادرة، وتلعب دورها كخصم للأول وكحليف للثاني.
يحاول كنفاني حل هذا المشكل البِنيوي اجتماعيًا في الماضي، عندما يبرز “التعارض الطبقي” السائد في فلسطين قبل اغتصابها، وذلك عندما تتكلم أم سعد عن عبد المولى الإقطاعي من ناحية: “رجل عنده أرزاق، وشغَّل الفلاحين، ويملك زيتونًا وتبغًا يبيعه لشركة قرمان…” (ص 306)، وعندما تتكلم عن فضل المقاتل من ناحية ثانية: “فلاح من حالاتنا، لا أرض ولا مَيّ، وفي الثورة سنة 1936 طلع فضل إلى الجبل، كان حافي القدمين، وحمل مرتينة، وغاب طويلاً.” (ص 306-ص 307) غير أن كنفاني اقتصر على الشخصية في وصفها وليس في فعلها، فهو لو اختار تطوير الوقائع، كما يرى اللساني الفرنسي، لسلك مسلك إيضاح طبيعة العائق القائم بين الفلاح فضل والإقطاعي عبد المولى، وبعد ذلك بِنية الوسائل التي تستخدم –عمدًا وليس بالمصادفة- لإزالة هذا العائق. إذا كانت هذه الوسائل ضعيفة كالمرتينة أو ليست موجودة كما حصل في الواقع التاريخي، كان هناك قصور ذاتي يمثل طورًا من صيرورة التقهقر، وفي هذه الحال المشكل اجتماعي يجب حله، إما عن طريق أن تحل الأشياء نفسها بنفسها، وهذا ما لم يقع، أو أن يكون الحل على يد فاعل يتصرف كحليف، كما فعلت أم سعد مع الفقيرة اللبنانية، وهذا ما لم يوجد، فانقلبت الآية بين الماضي والحاضر، ما يريد كنفاني التأكيد عليه، لكنه لم ينجح في تشخيص المستفيد السَّلبي في الحالتين اللبنانية والفلسطينية، المرأة الفقيرة في لبنان وأم سعد في فلسطين، واستفاد هو كراوٍ من المساعي العشوائية لبطلته.
نقول مساعي عشوائية لأن خطابها، في آخر المطاف، تحكمه الصدفة التي تصاغ بها المعلومة: “ركبوا على ظهره (المقاتل فضل) في المعصرة وفي الجبل ثم في المعصرة، ولو جاء إلى المخيم لركبوا أيضًا على ظهره.” (ص 310) ولو… ل… في الواقع، هي لا تتنبأ بدافع التجربة كما يريد النص أن يوحي بل تلقي كلامها جزافًا مسلحةً بمنطق الصدفة الذي أكثر ما تعبر عنه هذه الفقرة: “فضل مات بعد ذلك، بعضهم يقول إنه مات مسلولاً في المعصرة، وبعضهم يقول إنه مات وزلق في الوادي، وبعضهم يقول إنه قتل في حرب 48، بل إن بعضهم يقول إنه طلع من فلسطين في ال49، وعاد إليها، فقتلوه في الطريق…” (ص 309)
سنمر مرور الكرام على مسألة “المصداقية” التي يسعى كنفاني إلى طرحها من خلال عدم الجزم، فما يهمنا المسعى العشوائي لبطلته كحليف هنا يقوم بدور متأخر جدًا في صيرورة التطور، من هنا يأتي تفسير عدم اهتمام كنفاني كراوٍ بما يروي، فهو يوضح في رأينا الذي هو رأي كلود بريمون ما يريد إيضاحه بواسطة دوافع لا علاقة لها بالمستفيد “فضل” بل بالحليف “أم سعد”، عن طريق تلاقٍ عَرَضي بين قصتها وقصة فضل، فيكون التطوير من صنع الصدفة.
أما البديل الثالث الذي على أم سعد اختياره فهو ذو بعد سياسي: دعم المقاتل ضد التحالف العربي الغربي الإسرائيلي. لقد اختارت أم سعد الكفاح المسلح ممثَّلاً بابنها الفدائي، ومن جوه صيرورة التطور سيواجه سعد العدو الداخلي، رجل المخابرات، كذلك العدو الخارجي، الجندي الإسرائيلي. هناك ما يبرر هذا التدبير، ونقصد هنا الاختيار السياسي لأم سعد، عندما تتدخل كحليف لصالح المستفيد، سعد، لأن سعدًا كمستفيدٍ غيرِ سَلبيّ يستحقُ ذلك.
إن لبندقية سعد أهمية كبرى، بفضلها استطاع أن يشير إلى من هم وراء العلاقات القائمة بإصبع الاتهام، وأن يدينهم سعيًا وراء تبديل هذه العلاقات. لقد مثل رجل المباحث نفس السلطة التي عرفتها أم سعد في فلسطين، والتي كما عملت في الماضي، تعمل في الحاضر على قهر الثورة، من جوه صيرورة التقهقر. لهذا كانت المساعدة المتبادلة بين سعد وأمه تقوم على التضحية عن طيب خاطر في إطار تبادل الخدمات، كما نرى رؤية اللساني الفرنسي، وكان هذا التبادل في المساعدة يكتسي بثلاثة أشكال: 1) مساعدة مقابل مساعدة (أم سعد تترك ابنها ينضم إلى المقاومة فيهديها سيارة عسكرية يفجرها ص 273) هنا يتضامن الاثنان في سبيل ما يشتركان فيه من مصلحة. 2) مساعدة مقابل خدمة ماضية (المقاتل القديم فضل بفضله المقاتل الجديد سعد ص 304) هنا يتصرف سعد كمن يسدي معروفًا أو يرد دينًا. 3) مساعدة بانتظار مساعدة (انسحاب رجل المباحث من المخيم بفضل “حفنة الفدائيين” ليكون فيما بعد وقوف كل المخيم معهم ص335).
هناك إذن ثلاثة أنواع من الأفعال، تواقتية وتعاقبية وتسببية، تتكون منها بِنية البديل السياسي، وهناك ثلاثة أنواع من البدائل، ثقافية واجتماعية وسياسية، تتكون منها ثلاث بِنى مختلفة: الأولى تنغلق في أفقها على المثقف، الثانية تنغلق في أفقها على العامل، الثالثة تنفتح في أفقها على المقاتل.
5 – بِنية الازدهار
لنذكِّر بفرضية العمل التي وجهت تحليلنا:
أم سعد كأدوار تتوافق مع حقول الفعل “الثوري” رغم قسوة المضمونين التاريخي والاجتماعي.
يجدر بنا أن نلقي النور على التعبير الأول “أم سعد كأدوار”: دورها كحليف مساعد، دورها كحليف مِفضال، دورها كحليف معترف بالفضل.
دورها كحليف مساعد عندما تأتي أم سعد عشرة أيام بعد حرب 67 جالبة معها للمثقف عرقًا من العنب قائلة: “سأزرعه لك على الباب، وفي أعوام قليلة تأكل عنبًا.” (ص 249)، بعبارة أخرى لا تزعزع الهزيمة الميثاق المبرم بينها وبين المثقف، وبحسب هذا الميثاق يتبادلان الخدمات، ويضمنان المقابل الذي يعود عليهما من هذه الخدمات، كما يرى كلود بريمون. وعندما تقول “في أعوام قليلة”، يتضمن هذا الميثاق مدى بعيدًا، بينما عندما تقول “تأكل عنبًا”، تستبق أم سعد بحثها عن وسائل النضوج التي يجب اللجوء إليها، في حال وجود تقصير ما يكون عائقًا لهذا النضوج. إنها لا تتفاوض في أمر عرق العنب مع المثقف، فالمثقف يوافقها دون أن يقول، وإلا جعل من نفسه خصمًا عليها واجب إقناعه، وهذا ما تم مع حارس العِمارة، عندما فاوضته في أمر المنظفة اللبنانية الفقيرة، كحليف مساعد، تحت شكل سلمي لاستبعاد الخصم، وعندما فاوضت رجل المباحث، بخصوص ابنها، كحليف مساعد دومًا، تحت شكل عَدائي، جعل منه غير قادر على الفعل أكبر وقت ممكن، وهي هنا تعتدي، واعتداؤها يرمي إلى حذف الخصم.
دورها كحليف مِفضال يتعلق بكل ما تفعله أم سعد لولدها، وفي كل مرة تقوم فيها بما يتماشى مع صيرورة التطور (في علم الأعراض تحسين الحال من جيد إلى أجود) لا بد مما يتماشى مع صيرورة التقهقر (في علم الأعراض تدهور الحال من سيء إلى أسوأ) كشرط مسبق: عندما أعلن عبد الناصر بكلمات المرارة عن استقالته، “جمع سعد رفاقه، وطلعوا من المخيم كالعفاريت. أقول لك إنني لحقت به، أخذت طريقًا مختصرًا وقابلته قرب مدخل المخيم وأسمعته كيف أزغرط.” (ص 250) تدهور الحال (استقالة عبد الناصر) قابله تحسين الحال (زغرودة أم سعد).
دورها كحليف معترف بالفضل يتعلق بكل ما يصف المثقف به أم سعد، وهو في الواقع اعترافه بفضلها هي عليه، فيصل بصيرورة التطور إلى توازن يطبع نهاية كل لوحة. لهذا عندما يصف كفي أم سعد، يقول: “وتحركت كفاها المطويتان في حضنها، ورأيتهما جميلتين قويتين قادرتين دائمًا على أن تصنعا شيئًا…” (ص 263) ومع كل لوحة جديدة، لا بد من المضي بحالة من التأزم وبعرض لفعل الخصم، بمعنى أنه لا بد من الدخول في صيرورة التقهقر، ليكون الخروج باعتراف أم سعد نفسها بالفضل: “أود لو عندي مثله عشرة” (ص 263) تقول عن سعد بفخر. وفي مكان آخر: “وأخذت برهة تفكر في سعد، وأحسته في جسدها كما كان يوم أن ولد، يرجّها بمشاعر لا تستطيع أن تعرف طبيعتها، يملؤها بنوع مذهل من الثقة بالمستقبل، ومن الأمل فيه…” (ص 296)
القسم الثاني سيتركز على التعبير “أدوار تتوافق مع حقول الفعل الثوري”:
يرسم غسان كنفاني الحقل الثوري الذي تلعب فيه أم سعد أدوارها كصورة عنها، وعلى أساس بِنية ازدواج الشخصية الذي تقوم عليه الرواية كصورة عنه، فهو يرى أم سعد في مرآته، يلصق بوجهها وجهه، ويلقي على جسدها ثوبه، ويجعل منها نرجسًا لثوريته. يقول تأكيدًا لما نقول: “كان صوتها دائمًا بالنسبة لي صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غاليًا ثمن الهزيمة.” (ص 242) وقبل ذلك بعدة أسطر: “تلك الطبقة الباسلة، المسحوقة والفقيرة والمرمية في مخيمات البؤس.” (ص 241)
تبدو في هذا الحقل الثوري “لطبقة الكاتب” صيرورة الخطأ على أكمل وجه، وهي في رأي كلود بريمون المهمة التي تم إنجازها مقلوبًا، فالفاعل يلجأ إلى كل الوسائل اللازمة ليصل إلى نتيجة معاكسة لهدفه: “حين تدق باب البيت، وتضع أشياءها الفقيرة في المدخل، تفوح في رأسي رائحة المخيمات بتعاساتها وصمودها العريق، وببؤسها وآمالها…” (ص 259)
منذ قليل الهزيمة كنتيجة معاكسة للبسالة، والآن التعاسة كنتيجة معاكسة للصمود، البؤس للأمل.
أو أنه، أي الفاعل، يلجأ إلى كل الوسائل اللازمة ليحطم كل الفوائد التي يريد الاحتفاظ بها: “ومرة أخرى جلست هناك، ولكنها بدت قوية أكثر مما رأيتها أبدًا…” (ص 266) “كانت أم سعد قد علمتني طويلاً كيف يجترح المنفي مفرداته، وكيف ينزلها في حياته كما تنزل شفرة المحراث في الأرض…” (ص 278)
المفردة “ولكنها” تحطم كل ما يعود عليه من فائدة القوة، والفعل “كان” يشطب دعوى كل شيء في الوقت الحاضر، فالمهمة مقلوبة، في رأي كلود بريمون، وبالتالي تعتبر الصيرورات الضارة كوسائل: كيف تبدو أم سعد قوية أكثر من أي وقت آخر، كيف يجترح المنفي مفرداته. بينما القواعد الضامنة للفوائد يجري العمل بها كعوائق: أن تكون أم سعد امرأة عادية لا ضعيفة ولا قوية، أن تكون ذاتها بلا اجتراح ولا محراث، فقط ذاتها، الإنسانة.
كذلك عندما يلجأ الكاتب إلى التجريد ليرسم الحقل الثوري مثل: “إنه يحمل مرتينته الآن، وتشتي عليه ماءً ورصاصًا.” (ص 270) “سيرجع بعد أن يلحم جرحه.” (ص 287) “كنا كالنمل.” (ص 392) يلجأ في الوقت نفسه إلى ما لا يتعلق بشخص معين، فيتفادى الخطأ، إلا أن أم سعد تخرج عن طوع يد الكاتب، فتخرق القانون بقواعده الضامنة للفوائد:
“قلت لها: لا عليك إنها جروح بسيطة.
– هذه؟ طبعًا، ستمحي. ستمحوها الأيام، سيملؤها غبار التعب، سيتراكم فوقها صدأ الأواني التي أغسلها، وقذارات البلاط الذي أمسحه، ورماد المنافض التي أنظفها، وعكورة المياه التي أغسل بها…” (ص 297)
الخطأ هنا ليس في الخرق نفسه (كل التأكيدات الشخصية السابقة)، ولكن في وهم الخرق الذي يبقى دون عقاب، مثلما يرى اللساني الفرنسي، بما أن العنصر المحرك للخطأ هو وهم أم سعد، وبالتالي هذا التوافق في أدوار أم سعد مع حقول الفعل “الثوري” هو في حقيقته لا توافق، لأن تحسن الوضع أعراضيًا هو تدهور لا يمكن تفادي الخطأ معه، ولهذا السبب فشلت الثورة.
سنلقي النور على التعبير الثالث من فرضيتنا “رغم قسوة المضمونين التاريخي والاجتماعي”:
لنفحص ماهية قسوة المضمون التاريخي والمضمون الاجتماعي: منذ بداية الرواية، لدينا تاريخ محدد، ألا وهو حرب حزيران 1967، هذه الحرب التي كانت سببًا، دون أن يكون بالإمكان تفادي ذلك، لخسارة مضاعفة للمسحوقين الذين تمثلهم أم سعد، عندما نقرأ: “لقد قاتلوا من أجلها، وحين خسروا خسرت هي مرتين…” (ص 246) نكبة 48 ونكسة 67.
جاءت الهزيمة الثانية لتذكِّر سكان المخيمات كم كانت تعسة أمانيهم، وكم كانت وخيمة العاقبة نتائجها التاريخية والاجتماعية، عبرت عنها العبارة التالية: “وراء ظهورنا تراكمت دروع الجنود المحطمة فوق الرمل المهجور، وشقت طوابير النازحين مسافات جديدة.” (ص 245-ص 246)
تشير صورة الدروع المحطمة إلى المضمون التاريخي للهزيمة، بينما تشير صورة طوابير النازحين إلى المضمون الاجتماعي للهزيمة، فأين أم سعد من قسوة هذين المضمونين؟
إما أن تقوم أم سعد بدور المحرض: “لماذا تجيء وكأنها تريد أن تبصق في وجوهنا؟” (ص 246) “فيما كانت أم سعد ترقى الطريق نحونا، تحمل الصرة الصغيرة التي تحتفظ بها دائمًا وتسير عالية كما لو أنها علم ما، تحمله زنود لا ترى.” (ص246)
وإما أن تقوم الوقائع بدور المحرض: “كل واحد يقول الآن أنا لم أقصد شيئًا. لماذا يحدث كل الذي يحدث؟ لماذا؟ لماذا لا تتركوا الطريق للذين يقصدون؟” (ص 256)
وفي كلتا الحالتين هناك محاولة للخروج من الخطأ، فالهزيمة ليست خطأهم، كل واحد يقول على طريقته إنها ليست خطأه (أنا لم أقصد)، وأم سعد تقول على طريقتها إنها ليست خطأها (لماذا يحدث)، إنها المثابرة في الخطأ مقلوبًا، أي في الصواب.
ختامًا لتحليلنا نوجز أفكارنا كما يلي:
1 – إيديولوجيًا هذه الرواية هي التمثيل الأدبي لمرحلة تبدو ناضجة من مراحل الكفاح من أجل التحرر الوطني الفلسطيني في مجمل وجوهه الثقافية والاجتماعية والسياسية.
2 – أدبيًا هذه الرواية هي أطول مقال سياسي كتبه غسان كنفاني، ليس للتقريرية السائدة فحسب، بل وللإقحامات الفكرية التي لا تعد ولا تحصى، و “الفهلوة” الكلامية في الأوصاف والحوارات.
3 – على عكس الهدف المنشود للكاتب، لم يكن سلوك أم سعد في أدوارها سلوك الإنسان في الواقع، الإنسان الفلسطيني أول إنسان، حقًا أدوارها أدوار كل إنسان، غير أن هذه الأدوار كمعانٍ ليست كلية يمكن أن تدخل في كل قضية غير قضية واحدة، “القضية الفلسطينية”.
4 – كتابة هذه الرواية على شكل لوحات تبقى “ناقصة”، فما هذه اللوحات سوى رسوم إعدادية خططها غسان كنفاني بسرعة، وبحماسة، وبالتالي “بثورية”، لم تكشف عن شبكة المفاصل الداخلية لشخصيته الرئيسية، كما نرى رؤية صديقنا كلود بريمون، ونقصد بهذا العلاقات المتبادلة التي تحدد حقل التجربة بقدر الإمكان.
5 – تحليلي لهذه الرواية كان الأصعب في حياتي، ليس لكرهي لها، وليس لكونها الأسوأ في الأدب العربي، فأنا تسلحت بالصبر وبالعلمية، ولكن لأن السردية التي تقول عن نفسها بسيطة في أشكالها لم تكن بسيطة، هذا لا يعني أنها كانت صعبة، كانت تخفي نفسها خلف مقولة “الادعاء”، وهذا على كافة المستويات.
ب – المسرحية
1 – الباب: نحو فهم اجتماعي
1 – مقدمة حول المسرحية وموضوعها
اقترحنا لتحليلنا أعمال غسان كنفاني دراسة عمل تمثيلي لكل مرحلة من مراحل تطور الكاتب والقضية، فقدمنا تحت فصل القصة القصيرة والرواية مجموعة قصصية واحدة وثلاث روايات. وحرصًا على أن تكون دراسة التنوع الأدبي كاملة، فكرنا تحت فصل المسرح في تحليل مسرحية “الباب” المكتوبة عام 1964، ومسرحية “القبعة والنبي” المكتوبة عام 1967، مع العلم بأن الدراسات عن مسرح كنفاني قليلة، عن مسرحية “الباب” خاصةً، هذه المسرحية التي تدور وقائعها حول مسألة الحرية الإنسانية في تعقداتها الفلسفية بالنسبة إلى القوة الإلهية. مما يحملنا على الاعتقاد أن ذلك لصعوبة المسرحية، وربما للطرح الجريء، لا بل أكثر، لموقف الكاتب المناقض للفكر السائد. وفي الحال، نود الإشارة إلى أن العَلاقة “حرية إنسانية-قوة إلهية” علاقة ذو جانبين، تمثل من ناحية شخصيات الملك عاد والملك شداد والملك مرثد، ومن ناحية الإله هُبا، وتمثل دلاليًا إرادة الحرية في وجه إرادة السلطة. في الفصول الثلاثة الأولى، سيموت ثلاثتهم من أجل الحرية تحت شرط بناء جنة أخرى، إِرَم، هذا الشرط اللاتاريخي المدمرهم جميعًا، أما في الفصلين الرابع والخامس، فسيقف شداد، بعد موته، أمام هُبا، ويحاول جاهدًا أن يفهم الحقيقة. عندما يدرك أن فعل الحرية لا يكون إلا في إِرَم تاريخية، يدرك في الوقت ذاته أن الإله من طبيعة إنسانية، فيعقد العزم على العودة إلى الأرض، ليخبر الناس أن ليس هناك من إله إلا في عقل الإنسان، وأن الإنسان هو من يصنع بيده حريته أو عبوديته، لكن… الباب الفاصل بين عالم الحياة وعالم الموت يكون مغلقًا، ولا أحد يمكنه فتحه إلا هُبا. (56 مكرر)
2 – الكتابة المرحلة
الفترة التي كتب فيها غسان كنفاني “الباب” مهمة لإدراك المعنى، فارتباط هذه المسرحية بوقت محدد من حياة الكاتب يكشف الغموض عما أراد قوله، وعلى وجه الخصوص أن “الباب” كتبت عام 1964، في المرحلة الانتقالية التي عاشها كنفاني بين دمشق ثم الكويت وبين بيروت ابتداء من عام 1961. في الفترة الأولى، يترك غسان البيت والبلد، ويحيا حياة المنفى الصعبة، حياة غير ثابتة بالنسبة للبيت، وغير ثابتة بالنسبة للعقل، لأنه يحاول أن يفهم الأشياء، أشياء الوجود، أن يدرك الأبعاد، أبعاد القضية الوطنية، فيتساءل بمرارة عن بؤس المنفى دون أن يعي ذلك كما ينبغي. أما في الفترة الثانية، فيكتشف بعض الأجوبة للأسئلة التي سبق له طرحها على نفسه، ويبلغ عقله من النضوج الفكري بما يسمح له بعدة تفسيرات جوهرية:
1) اعتماد الفلسطيني على نفسه بعد أن غدر به الحكام العرب، وبكلام آخر الآلهة التي هُبا أحدها.
2) لا جنة أخرى غير فلسطين، وكل محاولة لبناء جنة غيرها ستبوء بالفشل، وهذا ما عبرت عنه محاولات الملوك الثلاثة عاد وشداد ومرثد التي أدت إلى موتهم.
3) الجنة دون الحرية هي الجحيم، فلسطين أو غير فلسطين.
4) الحرية دون العقل هي العبودية، الدين أفظعها.
5) الكتابة فن التنويع، وفي الوقت نفسه فن التعارض، المسرح أكثر ما يمكنه التعبير عن الكتابة، والأسطورة أكثر ما يمكنها التعبير عن المسرح.
مراجع
(56 مكرر) سيعتمد تحليلنا على مسرحية الباب في الآثار الكاملة، المجلد الثالث، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية ودار الطليعة، الطبعة الثانية، بيروت نيسان/أبريل 1980، من صفحة 35 إلى صفحة 121.
3 – الميتافيزيقي في خدمة الواقعي
المسرحية نوع أدبي جديد في الأدب الفلسطيني، ولادتها كولادة الرواية تعني تغيرًا عقليًا وإرادة جديدة للأدباء، إرادة التعبير الفني عن العلاقات الاجتماعية، وما يتناسب من جهد مبذول مع النتائج. من هذه الناحية، يختلف الأدب في هذه الفترة عن أدب الفترة السابقة، أدب كان يأخذ الشخصية من ناحية والمجتمع من ناحية ثانية، دون أن يتناول الشخصية في المجتمع والعَلاقات البِنيوية بينهما. يُظهر هذا التغير الكيفية التي تم بفضلها المرور من مرحلة الأدب التأملي إلى مرحلة الأدب المعبر عن المشاكل الاجتماعية، ويشير إلى الطريقة التي اتبعتها الحالات التعبيرية، حالات الكتابة أولاً وقبل كل شيء، وبالتالي الوظائف التي اعتمدتها. لكن مسرحية “الباب” كتأليف ميتافيزيقي بالنسبة لموضوعها (مسألة القدرية والحرية) يمكن إدراجها في النوع الأدبي الجديد، إذا ما انتبهنا إلى الإشارات والرموز التي تحويها، لأن هذه الإشارات والرموز ترفع المسرحية إلى مستوى عالٍ فنيًا بالنسبة لزمنها، وفي الوقت نفسه تنهل على طريقتها من المضمون الواقعي بالنسبة لزمنها كذلك، في محاولة “اعتداء” من طرف الكاتب على الشاعر الإيطالي دانتي، ومحاولة “التقاء” بالمسرح الإغريقي. لهذا السبب، نستطيع القول إن “الباب” عمل فني تحرري ليس بالنسبة لزمنها فحسب، بل وبالنسبة لجميع أعمال كنفاني.
إذن يعالج كنفاني المسائل الميتافيزيقية من الوجهة الغير التقليدية، مع أنه يستعمل أسطورة قديمة، لأنه يتحدث عن مسألة وجود الآلهة بطريقة وظيفية، وعلى العكس من أدب النخبة، يريد لنصه الوصول إلى كافة القراء، ليقول لهم لا إله هناك إلا في أخيلة الناس الذين يحتاجون إلى غاية، يمكنهم معها العيش، وهذه الغاية هي الوعد بالجنة بعد الموت، فنسمع الملك شداد يجيب على سؤال الإله هُبا “لماذا بنيت إِرَم؟”” (ص 108) بالكلمات التالية: “لأن العالم الذي وهبتنا إياه مقابل وعد مجهول كان عالمًا قميئًا وسخيفًا، عالمًا لا جدوى منه ولا غاية، لأن المرء يعيش فيه، يتعذب، يذوب، لماذا؟ لأنه على موعد مع كلمة اسمها الجنة…” (ص 108) ليقول له الإله هُبا في السياق نفسه، السياق النافي لحقيقته اللاهوتية، والمثبت لغاية أخرى واقعية: “فأنتم أنفسكم الذين تقولون إنني أبني الحياة…” (ص 107) هذه الحياة التي يدعوها شداد ساخرًا “باللعبة” (ص 64) ويعترف هُبا قائلاً: “أنا، في الحقيقة، غير قادر على حكم الأرض…” (ص 119)
نحن نعلم علم كلود ليفي-شتراوس أن للفكرة الأسطورية مهمة خاصة، ألا وهي القيام بِوِساطة بين المفردات المتعارضة معارضةً لا تقهر: يقول شداد “كلمة اسمها الجنة”، ويقول هُبا “غير قادر على حكم الأرض”، والوِساطة بين مفردتي الجنة والأرض اللتين تتعارضان معارضة لا سبيل إلى الحيلولة دونها هي كل البناء الدرامي للمسرحية. إنها الصيرورة التي تؤدي إلى موديل من المصالحة بين الأضداد عَبر وسيط يُعتبر كنابض دائم للصيرورات الرمزية: صيرورة الوعي الديني، صيرورة الوعي الإلحادي، صيرورة الوجود الإلهي، صيرورة الوجود الإنساني، صيرورة الحكم الإلهي، صيرورة اللعبة التي هي الحياة… إلى آخره إلى آخره، لكننا لسنا في “الباب” عند باب المصالحة بين الأضداد، فيعمل النابض الدرامي بصفته وسيطًا، عندما يعارض الوعي الديني الذي يعتقد بأن الله خالق الكون، وعلى الناس أن يطيعوه، وبصفته محركًا يعبر عن ذاته على لسان شداد –أو بكل بساطة ما يعبر شداد عنه بلسانه- ويبدي أن غاية الملك بناء جنة على الأرض يقيم فيها العدل وينشر الحرية عندما يقول له هيا: “خارج هذا الباب تمتلك كل حريتك…” (ص 119)
الوسيط إذن ليس شخصًا من لحم ودم، الوسيط هو النص نفسه في تلاحق أحداثه، بين مفردتين متعارضتين تمثلان عالمين مختلفين، ولولا التعارض كبِنية لما كرّ النص، ولولا المصالحة كهدف لما عمق التوتر الدرامي.
زوج آخر من المفردات المتعارضة: الاختيار والاستسلام، وهما مسألتان ميتافيزيقيتان موظفتان واقعيًا.
اختيار الإنسان لقدره، قدر الموت في هذا السياق، “هو الاختيار الحقيقي، أن تختاره في الوقت المناسب قبل أن يفرض عليك…” (ص 71) لاختيار الموت دلالات عدة أهمها ألا تنتظر موتك دون أن تفعل شيئًا لتبديل وضعك، اصنع قدرك بإرادتك! على عكس الوعي الديني الرافض للإنسان قدرًا آخر مستقلاً عن الإرادة الإلهية التي تتحكم بكل شيء وتحكم على كل شيء، وخاصة على الحياة والموت، فيكون الاستسلام.
في المسرحية، يرفض الملك شداد السلطة الإلهية، ويسعى ليبني جنته بنفسه، فيكون البناء في صياغته كسطور وصور وأفكار الوسيط الذي من المفترض أن يكون قادرًا على حل التعارض: لكم دينكم ولي دين! لكم جنتكم ولي جنة! يكر النص ويفر هذه المرة، فالنابض يسعى ويختار، والنص ينفرد وينفرش، يسرح ويمرح في عالمي الاختيار والاستسلام، إنها الصيرورة الوسيطة التي تكون بالصياغة المتنامية من مفردة إلى مفردة، والتي تصل بنا إلى الفاجعة تحت ثوب المصالحة، فإرادة الاختيار تنقلب على صاحبها في عالم لا حرية فيه، وبكلام آخر إرادة الحرية لم تحرر بالفعل إنسانها في زمانه الفعلي (زمان الاستقلال) ومكانه الفعلي (فلسطين). زمان الاستقلال ومكان الاستقلال هما هنا استعارتان لا تكفيان متطلبات النص، نص يسير في طريق مستقيم لا يحرفه عن مساره مثل هذا التماثل بين الزمان والمكان، وفي الطرف الآخر الهلاك لا محالة، عندما يقول شداد عن الموت: “إنه الاختيار الحقيقي الباقي لنا جميعًا… إنه المكان الوحيد الباقي للحرية” (ص 71) لهذا من المفترض أن يُبنى التماثل في الصياغة، كصورة لصيرورة وسيطة، يكون فيها التوسيع الديناميكي للأدوار المتنوعة هو المعبر عنه أكثر مما هو عليه في الموديل التماثلي (الزمان والمكان في المسرحية مقابل الزمان والمكان في الواقع)، فكان توسيع الأدوار، دور الملك شداد من ناحية عندما يقول: “سأذهب إليه (إلى هُبا) بنفسي، سأتحداه خطوة خطوة… أريد الذهاب إليه بملء إرادتي واختياري” (ص 72) ولما يتكلم عن الموت يتكلم عنه كعنصر من عناصر الدور الذي له: “موت خاص… الموت لم يأتني أنا الذي جئت به… وصارعته.” (ص 86-ص 87) (غسان يتنبأ هنا بموته، موته الخاص، موته الذي هو ملكه، فيتصرف به على هواه). ودور الإله هُبا من ناحية ثانية عندما يقول شداد لهُبا: “لقد خلقك الموت.” (ص 110) يجيبه هُبا من داخل الدور الذي له: “لقد خلقت نفسي قدرًا حينما كان الناس عاجزين عن صنع أقدارهم.” (ص 110) ليتحول الوسيط “الصيغوي” إلى رمز قادر على الجمع بين دورين متعارضين، الدور الثاني –فلنبدأ بالدور الثاني- دور هُبا، يُعَبِّر بربطه بالسياق التاريخي-الاجتماعي عن القطب السَّلبي، كما يرى ليفي-شتراوس، فتتحدد الوظيفة التي لصاحب هذا الدور الثاني الإله هُبا والتي هي سَلبية، بينما تتحدد الوظيفة التي لصاحب الدور الأول الملك شداد والتي هي إيجابية عند التعبير عن القطب الإيجابي، المعارض للدور الثاني، وبالتالي لتتحدد الوظيفتان بتعاقب الدورين.
أضف إلى ذلك أن هناك تبادلاً للأدوار وللمفردات: الملك يغدو إلهًا، والإله يغدو ملكًا، تبعًا للمكان الذي يقف فيه الواحد أو الآخر، والوظيفة التي تعود عليه بالفائدة: الإله قدرًا للإنسان أم الملك قدرًا للإنسان؟ في الحالة الأولى الإله إنساني، فكلامه يخلو من أية استبدادية: “لقد خلقت نفسي قدرًا حينما كان الناس عاجزين عن صنع أقدارهم” (ص 110)، وفي الحالة الثانية الملك لا إنساني، فكلامه لا يخلو من استبدادية هي هنا فردية: “حاولت أن أصنع قدري بنفسي.” (ص 110) تنقلب المفردة، تصبح إشارة للوظيفة، يعني شكلاً يصوِّر النتيجة النهائية للصيرورة. إذن هذا التبادل ضروري حَسَب العالمين اللسانيين الأمريكيين إيلي كونجاس وبيير ماراندا، لعرض الموديلات البِنيوية التي لا تُمَثَّل فيها النتيجة النهائية، هذه النتيجة التي ليست فقط العودة إلى نقطة الانطلاق بعد إلغاء القوة الغاشمة (هُبا في ثوب الإله) بل والدخول في حالة جديدة تختلف عن الأولى (هُبا في ثوب الإنسان). بكلام آخر، عندما تكون لشخصية ما وظيفة سَلبية ولأخرى وظيفة إيجابية، وعندما تقاتل الإيجابية السّّلبية، تصبح الإيجابية سَلبية، لا إيجابية كما يتخيل البعض، لأن انتصارها يقوم على دمار المفردة السَّلبية التي يمثلها هُبا، ويكرس نهائيًا القيمة الإيجابية للمفردة التي يمثلها شداد، وفي هذا التكريس استبدادية الملك مقابل استبدادية الإله، وفي الواقع انعدام الديمقراطية. لكن هذا ما لم يحصل في المسرحية، للعلاقات القائمة بين الأسطورة، كما رواها غسان، وبين السياق التاريخي-الاجتماعي الذي جاءت منه هذه الأسطورة، ما حصل انتصار السَّلبية على الإيجابية، انتصار الإله هُبا على الملك شداد، وكما حللنا تصبح السَّلبية إيجابية، كل ما يريد النص نقضه في الإله يجري تكريسه تمامًا، فيكون التركيز على الموت (وعلى القدر وعلى باقي الثيمات) في سياقه الواقعي المرحلي بشكل ميكانيكي، وليس بشكل ديناميكي، ينبض مع النابض في صيرورته إلى تحقيق التماثل بين الملك والإله في الحياة كاستعارة كبرى كان من المفترض أن تكون لكل المسرحية.
4 – دراسة بعض الرموز
مع أن “الباب” تأليف ميتافيزيقي بالنسبة لموضوعه إلا أننا نستطيع بفك الرموز (الكودات) التي يستعملها كنفاني أن نربطه بمسألة حالية: القضية الفلسطينية. “الباب” إذن بِنية شكلية من كودات، تعرض تراكيبها لمجموع المضامين التي يتم استثمارها. هناك الباب المسرحية كأسطورة مؤلفة من عدة كودات، وهناك الباب ككود يتم تقديمه كخط فاصل بين المنفى/اليأس/الاستعباد/الموت وبين الوطن/الأمل/التحرر/الحياة. توجد أربعة عناصر في كل تركيب من التركيبين السابقين، كل عنصر يمثل مضمونًا كموضوع للقضية، وكل مضمون يرمي إلى استنفاد كل مضامين القضية الباقية. بهذه الطريقة ترمي المسرحية، عَبر الألفاظ والمعاني التي كود الباب محورها، إلى إظهار أن ليس هناك حل يقوم على العدم، فتفضي العلاقة القائمة بين الألفاظ والمعاني إلى الكشف عن كود آخر غير كود الباب، كود الموت.
تَظهر لفظة الموت كفاعل للقضية، ومعنى الموت كموضوع لها، فالملوك الثلاثة ماتوا، وقضي أمرهم، بينما بقي الموت “حيًا”. شداد مثلاُ مع أنه اختار موته، لأنه كان يظن أن “اختيار الموت هو الاختيار الحقيقي” (ص 71) فهم، بعد ذلك، أنه أخطأ، لأنه وجد نفسه واقعًا تحت سلطة هُبا حتى في الجنة، ولذلك يكون الحل باختيار الحياة: “أن تولد لتموت في سبيل قضية الأحياء وبعونهم” (ص 119) وهذا يؤكد صحة ما افترضناه عن الموت حيًا، بين أحياء يولدون ليموتوا –في سبيل أو في غير سبيل هذا شيء آخر- تكريسًا لكوده. العلاقة إذن بين لفظة الموت ومعناه علاقة دائمة، محدَّدة دلاليًا، في رأي اللساني جريماس، يمكننا أن نعتبرها كمسافة أسلوبية بين خطة الشكل وخطة المضمون. ما معنى ذلك، مسافة أسلوبية؟ معنى ذلك أن الكاتب يلجأ إلى تطوير نواحي أخرى من كود الموت، فيبتعد عما طرحه، لكنه يبقى في الإطار نفسه، وبناء على ذلك تكون المسافات الأسلوبية شكلاً ومضمونًا. هناك الموت كناحية من نواحي كود الموت الأخرى، الذي به هُبا يحيا، أو العكس الولادة كنقيض للموت لكن لها الأثر ذاته، التي بها هُبا يموت (ص 115)، وهناك الموت الذي به يموت الشعب الفلسطيني إذا ما أوقف كفاحه، فيمضي إلى الجهة الأخرى من الباب، ويبقى فيها إلى الأبد (ص 120)، وهناك الموت الذي به يقضي العمال البانون لإِرَم تحت سياط الشمس أجلهم (ص 107)… إلى آخره إلى آخره.
اختيار هذا الشكل “الموتي” أو ذاك لإظهار العلاقة الكودية للمضمون لا يتوقف على البِنية الشكلية، لكنه يرمي إلى إقفال باب الأسطورة في “الباب” على الموت ككود أساسي ليفتحه على الجنة/إِرَم ككود أساسي آخر. هنا ندخل في الكود/الوظيفة كتركيب مفتوح، وذلك لأجل عرض عوالم أسطورية مختلفة عما سبقها: في الكود غيره مختلفة (كود الموت وكود الجنة)، وفي الكود نفسه متشابهة (كود الموت أو كود الجنة). جنة هُبا، جنة إِرَم، جنة فلسطين، كل هذه الجنات متشابهة، لكنها في تقديمها الشكلي لم تكن واحدة، هذا لا يمنع من أن يكون كود الجنة موديلاً عامًا لدى غسان، يؤسس للمقارنة الأسطورية نفسها، كما يرى جريماس.
هذه المقارنة بين الأسطورة لدى غسان وبين الأساطير الأخرى ليست موضوعنا، لهذا نواصل مقارنتنا بين الكودات، فنرى الإله هُبا ككود على شاكلة كود الجنة (وكود الموت) في اختلافاته إذا ما قورن بغيره، وفي تشابهاته إذا ما قورن بنفسه، وكأنه عدة آلهة، لكل منها صفاته الخاصة به: هُبا الذي يحيا بالموت، هُبا الذي يموت بالولادة، هُبا الذي في أخيلة الناس، هبا الذي في السماء، هبا الذي لا يرحم أحدًا، هُبا الذي يتباكى لأنه لا يحكم الأرض… إلى آخره إلى آخره. يمكننا أن نقول الشيء نفسه بخصوص شداد ككود: شداد الباني لجنته، شداد المصارع للإله، شداد الديمقراطي، شداد الاستبدادي، وأكثر من هذا، شداد الحل الفردي، شداد حرية الاختيار، شداد فكرة التحرير، شداد الوعي القومي، شداد الطريق إلى إِرَم تاريخية… إلى آخره إلى آخره. كل هذه المعطيات هي العالم الأسطوري نفسه، والمقارنة بين الكودين وبين الكودين والكودات الأخرى هي الوصف لهذا العالم.
5 – بِنية البطل
في “الباب” بطل جديد يرفض سلطة القضاء والقدر في السياق الذي قدمناه، لكننا لن نحدد هذا البطل من الناحية النفسية، ولا من الناحية العنترية، سنحدده من ناحيته “كمشارك”، كما يقول رولان بارت، لأن كل بطل، عند رأي كلود بريمون، يمكنه أن يكون بطل الأحداث الخاصة به: في حالة شداد البناء التمرد التحرر، في حالة هُبا الهدم الإخضاع التسلط. عندما تتضمن الأحداث الشخصيتين، يتفرع عنها أفقان، أفق هُبا وأفق شداد، ما هو بناء لدى شداد هو هدم لدى هُبا، ما هو تمرد هو إخضاع، ما هو تحرر هو تسلط، ووفقًا لذلك، هناك بِنيتان سرديتان لبطلين، بِنية هُبا: “هذه مملكتي! هذا الباب فقط مملكة صغيرة ولكنها منيعة، العرش المجهول هو سر منعتها، والصولجان غير المرئي هو حارسها الأبدي…” (ص 120) وبِنية شداد: “ورغم ذلك فأنا الذي صنعت ابني، وأنا الذي جعلته ملكًا بملء إرادتي، ولسوف يذهب يومًا إلى إِرَم، وهناك سيجد الفكرة المحروقة، وهي تنمو من جديد، وسيتغير، سيتغير.” (ص 118)
هناك إذن بِنية للبطل في المقاطع الخاصة به كأحداث وكعالم، مملكة الإله هُبا، ومملكة الملك شداد (إِرَم)، والواحد محكوم بأنه موجود أو ليس بموجود للآخر، والواحد والآخر في ثوبه محتويات عالمه (العرش والصولجان لهُبا والابن لشداد) وعناصر عالمه (السر والحارس لهُبا والفكرة لشداد)، فهما، إي هُبا وشداد، هما العلاقات التي بينهما، البناء والتمرد والتحرر من ناحية، والهدم والإخضاع والتسلط من ناحية، هذه العلاقات بين البطلين التي تعرض لعلاقات أخرى بينهما وبين أبطال آخرين أو بين الأبطال الآخرين، عندما يراد وصف تحول هذه العلاقات خلال المسرحية، علاقات هُبا بالملكين الآخرين، عاد ومرثد، علاقات شداد بابنه وأبيه، ليس فقط من ناحية من هم ولكن من ناحية ماذا يفعلون كذلك. شداد يريد أن “يزرع البذرة” مثلما يقول عند حديثه عن ابنه: “إني أعرف أن البذرة التي زرعتها هناك لا بد أن تنمو يومًا، لا بد أن تشرق من بين الحطام.” (ص 118) وهُبا يرى في شداد رؤيته لنفسه، فيريد أن “يبني جنته” مثلما يقول عند حديثه عن شداد: “هل تعتقد أنك لو حكمت إِرَم لأسعدت كل الناس، ولفكرت بكل الأفراد؟… حين ابتنيت إِرَم هل فكرت بكل العمال الذين قضوا تحت سياط الشمس… لقد كنت تريد أن تبني جنتك، وكان ذلك كل شيء بالنسبة لك!” (ص 197)
لهذا يسمي جريماس الأبطال “فواعل” –حَسَْب بارت- فهو يصنفهم مقارنًا إياهم بما يفعلون، وهو يرى عالم فعلهم في ازدواجيته إلى ما لا نهاية كفعل وفاعل عَبر النص، وبما أن الفاعل محدَّد بطبقة –حَسَْب بارت- سيحوي في ثوبه ممثلين من كل نوع، الفاعل شداد مثلما رأيناه مع أبيه، فابنه، ومثلما سنراه مع أمه، مع أبيه ينطبق عليه قانون الاستبدال، ومع ابنه قانون الإحلال، ومع أمه قانون الفقدان، فقدان العاطفة، وبالتالي التعارض في الموقف، فهي من نوع أبطال الأدب التأملي، لا تحارب ضيم القدر بل تقبله –على عكس أم سعد- لأنه صادر عن قوة إلهية، فيقول لها شداد: “قررتِ أن تعيشي بلا سؤال تاركة كل شيء لحكمة هُبا، أنتِ تعيشين بدافع العادة فقط.” (ص 65)
إذن تحديد البطل يكون –حَسَْب بارت- باشتراكه في فَلَك الأفعال، والأفلاك بصفتها قليلة تقوم على نماذج وأصناف: لهذا كان المستوى الثاني للوصف الذي هو مستوى الشخصيات، مستوى الأفعال.
ختامًا لتحليلنا نقول:
1 – نريد أن ننفي عن “الباب” ما رآه النقاد من عمل هامشي بالنسبة لباقي مؤلفات غسان كنفاني، وذلك لمجرد أنه لم يصف “النضال” الفلسطيني، متجاهلين المرحلة التاريخية التي عبرت عنها المسرحية، والمرحلة الكتابية التي أنتجتها، وطريقة الكتابة غير المباشرة عن هذا “النضال”.
2 – “الباب” عمل درامي يتراوح بين الميتافيزيقي والواقعي، وظف غسان كنفاني فيه الميتافيزيقي لخدمة الواقعي، ليصوغ مسرحية قريبة من انتظارات الجمهور، هدف كل مسرحية، وذلك عندما نعلم أن المسرحية القديمة في مصر، والمسرحية الأقل قدمًا لكن القديمة كأختها في اليونان، المسرحية كنوع أدبي بكل بساطة، كانت ولم تزل تلعب دور الوثاق بين المثقف والناس.
3 – تتناول “الباب” بالتفصيل فكرة تعدد الشخصيات في شخصية البطل والبطل في شخصيات متعددة، مما يجعل منها الموديل المسرحي للأدب العربي، هذا الأدب الذي هو مع الأسف عقيم في المسرح، لا ينتج أو ينتج ما هو قليل، ومعظم ما ينتجه لا يرقى إلى ما تأمله الدراما.
4 – إذن “الباب” ثقافيًا يكشف عن عاهة مزمنة من بين عاهات الأدب العربي، ويفضح كتاب مسرح الأربعة الملاليم –كما يسميهم بريشت- الذين لم يعملوا بكد كغيرهم من كتاب المسرح في العالم، والذين كانوا ضحية التلفزيون بعد أن كانوا ولم يزالوا ضحية النظام، فالمسرح الأداة الأولى للتثقيف، والنظام ضد التثقيف مهما كان.
5 – “الباب” سياسيًا تقول للمحللين السياسيين اليوم إن تذويب القضية الفلسطينية في بحر الصراع العربي-العربي مستحيل، فهل يذوب السمك في الماء؟ وإن وقوف الحكام العرب والحكام الإسرائيليين أكثر ما يكون قربًا من بعضهم ليس ابن اليوم بل منذ اليوم الذي جعلوا فيه من فلسطين “إِرَمَهُم”، وهذا شيء طبيعي، ثابت في مضمونه متغير في شكله، لكن ما ليس متغيرًا موقف الشارع العربي في مضمونه وفي شكله، إنه الثابت حتى إقامة الدولة تحت حكم أحفاد شداد.
2 – القبعة والنبي: نحو وضع اجتماعي جديد
1 – مقدمة حول المسرحية وموضوعها
“القبعة والنبي” هي المسرحية الثانية والأخيرة التي كتبها غسان كنفاني بعد “الباب” إن لم نأخذ بعين الاعتبار تمثيليته الإذاعية “جسر إلى الأبد” التي تم جمعها ونشرها بعد مصرعه، ومع ذلك، وكما سنرى في القسم الثالث من أطروحتنا، احتفظت أعمال صاحب “ما تبقى لكم” بميزات درامية مسرحية.
ترقى هذه المسرحية إلى المرحلة نفسها التي تضمنت رواية “ما تبقى لكم”، وبكلام آخر المرحلة التي كان فيها كنفاني يبحث عن استقرار اجتماعي وإيديولوجي. رأينا في “ما تبقى لكم” كيف مهد البطل المتمرد السبيل لميلاد البطل قبل-الثوري، عندما هاجم العدو القومي والعدو الوطني بالسلاح عينيًا. وبدورها، تُبرز هذه المسرحية نفس البطل المتمرد الذي يتحدى الأعداء ليس بالسلاح بل بالأفكار، وذلك بمواجهة تصوره الإيديولوجي التصور الإيديولوجي لخصمه، ومن هنا تأتي تكاملية هذين العملين الأدبيين.
اعتمادًا منا على العملية العقلية التي قام بها الفهم لدى كنفاني لإدراك وتكوين المعاني المجردة، نقول دفعة واحدة إن للقبعة والنبي تصورًا دراميًا موازيًا لمسرح بريشت الملحمي –سنرى ذلك بالتفصيل لاحقًا- بمعنى أنها تحتوي على برهنات عديدة تجعل من المتفرج “مراقبًا”، موقظة حيويته الثقافية، ونقول كذلك إن لها دورانًا متعرجًا مطبوعًا بكثير من القفزات المضافة إلى التوتر الدرامي. والحق يقال إن هذه المسرحية أقرب إلى السرد منها إلى الفعل القائم بذاته ولذاته، فهي تعطينا رؤية عامة للعالم عَبر عالم الكاتب نفسه.
بناء على ما سبق، نقترح فرضية العمل التالية:
يحاول البطل المتمرد أن يزيل التناقض الجوهري لهذا العالم، بمعنى تشيؤ الإنسان المسحوق، وذلك في البحث عن علاقات اجتماعية جديدة. (57)
2 – بِنية الشخصيات: “أرقام” الحَبكة
الاتهام، الذي هو عبارة عن الموضوعة الأساسية للمسرحية، خاطئ منذ البداية، فهناك من يتهم أحدهم بقتله شيئًا، مع أن جريمة كهذه لا يمكن ارتكابها إلا في مخلوق حي. يثير هذا التناقض الكافكاوي الجوهري للمحاكمة مواجهة بين الأطراف المعنية، بينما تثبت نهاية المحاكمة التي تبرئ المتهم بطلان الاتهام، بمعنى أن هناك سببًا آخر حقيقيًا وراء هذا الاتهام. وإذ تحاول شخصيات المسرحية أن تُحِل حقيقة خاطئة محل وقائع حقيقية، يقاتل المتهم ليقيم الحقيقة الصائبة كما يجب عليها أن تكون. فما هي بالتالي العلاقة بين الشخصيات والمحاكمة؟ وفي أية ظروف تدور المحاكمة؟
لنحدد قبل كل شيء أن شخصيات المسرحية حسب ترتيب الكاتب هي: المتهم، الشيء، السيدة، والدة السيدة، رقم1، رقم2، شرطي، ساعي بريد… نميز بينها شخصيات رئيسية: المتهم، الشيء، رقم1، رقم2… وشخصيات ثانوية: السيدة، والدة السيدة، شرطي، ساعي البريد.
المتهم:
يجري تقديم المتهم كأي إنسان عادي، بسيط جدًا، “يكون في معظم المسرحية دون قميص، ويبدو بقميصه الداخلي طبيعيًا جدًا.” (58)
يفسر هذا المظهر الطبيعة الفطرية لوسط المتهم الاجتماعي: وسط متواضع، تتشكل الأشياء فيه ببساطة، بعيدًا عن مناورات وألاعيب الطبقات الغنية. زد على ذلك أن المتهم نفسه يحاول أن يكون “شيئًا طيبًا” (ص 60) طيبة وبساطة وَحدتان في شخصيته تفسران ملاحظته التالية: “هل هناك ما هو أكثر رعبًا في حياة إنسان كان يخبئ الحب في جيبه كسلاح أخير للدفاع عن نفسه؟” (ص 60) وهكذا يكشف المتهم أن السلوك العفوي (الحب سلاحًا) لم يكن في خدمته كثيرًا. لماذا؟ نلاحظ قبل كل شيء أنه يطابق الحب على السلاح، ويمكن لهذه المطابقة أن تَظهر متعارضة مع الصورة التي يرغب في إعطائها. وعليه، يكشف استعمال السلاح أن المتهم قد دخل في مواجهة بدلاً من أن تدور في مناخ لصالحه تستهلك كل وسائله الدفاعية لدرجة أنه لم يكن بإمكانه اللجوء إلى الحب إلا بصفته سلاحًا، بنفس مستوى الأساليب الأخرى المستعملة عند الدفاع الذاتي. ويتقلد معارضوه مظهرًا مغالطًا، يسألونه ممن يدافع عن نفسه:
“رقم1: للدفاع عن نفسك ضد من؟ هل كان ثمة ما يتهددك؟
المتهم: كل الناس. كل شيء. صاحب البيت والخباز واللحام والطبيب. الغربة والوحشة والوحدة. المرض والشقاء. الشقاء الذي لا ينتهي وفرص السعادة التي لا نستطيع أن نملأها. العمل والبطالة. الانتظار والوصول. الانكسار. الفشل. طعم الانتصار التافه. القلق. نداء الرحيل الذي لا يستجاب. الخيبة. غياب الشمس وغياب الصديق وغياب الدهشة. الموت… يا إلهي! أن نراه قريبًا إلى هذا الحد، وأن ننتظره ليل نهار.” (ص 50)
يشير التمرد المكشوف للمتهم ضد الناس والمؤسسات القائمة وما ينتج عنها أو ما له علاقة بها إلى أن “الكلية” ضده، فيتهمها جميعًا بتشويه الحياة التي يريد أن يحياها، دون أن يستثني تمرده بعض الأوساط الفقيرة كاللحام والخباز… إلى آخره. هذا يعني أن عنصر التمرد هنا فردي خالص، وضد الجميع، بعد أن وصل ذروته، فجاء التعبير عن ذلك لغويًا بمصطلح “الموت”، مما يعني أن المتهم يعي عزلته ومنفاه وبؤسه، وانتهى به الأمر إلى وضع حد لكل هذا، وذلك بتمرده المكشوف. فمن هو هذا الرجل على حقيقته؟ لماذا يهاجمونه؟ أي أثر له فيما يخص سبب الاتهام كعنصر بِنيوي أساسي؟
شخصية “المتهم” هنا اصطناعية –التهمة ملصقة به بشكل تعسفي- لأن ما يريد معارضوه إقامته عَبره عبارة عن حقيقة مطابقة في منظارهم للرؤية التي يرونها “مناسبة” للحياة. ونتساءل، لماذا هذا الرجل السريع التأثر الكريم الذي يحب الحياة سيعيق مخططاتهم؟ هل لأنه يمثل تيارًا معاكسًا أم لأن وجوده الحاضر يشكل خطرًا مستقبليًا على وجودهم؟ (بِنية التعارض والتطابق)
يبدو أن ذلك كله دفعة واحدة.
لنر في الاستشهاد الطويل التالي، استشهاد ننقله بحذافيره متعمدين، كيف يُظهر المتهم الناحية الإنسانية في بِنيته التكوينية خلال حديثه مع الشيء:
“…إنك لم تجرب لَذة أن تلتصق بدفء المرأة، عاريين. لا تعرف تلك الغيبوبة الراجفة كيف تهطل في العروق، بل لا تعرف لَذة ما هو أقل من هذا. أن تفرش نفسك في الشمس، أن تنتظر الشروق. أن تمطر السماء فوق شعرك. لا تعرف. لا تعرف لحظة الذروة في اللَّذة، لأنها مزيج من الألم والسعادة، كمن يضرب على قصبة ساقه، ولكنك لا تعرف الألم. الهواء. الضوء. بل أنت لا تعرف معنى أن تُحِب وأن تُحَب. المرأة. مرة أخرى. أنت محروم من لَذة الأكل. من لَذة الجوع المتحفز. ماذا أُعَدِّدُ لك؟ الصداقة. الفرح والحزن. الوصول. الهزيمة والنصر. الخيبة أيضًا. الانتصار مهما كان صغيرًا. دعني أوجز لك الأمر: أن تخرج ذات يوم مع امرأة تحبها وتحبك فتغتسلان بحرارة الشمس، وتأكلان، وأن تَعْدُوا بعد ذلك للفراش فتنجبا الأولاد. الأطفال! أنت لا تعرف هذه السعادة أيضًا.” (ص 54- ص 55)
تمثل الصورة التي يعطيها المتهم للعالم، تحت نفي كل ما هو جميل فيه، بعيدًا عن تجميلها وجعلها مثالية، وجهًا من وجوه الحقيقة حسب تصوره الخاص. بينما يتجاهل معارضوه هذا الجانب من الحقيقة، لأنهم يقعون على سبب عيشهم في إثبات النفي، في استغلالهم كل ما ليس له علاقة بالجميل في العالم. وبسبب خشيتهم من أن يبلبل المتهم العلاقات الاجتماعية القائمة يبنون اتهامهم على تناقض متعمد. (بِنية النفي والإثبات)
بالطبع، يعي المتهم هذه الدسائس، فتضع أفكاره خصومه في مأزق وجودي عندما يقول:
“أنتم الذين تتواطأون على خداع تلك السيدة وخداع العالم كله. كنتم تريدون من كل النساء والرجال الذين شاهدوا حماتي أن يسقطوا ضحية تلك الخدعة القذرة فيقولون كلما مروا بها: ما أجمل قبعة تلك السيدة في حين أنها ليست قبعة. أما أنا، فكنت أريدهم أن يقولوا ما أجمل قبعة السيدة حين تكون قبعة حقيقية.” (ص 68)
تنتهي هذا الصورة الثانية لعالم “مخدوع” بمساومات الأوساط المسيطرة إلى المعارضين، لكن نتائجها وخيمة، لأن كل المجتمع ضحيتها، فيحاول المتهم تحديد أن العلاقات الاجتماعية قد جرى تزييفها منذ البداية، لأنها وُلدت في عالم هو أيضًا مزيف. مما يؤكد ملاحظتنا حول المحاكمة اللامعقولة، لشخصيات لامعقولة، في عالم لامعقول. (بِنية الحقيقة والزيف)
المراجع
(57) سيعتمد تحليلنا على مسرحية القبعة والنبي، مجلة شئون فلسطينية عدد 20، بيروت 1973، من صفحة 45 إلى صفحة 76.
(58) يعطي غسان كنفاني في ملاحظاته السابقة للمسرحية أوصافًا فيزيائية ونفسية لشخصياته، ويحدد بدقة كيفية إعداد المشاهد والأضواء دون أن يفرض على المخرج التقيد بذلك، فهو يعتبرها مقترحات في رأينا ذات أهمية (ص 45- ص 46) وبما أننا نتكلم عن التقنية، والرغبة الكنفانية في إخراج هذه المسرحية الخالدة، نود أن نشجب مواقف المسرحيين الفلسطينيين قبل العرب في حيفا والناصرة ونابلس والقدس ودمشق وبغداد والقاهرة والكويت والدوحة و… و… الذين “بتطييزهم”، أي بإهمالهم “القبعة والنبي”، هم يفعلون ما لا يجرؤ على فعله الإنجليز بنعل شكسبير، الحاضر دومًا في مسارحهم. الشيء نفسه معنا، وحوالي المسرحيات العشر الشعرية والنثرية التي كتبناها.
الشيء:
أما الشيء، المحور الجوهري للاتهام، فهو “لا يمت بأية صلة إلى شكل الإنسان أو الحيوان أو النبات الشائع. لونه أسود، وبالوسع إدخال اللون البنفسجي. ذو مظهر أقرب إلى القماش أو المطاط وتكوينه يتميز بفروع مثل أوراق الشجر العريضة فوق قبة –سوف يستعمل فيما بعد كقبعة مبتكرة-… وبالنسبة لصوته فإن أقرب التصورات هو أن ينطق بواسطة مسجل.” (ص 45- ص 46)
لا يعرف هذا الشيء الألم، وهو مسلوب من عنصر الإحساس:
“المتهم: …ألا تتألم؟
الشيء: كلا بالطبع.” (ص 52)
يعيش في الظلام، ويمكن لضوء النهار أن يهلكه:
“المتهم: وترى جيدًا في الظلمة؟
الشيء: أرى جيدًا كما أنا الآن، لو رفعت هذا الشيء عني (كان قد رمى عليه قميصًا) وأبعدت ما اتفقنا على أن اسمه ضوء.” (ص 52)
وتُثبت كل هذه السمات (لا يتألم، يعيش في الظلام، يؤذيه الضوء) أن هذا الشيء يكوِّن جزءًا من عالم فيزيائي آخر:
“المتهم: من أنت؟
……………..
الشيء: لقد احترقت مركبتي.
المتهم: مركبتك؟
الشيء: كنت قادمًا للاستطلاع هذه المرة.
المتهم: وحدك؟
الشيء: كان معي رفيق لست أدري ما حل به.
المتهم: هل أُرسلت خصيصًا إليّ؟
الشيء: كلا. قلت لك إن مركبتي احترقت وسقطت عندك. هذا كل ما في الأمر.” (ص 52)
هذه هي الظروف الاستثنائية التي جمعت بين الشيء والمتهم، ظروف مركبة فضائية احترقت، فيبدو أن الاتصال بينهما محض صدفة. ادعاء أن كل شيء مضى بمحض الصدفة، بمعنى أن كل شيء مضى بشكل طبيعي بينما تُثبت المحاكمة أنه أُعد لكل شيء قبلاً، هم يريدون أن يوهموا بالصدفة هذه قدرية الأشياء، وأن ما يحصل كان مقدرًا له أن يحصل منذ بدء الخليقة، ولا شأن لأحد في الأمر: إنه قدر المتهم مثلما هو قدر الشيء! (بِنية إلغاء التعارض)
يمكن القول أيضًا إن الشيء سقط من السماء، ولم يأت من الأرض، مما يؤكد أن أولئك الذين أطلقوه من فوق، هم أولئك الذين يقودون، والذين يرون العالم من فوق. إن رؤيتهم دومًا ميتافيزيقية فوق طبيعية بالنسبة إلى الأماني المادية المشخصة والأكثر أرضية التي تأتي من تحت. (بِنية إلغاء النفي)
وعندما يقول الشيء إن مركبته الفضائية احترقت، في الواقع كل وجوده وسبب عيشه هما اللذان تحطما. من هنا يأتي الشعور بالاغتراب المليئُهُ عند الاتصال الأول بالمتهم الذي بيده الحل لعالم “لامغترِب” يخشاه خصومه. (بِنية إلغاء الزيف)
حتى أن الشيء لا يتكلم، إن الآخرين هم الذين يعبِّرون من خلاله:
“المتهم: وأنت تستطيع أن تتكلم؟
الشيء: إنهم يتكلمون من خلالي معك.” (ص 53)
هو إذن عنصر وسيط بين المتهم وبين أولئك الذين دفعوه إلى هذه الحالة، وهكذا فهو الإنتاج الخام لأسياد هذا العالم، إنه لا يؤكد نفسه ذاتًا، ولا يسعى إلى ذلك، وبالإجمال، إنه يَخضع لأفكار الآخرين. (بِنية صون التطابق)
إنه “ضميرهم” كما جاء في “الباب”: “ثمة شيء يبقى بعد أن يموت الجسد، هذا الشيء الذي تسمونه ضميرًا…” (ص 100) ولهذا علاقة وطيدة بفكرة الشيء-القبعة-الإيديولوجيا كما سنرى.
وعندما يسأله المتهم:
“المتهم: كيف تتناسلون إذن؟
الشيء: إننا نُزرع. إذا أردت رفيقًا قطعت جزءًا من جسدك ووضعته في الرمل، وسينمو ويصير رفيقًا. أو قل بالعدوى.
المتهم: مثل الشجر؟
الشيء: ليكن، مثل الشجر…” (ص 53)
يشابه هذا التناسل المتعدد الأنواع إكثار البكتيريا في مختبرات الوقاية من الميكروبات. ويُظهر هذا التطور البكتيري أن صانعي الشيء قادرون على إنتاج أنواع من جنسه بالجملة، مثلما هم قادرون على استعمالها ضد أنواع أخرى لتحييدها أو لوضع حد لها. يغدو الشيء إذن وأشباهه سيفًا يشهرونه للحفاظ على أنفسهم ضد التيارات “الضارة”. (بِنية صون الإثبات)
لكن عندما يطلب الشيء أن يتعارف على المتهم، يندمج شيئًا فشيئًا في عالم لا يعرفه من قبل، مما يشكل خطرًا يهدد صانعيه:
“الشيء: اسمع! لنضع حدًا لهذه المهزلة، إننا نحتاج إلى التعارف في أول الأمر.
المتهم: إن اسمي…
الشيء: دعك من الأسماء، ألا ترى أن خلافنا يبدأ منها؟” (ض 53)
طالما أن الشيء لا يبدي أي اهتمام بالأسماء يبقى مرتبطًا بعالم ممتهن محتكر، لأن الاسم هو رمز الهوية والخصوصية، بمعنى آخر، كل ما هو بعكس التشيؤ وضياع الشخصية، فتقوم الهوة بين المتهم والشيء. في الحقيقة يمكن المتهم أن يتصرف بوعي حسب الخط الذي حدده لنفسه، بينما يرضى الشيء أن يتبنى بلا وعي الخط الذي حدده له “الآخرون”. (بِنية صون الحقيقة)
رقم1 ورقم2:
يقدم كنفاني رقم1 ورقم2 كالتالي: “شخصان متشابهان، أنيقان دون إفراط، ودون ما يوحي بالرسمية. صوتاهما -بصفة عامة- حياديان وميالان للتقريرية.” (ص 45)
الواقع أن لهما نفس الشخصية، ويلعبان نفس الدور، دور الحاكم. منذ بداية المسرحية يعلنان أن المحكمة انتهت، وأنهما بصدد إصدار الحكم:
“رقم1: (وكأنه يكمل حديثًا) أما وقد انتهينا من المحاكمة فسأصدر الحكم الآن. قف كي تسمعه كما ينبغي.” (ص 46)
تُظهر كل إجراءات الدعوى أن الحاكمين يريدان التخلص من المتهم ومنها بسرعة وبأي ثمن:
“رقم2: لننته من الموضوع بسرعة، دعنا نشنقه هنا والآن، أليس هذا هو الحكم الذي اتفقنا عليه…
…………….
رقم1: أيها القاتل.
رقم2: قاتل ووقح أيضًا.
رقم1: قاتل رهيب (مشيرًا إلى الشيء الأسود أمامه) والجثة ما تزال أمامه وقد بدأ ينكر حتى قبل أن ندفنها.
رقم2: حتى قبل أن يجف دمها.
المتهم: دمها؟
رقم1: لننس موضوع الدم (ملتفتًا إلى رقم2) الحقيقة أنه لا يوجد دم.
رقم2: قتلها خنقًا.
المتهم: خنقًا؟ إنه شيء لا يستعمل الهواء.
رقم1: قتلها، وهذا يكفي.” (ص 46- ص 47)
كما نرى، يبحث الحاكمان عن إلصاق التهمة بالمتهم بأية طريقة، فيناقض أحدهما الآخر قولاً وفكرًا. إجمالاً، يشبه كلاهما الجلاد الذي، لكثرة ما اعتاد من مشاهد الدم والعذاب الإنساني، قد انتهى بإتلاف أحاسيسه، ليغدو فظًا قاسي القلب. (بِنية التماثل والاختلاف)
كذلك هما يرفضان رؤية المحاكمة تدور بشكل طبيعي، لأنهما يرفضان الاستماع إلى بريء:
“رقم1: إن الجريمة واضحة، ليست في حاجة إلى إضاعة الوقت. لم يعرف هذا الشيء أحدًا غيرك. فمن إذن قتله؟ كيف يمكن أن يقتل إنسان ما شخصًا لا يعرفه؟
رقم2: (للمتهم) لقد أحرجك هذه المرة ووضعك في الزاوية، لماذا لا تجيب؟
المتهم: إننا في الواقع نقتل الذين لا نعرفهم.
رقم1: (يقهقه) لقد أوقعناك في الفخ أيها القاتل. لقد ضحكنا عليك وسحبنا منك الاعتراف الكامل، ربما لآنك غير خبير في هذا الموضوع، فهذه أول جريمة ترتكبها في حياتك، وأنت لم تكن قاضيًا في حياتك ولا مرة…” (ص 48)
تتضح هنا تمامًا مناورات الحاكمين، إذ يحثهما سلوكهما المنحط، بلا وعي، على إعطاء صورة واضحة عن عالمهما: أناس مهرة في كل ما يلحق الأذى بالآخرين، قادرون على لعبة “أبو الوجهين” حسبما ينفعهم هذا أو ذاك. إذا قالوا إن باستطاعة المرء أن يقتل من يعرف، فمن الممكن أن يعني ذلك عندهم العكس، وهذا ما هم بصدد فعله مع المتهم. إن استدلالهم لا منطقي بقدر ما هو متناقض، ولكن، أليست طريقة المحاجَّة هذه أفضل سلاح لزعزعة البصيرة عند الآخرين؟ (بِنية الاستدلال والاستبدال)
أضف إلى ذلك، كل مرة يحاول فيها المتهم تقديم وجه إنساني للشيء، يعتبره الحاكمان مخادعًا. بكلام آخر، يمثل كل فعل إيجابي للحاكمين فعلاً سَلبيًا يمكنه في كل لحظة أن يفجر البِنية “المنطقية” للمحاكمة. (بِنية الإيجابي والسلبي)
كما قلنا سابقًا بخصوص هذه المسرحية الأقرب إلى الرواية، يأتي تحديدنا لها تحديد جيرار جينيت على أساس أنها التمثيل لحدث أو لأحداث متتابعة واقعية أو خيالية بواسطة اللغة، وخاصة اللغة الكتابية، هذا شيء بديهي، لكن ذلك لا يعني لدى كنفاني أنه يغلق على نفسه باب البداهة، فما يوجد في نصه من مشاكل وصعوبات جزء من “تمرينه” الكتابي، وشرط من شروط الكتابة، كما يرى اللساني الفرنسي. فالكتابة لا تجري مجرى الماء، والسرد لا يمشي مِشية الذئب، هكذا، بشكل طبيعي، والجمل لا ولا الأحداث تكون بتنسيقها، لأن الأساسي في تطور الأدب والوعي الأدبي –كما يجتهد جينيت- السِّمة الفريدة الصُّنعية الإشكالية للفعل السردي. سنكتفي بهاتين الكلمتين عند هذا المستوى من عرض الوقائع، على أن نعود إلى سبر عمق البحر الكنفاني في فصولنا التحليلية، ولنتابع تشليح باقي الشخصيات من ثيابها.
السيدة وأم السيدة:
نعرض الآن لشخصية السيدة وأمها: “السيدة شابة جميلة وأنيقة، ووالدتها مبهرجة قليلاً ومتصابية وذات مظهر عدواني إلى حد ما…” (ص 45) يقيم المتهم عَلاقات غير شرعية بالسيدة الحامل منه، فتتهمه بالتخاذل مطالبة بتسوية المسألة بهدوء:
“المتهم: أية مسألة؟ مسألة الدين؟ مسألة المال؟ مسألة أمك؟
السيدة: كل هذه المسائل.
المتهم: لنبدأ بمسألة الجنين. يجب أن يموت بالطبع.
السيدة: نقتله بالمناصفة، مئة ليرة منك ومئة مني.
المتهم: ليس لدي مئة قرش أشتري بها رغيفًا.” (ص 49)
ثم يقترح عليها أن يتزوجها لأن:
“المتهم: …العالم واسع ومليء بالفرص.
السيدة: مليء بالفرص! هل تستطيع أن تقول لي ما الذي قضى عليك إلا هذا الهُراء؟… إن العالم صغير. إنه أمي وغرفتك ومئتا ليرة، هذا هو العالم.” (ص 49)
نستنتج من باقي الحِوار أن العلاقات المادية وحدها ما تربط السيدة بالمتهم، والنقود هي محور وجودها (مئتا ليرة هذا هو العالم)، وهي العنصر الذي يقطع نسق حياتهما كزوجين. هذه العَلاقات القائمة على تصورات خاطئة: النقود، الدين، الوسط الاجتماعي الزائف، كل هذا عبارة عن نتاج عالم يقوم على اللاعدل والاضطهاد. (بِنية إلغاء التماثل)
وتبدو السيدة عفنة بالقواعد والأصول التي تحكم وسطها: مستعدة لإنقاذ المظاهر (الإجهاض) وفوق ذلك، ليس لأنها تدرك إمكانيات عشيقها المحدودة، ولكن لأنها ترمي إلى انتزاع مئة ليرة من حصته. إنها ترفض حتى الزواج منه، مما يفاقم من حدة لا تأنيس عالمها الضيق واصطناعيته. (بِنية إلغاء الاستدلال)
أما عندما تقترح الشركات الكبرى على المتهم المبالغ الطائلة من أجل شراء الشيء، فالسيدة تأتي عنده لتصحيح سلوكها:
“السيدة: دع والدتي خارج الموضوع الآن. ألستَ ترى الأمر بالوضوح الجدير برجل عاقل مثلك؟ ما الذي ستفعله بهذا الشيء؟ إنه عديم النفع بالنسبة لك، ولو بعته لأتحت الفرصة لكسب علمي هائل للعالم كله، ولأنقذت نفسك في الوقت ذاته، وعدت على سجادة حمراء إلى العالم، إلى الناس، إلى الحب، إلى كل شيء.” (ص 58)
يصبح المتهم الآن “رجلاً عاقلاً”، يمكنه أن يقدم خيرًا للإنسانية، بينما لم يمض وقت طويل على طعن السيدة فيه واتهامه بالتخاذل واللامسئولية. أضف إلى ذلك أن عالمها الذي كان يتشكل من “الأم وغرفة المتهم ومئتي الليرة” لا يحوي في الوقت الحاضر إلا “المتهم والحب”، هذا الحب الذي غدا قادرًا على إعطائه فجأة!
لقد جرى انسلاخ السيدة بأفكار مسبقة، فبالنسبة لها يمكن شراء السعادة بالنقود، كذلك فإن النقود خالقة للحب، وهي التي تجعل العالم أكثر جمالاً! (بِنية إلغاء الإيجابي)
أما أُم السيدة، فهي تبدو معادية للمتهم منذ البداية، لا تسعى إلى تليين سلوكها معه، بل على العكس، تترقب الفرص لمهاجمته. سبب عدائها الوسط الاجتماعي للمتهم.
“الأم: (تخاطب السيدة) قلت لكِ منذ البدء إنه رجل دون مستواك. انظري كيف يستقبل سيدتين وهو بملابسه الداخلية. إنه عديم الذوق، وفي الحقيقة إنه داعر.” (ص 61)
نلاحظ هنا أن المظاهر هي أيضًا عامل هام للأم: أن تكون غنيًا، أن تستقبل الناس برداء حسن، أن تمتهن شتى أنواع التدليس لتصبح ذا ذوق، كل هذه هي معايير إثبات الشخصية، لأن الغني هو الذي يفرض احترامه في عالم يقوم على الجشع والسباق من أجل الربح، وهذا بالذات ما يصارع المتهم ضده. (بِنية صون الاختلاف)
فوق ذلك، تستعمل الأم لغة رقم1 ورقم2 نفسها لتلصق بالمتهم سيء الصفات وسيء النوايا:
“الأم: أقول لكِ دائمًا إنه مجنون، وأنت تضعينني مرة بعد مرة في هذا الموقف المهين، انظري إليه كيف يسخر مني! يا إلهي! كيف يمكن التحدث إلى هذا الرجل الأفاق؟…” (ص 63)
لأن المتهم يقول أشياء معقولة أعمل فيها الفكر اعتبرته مجنونًا، لكن عندما تعلم أن الشركات تتنافس فيما بينها على شراء الشيء منه تمارس لعبة الحماة المتفهمة، وتقول مخاطبة ابنتها:
“الأم: في سبيلك فقط يا ابنتي المسكينة سأتحمل كل حظي التعس.” (ص 63)
فتتحول عن رأيها، ليس التحول في الكيف الذي يقتضي التغير. (بِنية صون الاستبدال)
ولا يبدو السبب الحقيقي لكل اللعبة إلا عندما تكشف:
“الأم: …إن عالِمًا كبيرًا يعرض عشرة آلاف ليرة ليلقي نظرة على ذلك الشيء الغامض مدة نصف ساعة، وأنا متأكدة، بل إنه هو نفسه قال لي، إنه سيدفع عشرة أضعاف هذا المبلغ إذا رَغِبْتَ في بيع ذلك الشيء.” (ص 63)
هنا يتضح كل شيء، ونفهم بالطبع أن الكوميديا التي تلعبها الأم ليست إلا من أجل إقناع المتهم ببيع الشيء. (بِنية صون السَّلبي)
لنذكِّر بأن هاتين الشخصيتين ثانويتان، يتوقف دورهما على دور رقم1 ورقم2، ودورهما تابع، يأتي ليدعم أفكار عالم الأوساط المسيطرة.
الشرطي:
لا يتكلم أبدًا، وهو “مكلف بتحريك الحاجز بين الفينة والأخرى. لا ملابس رسمية، ولكن صرامة الرجل الرسمي المكلف. ولا تعاطف، وغالبًا لا يلفت نظرَ أيٍّ من أشخاص المسرحية، ولا يقاطع أحدها وحوار أبطالها.” (ص 46)
حضوره إذن لا يؤثر في مجرى الأحداث، لأنه ذائب في ظل رقم1 ورقم2، بُرغي تافه في ماكينة الأوامر. (بِنية الحضور والغياب)
نحس عَبر المسرحية بأنه يقوم بحركات ميكانيكية:
“يتقدم الشرطي بهدوء، ويحرك ضلع الحاجز المواجه للجمهور، وينقله على محوره إلى الجهة المقابلة، فيبدو القاضيان الآن في القفص والمتهم دونه.” (ص 46)
الواقع أن هذا الشرطي يشبه الشيء، فهو مجرد من الشخصية، مجرد من الإرادة، يتبنى أفكار الوسط الرسمي دون أن يحاول بعض التفكير. وكذلك بصفته أداة منفذة، يصبح أداة دعاية، سيفًا قاطعًا وفي الوقت نفسه دعائيًا يمكن إشهاره من حين إلى آخر، حَسَْب الحاجة. (بِنية الغاية والوسيلة)
ساعي البريد:
“يلبس ملابس عادية ويتميز بقبعة رسمية فقط، ولا يحمل حقيبة، وشديد الفُضول.” (ص 45)
تدفعه حياته الرتيبة إلى التصرف الميكانيكي، تمامًا كالشرطي، فنجد في هيكليته ما لم نجده عند الشرطي من تفاهة، ونسمعه يُعَبِّر بمصطلحات خاصة بمهنته. (بِنية الاستثناء والقاعدة)
وهو بالتالي بارع في التحريك الآلي:
“الساعي: برقية لك (يتناولها) وقِّع هنا (يوقع) اكتب اسم والدتك هنا (يكتب) أعطني سيجارة (يعطيه) أشعلها لي أرجوك (يشعلها) أوف!” (ص 70)
ولأنه بطبيعته فُضولي، فهو يعرف كل أخبار الناس الذين لا علاقة له بهم، وكأن ذلك من أجل أن يملأ وَحدته القاسية. (بِنية إلغاء الحضور)
لننظر كيف هو حضوره في العالم وعمله فيه:
“الساعي: …إنني أشكو من مرض خطير يتعلق بعملي، مرض لا شفاء منه. في حين أن مهنتي تقتضي مني أن أكون أقل الناس فضولاً فإنني على العكس أكثر فضولاً (يشير إلى البرقية في يد المتهم) إنني محكوم بالعذاب (المتهم ينظر إليه بفُضول) إنني سريع التأثر ولكنني أمين أيضًا. وبعد أن أنتهي من عملي أذهب إلى البيت (يقترب منه) إنني أعيش وحيدًا كما تعلم. وأتذكر وأجلس وأبكي وأضحك ويستثيرني الفُضول وأحيانًا أفكر.” (ص 70)
يثير ساعي البريد بسلوكه الشفقة لدى من يستحق الشفقة وبفُضوله الفُضول لدى من يستحق الفُضول (ما ندعوه “عدوى الشخصية” أو بِنية إلغاء الغاية)، إنه أيضًا نتاج هذا النظام الذي يقسم العالم إلى طبقات ثابتة تقريبًا (بِنية إلغاء الاستثناء). لقد أتلف الروتين اليومي كل روح المبادرة عند ساعي البريد، وجعل منه إنسانًا مقولبًا (وقِّع اكتب أعطني… ولا يكف عن ترداد “إنني”)، مع أن ذلك يتناقض مع مظهره البسيط.
حتى هنا، استطعنا ملاحظة أن شخصيات المسرحية التي لا تحمل اسمًا وغير المحددة تصل إلى درجة عليا من فقدان الشخصية (بِنية صون الغياب). لقد كان دورها نقل حالية الواقع، فالمتهم والشيء والسيدة ووالدة السيدة والشرطي وساعي البريد هم “ضحايا” بعيدًا عن المعنى الأخلاقي للكلمة (بِنية صون الوسيلة)، وفي الوقت نفسه نتاج النظام القمعي القائم (بِنية صون القاعدة)، بينما رقم1 ورقم2 هما دِعامة هذا النظام. مما يقودنا إلى القول بأن الشخصيات “قد تم بناؤها تبعًا للأفكار” (59) بصفتها أرقامًا للحَبكة. إنها رهينة هذه الأفكار، تتحرك ضمن دائرتها، إلى أن تنجز جدليًا –تنجز الشخصيات المقموعة فيها- عملية انطلاقها نحو التحرر.
المراجع
(59) برتولت بريشت: جهاز صغير للمسرح، منشورات لارش، باريس 1970، ص 109.
3 – التوازي القائم بين البِنيتين: بِنية المحاكمة وبِنية القتل
سنُظهر الآن حركة التلاحق الدرامي، ومن أجل ذلك، سنُجري تحديد المراحل بمعالجة كل واقعة على حدة، مثلما فعل كنفاني، وهو يقترح جمع مشاهد المسرحية الثلاثة في مشهد واحد، لهذا سنفحصها عَبر هذا المِنظار، على اعتبار أنها مشهد واحد:
1 – نحن في المحكمة: تدور محاكمة المتهم حول قتل الشيء. لا نعرف كيف وقعت عملية القتل، لكننا نعلم، بفضل فلاش-باك، تفاصيل الاتهام. وفي كل مرة يكون فيها لجوء إلى فلاش-باك، يجري تسليط الضوء على نصف المشهد (حجرة المتهم) وعلى العكس، حسب إظهار هذا أو ذاك.
2 – فلاش-باك: حديث بين السيدة والمتهم فيما يخص الجنين.
3 – عودة إلى المحكمة: يستغل رقم1 ورقم2 مسألة الجنين ضد المتهم.
4 – فلاش-باك: نعلم كيف سقط الشيء عند المتهم من النافذة. لا يستطيع الشيء احتمال نور النهار، فيغطيه المتهم بقميص، ويأخذ بضربه.
5 – تضيء المحاكمة فجأة: يأمر رقم1 ورقم2 المتهم بالتوقف عن ضرب الشيء.
لدينا انطباع حتى الآن بأن مشهد الاتهام يدور من جديد، وأن الحاكِمَيْن يشاهدان من بعيد حتى لا يقال إنهما يشاركان فيه فعلاً. ومن الملاحظ أن هناك إجراء فنيًا –تَكَرَّر عدة مرات- يَرْبِط قاعة المحكمة بحجرة المتهم، وذلك بفضل الشيء: مثلاً عندما تبدأ المحاكمة بين رقم1 ورقم2 والمتهم، يأخذها الشيء عند نهايتها ليبدأها مع المتهم.
يحاول الحاكمان إلصاق كل التهم على المتهم، فيدحض كل البراهين، ولا يقف الأمر عند ذلك، إذ يقيم علاقة صداقة بالشيء محاولاً إقناعه وإثبات أنهم جردوه من كل صفة إنسانية. وفي الحال، يتدخل الحاكمان ليمنعا المتهم من التأثير على الشيء.
6 – فلاش-باك: السيدة وأمها عند المتهم. تكتشفان الشيء. تتخلص السيدة من أمها، وتعود لتخبر المتهم بمن يهتم بشراء الشيء بثمن ضخم.
7 – تضيء قاعة المحكمة: يشجع الحاكمان المتهم على البيع.
8 – عودة إلى حجرة المتهم: تحاول السيدة وأمها دفع المتهم إلى قُبول اقتراح البيع.
لأول مرة يدعو المتهم الشيء ب “القبعة”، ونلاحظ أن على رأس الأم قبعة أيضًا، الشيء الثاني الذي سقط من المركبة الفضائية. يرفض المتهم رفضًا قاطعًا الاقتراح، ويتحدث عن الماء والسماء مع الشيء. يتفقان على سرقة قبعة الأم، والرحيل معًا لبناء عالم جديد على الأرض الجرداء التي يملكها جد المتهم تحت دلالات معروفة.
9 – يملأ الضوء قاعة المحكمة: يتهم الحاكمان المتهم بالسرقة المتعمدة، فيدحض كل برهان، إذ ما الأمر إلا لأجل “مضاعفة قيمة الشيء المسروق مئات المرات…” (ص 67) ويؤكد ألا هدف لهما سوى عرقلة “سير العالم نحو الأفضل.” (ص 68)
10 – يأتي ساعي البريد المتهم: ببرقية من أحد المختبرات الكبرى التي تقترح مليون ليرة ثمنًا “للسر-الشيء” الذي يمتلكه. أكداس من الرسائل تصله أيضًا من الجامعات المعامل الجمعيات الشركات… أمريكية وإنجليزية وفرنسية… إلى آخره. المبالغ المقترحة ترتفع بسرعة، مبالغ باهظة، لكن المتهم لا يرجع عن اتفاقه مع الشيء.
11 – بفضل تقنية تعاقب الشخصيات تُسَلَّط الأضواء على وجه السيدة التي تصرخ: “جنون!” وَتُسَلَّط الأضواء على وجه أُم السيدة التي تصرخ: “غبي! أحمق!” وعلى الشيء الذي يلاحظ ارتفاع الأسعار، وعلى وجه ساعي البريد الذي يطالب بحصة من كل هذا، وعلى وجه رقم1 الذي يذكِّر المتهم بأن هذا الاقتراح وحده من سينقذه من الورطة… إلى آخره، وَيَعتبر معارضو المتهم كلهم أن رفضه عبارة عن جنون. تقنية التعاقب هذه تلقي الشخصيات “بالمِظلات” بين الجمهور، فتصبح القاعة الخشبة والخشبة القاعة.
12 – تنطفئ الأضواء تمامًا لتشتعل في حجرة المتهم رويدًا رويدًا: يطلب الشيء من المتهم أن يسقيه، لكنه مشغول بالرد على الرسائل. يُلِح الشيء في طلب الماء، والمتهم مستمر في عدم اكتراثه، إلى أن يتقوض الشيء بالتدريج. يقترب المتهم منه، فيشاهد أنه مات.
13 – عودة إلى قاعة المحكمة: يؤكد رقم1 قتل المتهم للشيء عندما لم يسقه. يرفض المتهم التهمة، ويطالب بمحاكمة أصحاب الجريمة الحقيقيين، كاشفًا بالإثباتات التي يقدمها عن تواطؤ الحاكِمَيْن، وعند هذه اللحظة فقط يُبَرِّئ الحاكمان ساحته. يرفض المتهم ذلك، فيؤكد الحاكمان البراءة، ويخرجان من المحكمة.
14 – ظلام.
15 – تُسَلَّط الأضواء على المتهم والشيء: الشيء يبدأ بالتحرك. يتقدم المتهم منه، ويحمله للمرة الأولى بين ذراعيه قائلاً “هيا بنا أيها الصديق، ليس أمامنا إلا أن نخرج معًا.” (ص 76)
آخر كلمات المسرحية.
ما نراه حسب هذا التقديم أن دور الحاكم يمضي من أيدي رقم1 ورقم2 إلى يدي المتهم، كذلك فإن تعاقبًا مسرحيًا متلاحمًا يمضي من حجرة المتهم-الماضي إلى قاعة المحكمة-الحاضر، والعكس بالعكس، فَتُوَضِّح هذه الأفعال المسرحية أصلَ الاتهام وتطورَهُ اللاحق.
وبما أن مضمون المسرحية عبارة عن محاكمة، لدينا حشد من البراهين والأدلة التي تضفي نوعًا من الدقة والصرامة على الاتهام حتى ولو بدت اعتراضات الحاكِمَيْن متناقضة.
ترتكز الخُِطة الفنية على: عدم ترك الفرصة لإقامة حقيقة-مضادة لدى الخصم، وخصوصًا عدم المطالبة بأدلة للدعم، وهذا، في الواقع، ما ينجم عن مثل هذه المحاكمة الغريبة من نوعها، حيث لم نستمع إلى شهود، ولم يكن للمتهم محامٍ للدفاع عنه.
ويثبت الإقرار ببراءة المتهم أن البِنيتين، بِنية المحاكمة (رقم1 ورقم2) وبِنية القتل (المتهم والشيء) لا تلتقيان عند نهاية المسرحية بل تبقيان متوازيتين، لأنهما قائمتان على قاعدة من التناقض والتعارض الواضحين منذ البدء.
لقد اعتمدت كل المشاهد على عنصر المفاجأة لا المطابقة، وبكلام آخر، لا يحاول المتفرج أن يرى إذا كان بإمكانه أن يطابق التجربة التي يعيشها الممثل على تجربته الخاصة به هو. هذه الملاحظة تقوم على حقيقة أن المسرحية لا تسعى إلى بث المشاعر واللعب بالأحاسيس، إنها تطرح مشكلة، وتعطي مادة للتفكير. أضف إلى ذلك أنها تجتاز خشبة المسرح إلى قاعة المسرح، حيث تتحطم الفواصل بين ممثل ومتفرج، ليصبح الممثل مخاطِبًا مماثلاً للمتفرج، والمتفرج مشارِكًا في دورة الأحداث. لقد جرى تركيز كل اهتمامنا في المشهد، وكأننا شاخصون إلى شيء ما، مُبدين اهتمامًا تواقًا إلى المتابعة.
كل هذا نتيجة “أثر التبعيد” الذي يرتكز على إعادة نقل تطورات الحياة الحقيقية على المسرح من جديد، وبشكل نرى فيه أن سببيتها، على التحديد، تكون واضحة على الخصوص، وهي التي “تشغل بال المتفرج”. (60)
ويسمح الضوء القوي أو الضعيف أحيانًا بأن يبرز بشكل أفضل خصائص كل شخصية أو بأن يُلقي إلى جانب حدثًا لم يعد هامًا، كما ويساعد الضوء على استنهاض الحس النقدي لدى المتفرج والحضور الذهني، خاصة إذا كانت الأحداث متداخلة ومختلطة كأحداث هذه المسرحية.
المراجع
(60) برتولت بريشت: شراء النحاس، منشورات لارش، باريس 1970، ص 176.
4 – أبعاد الفكرة الأساسية للمسرحية
تختفي خلف التجريدية العالية جدًا للمسرحية رمزية معقدة سنحاول توضيحها.
يرجع سبب وجود المحاكمة إلى “الشيء”، كان من وراء قصة القتل، وكان للرمزية محور ارتكازها. ما هي والحالة هذه أهمية الشيء؟ لماذا يريد الكل امتلاكه؟
يلعب الشيء دورين، دور الأداة ودور القبعة في وقت واحد. لإثبات الدور الأول يقول الشيء: “إنهم يتكلمون من خلالي معك” (ص 53)، “إننا نُزرع” (ص 53)، “إننا لا نتألم ولا نموت” (ص 54). مما يؤكد أن الشيء هو لسان حال السلطة وأداة دعايتها مثلما هو أداة قمعها، لا رأي خاص يبديه، وأفكاره هي الأفكار المزروعة في رأسه. هو أيضًا مزروع، يُولِدُ خالقوه الآلاف من نوعه بهذه الطريقة. مجرد من الألم، لأنه مجرد من الإنسانية، وهو لا يموت كسائر البشر، لأنه ليس بشرًا. مع ذلك، قيمته استهلاكية: “إنه شيء ثمين!” (ص 57) باعتباره بضاعة تباع بمبالغ باهظة: “إذا عرضناه للبيع فقد يدفعون خمسة آلاف ليرة ثمنًا له.” (ص 57) معنى ذلك أنه يعود بالنفع على النظام المتسلط، ويعمل على بقائه، فمعه يمكن امتلاك “كل شيء… كل شيء على الإطلاق.” (ص 53)
أما كونه يقوم بدور القبعة، فلهذا دلالات ومعانٍ عميقة. بلا علمه يقوم بهذا الدور، لا يفعل ما يجب عليه فعله، ويكون استغلاله في صالح غيره، أهل الحل والربط، أو في طالح غيره، الناس، عندما يتكلم الشيء عن صديقه الذي سقط في مكان ما يقول:
“الشيء: ربما سقط على غرفة السيدة، ووجدته أمها في الصباح، فغسلته وكوته وجعلته قبعة!
المتهم: ها أنت تتحدث عنه كأنه قبعة فعلاً!
الشيء: قبعة أو نبي. أنت لا تعرف كم يجعل الناس منهما شيئين متشابهين. إن أكثر الناس يفضل أن يضع النبي على رأسه من الخارج، مثل القبعة، مثل يافطة ضخمة ملونة مضيئة على واجهة دكان فارغ!” (ص 60- ص 61)
يتطابق هنا الشيء مع القبعة مع النبي، والرمز هو الادعاء بالعلم، بالمعرفة، بالنبوة، وكل هذا كذب، لأن أولئك الذين يوهمون الناس بأنهم يعرفون العالم أكثر من غيرهم، وأنهم قادرون على استباق الأحداث واقتياد المستقبل ما هم سوى أولئك الذين يدفعونهم إلى وضع النبوة على رؤوسهم كيافطة ملونة على واجهة دكان فارغة (الشكل جميل والرأس فارغ)، ما هم سوى أولئك الذين يكرسون إيديولوجيتهم من أجل خداع العالم. هنا ينطلق الرمز الأبعد للقبعة-النبي المتجسدة بصورة القبعة-الإيديولوجيا.
ويشكل أصحاب هذه الإيديولوجية السلطوية بدعامتيها: السلطة العالمية المتمثلة برقم1، والسلطة العربية المتمثلة برقم2. نبيان كاذبان كما سنرى: “…أنتم الذين تتواطأون على خداع تلك السيدة وخداع العالم كله. كنتم تريدون من كل النساء وكل الرجال الذين شاهدوا حماتي أن يسقطوا ضحية تلك الخدعة القذرة، فيقولون كلما مروا بها: ما أجمل قبعة تلك السيدة!” (ص 68)
هنا تنكشف حقيقة القبعة-المظهر، القبعة-التمدن، القبعة-الحضارة، أو القبعة-التخلف، القبعة-الانحطاط، القبعة التدين خاصةً التي تنطوي على الخداع. إن الحاكِمَيْن، أي السلطة الغربية والسلطة العربية، يحاولان خداع البشرية جمعاء كأداة مشبعة بفكرهما ومنطقهما. وبالمقابل، لدينا الإيديولوجيا التي يرمز إليها فكر المتهم وتصوره للعالم. إنه يرفض القبعة-الخداع نسيج نماذج مقررة سلفًا: “…أما أنا فكنت أريدهم هم أن يقولوا: ما أجمل قبعة السيدة، حين تكون قبعة حقيقية.” (ص 68) إنه التنسيق بين المكونات، النبي الحقيقي الذي يسعى في طلب إيديولوجية حقيقية، وفي السياق الذي نحن فيه الفلسطيني المتمرد حتى هذه المرحلة.
بناء على ذلك، إذا كان الشيء أداة، فهو أداة لتطبيق الإيديولوجية السلطوية التي شيأت الإنسان بالاضطهاد، ويمثل الشيء هنا اليهودي المشيأ، وفي الوقت نفسه الفلسطيني المشيأ: الأول أداة في يد الغرب (الشرطي وساعي البريد أيضًا) والثاني أداة في يد العرب (السيدة وأم السيدة أيضًا).
5 – العَلاقات بين الشخصيات
مسرحية القبعة والنبي ككل مسرحية عبارة عن نظام من الحِوارات، لكن شخصياتها –لا ككل مسرحية- عبارة عن كودات يعمل كنفاني على فكها، فتفوق في قيمتها ما تنطق، أي أن الشخصيات أهم من الحِوارات، ويتوقف ما تنطق به الواحدة على ما تنطق به الأخرى، أي أن العَلاقات التي تجمعها عَلاقات وثيقة، وهي عَلاقات ذات نوعين، بين شخصيتين أو أكثر، وبين الشخصيات كلها، وفي هذه الحالة لا بد من شخصية تكون محورًا، ألا وهي “الشيء”، والشيء كشخصية لا يمكن تحديده إلا في عَلاقاته بباقي الشخصيات، وما سنفعله حصر هذه العلاقات في ثلاث: المحاكمة، المنافسة، المشاركة.
المحاكمة: حادث ثابت، تؤكده كعلاقة كل الشخصيات، وَكَحُكْم للضمير نجده أكثر ما نجده عند الرقمين 1 و 2 الحاكم الأول والحاكم الثاني.
المنافسة: أكثر وضوحًا من المحاكمة، وهي تدور كعلاقة بين كل الشخصيات حول الشيء، الذي تتنافس في خَلْقِهِ أسباب عديدة، والمنافسة تكون علنًا، فيها مكر ودهاء وتآمر، كل هذا يبرر للمنافسة كعلاقة اتفقت عليها الشخصيات دون أن تتفق، لهذا جمعت المنافسة في كل المسرحية أبطالها اثنين اثنين المتهم والسيدة المتهم وأم السيدة المتهم وساعي البريد وحتى المتهم والشيء أو ثلاثة ثلاثة المتهم والرقمين 1 و 2 أو المتهم والسيدة وأم السيدة أو أكثر من ثلاثة المحافل والمختبرات والشركات في العالم.
المشاركة: كعلاقة في الرأي وفي الهَمّ وفي الوهم، رأي الرقمين 1 و 2 تحت مفهوم الإفحام بالحجج، هّمّ المتهم والشيء تحت مفهوم حرث أرض الجد الجرداء وبناء جنة، وَهْم السيدة وأمها تحت مفهوم شد النفس إلى أوهام. كل شخصية تشارك الأخرى فيما يشغلها. هذه العلاقة هي المهيمنة، دونها لن تكون هناك محاكمة ولا منافسة.
من هذه العلاقات الثلاث يتشكل الموديل المسرحي لدى غسان، كعلاقات إنسانية رغم عدم إنسانية الرقمين 1 و 2، ورغم كون الشيء شيئًا، ولا حاجة لنا إلى تصنيف الشخصيات كنماذج خدمة للتحليل، لأنها مصنفة منذ البداية، كل واحدة منها كود قائم بذاته، ولأنها قليلة في عددها، لكل واحدة منها دور أساسي في بناء المسرحية.
ختامًا نقول:
1 – تُبرز المسرحية حالة الإنسان الفلسطيني وحالة الإنسان اليهودي دون أن تسميهما، وتحاول إيجاد حل إنساني لمسألتيهما، مما يجعل منها مسرحية الإنسان.
2 – تعقيد المسرحية بسبب رمزيتها وتجريديتها نتيجة طبيعية للحظة التاريخية المعقدة التي عرفتها مرحلة التمرد.
3 – تلجأ المسرحية إلى الخيال العلمي لأول مرة في الأدب الفلسطيني كوسيلة لحل تلك اللحظة التاريخية المعقدة، وَتُذَكِّر في الوقت نفسه بفيلم ستيفن سبيلبيرغ “إي تي” كأنه نقل عن كنفاني أفكاره.
4 – تعرض المسرحية منذ عقود ما يدور اليوم من صراع إيديولوجي الدين محوره، لو قرأها الناس أو شاهدوها لما وقعت المعارك بيننا، ولكانت الحقيقة التاريخية شيئًا آخر.
5 – ليس ضروريًا أن يكتب غسان كنفاني مسرحية أو أكثر ليصبح كاتبًا مسرحيًا، فقد ساهمت قصصه ورواياته مساهمة كبيرة في إثبات مقدرته على ذلك، سنولي هذه المقدرة عناية فائقة، وسنحلل وجه الكاتب هذا من بين وجوه أخرى في قسمنا الثالث.
القسم الثالث
أشكال ومراحل إعداد جمال غسان كنفاني
1 – مدخل في علم الجمال
يشير الامتلاك الجمالي للعالم من طرف الإنسان إلى صلة خاصة للعلاقة القائمة بين الذات والموضوع. وللإجابة على السؤال الأساسي: ما هو الامتلاك الجمالي للعالم؟ يجدر بنا أن ندمج هذا الامتلاك الجمالي للعالم في الصلة العامة التي يحافظ الإنسان عليها بالطبيعة. لقد تحددت هذه الصلة العامة بمقولة “العمل”، فالفن من خلال هذه الرؤية عبارة عن “عمل نوعي” للإنسان إلى جانب كل نشاطاته الإنسانية الأخرى التي تهدف إلى تغيير العالم والإنسان نفسه. بناء على ذلك، يندرج الامتلاك الجمالي بالضرورة في التطور العام لتأنيس الإنسان عَبر التاريخ، وهو عبارة عن نشاط داخل كلية الممارسة الإنسانية، مثلما جاء في مخطوطات 1844:
“يمتلك الإنسان وجوده الكلي الجوانب بطريقة كلية الجوانب، لذلك، فهو إنسان كلي. كل الصلات الإنسانية بالعالم مثل البصر، السمع، الشم، الذوق، اللمس، الفكر، الملاحظة، الإرادة، النشاط، الحب، بالاختصار كل أجهزة ذاتيته، وكل الأجهزة التي هي مباشرة في أشكالها أجهزة اجتماعية في سلوكها تجاه الموضوع عبارة عن امتلاك هذا الأخير. إن امتلاك الواقع الإنساني، سلوكه تجاه الموضوع، هو تحقيق الواقع الإنساني، هذا الواقع الإنساني الذي هو متعدد الأجزاء مثلما هي القرارات والنشاطات الإنسانية متعددة الأجزاء.” (1)
فعل امتلاك العالم بكليته هذا يخلق في الوقت نفسه الإنسان بكليته، خصوصًا فيما يتعلق بالامتلاك الجمالي للعالم. وعلى التحديد، هذه الصلة النوعية بين الإنسان وموضوعه هي التي خلقت وما زالت تخلق غناء الطبيعة الإنسانية في تحريكها للعاطفة وقدرتها الخلاقة طبقًا لشروط الجمال. اعتمادًا منا على ذلك، ليس الجمال الديكور الذي يضيفه الإنسان للتحسين والتزيين، بل الطريقة الخاصة بالإنسان في امتلاكه الشيء –لا أن يصبح الإنسان شيئًا ممتلَكًا كما رأينا في “القبعة والنبي”- وهكذا فإن رهافة الأحاسيس الإنسانية عبارة عن عمل الجنس البشري عَبر التاريخ الشامل للإنسانية.
غير أن عمل الامتلاك هذا جرى حتى اليوم في وضع تقسيم العمل الذي ولَّد تطورًا غير متساوٍ داخل مجتمع محدد. وحتى اليوم، لم تكن الثقافة النشاط المحرر لكل عضو في المجتمع، ولكن شغل بعض الاختصاصيين لصالح السلطة. حسب هذه القناعة التي هي الثقافة كنشاط محرر لكل أعضاء المجتمع، تصبح كل حركة اجتماعية صحيحة حركة ثقافية في وقت واحد. لكن ما جرى، بسبب تقسيم العمل المشئوم هذا، أن الامتلاك الجمالي أولاً بأول منذ مولد الطبقات المتصارعة كَبِنى اجتماعية تتداخل وتتخارج، وفي مجتمع متطور تتواشج وتتهادن، لكن ما جرى أن هذا الامتلاك الجمالي كان لصالح طبقة واحدة. لهذا، كانت التقييمات الجمالية في الغرب مشبعة بشكل أساسي بقيم الرأسمالية، وانطلاقًا من هذا الوضع في المجتمع الرأسمالي، عمم منظرو الفن بلا حياء ولا ذمة هذه التقييمات الجمالية، المحددَّة تاريخيًا، بصفتها “قيمًا كلية”.
أما الحقيقة، فهي ما أن تكون هناك بِنى اجتماعية مختلفة، هناك تقييمات جمالية مختلفة. مع ذلك، واجهت القيم العمالية والشعبية صعوبات كثيرة، فهي كانت مراقَبة ومقموعة، وكان ذلك النفوذ العميق المدموغ “بالسلاسل الإيديولوجية” الذي مورس على الإنتاجات الثقافية للعمال أو الموجهة إليهم وعلى الإنتاجات الحُلمية المناهضة للكابوس السائد تحت كل أشكاله.
لم تتحرر الثقافة الإنسانية بعد من سلطة النظام الرأسمالي، لكننا نستطيع أن نرى بذورها في الأغنية الشعبية كما هي عليه في الموشحات العديدة الشعبية والعمالية، ونستطيع خاصة أن نراها في “الأدب المضاد” لكتاب مثل إيلوار، بريشت، أراجون. ويصبح التقييم المتعلق بالتقييمات الجمالية للنقد السلطوي موضوع احتقار عندما يبدأ النقاد السلطويون بالخداع والتزييف، وهم يتحدثون عن ثقافة جماهير وثقافة نخبة:
“تمتد ثقافة الجماهير على المستوى اليومي، فتخترقه بواسطة الراديو، التلفزيون، الاسطوانة، لكنها لا تحوله، لا تغير وجهه، بل تترك سمات رتابتها وسلبيتها دون أن تصنع معه وَحدة، ولا أن تضفي عليه أسلوبًا. أما ثقافة النخبة، فهي فن مجرب، فن طليعي، أدب طليعي، منيع، متعذر تبسيطه للجماهير، خارج عن اليومي.” (2)
وكأن الخروج عن اليومي لا يمكن أن يكون ثقافة لكل الناس، وكأن أولوية الفن المجرب تتعارض مع البِنية الثقافية العامة في إطار تطور الأشكال الدالة.
بصفة عامة، يبقى النقد السلطوي منغلقًا على نفسه تمامًا داخل الأمثلة الوحيدة للثقافة الغربية، فهو يكيل المدح لجويس وكافكا ويروست (الأمر نفسه لقباني ومحفوظ وأدونيس في الثقافة العربية) معتبرًا إياهم أسياد الفن بكل بساطة، بينما يجب تحديد أن هؤلاء الفنانين لا يمثلون إلا أوج فنهم الذي هو في انحطاط منذ ذلك الزمان. ويذهب هذا التعميم اللامقبول معًا و “نسيان” مطلق للجمال الجديد –يجب بالأحرى القول إن النقاد السلطويين لا ينسون بالمعنى الدقيق للكلمة لكنهم يحتقرون- مع تجاهل كلي لأدب بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بصفته أدبًا وارثًا لآلاف السنين من الإبداع الإنساني، وليس بصفة ميكانيكية، قبل أن تسقط تلك البلدان (البلدان العربية أولها) في أيدي شاربي الدم!
وبينما يُبدي الفن السائد في الغرب أكثر فأكثر تفتيت القيم الإنسانية (أخلاقية وجمالية) دون أن يسحب منها العِبرة كما نفعل، ودون أن يرقى بفنيتها كما نحاول، فإن الفن الجديد في النصف الثاني من العالم يسير باتجاه مضاد، بمعنى أنه يطور أكثر فأكثر (أدب الواقعية الخيالية) أو أقل فأقل (أدب المقاومة الفلسطينية) الجمال الجديد للعالم الذي يتحرر، وليس الذي ينهار قبل أن تدور عجلته في الطريق المعاكس الذي يصور الانهيار التام عن وعي تارة وعن تشويه المثل الأعلى تارة، مَثَلُ كُتَّابه في ذلك مَثَلُ الذين عملوا على تشويه المثل الأعلى الجمالي منذ القرن التاسع عشر غداة السيطرة المطلقة للرأسمالية:
“المثل الأعلى الجمالي عبارة عن وهم ما دام الإنسان ضائعًا في نفسه دون أن يستطيع شيئًا، ما دام العالم مثلما هو عليه، مثلما كان ومثلما سيكون، الصفة عبارة عن لا معقول، ما دام الفرد المغترب وأشباهه من المتعذر تمييزهم، والموضوع عبارة عن أحد مخلفات الماضي، فليس من المعقول أن نتكلم عن تطور الحدث حيث لا يجري شيء! ومسائل الزمان والمكان عبارة عن سوء فهم واضح، لأن لا وجود للإنسان إلا في المكان والزمان الحاضرين فقط اللذين يحتفظان بواقع ما… هذا هو منطلق الفن المنحط منذ لحظة ظهوره حتى أيامنا هذه، وهذا منطقي جدًا، فنحن لم ننس نقطة انطلاقه، ألا وهي: الإخفاء الكامل لكل أفق اجتماعي يمتد نحو المستقبل.” (3)
لقد تفتت البطل بتقييمه الجمالي في الفن السائد تمامًا -ألا يجري شيء نحن ضد، أن يجري لا شيء نحن مع- وتزودنا “الرواية الجديدة” في فرنسا مثالاً على هذا التفتت، فالكاتب آلان-روب جرييه يُمَوْضِع تحليله للشخصيات والحدث لصالح “آفاق متعددة” مثلما هو عليه في إحدى رواياته، “بيت المواعيد”، حيث يدور كل شيء في بيت للدعارة في هونج كونج، حتى هنا كل شيء عادي، فبيت الدعارة المكان الأكثر إنسانية، إلا أن الحدث يجري تركيزه على تجارة البغاء وتهريب الحشيش، وهذا كذلك شيء عادي، أما الشخصيات، فهي قطاع طرق. كل هذا شيء عادي لولا أن الامتلاك الجمالي للعالم يعبر عن تقديس وإعلاء النظام الاجتماعي الذي خلقته الرأسمالية، فهو لا يتوجه بالنقد الفني لهذا النظام، ولا يمكن للدلالات السياقية أن تشير إلى ذلك.
المراجع
(1) ماركس وإنجلز: حول الفن والأدب، الجزء الأول، مطبوعات دييتز، برلين 1967، ص 117.
(2) هنري لوفيفر: ما وراء البِنيوية، منشورات أنتروبوس، باريس 1971، ص 245.
(3) كوزمينكو: الفن والاشتراكية: في: الاشتراكية والثقافة، مطبوعات دار التقدم، موسكو 1972، ص 358.
والآن ما هو البطل في عمل أدبي؟
البطل يعبر بذاته وعَبر شخصيته الروائية عن العَلاقات الاجتماعية في مجتمع تاريخي محدد، حقًا هو شكل تاريخي، لكنه أولاً وقبل كل شيء شخصية مشاركة، بطل لفعل أو لأفعال. تبعًا لهذه الرؤية، يوجد في الأدب الفلسطيني، في المرحلة الأولى، “البطل المنفي”، وفي المرحلة الثانية، “البطل الثوري”، ويعبر البطلان فنيًا عن عذابات وآلام وكل أنواع الإكراه والقهر التي صاحبت طريق منفى كل المجتمع الفلسطيني نحو الشجاعة والكفاح وإرادة طريق أمل أطفال الحجارة التي لن يجعل الحكام الثورجيون منها قبرًا للقضية (للتذكير النص مكتوب للطبعة الثانية عام 1995). كل واحد من البطلين عبارة عن “نموذج” بالنسبة إلى التيار التاريخي الحقيقي للشعب الفلسطيني، وكل واحد من البطلين عبارة عن “مفهوم” للفعل. ويتميز خلق النماذج الروائية، نقول روائية كيلا تُفهم النمذجة حسب الأثر الإيجابي أو السَّلبي، كما هو في أدب الواقعية الاشتراكية، يتميز خلق النماذج الروائية إذن كالتالي:
“إن العامل الأساسي لخلق النماذج الواقعية هو التمثيل عَبر صور فنية، أو التعبير الفني للفردي، للشخصي، للخاص… إلى آخره، مع هدف الوصول عَبر هذا الفردي، الشخصي، والخاص، إلى معرفة أكثر عمقًا للعام، للاجتماعي، للأساسي.” (4)
فيما يخص مسألة البطل المنفي في المرحلة الأولى، يُظهر التعبير بالنموذج الروائي عذاب المنفي عَبر الأفق العام لشعب سيولد يومًا ما من البؤس، وتجد نهاية البطل المنفي البقية دومًا بِنيويًا في استمرارية الشعب أو استمرارية الكتابة لدى الكاتب المضطهد والمعزول. هنا، يجب علينا إبراز مقولة أخرى في الجمال، ألا وهي المشايعة: أصل التقييم الجمالي للأشياء والحالات الجديدة. تعترف هذه المشايعة بالإنسان بصفته من سيحكم العالم في المستقبل، وهذا التقييم الجمالي هو الشكل الخاص “للفكر الفني”.
لنر كيف تصبح مقولة المشايعة مبدأً فنيًا:
“إنه (أي الفكر الفني) يقوم داخل الترابط الدائم للانعكاسات المنطقية المجردة والحسية المشخصة، ويربط الفنان احترامه لجوهر مظاهر الحياة ومعانيها الإنسانية بفكر مستمَد من المادي، أي بفكر تصويري. معرفة الأساس الحقيقي في هذه العملية هي النتيجة، أي التقييم القائم على المشايعة. فالمشايعة هي التي تقود في الواقعية إلى اختيار المواضيع، الموضوعات، المادة، وكذلك صياغة الحكاية والمفهوم الإنساني. بهذا الشكل الجدلي، يتكون الشمول الفني في عملية الخلق، وهكذا تحدِّد المشايعة بشكل أساسي الوظيفة الإدراكية للفن والجوهر العميق لحقيقة عمل الفن.” (5)
لنسجل في مسألة الجمال عملية الاختيار التي تعنيها المشايعة، إذ يمكن أن يصبح ما هو قبيح في الجمال السلطوي جميلاً في الجمال المضاد، وتبدو قيمة ذلك على الخصوص عند وصف البؤس في كل أعمال كنفاني، حيث يصان كل كبرياء الفرد الإنساني لحفظ كرامته الإنسانية، على الرغم من هذه الحال الشنيعة التي لم “يؤثِرها” عن قصد.
أحد أفضل الأمثلة على انقلاب جمالي كهذا في الأدب العالمي، في ألمانيا سنوات العشرين، والذي يُطلق عليه أدب “أجيتبروب” (اختصار تحريض ودعاية). لقد ظهر التيار الأدبي الواسع خلال المعارك الطبقية العنيفة في ألمانيا بين الحربين العالميتين. إنهم العمال الذين أخذوا يكتبون: كارل جرونبيرج، هانز مارشفيتز، ويلي بريدل، لودفيج توريك، رودولف برون، آدم شارير. لقد كانت مسارح “أجيتبروب” تؤثر مباشرة في الصراع وتطور الوعي، فوصف بريشت هذا الجمال الجديد بما يلي:
“إن الفن المدعو أجيتبروب الذي غالبًا ما يسخر منه الكثير من الناس، ليس الأفضل من الناس، قد كان منجمًا حقيقيًا للتقنيات ووسائل التعبير الفنية المبدعة، ومنه انبثقت عناصر عظيمة، وعصور حقيقية للفن الشعبي الذي اعتقدنا أنه قد تم نسيانه منذ زمن بعيد، والذي يخدم الآن بروعة، الأهداف الاجتماعية الجديدة. اختصارات وتكثيفات جسورة، تبسيطات جميلة، أناقة مدهشة، إيجاز وعين جريئة على ما هو مركب ومعقد. يمكن بعض الأشياء أن تكون بدائية، ولكن البدائية لم تكن أبدًا تلك البدائية التي تعاني منها النفوس البرجوازية المختلفة جدًا في الظاهر.” (6)
مما يتوازى مع إنتاجات بعض المعتقلين الأسرى في سجون الاحتلال التي لم توفر لها دائرة الدعارة (دائرة الثقافة في منظمة التعبيد الفلسطينية) ظروف انتشارها وتطورها.
يجد البطل المنفي معناه الكامل في كفاحه لتجاوز المنفى، ويمكن صورة البطل الذي يفشل ويهلك أن تحث فنيًا على الفعل عندما نعرف أسباب فشله وهلاكه عن طريق فني لا صحفي. بكلام آخر، يمكن البطل السَّلبي أن يعطي درسًا عَبر صورة فنية، وذلك بإنتاج بطل أفضل منه. خير مثال على ذلك نموذج بريشت المشهور، “الأم الشجاعة”، التي لم تفهم أبدًا لماذا تأخذ الحرب منها كل أبنائها في الوقت الذي عملت فيه دومًا لأجل الحرب، ومن عندنا كل نماذج زكريا تامر.
أما في عين النقد السلطوي، فيصبح البطل الذي يفشل الإنسان عمومًا، فريسة السأم والكآبة: إحدى محاولات اللفلفة والتزوير من طرف بعض النقاد الغربيين والعرب الذين هم في مسعى لتثبيت أقدامهم المتهاوية أمام الأدب المقموع إعلاميًا ونقديًا، الأدب الجديد، هذا الأدب الذي نجد فيه بالنسبة للأفريقي مثلاً “القلق من كونه زنجيًا”، وبالنسبة للعربي “البحث عن هوية”، هويته الإنسانية أولاً وقبل كل شيء. ولكن لا يوجد العام إلا في الخاص، وتنتج مسائل الهوية أو القلق مباشرة من المشخص والتاريخي لهذه الشعوب من أجل اكتساب استقلال حقيقي على كافة المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والتي جعلت الأنظمة السائدة منها متاعها الدنيا وشرطًا لاستغلال النظام العالمي.
يجدر بنا أن نلفت النظر إلى وجود البطل المنفي الفلسطيني في حالة اغتراب مشخص، ويكمن هذا الاغتراب في حالته المشخصة مغتربًا عن أرضه ومغتربًا عن حقوقه، مثلما يكمن اغتراب العامل في أوروبا في حالته المشخصة مبرجزًا ولقمة سائغة لنظام الاستهلاك. يتحدد المنطق البِنيوي للأول والثاني بصفتهما مَعبرًا إلى خاصية أعلى، بمعنى أنهما سيتطوران ضروريًا إلى بطل ثوري، الثوري في الغرب كما في الشرق تحت مفهوم الحق الذي له في الحياة الكريمة، لاجتياز مرحلة المنفى بخصوص الفلسطيني ومرحلة الاستغلال بخصوص الأوروبي. بِنيويًا: البطل الثوري هو نفي البطل المنفي تحت شكليه المغتربين السابقين. ويتم هذا التطور طبعًا بالنسبة إلى التطور الحقيقي للواقع الاجتماعي أو التطور الموازي للأشكال الدالة بعد أن تمكن المبدع من الدخول إلى هذا الواقع المعقد واستخراج عناصره البِنيوية منه، ومن كل مكان حيث تتحرر الشعوب قبل نكساتها، وقبل قصم السلطة لظهورها. هذا ويَظهر البطل الثوري تحت أشكال وأماكن مختلفة: اليوم في فلسطين تحت التمثيل الأدبي –نؤكد الأدبي لا الأدبجي المقاومجي- لروايات رشاد أبو شاور وقصص نازك ضمرة، مثلما هو عليه في أفريقيا الجنوبية حيث تشهد على ذلك روايات أليكس لاجوما وبيتر أبراهام، كالأمس خلال ثورات كل المعذبين في الأرض.
وهكذا نرى أن خلق البطل الجديد في الأدب العربي والعالمي سيمثل الانعكاس التاريخي لعصرنا، بعد حرب الخليج وسقوط جدران الاشتراكية. ويبقى الأدب الجديد أقل أهمية من الأدب السلطوي ليس لأنه قليل القيمة ولكن لأن الأدب السلطوي كثير اللاقيمة. لتنكيد الحاقدين من الكُتَّاب نذكر بعض أسماء الأعلام العالميين في الأدب الذين برزوا وأبرزوا هذا التيار أو مهدوا له منذ عشرات السنين: أندرسين، نيكسو، ماياكوفسكي، حكمت، شولوخوف، بريشت، سيجرز، إيلوار، أراجون، نيرودا، جيلين، ألبرتي، أوكازي، حنا مينة، صُنع الله إبراهيم، سعدي يوسف…
وقبل العمل على انهيارها، أتى تيار واسع لحركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، منذ الحرب العالمية الثانية، لينضاف إلى التطور السابق، وعلى الخصوص في أفريقيا، قبل نكسات أفريقيا الحزينة والشعور بالعار الذي يجتاح العالم العربي.
من الجزائر إلى أفريقيا الجنوبية وُلد أدب جديد، أصبح “كلاسيكي” الشكل والمضمون بالنسبة لخصائص الخلق والإبداع في التسعينات. لنذكر بعض أسماء ذلك العصر الذهبي الذي جعلوه “نحاسيًا” مثل سمبين عثمان من السنغال، مونجو بيتي من الكامرون، جيمس نجوجو من كينيا، مولود فرعون، صاحب “ابن الفقير”، من الجزائر. كان يشكل كل هذا الأدب جزءًا من تيار عالمي تم نقله بغموض في مجلات باريس ولندن وفرانكفورت.
بناء على ذلك، ارتبط ميلاد البطل الجديد في الأدب ارتباطًا وثيقًا بازدياد ونمو الفعالية في المجتمع وطُرُق التعبير عنها، ويكشف التقييم الجمالي لهذا البطل عن تصور جديد للذات: البطل يصبح ذاتًا، وهذا يتطلب في الوقت نفسه تطورًا جديدًا للفن بصفته امتلاكًا فعليًا للذات الواعية لواقعها، هذا الواقع الذي انهار من جديد بعد فشل الأنظمة المحلية: لأنها تلعب لعبة الاستعمار الجديد ولا ترى سوى مصالحها.
في النقد السُّلطوي، تُختصر العَلاقة الجمالية القائمة بين الذات والواقع في التأمل الروحي، في موضوع الفن الأوحد، أما في المعرفة العلمية، فتتكون العَلاقة الجمالية بالواقع من فعل الإنسان، كل إنسان، وفي كل مكان: الفن هنا عبارة عن امتلاك جمالي نوعي يستمد عناصره من الواقع، ويحث على الامتلاك الجمالي العام لكل الناس في ممارستهم الحقيقية الباحثة عن سد الرمق وصون الكرامة في عالم بشع بلا كرامة. لقد أبرز عالِم الجمال كلوس تراجر هذا التصور الجديد للفن، الممكن فقط من خلال ممارسة اجتماعية جديدة، وتحت طريقة إنتاج فنية تصل في فنيتها إلى حد “الصرامة” لدى ديكارت في الفلسفة بالشكل التالي:
“تكمن عقبة العلم التقليدي للأدب والفن في اعتبار أن الفن والأدب ليسا فقط موضوع تحليله الأوحد، ولكن أيضًا لأنه يفهم هذا الموضوع بصفته حالة خاصة للامتلاك الروحي، حتى ولو كان انعكاسًا سَلبيًا للواقع. أما تحت طريقة إنتاج تنتعش فيها العدالة الاجتماعية، فتجد الصلة الجمالية للإنسان بالواقع تحديدًا جديدًا (لأن هذا التحديد بالذات يقف أمام الإنسان نفسه) وتحطيمًا للحدود التي أٌقامتها العلوم الأخرى. وسيُفهم الفن فيما بعد كحالة خاصة للامتلاك العملي للواقع، أو بتحديد أكثر، كوَحدة للامتلاكين العملي والروحي.” (7)
وهكذا فإن النشاط الجمالي للإنسان وانعكاسه في الفن شيئان مختلفان لا يجوز الخلط بينهما، لأن الصورة الفنية ليست إلا جزءًا من هذه العَلاقة الجمالية للإنسان بالواقع. ويعبر مفهوم البطل الجديد عن عصر انتقال نحو تحرير كل الناس، ينهل بُعدًا من الماضي (8)، مثلما يستشعر توقعات المستقبل، ومعياره الأساسي أن تكون ذاته الفعالة التي أصبحها واعية لا مريضة ولا غبية أو منهزمة. لذلك، تحوي مقولة البطل الجديد بُعدًا فلسفيًا شاملاً يهدف إلى تأنيس الإنسان، سيادته على نفسه وعلى أعماله الخاصة وعلى الطبيعة، وتهدف هذه السيادة إلى التقاء الإنسان بأفكاره وأحاسيسه وأخلاقه وخيبات أمله. هذه السيادة معقدة على مستويات كثيرة: أخلاقية، علمية، وعلى الخصوص جمالية. أبرز فيلهيم جيرنوس، عالِم جمال آخر، هذه الصلة القائمة بين الجمال والإنسان، عندما قال:
“تكون مقولة القيمة الجمالية –وهذه أطروحتي- تعبيرًا مباشرًا عن وعي الذات. وبالمقابل، إن الوعي بكوني ذاتًا عبارة عن عنصر أساسي للوعي الإنساني بصفته نوعًا. وبالتالي، يصبح “جميل” الرمز اللغوي لتثمين كل ما يأخذ، في الظروف التاريخية المشخصة، معنى إيجابيًا لتحقيق الإنسان بصفته ذاتًا.” (9)
في هذا التطور نحو “أن أصبح ذاتًا” (10) في الواقع مثلما هو عليه في الوعي، يكون البطل الجديد هو النمو الذي يشير إلى بداية الطريق: يجب عليّ أولاً أن أفعل لأصبح ذاتًا حقيقية، أن يشتمل فعلي، وسيشتمل، من أجل الإنسانية، على مواجهة الظلم والاضطهاد، كي يسمح ذلك للعمل بأن يصبح الحقل الحقيقي لتحقيق الذات بصفتها حياة حقيقية للبشر، ويعود على البحث الفني بالتعرف من جديد على المناطق التاريخية المشخصة لإيجاد أرضيات جديدة لتحقيق الذات الإنسانية.
المراجع
(4) كلوس تراجر: في: من أجل نظرية للواقعية الاشتراكية، مطبوعات دييتز، برلين 1974، ص 603.
(5) كلوس تراجر: المرجع السابق، ص 604.
(6) فيرنر ميتنسفاي: في: ثورة وأدب، مطبوعات ركلام، ليبزيج 1971، ص 24-ص 25.
(7) كلوس تراجر: دراسات من أجل نظرية للواقعية ومنهجية للعلوم الأدبية، مطبوعات ركلام، ليبزيج 1972، ص 432,
(8) على عكس ما دعا إليه علم اللغة الحديث من نبذ الماضي ودراسة اللغة (لغة البطل أو اللغة المعبرة عنه بمعنى مفهومه) بعيدًا عن كل تأثر بما قيل قبلاً… وليامز شوبان: في: مقالات ضد البِنيوية، ترجمة إبراهيم خليل، دار الكرمل، عمان 1986، ص 64.
(9) فيلهيم جيرنوس: خطوط المستقبل، مطبوعات أكاديمية فيرلاج، برلين 1974، ص 50.
(10) فيلهيلم جيرنوس: المرجع نفسه، ص 53.
2 – التقييم الجمالي للبطل المنفي
لا يسعى البطل المنفي في الأدب الفلسطيني –في مرحلته الأولى- إلى تغيير حاله، فهو يدور في حلقة مفرغة، لا يبقى منه سوى صورة الماضي لتبرير الحاضر، وكما يقول مؤرخ الفن اليوناني نيكوس هاجينيكولاو: ” إنه لا يرى بعد الفرق بين المستوى السياسي والمستوى الإيديولوجي، وبمعنى آخر نوعية المستوى الإيديولوجي” (11) إذ يضع في مقدمة اهتماماته تفسير الماضي.
فوق ذلك، هو كائن قابل للعطب، وحيد، أجبر على أن يعيش وضعًا ماديًا جديدًا: المنفى. تتحدد علاقاته بوسطه حسب موازين القوى التي تميل بوضوح إلى صالح العنصر الثاني الذي هو وسطه، ويصعب علينا أن نرى في عالم يكون البطل فيه مقتلعًا كيف باستطاعته التحكم بوضعه، فلن تكون ردود فعله إلا بمقدار ما يؤثر الوسط من نفوذ عليه، وستكون استجابة البطل حسب شعوره بالضعف أو بالقوة، وهذا يفترض أن تطوره مرهون بوسطه.
إذا حاولنا العودة بالبطل إلى المرحلة التي تلت منفاه مباشرة، وجدناه يعيش فترة مضطربة من تاريخه، فالحقيقة المتجسدة بصورة البومة تستعر لدى البطل استعارًا يزيد من حدة الشعور بالذنب عندما يقول: “ها أنذا ألتقي بالبومة الغاضبة بعد غيبة طويلة! وأين؟ في غرفة منعزلة مترامية تتنفس بوحدة مقيتة، بعيدًا عن قريتي التي كانت تعبق برائحة البطولة والموت، وكانت البومة ما تزال ملصوقة على الحائط تحدق فيّ، عَبر زمن متباعد، وينحدر من منقارها المعقوف صرير حاد:
– إيه أيها المسكين… هل تذكرني الآن؟” (12)
يجري التعبير هنا عن مفهومين للزمن: زمن حقيقي تاريخي قائم في الماضي/الحاضر، فالبومة عبارة عن الطبيعة الثابتة التي لا تتغير، امتداد الإطار الطبيعي حيث كان البطل يعيش، غير أن هذا الإطار يصبح في الوقت الحاضر مفجعًا ومنعزلاً: “في غرفة منعزلة”. الماضي هو القرية البطلة، وبمعنى آخر، الفلاح الذي قاتل الغاصب، ولكن، الذي كان مجبرًا على ترك أرضه. أما التعبير عن الحاضر، فكان في اسم الظرف “الآن” مشيرًا إلى الزمن النفسي الذي يعيشه البطل، والذي أصبح بالنسبة له الزمن الوحيد الحقيقي. ينصَبُّ هذان العاملان الزمنيان، التاريخي والنفسي، في قالب واحد: هل سيختار البطل الموت (زمن نفسي) أم الكفاح (زمن تاريخي حقيقي)؟
لنؤكد بشكل خاص على حقيقة أن البطل المنفي إنسان بسيط، بأهداف متواضعة، وهو في آن واحد الفلاح، العامل، المعلم، بالإجمال الشعب الفلسطيني بأسره. وحين يستدير كليًا إلى الماضي يتصرف سَلبيًا في الحاضر: “هنا انتهى الزمن… –مثلما يقول الفيلسوف الماركسي الفرنسي أوغست كورنو- كان هو الذي يتحرك أمام لوحة الزمن، أما اللوحة فقد كانت جامدة كجبل من بازلت، لقد انتهى دوره كإنسان ممارِس، وجاء دوره كمتفرج فقط.” (13)
ليس من قبيل الصدفة أن تبدو الطبيعة من جديد “لوحة جامدة كجبل من بازلت”، فالجبل هذا عبارة عن تحدٍ جديدٍ للمضمون الاجتماعي، وهو كذلك عقبة كأداء يُخشى أمرها عند كل حرية يتضمنها الفعل الإنساني، وفوق ذلك، وجود الجبل يدعم جمود الزمن. هنا أيضًا لا يوجد انفتاح على المستقبل، فالبطل مأخوذ بين تشابك الماضي/الحاضر ليغدو هذا المتفرج السَّلبي الذي لا يرى فيما بعد كيف يمكنه أن يؤثر في العالم.
ويأسن البطل المنفي لأنه يحس بكونه لا يستطيع التحكم بالأحداث التي تدور من حوله، وحسب أوغست كورنو، “ينظر إلى الموجودات والأشياء في ضوء الأبدية والسكونية…” (14) دون أن يمكنها، أي الأشياء والموجودات، التعرض إلى انقلاب: “ونمتُ في تلك الليلة في زورق جموح يناضل ضد دوامة بلا قرار… وكل شيء في ماضيّ وحاضري ومستقبلي تغلف بميوعة ذات رائحة عفنة، وبدت لي كل القيم التي وضعها الإنسان المغرور لحياته ليست سوى هذيان سكران يريد أن ينسى.” (15)
تترجم جيدًا هذه اللوحات لا إنتاجية البطل ولا فعاليته أمام هيجان الوسط: الزورق الجموح الذي لا يحاول البطل كبحه واقتياده، بل ينام تاركه يدور في دوامة بلا قرار. ثم، تلك الاستعارة المعبرة التي تعطي شرحًا لميوعة حياة بطل يذبل ويتعفن بلا أمل. وفي الأخير، التخلي عن القيم التي تعطي للمجتمع الإنساني نظامًا منطقيًا، والتي اتضحت غير حاسمة عندما قورنت بهذيان سكران لا معنى له. فللمخيم، هذا الواقع المر، نفوذه النفسي على المنفي عندما نقرأ: “وكانوا يعودون إذ يهبط الليل إلى خيامهم أو إلى بيوت الطين حيث تتكدس العائلة صامتة طوال الليل إلا من أصوات السعال المخنوقة… وكانت عيونهم جميعهم تنوس… كنوافذ صغيرة لعوالم مجهولة، ملونة بألوان قاتمة.” (16)
هذا الوضع الموحي بالاختناق هو من صُنع المخيم، وقبل كل شيء، يعبر المكان حيث يعيش المنفي: الخيام، بيوت الطين، عوالم مجهولة، عن الاقتلاع ووَحدة الإنسان المحروم من كيانه متَجَاهلاً ومجهولاً من الجميع. كما أن المرض المتمثل بالسعال والعيون القاتمة هو أيضًا نتيجة اضطهاد مظلم لا يمكن المنفي أن يعمل ضده طالما أنه يبقى ليس حرًا، فالحرية مثلما يقول عالِم الجمال الروسي بيزوتيوف: “هي الشرط الأهم في الجمال، وهي مصدره وجوهره: جميل حقًا كل ما هو حر، وقبيح كل ما ليس حرًا، كل ما يكون مشوهًا، ممسوخًا، مهانًا.” (17)
تجريد البطل من الحرية كنظام حر، والإبقاء على الحرية كنظام منهزم، ليس فيه ما يدفع البطل إلى امتلاك النقائض في غير عالمه، فلا روابط للنسق هناك إلا بين الخيام وبيوت الطين، إنها الروابط الوحيدة المتماثلة فيما بينها.
ماذا سنقرأ في غياب الحرية؟
“أمي تحب الكلاب، لقد تزوجت كلبًا ذات يوم، ثم طلقها لأنه ذهب مع كلبة أخرى. كلهم كانوا كلابًا، كلابًا ذات شعور سوداء، وعيون واسعة، وأنا –أيضًا- كنت كلبًا صغيرًا، قبل أن تنبت لحيتي.” (18)
والحال هذه، أليس المخيم موضوع خزي للمنفي؟ هذا الخزي الذي عبرت عنه صورة الدودة:
“كالدودة… يأكل رملاً ويتنفس رملاً ويشرب عصير الرمل… وكان يحس فيما هو يشق طريقه المظلم أقدام الناس فوق رأسه تروح وتجيء…” (19)
الخزي هنا مرادف لوجود فارغ، إن لم يكن صحراويًا، ويصل هذا الخزي أقصاه عند مقارنة المنفي بالدودة التي تسحقها القدم. سبب هذا القبح الذي ما بعده قبح استلاب المضمون الاجتماعي من إنسانيته، هذا الاستلاب الإنساني هو أساس كل الآفات الاجتماعية التي يُخشى أمرها، وهو يزيد من حدة الرتابة لدى المنفي، رتابة خطرة لأن بإمكانها أن تخلق عند المنفي قابلية التكيف السَّلبي مع البؤس، وفي النتيجة غيابًا دائمًا للإرادة:
“كانت حياتي دبقة، فارغة، كمحارة صغيرة: ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطيء مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممجوج مع الزمن…” (20)
فقط المحارة الفارغة عينية، أما باقي التعابير، فهي مجردة لا تترجم الروتين اليومي فحسب، بل وتزيد من حدته باختيار الصفات: روتين عفن، تنازع بطيء، نضال ممجوج. ومن ناحية أخرى، المنفي ضائع، يشن حربًا عمياء ضد الزمن، وهو فوق ذلك، مقطوع من كل العَلاقات الإنسانية التي بإمكانها أن تخفف من عدم استقراره، إنها بِنية دلالة الحرية كنظام منهزم.
انطلاقًا من هذا، يبحث المنفي عن إيجاد منفذ للتخلص من حالة البؤس كنظام منهزم للحرية بواسطة كثير من المخارج الواهمة، نميز من بينها البحث عن الثروة. لكن البحث الشره عن النقود يفاقم من حالة عدم الاستقرار الدائم بين عَلاقات المنفي بالآخرين حتى فقدان الشخصية عندما نقرأ:
“أقول لك الحقيقية؟ إنني أريد مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، ولقد اكتشفت أن من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب.” (21)
“جر الجثث واحدة واحدة من أقدامها، وألقاها على رأس الطريق… أخرج النقود من جيوبها، وانتزع ساعة مروان…” (22)
تكرار كلمة النقود في هذين الاستشهادين (أربع مرات) يفسر ما يرمي المنفي إليه، مهما كلف الثمن، من أجل تحسين عيشه. لهذا، حتى أبشع الأفعال (جر الجثث) يمكن تجاوزها بالنقود… “ألا تُحَوِّل النقود كل الضعفاء إلى نقائضهم؟” (23)
بما أن الحرية كنظام منهزم تم استغلالها دلاليًا في الواقع، يتحاشى المنفي بسبب اغترابه الاجتماعي على التحديد أن يواجه هذا الواقع، علمًا بأن لاغترابه أصولاً أخرى ناتجة عن الاضطهاد المكرس ضده من طرف أعدائه، فنقرأ: “لي أم ماتت تحت أنقاض بيت بناه لها أبي في صفد، أبي يقيم في قطر آخر، وليس بوسعي الالتحاق به، ولا رؤيته، ولا زيارته، لي أخ، يا سيدي، يتعلم الذل في مدارس الوكالة، لي أخت تزوجت في قطر ثالث، وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي، لي أخ آخر، يا سيدي، في مكان ما، لم يتيسر لي أن أهتدي إليه… أنا لست صوتًا انتخابيًا، وأنا لست مواطنًا، بأي شكل من الأشكال، وأنا لست منحدرًا من صلب دولة تسأل بين الفينة والأخرى عن رعاياها، وأنا ممنوع من حق الاحتجاج ومن حق الصراخ…” (24)
يبدو واضحًا أن اغتراب الفلسطيني –نكرر- يكمن في وضعه المادي كمغترب عن أرضه وحقوقه، ليس ذلك الاغتراب الوجودي في النقد السلطوي، ولا يمكن البطل المغترب أن يستعيد قيمه كإنسان حر من أجل ذوبان اجتماعي داخل بِنيان دولة متين الأساس، بل على العكس، إنه موضوع ظلم اجتماعي، لا يستطيع، في هذه الحال، السيطرة عليه، ويحول هذا الظلم بين المنفى وبين التطابق مع موضوعه، أي مع المجتمع، فالمجتمع والمنفى محتويان الأول نموذجي والثاني غير نموذجي، تحت معنى أن المنفى صورة مشوهة للمجتمع، لا يمكنهما والحال هذه أن يرتبا الوضع بينهما (القضاء على ظاهرة الاغتراب) في الواقع وفي الواقع الحكائي.
حسب أرنست فيشر: “لا يمكن القضاء على ظاهرة الاغتراب بضربة واحدة، وبعمل ثوري منفرد، لأن ذلك يتطلب تطورًا طويل الأمد لرفع العالم في كافة المجالات إلى مستوى الإنسان.” (25)
ولنؤكد تحديدنا للجمال نقول إن هدفه النهائي هو خدمة مصالح الإنسان، وبصفة خاصة علاقاته بالمجتمع، وعلى الجمال أن يكافح من أجل الحياة وضد الموت، كذلك على الإنسان أن يتخذ موقفًا مضادًا لعالم يسيطر عليه اغتراب لا إنساني. إضافة إلى ذلك، على الجمال الجديد أن يدين تحت أشكال تعبيرية دالة التأسن والسكونية من موقع التغير التاريخي للأشياء، والتي وصلت إلى حد التفاقم الأخير، وكما يقول بريشت: “ما دامت الأحوال قد بلغ بها الأمر حتى هذا الحد فلن تبقى على ما هي عليه طويلاً.” (26)
لقد وصل البطل المنفي، على طريق نفيه الأقصى، إلى مرحلة هامة جدًا عندما أصبح واعيًا لاغترابه قبل أن يصبح بالطبع واعيًا لأدواته وإمكانياته. نحن ندعو هذا “بالتصدع” في طبيعته، عندئذ يصبح الشعور بالوعي عنصرًا إيجابيًا، فيتجاوز المنفي المعتقدات الغيبية، وتتساقط العقبات الإيديولوجية قليلاً قليلاً، بينما ينداح ظلام المعركة التي أُجبر المنفي على الدخول فيها –وبقي طرفًا مشلولاً- في البداية:
“لنسخر معًا من ذل هذا العالم المنكفئ على نفسه، العاجز، المكبل، المبصوق على وجهه. أخاطبك (قبر الوالي) وحدي، وجهًا لوجه، من أعماق هذه البرية المتوحشة المهجورة، وأتحداك أن تجترح معجزتك، أن تقول لي بأن كوم الطين القديم يستطيع أن يكون أكثر جدوى من الحياة النابضة داخل صدري… أيها الشيء الخرافي الذي يتدلى من السماء كخطاف!” (27)
بالسخرية، بالتحدي، بالحياة النابضة، سيقود البطل المنفي الدفة بيده، وهو يعرف أن طريق اللا اغتراب طويل، وأن الانتصار لن يتحقق إلا عَبر معركة عينية وممارسة مضنية يومية تؤلفان بين جحافل الناس، وتعملان على خلق فعل ثوري حركي متعدد الحركة. هذا التعدد الحركي سرديًا يقوم على متتاليات (سلسلة من اللقطات تمثل جانبًا من جوانب القصة) لا تنتهي إلا وتبدأ على طريقة الطباق.
المراجع
(11) نيكوس هاجينيكولاو: تاريخ الفن والصراع الطبقي، منشورات ماسبيرو، باريس 1973، ص 78.
(12) غسان كنفاني: موت سرير رقم 12، المجلد الثاني، قصة البومة في غرفة بعيدة، دار الطليعة، بيروت 1973، ص 53.
(13) أوغست كورنو: أصول الفكر الماركسي، دار الآداب، بيروت 1968، ص 42.
(14) أوغست كورنو: المرجع نفسه، ص 42.
(15) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة في جنازتي، ص 107.
(16) غسان كنفاني، المرجع نفسه، قصة كعك على الرصيف، ص 86.
(17) أ. ن. بيزوتيوف: الجمال في تفسيره الماركسي، وزارة الثقافة، دمشق 1968، ص 147.
(18) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة الأحمر والأخضر، ص 358.
(19) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة المجنون، ص 190.
(20) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة ورقة من غزة، ص 343.
(21) غسان كنفاني: رجال في الشمس، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 114.
(22) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 151.
(23) كارل ماركس: مخطوطات 1844، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 121.
(24) غسان كنفاني: قصة أبعد من الحدود، المجلد الثاني، ص ص 279 280 281.
(25) أرنست فيشر: مشكلة الواقع في الفن الحديث، مجلة الآداب، بيروت 1971، ص 51.
(26) أرنست فيشر: المرجع نفسه، ص 53.
(27) غسان كنفاني: الأعمى والأطرش، المجلد الأول، ص 486.
3 – التقييم الجمالي للبطل الثوري
لا تسعى عناصر الأسلوب في الأدب العربي التقليدي إلى شن معركة فنية ومعركة إيديولوجية لصالح التمثيل الفني للواقع بكل تناقضاته، فالبطل لا يقاتل من أجل التقدم، ولا يتحدد باشتراكه في فَلَك فعله، البطل شيء من الأسطورة، يتجاوز الواقع، ويبقى غريبًا عن البشر.
كذلك لا تسمح أشكال التعبير المستعملة، “المتحررة” منها أو البلاغية، بوصف البطل ضمن واقعه، فهو ليس خصائص الوعي الكلي للكاتب جل جلاله، وليس قائمة من الصفات مثلما هو عليه لدى فتحية محمود الباتع: “رأيته مديد القامة، قوي البنيان، يرتدي الكوفية والعقال، في عينه دمعة غضب، وفي جبينه صيحة ثأر وانتقام، وقد أخذ يسرع الخطى، ثم وثب من فوق سور الحديقة في ذلك القصر، وثبة الثور المهاج.” (28)
التقنية هنا عالية جدًا، إلا أنها عقيمة، قلا تنقل الكاتبة غير وصف مفصل ذي عناية مطلقة بسمات البطل العضلية، وعلى العكس، البطل عند غسان كنفاني يعي أكثر فأكثر قيمته كإنسان، ولم يعد المجتمع بالنسبة إليه، كما يقول لوكاتش، يمثل “عالمًا منجزًا من أشياء جامدة” (29)، بعبارة أخرى، لم يعد البطل يرى المجتمع من زاوية السكون الزماني والسكون المكاني، ولكن عَبر عملية تأنيس تتطور نشاطاته معها ضد كل أشكال الاستغلال، وعَبر عملية توليد لا يتماثل فيها الكاتب وإياه على الرغم من أنه يعرف كل شيء عنه، فتكون للتقييم الجمالي لهذا البطل مهمة الكشف عن الإنسان الجديد في واقعه المشخص، الفردي والاجتماعي في وقت واحد. كيف ذلك؟
بما أن البطل الثوري يقاتل ضد الظلم، فهو يقاتل في الوقت نفسه ضد الآفات الاجتماعية التي تكبل وسطه، القضاء على الظلم يقابل القضاء على الصعوبات الاجتماعية، وبالتالي هدفه نبيل، لصالح الجميع. هذا لا يعني تحديد البطل بمستواه المرجعي، الثوري، فالتصور الواقعي حسب لوكاتش يرى أن هذا التفاعل بين الثوري وطبقته يسمح “بذوبان الفردي في الجمعي، والخاص في النوعي” (30)، بينما البطل الثوري يبقى كائنًا من صنع الكلمات لا من صنع الثورة، كائنًا ورقيًا، كما يقول رولان بارت، ومن هذه الناحية يجيب على الهدف الذي رسمه الجمال لنفسه، أي حالة محددة لتغيير العالم في الحكاية، قصة أو رواية، ليس بعصا الكاتب السحرية وإنما بمشاركة من البطل/الفاعل، وبتحريك الراوي، فالراوي غير الكاتب، الراوي ابن الحكاية والكاتب ابن الواقع وكلاهما ابن المرحلة، ونحن نستعمل هنا “ثوري” و “تغيير” و “طبقي” اعتمادًا منا على مفردات المرحلة التي كانت تمثلها هذه التعبيرات مع احترام كبير من طرفنا.
شيئًا فشيئًا يصبح البطل الثوري ممثلاً لطبقته الاجتماعية، من خلال إشارات الراوي، هذه الإشارات التي تسمح للتحليل الأعراضي بإقامة العلاقة بين البطل ولغته، وعن طريق هذه اللغة الإشارية نستدل على الفلاح والمثقف والعامل الذين ينتمون إلى طبقة المسحوقين في أعمال كنفاني. بلغتنا اليوم نسمي كل واحد منهم الموديل البِنيوي، وأهميته ليست في شكله وإنما في التحولات التي يقوم بإنجازها، فيجعل من الحكاية، القصة أو الرواية، التعبير عن هذا الإنجاز. هذا لا يمنع من أن ينطبق على الشخصيات “الثورية” قول مؤسس النظرية العلمية: “تثبت نفسها وإرادتها بفضل أحاسيسها والتي هي القوى الأساسية للإنسان.” (31) وهذا لا يحول دون أن يعمل كل موديل بِنيوي بشكل مختلف فيما يخص نفس المشكل وحسب الأهمية التي يعطيها كل واحد من الأبطال “الثوريين” تبعًا للفائدة التي تعود عليه، وهكذا نجد أن تحرير التراب الوطني في المنفى يسير معًا وتحرير الذات، كذلك القضاء على التصورات والمفاهيم المتخلفة يعني خطوة نحو التقدم الاجتماعي وفي الوقت ذاته نحو الانتصار الوطني.
في قصة “حامد يكف عن سماع قصص الأعمام”، من مجموعة “عن الرجال والبنادق”، يقول العم للفدائيين:
“- أنا أريد مصلحتكم، وهذه القضابا تحتاج إلى حكمة… أ،تم ما زلتم صغارًا لا تعرفون كيف يجب أن تتصرفوا، ولو كنت مكانكم لمشيت.
– مشيت إلى أين؟
– إلى أي مكان خارج هذا الجحيم.
– هذا موضوع آخر.
– لا، هذا هو الموضوع، وأعتقد أن السيد حامد يوافقني…
– أتعرف؟ إنه الآن لا يسمع ما تقول، ولا يسمع ما يقولون، إنه يسمع فقط لنفسه (كان حامد قد أصيب بالطرش إثر انفجار أثناء إحدى العمليات في الأراضي المحتلة)، ولذلك فمن المستحيل بعد، أن يضيع وقته…
– لا أفهم شيئًا. هل شربتم؟ إن هذا الذي تقولونه حزازير.” (32)
يبرز هنا تصوران، يتشبث التصور الأول بمعايير عالم انتهى (التواطؤ البطريركي: مصلحتكم، لا تعرفون، كيف يجب)، ويفيد التصور الثاني (التمرد المتحدي: لا يسمع، يسمع فقط لنفسه، من المستحيل أن يضيع وقته) كوسيلة للولوج في عالم في حركة دائمة. مع ذلك، البطل الثوري عبارة عن نتاج للعالم الأول، تتشكل تصوراته الجديدة ابتداء من الكفاح ضد القديم، ويختلف الإحساس الذي يعمر قلب الفدائي تجاه الاحتلال عن إحساس العم، فهذا الأخير يريد، مهما كلف الثمن، الهرب من “الجحيم”، دون أن يسيطر على سبب خوفه، وعلى العكس، يضع الفدائي الكفاح في مركز اهتماماته، الذي سيصبح مفتاح التحرر القادم، كما نقرأ:
“كان في ذلك المكان المملوء بالذل والخيبة والسقوط مجرد أُذن تستمع وتستمع إلى أطنان من الكلمات والقصص والعويل لم يكن بوسعها أ، تقتل ذبابة واحدة، لم يعد بوسعها أن تطمر حقيقة واحدة… أما الآن، فقد قرر حامد أن يكف عن الاستماع.” (33)
هنا يتبنى البطل الثوري أكثر فأكثر، بصفته نقطة اتصال بين عصرين، سلوكًا واعيًا، فهو يملك إحساسًا بالممارسة يكمن في إرادة التغيير: “قرر حامد أن يكف عن الاستماع”. مع هذا الشكل من الكفاح، يصبح بطلاً إيجابيًا متعدد الجوانب لا أحادي الجانب جامد، وبالكلام اللغوي يشغل مجازًا عدة شخصيات مختلفة ككل موديل بِنيوي. هذه الخصائص النوعية هي أساس كل جمال جديد، أن يعبر الجمال عن مطامح الناس، ويخلِّف لديهم فهمًا للفن، وَلَذة به، وبجماله. كل هذا جميل يرقى بنا إلى حد الديماغوجية، لأن نظام الإشارات هو كل شيء، وكود الراوي هو مفتاحنا إلى فهم الفن، فكيف نفكه؟ عندئذ، تكون الصدمة، لأن مشاركات البطل/الفاعل في تعددها تصاغ بشكل إنشائي عندما يراد عرضها بأوصاف “ثورية”، وبدلاً من أن تصبح الفلاحة أم سعد موضوعًا فنيًا، إذا بها نظامًا من الشخصيات “المقطعة”:
“وقامت، ففاض في الغرفة مناخ من البساطة. بدت الأشياء أكثر ألفة، ورأيت فيها بيوت الغبسية… وأخبرتني: – قلت للمرأة التي جلست إلى جانبي في الباص إن ولدي أضحى مقاتلاً.” (34)
لدينا هنا تقاطيع من وجه أم سعد: البساطة، الألفة، الرؤية، القول، وكأن كنفاني يقطعها إياها، يقطع كالإقطاعي، لهذا تبقى القرية في ثوبها مغتصبة (هو يريدها عذراء) والماضي ملطخًا (هو يريده ناصع البياض)، لأن الميكانيكية التي ترمي إلى إزالة لطخات الماضي عن طريق إرسال “ولدي” إلى المقاومة لا تتناسب ومقولة الجمال في “مخطوطات 1844” التي ترى الجمال على أساس أنه القياس الملازم للأشياء، وهذا ما احتفظ به رولان بارت من الماركسية في بنيويته، ونضيف من عندنا القياس الملازم للأشياء تحت شرط الكيفية، هذه الكيفية التي لا نجدها في رواية “أم سعد”. وشرط الكيفية يوجد مع جمال الفقير ليس في كفاحه ضد البؤس، ولكن في كيفية كفاحه ضد البؤس، في تناسق هذا الكفاح فنيًا ليكون القياس التاريخي لطريق الإنسان نحو التحرر، فالماضي البائس ليس استعادة مختصرة كما هو عليه في كل ما قيل عنه في الرواية المذكورة (35)، ليس “تزويرًا” للخطاب كعنصر من عناصر الفاعل قبل-الثوري وتطوره بتسلسل غير منطقي. إنه طبقة من الممثلين، وليس ممثلاً واحدًا وأبدًا كما هو الحال مع أم سعد، فالتركيز الفردي عليها كبطل إيجابي يجعل منها بطلاً سَلبيًا.
في “أم سعد” يتجاوز الجمال جمال كنفاني، هناك العديد من الكُتَّاب الذين “لا يرون في البؤس إلا البؤس” (36) وهو لا يرى في البؤس إلا الجانب الثوري فيه (37)، وكأني به يسير في الدرب التوليتاري كما يرسمه عالِم الجمال الروسي عندما يقول: “تصبح مشاعر الآخرين وملذاتهم بالنسبة للإنسان الاشتراكي ملكًا خاصًا به…” (38)
رأينا إذن المراحل التي مر بها البطل عند غسان كنفاني إلى أن أصبح ممثلاً لانحرافه كفاعل ثوري، فعبَّر هذا الانحراف جماليًا عن لطمة على وجه الواقعية “الثورية” في الأدب، وهذه البيّنة حول شكل هذا الجمال الجديد الذي أُدخل في أشكال المنفى القديمة، ستغالط ما يقوله لينين: “إن التاريخ، وقد عجلته الحرب، قد تقدم إلى حد أن الصيغ القديمة قد امتلأت بمضمون جديد.” (39)
المراجع
(28) فتحية محمود الباتع: وداع مع الأصيل، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1970، ص 219.
(29) جورج لوكاتش: كتابات من موسكو، منشورات سوسيال، باريس 1974، ص 134.
(30) جورج لوكاتش، المرجع السابق، ص 138.
(31) كارل ماركس: مخطوطات 1844، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 93.
(32) غسان كنفاني: عن الرجال والبنادق، المجلد الثاني، ص ص 760-761.
(33) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 762.
(34) غسان كنفاني: أم سعد، المجلد الأول، ص 264.
(35) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 270.
(36) كارل ماركس: بؤس الفلسفة، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 133.
(37) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 295.
(38) أ. ن. بيزوتيوف: الجمال في تفسيره الماركسي، وزارة الثقافة، دمشق 1968، ص 136.
(39) لينين: مسألة الأرض والنضال في سبيل الحرية، دار التقدم، موسكو 1969، ص 180.
4 – بِنية الإخفاق وبِنية النجاح
أ – بِنية الإخفاق:
تفترض كل بِنية علاقة بين عاملين: التطور التاريخي والعناصر المشخصة المحللة (40)، وإذا كان في العالم الأول تطور زمني، ففي العالم الثاني تطور لغوي، وهو “مجمد” في وضعه بالنسبة للأول، لانتمائه إلى تاريخ فترة محددة. بالمقابل، يمكن هذا العالم أن يتطور داخل أعمال الكاتب، ويصاحب تطوره تطور المضمون الذي يعبر عنه. ينطبق هذا التحديد على بِنية الإخفاق التي يمكننا أن ندرسها تاريخيًا ولغويًا، وبكلام آخر، يمكننا أن ندرس تكونها.
كيف تظهر بِنية الإخفاق عند غسان كنفاني؟
بسبب مولدها مباشرة بعد نكبة 48، فهي في شكلها ومضمونها قديمة منهكة وقاتمة، تقوم وظيفتها على تجسيد وضع تاريخي جديد، ألا وهو المنفى. وهي تتحدد على مستويين، مستوى الإخفاق خارج فلسطين خلال حاضر البطل، ومستوى الإخفاق داخل فلسطين خلال ذكريات البطل، فانقسمت بِنية الإخفاق إلى بِنيتين متداخلتين في زمنين متداخلين تم التعبير عنهما بواسطة أحاسيس وصور.
تتشخص صور البِنية العميقة للإخفاق، على المستوى الأول، في (41) “غرفة بجدران عالية” (ص 43)، “منعزلة… بعيدة عن قريتي” (ص 53)، “أرضها متسخة” (ص43)، فيها “غطاء موسخ” (ص 44)، وصورة بومة لها “ريش رمادي… قذر…” (ص 45)
القذارة إذن والعراء هما اللذان يعكسان حالة الإخفاق بعيدًا عن القرية، ويأتي الجو المفجع الذي هو عنصر هام من عناصر هذه البِنية ليزيد من حدة الصورة: “منتصف الليل” (ص 44)، “الضوء الشاحب” (ص 44)، “العينان الغاضبتان الخائفتان تخترقان الظلمة وتحدقان فيّ” (ص 44)، “وتمزق الصمت الميت تحت الصرير الحاد الذي كان ما يزال ينحدر من المنقار الأسود المعقوف” (ص 45)، “المنقار المعقوف كنصل عريض لمنجل أسود” (ص 45)، “الضباب المتكاثف” (ص 45).
يجرى التعبير عن العقم الذي صار إليه البطل بصور “في غاية البشاعة” (ص 44)، تعطي بِنية “مصورة” تقوم بين عناصرها علاقات متبادلة، فمثلاً: الغرفة البعيدة توحي بالفراغ، والفراغ يوحي بالخوف. والعكس بالعكس، يعيدنا الخوف إلى الفراغ والعزلة.
الآن ما هي الأحاسيس التي تثيرها بِنية الإخفاق على المستوى الأول؟
“الإحساس بالوَحدة والعزلة” (ص 43)، “الخوف البائس” (ص 44)، “استحالة النوم” (ص 45)، “دُوار مفاجئ” (ص 45). تمامًا مثل الصور، توجد الأحاسيس في عَلاقات متبادلة تتجه في كليتها نحو لحظة ماضية “ليس فيها سوى الاختيار بين الموت والفرار” (ص 44)، لتنشلّ فيها –إذ تم الاختيار اختيار الفرار سواء أكان قسريًا أم غيره- مما يفسر أن الإخفاق بعيدًا عن أن يحرض البطل، يبحث بالأحرى عن وصمه بالعار.
نجد أن لهذه البِنية عَلاقات سياقية بين شكلها (الصور) ومضمونها (الأحاسيس): فالغرفة ذات الجدران العالية توحي بالإحساس بالوَحدة، والعَتَمة تثير الخوف البائس.
أما بِنية الإخفاق على المستوى الثاني، أي القائمة في فلسطين، فقد امتصتها بِنية المنفى، يعني ذلك أنها منظورة عَبر مرارة المنفي، والمنفي لا يرى فلسطين إلا من زاوية الإخفاق عندما نقرأ:
“قرية صغيرة… حاراتها موحلة” (ص 46)، “ساحة الموت” (ص 45)، ” البنادق العتيقة” (ص 46)، “أشباح نسوة منحنيات يسحبن جثثًا” (ص 47)، “درج عتيق” (ص 48)، “باب عتيق” (ص 48)، “صوت العجوز” (ص 48)، “التينة العجوز” (ص 51).
أي مشهد محزن ومكدر لهذه الفلسطين العجوزة العتيقة المدمَّرة! إن اختيار كلمات مثل موت، جثة، عتيق، ترتبط بعهد اكتمل، وفي الوقت نفسه، تجد معناها من المنفى. من هنا كان التقارب بين وضع المنفى هذا والوضع الذي كان موجودًا قبل عام 1948.
نفس الشيء، تشكل صور فلسطين الضائعة فيما بينها عَلاقات سياقية متبادلة: ساحة الموت تذكِّر بالجثث، وهذه الجثث بالقرية البائسة الموحلة… إلى آخره، فليس من الممكن للأحاسيس غير مكابدة الألم أمام هذه الفلسطين التي لا تُعرف بسهولة:
“لا أعرف في أي يوم وقع الحدث” (ص 46)، “وحين نظرنا من خصاص النافذة الواطئة شاهدنا كمن يحلم” (ص 47)، “وكان يستطيع المستمع بإمعان أن يلتقط صوت نشيج مخنوق” (ص 47)، “فراودني شعور بالخوف” (ص 51)، “خوف أسقط ركبي” (ص 52)، “خوف غريب” (ص 52).
يفسر الخوف العام جو الهزيمة، والواقع أن الهزيمة لم تكن من صنع المنفي: “وكنا نشهد، دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت فلسطين تتساقط شبرًا شبرًا وكيف كنا نتراجع شبرًا شبرًا” (ص 46)، الإخفاق من صنعه، لأنه ترك “التحدي الباسل” للبومة الصامدة، وانساق مع الفِرار: “وعلى إيماضة قنبلة بعيدة، شاهدت في عينيها ذلك التحدي الباسل، الخائف بعض الشيء، ولكن الصامد لضغط لحظة اختيار واحدة بين الفِرار والموت.” (ص 52)
وعندما يتأمل المنفي من بعيد أوضاع بلده، يعاني من الشعور بالذنب: هل عرف كيف يدافع عن وطنه؟ أو أنه سلم السلاح مبكرًا؟ لماذا لم يستمر في المقاومة؟ أم أنه فضل الهرب؟ هنا أيضًا للأحاسيس علاقات متبادلة: القلق يبعث على الخوف، الخوف يشلّ الإنسان، ويقوده إلى الضياع، والعكس بالعكس. هكذا توجد الأحاسيس المتولدة عن الصورة الملطخة لفلسطين في علاقة سياقية معها: القرية التي تموت تقود إلى الشعور بالخوف المشلّ.
يقود هذان المستويان لبِنية الإخفاق، في فلسطين وفي المنفى، واللذان هما في الحقيقة متطابقان، إلى الاستنتاجات التالية: عندما كان لا بد من الاختيار في فلسطين (الفِرار أو الموت) اختار البطل الفِرار، علمًا بأن الفِرار أعطى المنفى، الموت في المنفى، أعطى الموت، الموت المجاني الذي يخسر الوطن، وليس الموت المعطائي الذي يحفظ الوطن. إن الفِرار أو الموت هنا (أي في المنفى) متماثلان لمن ضاع، فكيف يمكن أن تكون هذه البِنية بصفتها عملية متطورة؟
تمامًا مثلما هو عليه في مرحلتي الإخفاق، يعيش البطل المنفي في جو معتم: ظلام غرفته الباردة، القرية الموحلة في الظلام. كذلك فإن المشاعر التي يبثها الوسط هي أيضًا متشابهة، نختصرها في مصطلحين: الخوف اليائس/الخوف المشلّ. هذه هي السمات الأساسية لبِنية الإخفاق عشية وغداة اغتصاب فلسطين.
أما الآن فما هي حال هذه البِنية بعد عشرين سنة؟
طبعًا تطورت هذه البِنية بتحديديها التاريخي واللغوي: أعطت معاناة الشعب الفلسطيني في المنفى وانطلاقة المقاومة عام 1965 ميلادًا لشكل جديد من الوعي، تم التعبير عنه جماليًا بلوحات أكثر تلوينًا، وبجو أكثر تحررًا، بواسطة بِنية نطلق عليها بِنية الانتقال نحو النجاح.
لندرس هذه البِنية من زاوية “ما تبقى لكم” (42)، حيث تدخل العناصر البِنيوية الجديدة في صراع مع القديمة لتقترب من الأزمة الأخيرة. بكلام آخر، من انفجار بِنية الإخفاق.
يوجد البطل المنفي في حالة معاكسة لسابقتها، فهو يقرر قطع الصحراء، في طلب أمه، وعليه أن يمضي من مرحلة المسيطَر عليه إلى مرحلة المسيطِر على ذاته. تفسر تردداته الأولى جيدًا أنه رجل ضعيف على الرغم من كل شيء: “وفجأة انتابه الدُّوار” (ص 161)، ولا يتلاشى خوفه إلا تدريجيًا بعد أن يألف الصحراء والظلام: “وفجأة ذاب الخوف وسقط.” (ص 168)
أية لوحة لدينا أمام أعيننا؟
الصحراء تحترق بشمس تحتضر، والمنفي يتقدم وحيدًا لمواجهة تحدي الطبيعة، وهكذا لم تغرق البِنية المصورة مباشرة في العَتَمة: “قرص الشمس معلق على سطح الأفق… يذوب كشعلة أرجوانية… غاصت الشمس كلها… “بدأت الخطوط المتوهجة تتراجع أمام نزول السماء السوداء…” (ص 161)
يقابل تداعي الألوان هذا تداعي الخوف الذي يعاني منه البطل، فالطبيعة (الصحراء هنا) بعيدًا عن أن تعرقل خطوات الفاعل تفتح له الطريق تدريجيًا إلى عالم مفتوح وواضح في النص التالي: “ومن بعيد ترامى إليه الهدير، فبدا له شيئًا متوقعًا تمامًا، ليس بمقدور أي شيء في هذا المدى المبسوط أن يكون مفاجئًا، ليس بوسع أي شيء إلا أن يكون صغيرًا وواضحًا وأليفًا في هذا العالم الواسع المفتوح على وسعه أمام كل شيء…” (ص 169)
التوقع، الوضوح، الألفة، في عالم مفتوح على وسعه، كل هذا، يزيل كل خوف. أضف إلى ذلك أن الطبيعة ليست مهربًا أو وهمًا بل ملاذًا وبطلاً مشاركًا في الكفاح الصعب، لهذا تماثل الصحراء مخلوقًا حيًا عندما يقدمها الراوي بالوصف التالي: “وفجأة جاءت الصحراء… مخلوقًا يتنفس على امتداد البصر…” (ص 161)
لنعد الآن إلى ملاحقة تداعي الصورة وتداعي الشعور داخل الوَحدة التي تجمعهما:
كلما تقدم البطل/الفاعل في الصحراء تَسْوَد السماء إلى أن يسقط الظلام تمامًا: “سقط الظلام تمامًا الآن وسقطت معه ريح باردة صفرت فوق صدر الصحراء” (ص 168)، ذلك لا يعني ليلاً مقلقًا مغمًا ولكن مساء يوم جديد: “إن عليه قطع أطول مسافة تستطيعها ساقاه الفتيتان قبل أن يبزغ الضوء المبكر” (ص 173)، أن يقطع أطول مسافة: هذا يؤكد التطور الحاصل في بِنية الإخفاق، فالمنفي الذي اختار الفِرار –أو كان مدفوعًا إلى اختياره- وعرف الركود، يعيد الثقة إلى نفسه: “عرف أنه لن يعدو” (ص 162) “مستشعرًا ذلك الإحساس الذي كان يملؤه دائمًا حين كان يلقي بنفسه في أحضان الموج: قويًا وضخمًا ويتدفق صلابة…” (ص 162) إنه إحساس الواثق العازم.
كذلك، يتم التعبير عن الحدة السيكولوجية التي تظهر في بداية الرحلة بحدة لغوية: اختيار الكلمات، تنوع الألوان، وهي إيحائية في هذا الصدد، تحوي أيضًا صفة زمنية مثل: الغروب، الليل، الفجر، بشكل مواز للحالة السيكولوجية للمنفي مثل: دُوار، هدوء، أمان. يمكن كلمة “السقوط” أن تكون تعبيرًا عن سقوط الظلام مثل سقوط ماضٍ مظلم، وانبساط الصحراء مثل انبساط العالم الذي ينفتح أمامنا، هذا وللألوان المتداعية صِلات وثيقة بنقصان الحدة.
تلتقي كل هذه العناصر الفنية المشخصة في اللحظة التي يتحقق فيها الذوبان بين المنفي والطبيعة حسب هذه الاستعارة: “أحسَّ بها تحته ترتعش كعذراء” (ص 169)، “فغرس أصابعه في لحم الأرض وذاق حرارته تسيل إلى جسده” (ص 169) شيء مهول كل هذا (الذوبان)، فالعَلاقة عَلاقة كل العقد الرجولية (الإحساس) التي يفكها كنفاني فوق فرج خجول (الصورة)، لكنه في الوقت ذاته ماخوري (الصورة) كمرادف لعذري (الصورة).
هنا تلتقي عناصر الزمان الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، لتشكل وَحدة واحدة. ففي اللحظة التي قرر فيها المنفي مواصلة طريقه أصبح الفعل الماضي دافعًا لفعله الحاضر، وَذَلَّلَ الفعل الحاضر بدوره عقبات المستقبل. بكلام آخر، مَوْخَرَةُ العذرية في علم المعنى لا بد أن تمضي بالزمن السائل كماء العذراء قبل أن تتحول إلى مَوْخَرَةِ الوطنية، فلا يظهر الزمن التاريخي إلا عندما يلتقي الفاعل بالجندي الإسرائيلي، والواقع أن العدو، وفي عرضنا الدلالي، العذري المموخر، هو الذي يضعنا في السياق الحقيقي للمنفى، وبالتالي للإخفاق، ولكن لسبب جوهري، ألا وهو تطور المنفي الذي تحرر من عقده الرجولية، هذا التطور الذي يرتد إلى الجندي الإسرائيلي، فيتحرر بدوره من كل عقده الرجولية: لا يعود الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر، بل على العكس: “خيالاً… فيه روح شبحية” (ص 205)، وبكلام آخر، شخصًا يمكن قهره: “وفي اللحظة التي أمسكتُ فيها عضديه بكفيّ، وأنا أضغط جسدي فوقه، تيقنت أنني أقوى منه” (ص 205)، ويأتي من هنا انقلاب الأدوار: “أخذ (الجندي الإسرائيلي) يحدق حواليه مذهولاً” (ص 206)، “فرفع رأسه وحاول أن يستشف الظلمة…” (ص 207)، و “ظل وجهه متجهًا إليّ غامضًا ومترددًا وشاكًا بعض الشيء، ولكنه كان خائفًا بلا شك” (ص 208)، بينما المنفي الفلسطيني يقول: ” أما أنا، فكنت قد تجاوزت الخوف إلى شعور غريب لا يفسر.” (ص 208)
هنا نصل إلى ذروة الأحداث، هذه الذروة المتمثلة بالمَوْخَرَة كبِنية إنسانية، كبِنية طبيعية: في الوقت الذي يتأكد فيه وعي الفلسطيني وعيًا حرًا متحررًا من عقده الرجولية والتي عقدة المنفى إحداها وليست كلها، يبدأ الصبح بالانبلاج: “وانبثق الضوء فجأة… ومن جديد، عاد الدم ينساب في عروقي مرة أخرى” (ص 225) كناية عن دم العذراء أو العاهرة.
هذه تؤدي إلى خلق تلك كاتجاه جديد والعكس بالعكس، لهذا نحن نرى رؤية الفيلسوف البولوني ستيفان مورافسكي، أن “الاتجاهات القديمة… التي أصبح لها وجود في أبعاد الزمان طويلة كانت أم قصيرة (قد أدت إلى خلق) اتجاهات جديدة تؤدي هي أيضًا إلى ظواهر فنية جديدة” (43). بناء على ذلك، تتفتت بِنية الإخفاق فاتحة الطريق أمام بِنية أخرى جديدة، بِنية النجاح، عندما يتأكد للمنفي ما لا يريده ككود للعذرية، نقول ما لا يريده: “أن المعجزة التي ينتظرها (الجندي الإسرائيلي) ستعني، في اللحظة التي ستأتي فيها، حتفه.” (ص 212)
ب – بِنية النجاح
بِنية النجاح مبدئيًا هي نفي بِنية الإخفاق، وهي الظاهرة الفنية المتولدة عن أزمة نظام الإخفاق كما رأينا، لها شكل ومضمون زمانيان ومكانيان، لكنها تتراوح بين انفصال واتصال، فلنحللها في الفصل التاسع والأخير “البنادق في المخيم” من رواية “أم سعد” (44).
العُنوان نفسه إيحائي، نحن في مخيم منتصر، حيث سيقوم الفدائيون بعرض مع بنادقهم. لم تتغير “الأكواخ الواطئة” (ص 331)، “الممرات الموحلة الضيقة” (ص 332)، إلا أنها لا تؤسِّن بالبؤس سكان المخيم، بل على العكس نجدهم يعيشون حياة أخرى في حركة، تعبر عن ذلك أم سعد بقولها: “أما الآن فقد تغير كل شيء…” (ص 331)، “صار للعيشة طعم الآن، الآن فقط.” (ص 334)
الانفصال والاتصال لبِنية النجاح واضحان، انفصال بين مضمونين وشكلين زمانيين ومكانيين يمثلان البؤس والازدهار، فتتجاوز التعبيرات الخاصة بالازدهار الأخرى الخاصة بالبؤس، لننتقل من مستوى واطئ إلى مستوى عال يتركز في فعل طبقة من الشخصيات: “أطفال المخيم وبناته ورجاله يقفزون عَبر النار ويزحفون تحت الأسلاك ويلوحون بأسلحتهم.” (ص 332) ليس هناك ما يمكن أن ندعوه “تعقيدات” في السرد، بل بساطة، وعلى عكس ما يظن البعد، بساطة سارت بالنص على غير هدى، فكانت بِنية الحَيَدان، ونقصد بالحَيَدان القفز بالنص بعيدًا عن مساره كأفعال لطبقة من الشخصيات والذهاب به إلى فعل شخصية واحدة، أم سعد: “وتدفقت الدموع من عيني أم سعد وهي منصرفة كليًا إلى (ابنها الثاني) سعيد… يهز البندقية في وجه الرجال المحتشدين هناك، وتلتمع جبهته مع ضوء الشمس.” (ص 333)
إنه الانفصال في الاتصال، فليست هناك دموع أخرى غير دموع أم سعد التي تتدفق على مثل هذه الطريقة، وليست هناك جباه أخرى غير جبهة ولدها التي تلتمع بضوء الشمس على مثل هذه الحدة. طبعًا يحاول الراوي أن يعوض نفسه عن التعقيد السردي بالتبسيط السردي لكنه لا ينجح في السيطرة على ذلك، وتفلت منه العناصر السردية العناصر الجمالية بعد أن يَنْصَبَّ كلُّ هَمِّهِ على إبراز أن سكان المخيم يعون التحول القائم، فَهَمُّهُ الشعور بالوعي لا وعي الشعور، عندما يعرض لأسباب التحول ومن كان من ورائه: “إنه سعد مع الفدائيين في الأغوار” (ص 334) و “هذه المرأة تلد الأولاد فيصيرون فدائيين” (334) “كل واحد مهم يحمل مرتينة أو رشاشًا” (ص 335). الحَيَدان هنا في التراكيب التعبيرية ليس في تلاحقها وإنما في وَحَداتها الدلالية التي تركز على ما معناه أن الفدائي الذي طُرد من أرضه عام 1948 وذاق مرارة المنفى ها هو يعود وفي قبضته بندقية ليحرر وطنه وشعبه، وبالتالي ها هو يصبح المِحور الأساسي لبِنية النجاح، بينما وَحدة الدلالة تمنع هذا المعنى لترقى به إلى التعقيد الذي ليس هو الغموض وإنما وظيفة لفعل وإشارة لفاعل.
الفعل هو اختيار الكفاح المسلح، والفاعل هو المخيم بمن فيه، لكن النص يبقى على مستوى أفقي غايته إظهار الشعور بالكبرياء: “وقف ملء قامته وأخذ ينظر حوله بكبرياء.” (ص 333) “الآن يمشي مثل الديك.” (ص 336) فيضيع المستوى العمودي: الكبرياء كفعل لا كشعور، كمضمون لا كشكل، الكبرياء كطاقة محركة لا كمستوى لغوي يعبر عن ليونة في التعابير، فالبساطة ليست بالضرورة الانعكاس المباشر لتأثير المقاومة في أوساط المعدمين والمسحوقين، وليست بالضرورة التحول التاريخي المرافق للتحول اللغوي. حقًا هناك عَلاقات متبادلة بين اللغة والأحاسيس، بين الصور والأحاسيس، لكنها لا تؤكد بالضرورة التحول الطارئ على الشروط الاجتماعية القائمة، فالاتجاهات الجديدة تصطدم دومًا بالاتجاهات القديمة، وبفضل ذلك يُثَبِّتُ الجديد قدميه على الأرض، ويكون الإبداع وليد اللغة والقلم.
المراجع
(40) ستيفان مورافسكي: المطلق والشكل، منشورات كلينكسييك، باريس 1972، ص 183. يعتبر مورافسكي أن التحليل الإرثي مفصول عن التحليل البِنيوي رغم وجود عَلاقات بينهما، بينما وجود هذه العَلاقات قادنا إلى الجمع بين التطور التاريخي (التحليل الإرثي) والعناصر المشخصة المحللة (التحليل البِنيوي).
(41) غسان كنفاني: مجموعة موت سرير رقم 12، المجلد الثاني، دار الطليعة، بيروت 1973، قصة “البومة في غرفة بعيدة” من صفحة 43 إلى صفحة 53.
(42) غسان كنفاني: ما تبقى لكم، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، من صفحة 159 إلى صفحة 233.
(43) ستيفان مورافسكي: المرجع السابق، ص 184.
(44) غسان كنفاني: أم سعد، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، فصل “البنادق في المخيم” من صفحة 331 إلى صفحة 336.
5 – اختيار مواضيع روائية جديدة
أ – أمثلة عن بعض المواضيع الروائية في الأدب العالمي:
يقوم الإحساس الجمالي السلطوي بالعالم على إفقار وتشويه الحياة، ويجري التعبير عن هذا عند السلطة بقدر ما هو عند البسطاء من الناس بفراغ داخلي يعود بالفائدة على الأولى لتأبيد وجودها، بينما يجد الناس أنفسهم مضطرين إلى تأكيد ذواتهم في وسط لا إنساني.
والحال هذه، تكون المِلكية المساهَمة في الغرب، مِلكية مفتوحة لكل الناس بمن فيهم العامل، لتحل الكفاءة محل القيمة، والعَقْد محل الصعلكة، فالبروليتاري هو الصُّعلوك في روما القديمة، ويكون الإنسان أقل تعفنًا مما كان عليه في عهد المِلكية الخاصة، والعَلاقات الاجتماعية أقل تقسيمًا مما كانت عليه أيام الأخت البِكر، نظام المِلكية المساهَمة يفرض عليها ذلك، فلم يعد العمل كما كان عليه في أواسط القرن التاسع عشر “مقسَّم ومقسَّم ثانية وموزَّع بين مجموعة من الأفراد بل أيضًا الفرد نفسه مقطَّع وممسوخ…” (ص 45) بمثل هذه الحدة، فالتكوين المهني يحول دون ذلك، وكذلك الدخول في عصر التكنولوجيا من بابه الواسع، وفي عصر النانوتكنولوجيا من بابه الأوسع، لكن تقسيم العمل وتقطيع الإنسان لا يزالان سائدين على درجات متفاوتة، ولن يزولا، لأن زوالهما يعني زوال العمل ذاته والإنسان ذاته.
أي ستظل المِلكية المساهَمة والسلطة والنقود تطرح جانبًا النواحي الطبيعية والصفات الإنسانية، بحال أقل مما كانت عليه في الماضي هذا صحيح، ولكن ستبقى الطبيعة المرئية من الزاوية النقدية (من نقود) تفقد قيمتها، وكذلك سيجد الكائن نفسه مفرغًا من جوهره الإنساني: إنها إرادة النقود ما دامت النقود، والنقود إرادة البنوك ما دامت البنوك، والبنوك إرادة النفوس ما دامت النفوس، ومن عصى إرادة النقود يُعاقَبْ. إلا أن ما يجري في عصر المِلكية المساهَمة غير ما يجري في عصر كان البروليتاري فيه محرومًا من المِلكية، فالاستغلال على مستوى الشركات المتعددة الجنسيات يكون الشعور به قليلاً لدى الفرد وكثيرًا لدى المجتمع، وكما يقال، القليل في الكثير يجمع. بانتظار ذلك، بانتظار الأزمة القادمة، يتم إطلاق كل الأسلحة القمعية والبيروقراطية والإعلامية، لأن في عيني الحاكم المضطهِد أو المالك ذي الأسهم الأكثر لا يكتسي العالم إلا بقيمة تعسفية أو تجارية لا جمالية، وهذا ما يميز عَلاقات السلطة بالحقيقة بشكل عام، وبالجمال بشكل خاص. والواقع أن تعلق المالك المساهِم بالقيمة النقدية للشيء، والحاكم المضطهِد باستبداد الكرسي، تخلع عنهما كل إحساس جمالي، تمامًا كما قال ماركس وإنجلز بخصوص المِلكية الخاصة في زمنهما: “هنا أيضًا –مثلما نقرأ في الإيديولوجية الألمانية- العمل هو الشيء الجوهري، هو التسلط على الأفراد، وطالما بقي هذا التسلط بقيت أيضًا المِلكية الخاصة.” (46)
يوجد غياب العَلاقات الإنسانية المتولد عن نظام المِلكية الخاصة للعمل في أعمال بروست، وتظهر الروح النقدية من بين ما يظهر في العَلاقات الاصطناعية للعالم الذي يصفه. كذلك، أراد بروست أن يطابق السلطة البرجوازية على السلطة الأرستقراطية للمعرفة الثقافية التي لها، ونجح في وصف هذا العالم المغلق على الرغم من غنائه المادي وحياة صالوناته المترفة التي تنحرف عن الاتجاه الموافق للعَلاقات الإنسانية. لكن بروست يشدد من وَحدة الإنسان وبؤسه في العالم، مما يسلب الأدب ورقة جوهرية، ألا وهي أفق المستقبل.
ينتمي مضمون هذه المِلكية الخاصة الأكيد طوال التطور التاريخي حتى مرحلة ما بعد-الرأسمالية اليوم في أرقى أشكالها التي هي تذويب المال في المال (الشركات فيما بينها) والإنسان في المال، ينتمي مضمون هذه المِلكية الخاصة –مثلما نقرأ في رأس المال- “إلى أشكال فكرية لها حقيقة موضوعية تعكس بصفتها هذه عَلاقات اجتماعية حقيقية.” (47)
إذا تأملنا أشكالاً فكرية أخرى كالإحساس الديمقراطي بالعالم المقام على البِنية المِلكية سواء أكانت نظامًا سياسيًا أو مصنعًا تكنولوجيًا، فإننا نزيل بنفسِ الضربةِ الانتهازيةَ والزيفَ اللذين يَنتجان عنها. كما ويحدث التطابق بين الموضوع والذات، بين الطبيعة والإنسان، عندما يتم بالشكل نفسه التطابق الفعلي بين الإنسان وحقيقته، وذلك بتحويل الحياة، هذا التحويل الغائب أو المغيب في المجتمعات الكسيحة، مجتمعات الهمج، بأثريائها لا بأفرادها، أثرياء التَّرَلَلِّي في العربية السعودية وبلدان الخليج، فيرجعون بلدانهم القهقرى، ولا يأخذون من العصر الحديث غير الاستهلاك رداء ونعال البيت الأبيض غذاء.
بناء على ما سبق، الواعون من الناس، مهما كانت أصولهم الطبقية، هم الوحيدون القادرون على خلق وفهم تحول العالم، وسيكونون بالتالي من وراء المواضيع الروائية الجديدة. لقد فهم الكُتَّاب في أمريكا اللاتينية قبل غيرهم النهضة الروحية العمالية وغير العمالية في بداية القرن العشرين، وأظهروا تحت أساليب سحرية أن الإنسانية الواعية صاحبة هذه النهضة تشكل قوة لا تقهر على الرغم من أن أهدافها لم تكن بعد واضحة، والفضل في تقديم “البطل الجديد” يعود إليهم، وفي تذويب مطالب التحرر الاقتصادي والتحرر السياسي في المثل الأعلى الجمالي.
هكذا يثبت جابرييل جارسيا ماركيز في “إيرينديرا البريئة” (48) أن التضامن المعقود بين الفقراء شيء ضروري، وأن البطل المتجسد في إيرينديرا متحدر أيضًا من هذا الوسط البائس، ويُظهر ماركيز بشكل غير مباشر، بشكل كيفي، بشكل ضد-فهلوي، ضد-ادعائي، ضد-دعائي، كم يمكن البؤس أن يكون نبيلاً عند البحث عن الحرية، ومُحِطًا من أقدار البشر عند فقدانها.
ب – أمثلة عن بعض المواضيع الروائية في الأدب العربي:
جريًا على عادته، يكتب يوسف السباعي رواياته، وهو يستجم على الشاطئ، فينجح في “بين الأطلال” في الدفاع عن قلة الأرستقراطيين المِصريين. ومثلما يبرر زيفهم وجشعهم وأنانيتهم، لا يخشى الكاتب تبرئتهم من كل التهم الأخلاقية، وذلك من أجل السهر على مصالحهم. وهكذا يذهب إلى الاتجاه المعارض للخير الاجتماعي بدعمه فئة مستغِلة –على الرغم من أن الرواية مكتوبة بعد ثورة يوليو- لا تشارك في المجهودات الشعبية –أينها؟ كيفها؟- من أجل ازدهار عالم جديد كان وهمًا. حتى أن عُنوان الرواية يشير إلى أن يوسف السباعي لا يأتي بما هو دافع للإنسان، ولكن بما يؤبده في السكون والبرد وأعمدة الموت.
أما طه حسين في “دعاء الكروان”، فالإسهاب لديه في وصف الطبيعة شكلي محض، والوصف مدرَك هنا لهدف أدبي إطاره ليس إلا عنصرًا للديكور. لذلك، ليست الطبيعة الموضوع الذي سيتطابق مع الذات، إنها مِلْوَن رسام، هَمّ جمالي، تتوالى معه الاستعارات الاصطناعية برتابة، فالطبيعة المرئية من هذه الزاوية “ليست تعبيرًا عن نفسها”. (49)
مع يحيى حقي في “قنديل أم هاشم” جرى التشديد على التوفيقية بين العِلم والدين “لإنارة سبيل الإنسان وتجميل عالمه” (50) دون أن يدرك حقي أن التاريخ هو تاريخ بِنى اجتماعية ذات مصالح مختلفة، لا شأن له بالعِلم المستورد من الغرب أو بالتصوف المصدر من الشرق، ولا بوضع الاثنين في كفة ميزان ميكانيكي واحدة. لم يفكر حقي في الأسباب الاجتماعية التي تولد بؤس حي السيدة زينب، ولا في الأسباب الميتافيزيقية التي بإمكان الدين المتنور أن يكشف عنها كالعِلم ويقاتلها من خلال تحالف عملي بين العلمانيين والمتدينين “بدون يافطة دينية”. وعلى العكس، يعطي حقي تفسيرًا للبؤس كشرط إنساني عادي يجري التخلص منه –إذ يغدو العِلم عاجزًا ومكبَّلاً- بالدعاء أو بالركون إلى القدرية.
ج – المواضيع الروائية الجديدة عند غسان كنفاني:
قاوم غسان كنفاني التمثيل الروائي القديم، وأراد أن يجعل من نفسه مدافعًا عن الحقيقة، فنجح مع البطل المنفي، وفشل مع البطل الثوري. كان صادقًا مع البطل المنفي، لكنه كان كاذبًا مع البطل الثوري، عندما لم يعتبر البؤس قدرًا طبيعيًا مفروضًا على الإنسان في الحالة الأولى، وعندما استعمل هذا البؤس لغايات إيديولوجية في الحالة الثانية، فالبؤس كعنصر جمالي، نبيل وجميل عندما ينطبق على جهود الذين يبحثون عن التغلب عليه، ليس كوصفة طبخية، كما كان دأبه مع البطل الثوري، وإنما كموضوع إبداعي للفئات المسحوقة “التي هي ذاتها حقائق وقوى محركة للواقع” (51)، فهي ليست تلك الفئات المفرغة من جوهرها التي يصف، وليست تلك القوى المقاتلة واللامستسلمة التي يقدم، إنها القوى المتخَيَّلة، الهشة في أحوال كثيرة كالمُثَبِّطَة في أحوال قليلة، لتبيان آلياتها، كما كان دأبه مع البطل المنفي.
أعمال كنفاني التي محورها البطل المنفي عبارة عن احتجاج ضد الحالة القديمة للأشياء المنتزع منها أفق المستقبل، والمفروضة على المنفيين الذين هم المجتمع الفلسطيني في الشتات، ومثلما يلاحظ لوكاتش بخصوص واقعية غسان هذه، واقعية “قادرة على كشف خواص الإنسان وكفاءاته بصفتها تطابق إرادة فعالة وقدرة إيجابية على خلق واقع جديد لنمط محدد.” (52)
هذا ما تفترضه واقعية كنفاني كبدائل يؤكدها بطله المنفي وينفيها بطله الثوري، فالأول يقترح نقيضه، والثاني لا يقترح إلا نفسه، فيلغي نفسه، أو يعود بنفسه إلى نقيضه. وعل عكس ما يرمي إليه كنفاني، يصبح المخيم، كموضوع للبؤس، المكان الديماغوجي للتحرير، فأين التحرير من كلمات بريشت هذه: “تنتج الرغبة في الحرية من القمع، وتنتج الحرية من التحرير.” (53)
واقعية كذلك الرمزية المستعملة بخصوص البطل المنفي من طرف المؤلف لوصف الحركة الاجتماعية، فتم التعبير بالرمز عن الماضي بحقول الزيتون ورائحة الأرض التي تذكِّر بنضارة “امرأة اغتسلت بالماء البارد” (54)، أما الحاضر، فَرَمَزَ إليه المخيم البائس مع إقحام متمثل بالبندقية رمزًا للرمز، مما خلخل البِنية، وطغت الصورة التي يريدها كنفاني للمخيم على كل شيء. وبالفعل، كان له ما لصاحب “الأم الشجاعة”: “يمكن للتقنية الأدبية أن تخدم بصفتها غلافًا للواقع… والذي يهم، قبل كل شيء، فكرة عادلة تعطي درسًا، بمعنى فكرة تسأل الأشياء والأحداث لتبرز منها الوجه الذي يحوّل، والذي يمكن تحويله.” (55) بينما رَأْيُنَا المخالف مائة بالمائة يداافع عن تقنيع (من قناع) الفكرة كيلا نقع في التدوين الميكانيكي والتفخيخ الديماغوجي.
وعلى العكس، هناك موضوعة هامة تميز أدب كنفاني، ألا وهي تعرية وفضح الوهم الطوباوي (56). بعيدًا عن أن يرجو حلاً طوباويًا لتعاسات الإنسان، كيحيى حقي، يفضح كنفاني مخاتلة الولي، ويدلنا على الطريق التي لا تزول الأوهام فيها إلا بفعل فاعل للأعمى والأطرش، لنعود من جديد إلى قوة البطل المنفي مقابل ضَعف البطل الثوري. هذا الانقلاب فردي بحت، وليس بفضل “الكلمات الكبرى” التي عودنا عليها ماركس وإنجلز: “من الواضح أن كل انقلاب تاريخي كبير للشروط الاجتماعية يؤدي في الوقت نفسه إلى انقلاب في تصورات الإنسان وتمثلاته…” (57)
نركز على “بحتية” الفعل الفردي بصفته المُطْلِق، المُسَبِّب، المُخَيِّل، البطل بفرديته، البطل بموديله، البطل كبِنية لطبقة من الشخصيات تحت دلالة المجتمع بكليته: العَلاقات الإنسانية، المشاعر الإنسانية، الصور الضد-أم سعدية (58). ونحن في هذا المقام لن نضم صوتنا إلى صوت جرامشي الذي يقول: “إن إرادة الشعوب لهي تلك الإرادة التي تثبت نفسها بشكل عفوي ودائم، وذلك بأن تشيد كل يوم خلية جديدة من السيكولوجية العمالية الجديدة، من التنظيم الاجتماعي الجديد.” (59)
كل هذا صراخ في برية الخطاب لا جدوى منه.
المراجع
(45) كارل ماركس: رأس المال، الكتاب الأول، الجزء الثاني، منشورات سوسيال، باريس 1967، ص 50.
(46) كارل ماركس وفريديريك إنجلز: الإيديولوجية الألمانية، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 81.
(47) كارل ماركس: رأس المال، الكتاب الأول، الجزء الأول، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 88.
(48) جابرييل جارسيا ماركيز: إيرينديرا البريئة، ترجمة سمير عزة نصار، دار النسر، عمان 1990.
(49) كارل ماركس وفريديريك إنجلز: العائلة المقدسة، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 203.
(50) صلاح عبد الصبور: حتى نقهر الموت، دار الطليعة، بيروت 1966، ص 225.
(51) بيرتولت بريشت: حول الواقعية، منشورات لارش، باريس 1970، ص 156.
(52) جورج لوكاتش: الدلالة الحالية للواقعية النقدية، منشورات جاليمار، باريس 1960، ض 171.
(53) بيرتولت بريشت: كتابات حول السياسة والمجتمع، منشورات لارش، باريس 1970، ص 50.
(54) غسان كنفاني: رجال في الشمس، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 37.
(55) بيرتولت بريشت: المرجع السابق، ص 23.
(56) أهم الأمثلة الحالية كامنة في الظلامية والإسلامية.
(57) ماركس وإنجلز: حول الدين/ منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 94.
(58) غسان كنفاني: أم سعد، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 270 وص 233.
(59) أنطونيو جرامشي: كتابات سياسية، منشورات سوسيال، باريس 1974، ص 323.
6 – التنوع الأدبي: قصة – رواية – مسرحية
نحن لا ننطلق من حقيقة أن الكاتب الجمعي يتوجه إلى الكادحين من البشر، وهو لذلك ينزع إلى استعمال أنواع الفنون الأدبية المختلفة لإيصال رسالته، لأننا لا نؤمن بالكاتب جمعيًا كان أم غير جمعي، الكاتب هو كاتب وفقط، والكاتب يتوجه إلى كل البشر كادحين وغير كادحين، لماذا يتميز الكادحون عن غيرهم، بماذا يتميز الكادحون عن غيرهم، لماذا كل هذا الاحتقار المبطن لهم بوصفهم كادحين، فليس هناك من الإكبار شيء مما يدعيه النقد الإيديولوجي، ولأن كل كتابة هي أولاً كتابة، وهي كتابة للإنسان، أيا كان الإنسان، وما يهم بالتالي هذه الكتابة التي تتنوع لغتها تنوع الأدب، قصيدة، قصة، رواية، مسرحية. امتزاج كل هذه الأنواع في الرواية مثلاً من الطبيعة السردية لهذا النوع الأدبي، وليس لأن هذا الامتزاج من إرادة السارد، ليس لأن الكاتب الذي يرتدي ثوب السارد كاتب جمعي يريد أن يتوجه إلى الجماهير، فليس هناك فن جماهيري، هناك فن وفقط، وما يقوله لينين عن الفن إنه “مِلْكٌ للشعب، يجب أن يخترق بجذوره أعمق أعماق الجماهير الكادحة –يا سلام- يجب أن يكون لهذه الجماهير سهل المنال ومحبوبًا –يا سلام- يجب أن يوحد بين مشاعرها وأفكارها وإراداتها –يا سلا…م سَلِّم- أن يثير حماسها، أن يوقظ في نفسها الروح الفنية، وأن يطورها” (60)، كل هذا إنشاء ثوري يقال بطيبة كثيرة وحكمة قليلة، فما هي مقومات الأدب عند غسان كنفاني؟
مستمدًا مباشرةً من المضمون الاجتماعي الفلسطيني، يعمل أدب كنفاني على إبراز شخصيات متوسطة ودون المتوسطة شخصيات فقيرة تنتمي إلى المسحوقين، لكنها لا تتوجه إلى المسحوقين دون غيرهم، وبكلام آخر، ليس لأن شخصيات كنفاني تنتمي إلى المسحوقين، فهي بالتالي لا تتوجه إلا إليهم، هم موجودون في أدب كنفاني وفي أدب غيره، فالأدب موجود قبل أبطال هذا الكاتب أو ذاك، وهو موجود في كل الأزمان، ولا يحتاج ليوجد إلى مضمون “شعبي” ترافقه بساطة في التعبير على علاقة وثيقة بالواقع هدفه خدمة مصالح المقاتلين من أجل الرغيف (أم سعد)، وأقل من هذا قول صاحب “الأم الشجاعة”: ” “كي يمكن للشعبية أن تؤخذ كمعيار للعظمة يتطلب ذلك شروطًا اجتماعية جِد محددة” (61)، هذه الشروط إذا كانت من وراء كتابة غسان، فهي لم تصنع كتابته، ولم تفرض تنوعها.
حقًا عاش كنفاني التطور التاريخي لشعبه، وعرف أيضًا ظلم وبؤس المنفى، ولكن مثله كان الكثير من الناس، فلماذا لم يكن سوى كنفاني؟ لمستواه الثقافي كمستهلك للأدب هذا صحيح، لتذوقه الأدبي، لقدرته على صياغة الكلام، على تنويعه كصحافي ورسام ومعلم، وخاصة لكون الأدب كحقيقة واقعة. هذه البَيِّنَة بخصوص حقيقة الأدب تنفي كل الأدبيات التي قالت ما قالت بخصوص عظمة القضية الفلسطينية التي تحتاج إلى دور إيجابي للمثقف الخارج من قلب الناس، بالأحرى من بطنهم، وبكلمات كنفاني نفسه مع الأسف:
“إن الفقر والانسحاق وتعاقب عقود عديدة من القهر القومي والطبقي قد أدت مجتمعة إلى إنشاء “مؤسسة كاملة” للاستسلام والقدرية والخنوع عكست نفسها بالأمثلة الشعبية السائدة. وكان على المثقفين الفلسطينيين، وخصوصًا على الشعراء الشعبيين في الريف، مهمات عظيمة لزحزحة تلك الثقافة الخاملة، دون أن يكونوا هم أنفسهم قد تخلصوا جذريًا من تأثيراتها. والصحيح أن قطاعًا من المثقفين الفلسطينيين قد شرعوا يفعلون ذلك منذ وقت مبكر في تاريخ النضال الفلسطيني، وقد لعبوا دورًا بارزًا في بلورة وعي متقدم: إن العلاقة التي نشأت بين الأدب الشعبي الفلسطيني وكذلك الأدب الفصيح في المدن، وبين حركة النضال الفلسطينية لم تكن علاقة وصفية أو تسجيلية، ولكنها كانت علاقة جدلية من طراز عميق.” (62)
كل هذا جميل من ناحية التاريخ الأدبي، ولكن ما لم يفهمه كنفاني كيف نميز بين أدب وأدب، كيف نكتب قصيدة أو قصة أو رواية أو مسرحية، ومن كل نوع كيف يكون الموديل “الأصلح” للفاجعة الفلسطينية. الجدل الاستدلالي الذي يلح عليه كنفاني بين التطور التاريخي والشكل الأدبي ليس بهذا الشكل الأوتوماتيكي، كل تحليلنا السابق أثبت أن الأدب كوني في شكله ليس لأنه يمشي بقدمي التاريخ، ولكن لأن التاريخ يمشي بقدميه. لهذا ما يقوله جرامشي عندما يتكلم عن الشعب ينتمي إلى الإنشاء الثوري: “الشعب فيلسوف وفنان وذواقة يشارك في تمثل العالم والحياة من خلال رؤية شاملة معينة، يُسَيِّر حياته وفق خط سلوكي أخلاقي معين، ويساهم بالتالي في تعزيز رؤية شاملة أو في تغييرها، أي تشجيع أنماط تفكير جديدة.” (63)
أين الشعب الفيلسوف في مصنع اللغة؟ أين تشجيعه لأنماط التفكير الجديدة في إنتاج الكلام؟ أين موقعه النفسي قبل التاريخي وبعد الاجتماعي في الأسلوب؟ أسلوب الكاتب الصعب بينما تُلصق بغسان رقعة الكاتب السهل؟ (64) غسان كنفاني بتنوع الكتابة لديه يستعمل الفن كممارسة اجتماعية إنسانية، على راسي وعيني، هذا ما أكده فيديريكو جارسيا لوركا عندما مزج بين المسرح والشعر، وخورخي لويس بورخس عندما كتب القصيدة والقصة، غير أن هذا لا يعني شيئًا عندما نعرف أن هناك من القصائد والقصص ما لا يعد ولا يحصى مما ينتمي إلى عالم الثرثرة.
والآن لنركز على التقنية ولنر كيف تَظهر البِنية الفنية في القصة والرواية والمسرحية عند غسان كنفاني؟
للقصة عند كنفاني ميزة الرواية المكثفة، وعلى العكس ليست الرواية ملحمية بالمعنى الغربي للكلمة، أي لا تروي بالتفصيل حكاية عائلة بأكملها عَبر كافة الأجيال (عائلة التيبو لمارتن دي جار، عائلة الجيرمنت لبروست، عائلة البودينبروكس لتوماس مان)، ولا بالمعنى الوصفي الشامل للطبقات الاجتماعية مثلما هي عليه عند بلزاك أو زولا. للرواية عند كنفاني تقنية القصة القصيرة، ولكن المفصلة، التي تُظهر بعض لحظات مكثفة من حياة البطل، ذاهبة به إما إلى فشل وإما إلى نجاح، فينجح كنفاني مع بطله عندما يفشل، ويفشل عندما ينجح. لقد حللنا ذلك بالتفصيل، وما يهمنا عند هذا المستوى النهائي من التحليل ما يؤكده فضل النقيب، الاختصاصي في الشئون الفلسطينية، والذي كان صديقًا مقربًا لكنفاني، حول التقنية البِنيوية النوعية للتكثيف القصصي: “منذ البداية، كانت قصصه القصيرة جيدة، فيها رائحة جديدة لأمور قديمة، إحساس متميز يفرض نفسه على إحساس القراء… أكثرها يبدو كرواية كبيرة مضغوطة أو مختصرة…” (65)
لهذا كان كنفاني كاتبًا مسرحيًا أكثر منه روائيًا، فهو يفضل التكثيف الفني المختصر إلى بعض الصور على التصوير الشامل انطلاقًا من تكوينات بعيدة الغور، وبالتالي، تقنيته موجزة لا استطرادية. وأفضل مثال على هذه التقنية “أم سعد”، دون أن تكون رواية، مسرحية، أو قصة قصيرة، انقسمت إلى تسع لوحات، حسبما يقول غسان في مقدمته للرواية، ونجد أن مصطلح “لوحات” في محله، فهو لا يكشف عن نوع أدبي جديد فحسب، بل ويشير في الوقت نفسه إلى شكل آخر في التعبير، ألا وهو الرسم. (66)
من خلال هذا المنظور، يمكننا أن نفسر تعاقب التنوع الأدبي مع الاهتمام بالبحث عن شكل تعبيري جديد يعبر بطريقة أفضل عن حاجات الكاتب الفنية، وقد اعترف غسان كنفاني بذلك: “أنا لا أريد أن أقول شيئًا أحيانًا أستطيع قوله بكتابة الخبر الرئيسي في صفحة الغد وأحيانًا بصياغة الافتتاحية… أو صياغة خبر صغير في صفحة المجتمع. بعض المرات، لا أستطيع أن أقول الذي أريد إلا بقصة، الاختيار الذي يتحدثون عنه ليس له وجود. ” (67)
زيادة على ذلك، ينوِّع غسان وسائله التعبيرية لأنه يملك الإحساس بالضرورة التاريخية (68)، وخاصة لأنه يملك القدرة على التعبير عن هذا الإحساس، لقد فهم هذه الضرورة كنتيجة لعالم المواجهة، لكنها لم تكن كل شيء بالنسبة لقلمه، وأكثر من ذلك كانت بالنسبة لقلمه أحد –وليس كل- أسباب ديناميكيته كفلسطيني عاش بنفسه التطور التاريخي لمصيره. على الرغم من هذه الديناميكية، كان يعرف أن “أعماله الرامية إلى الانبعاث والتجديد ستتباطأ دون انقطاع، وستُعَرقل لمقاومة المصالح التقليدية والأنانية” (69)، لهذا ضاعف كنفاني من كفاحه الأدبي على جبهات عدة، مما استوجب أشكال تعبير جديدة، هدفها التقدمين التاريخي والاجتماعي للإنسان عندما يقول: ” في السابق، في كل مراحل الصراع، كانت الصورة بشكل آخر. القوى التي تصدت لإسرائيل، طبعًا نحن نعرف أن التصدي كان اسميًا، لكن على أفق الإمبريالية، لذلك كان الصراع يأخذ شكلاً مضحكًا، ولكنه الشكل الطبيعي جدًا، عندما تتصادم قوتان تمثلان ظاهرة تاريخية متشابهة، فالحكم بينهما هو حتمًا التكنولوجيا وليس غيرها، ولكن عندما تتصادم قوتان تمثل كل واحدة منهما ظاهرة تاريخية مختلفة، فالحكم الأخير هو التقدم التاريخي.” (70)
إضافة إلى ذلك، لم تكن حاجة كنفاني الفنية (71) إلى استنباط شخصياته القصصية (مثل قصص موبوسان)، ولا اللجوء إلى مكونات الشيء منذ البداية (مثل روايات توليستوي)، ولا حتى إضفاء سمات درامية على البطل (مثل مسرحيات راسين وكورناي)، على غرار بريشت الذي خلق نوعًا مسرحيًا جديدًا “المسرح الملحمي” (عبارة عن مزيج من أنواع المسرح التقليدية يعبر عنها العُنوان ضمن السياق التاريخي في ألمانيا بعد ميلاد فن البروليتاريين غير الجشعين “أجيتبروب” في المدن الكبرى)، استمد كنفاني من كل أشكال الفن ما يعبر به عن الحقيقة التي أدركها، وكتب حول ذلك يقول: “إن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدًا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها، وبالتالي، فإن رصدها واستقصاءها وكشف أعماقها تظل ضرورة لا غنى عنها لفهم الأرض التي ترتكز عليها بنادق الكفاح المسلح.” (72)
نحن هنا في صميم الإنشاء الثوري، لأن إنتاج الأدب هو نظامه أولاً وقبل كل شيء، ونحن نشدد هنا على هذه النقطة لدرجة نعتبره فيها أحد العلوم التجريبية، لنصل إلى موديلات في الكتابة، موديل موباسان، موديل بريشت، موديل كنفاني. لقد عبرت “أم سعد” عن موديل كنفاني بتقنية اللوحات المتواقتة، دون حَبكة بالمفهوم الروائي الكلاسيكي، وأعطت المثال الأفضل–نحن هنا نحلل التقنية دونما أقل عَلاقة بموقفنا “العدائي” المعروف من هذه الرواية-. والحقيقة أن غلبة الحِوار تجعل من الرواية قطعة مسرحية، كذلك فإن الصور المتنوعة للمخيم، لشيوخه وشبابه وأطفاله، توحي بلوحات مسرحية، لأن وجود هذين العنصرين –الحِوار والصور- يساهمان كذلك في العمل من “أم سعد” مسرحية موسيقية. (73) وبما أن الموسيقى فرع من نشاطات الإنسان الفنية، تمثل اتجاه مؤلفها، فبالإمكان تحويل “أم سعد” إلى لحن شعبي.
هذا ويجدر بنا التأكيد مرة أخرى على ميزات الكاتب المسرحي الذي وجدناه في غسان كنفاني، للحِوار السائد في قصصه، وحتى إذا ما كان هناك غياب للحِوار، كان هناك السرد أو الرسائل التي تبني بشكل خفي حِوارًا بين المرسل والمرسل إليه. أما في رواياته، فالحوار هو الطاغي، مما يسهل الانتقال إلى المسرح، حيث تطرح مسرحية “الباب” –كالروايات- لاعتمادها على الأسطورة مسألة المنفى عَبر مفاهيم فلسفية دون أن تلغي مضمونها السياسي، فهدف الكاتب الأخير سياسي خالص، ويتكرر الهدف السياسي مرة ثانية في مسرحية “القبعة والنبي”.
نستخلص أن كنفاني كان من أنصار المسرح السياسي (74)، مما يبرهن على ثراء مادة كنفاني الفنية: في الوقت الذي كانت فيه خالية من التصنع، كانت مفعمة بحساسية “بصرية”. وإن لم يستطع كنفاني أن يضيف إلى نشاطاته المختلفة مهنة كاتب السيناريو، فقد زود العاملين في السينما بسيناريوهات كامنة في رواياته. في هذا الصدد، نذكر ملاحظة آبل جانس التالية: “إن أعمال شكسبير، رمبراندت، وبيتهوفن، ستنقل إلى السينما، فيصبحون سينمائيين… سينتظر كل عمل من أعمالهم انبعاثه “الضوئي”، وسيتدافع كل الأبطال على أبوابنا للدخول:” (75)
لقد نقل المخرج المِصري توفيق صالح رواية “رجال في الشمس” إلى السينما (76)، مما يُظهر مرة أخرى أن تنوعًا جديدًا في الفنون، قصة/رواية/مسرحية/فيلم، ممكن من خلال أعمال كنفاني، وعندما رأى الكاتب الفيلم كان رد فعله إيجابيًا: “لقد دُهشت حينما سمعت حِوار أبطالي حول مشاكلهم، واستطعت أن أقارن حِوارهم بالمقالات السياسية التي كنت قد كتبتها في الفترة الزمنية ذاتها، فرأيت أن أبطال القصة كانوا يحللون الأمور بطريقة أعمق وأقرب إلى الصواب من مقالاتي السياسية.” (77)
يبدو لنا أن الانتقال من الرواية إلى المسرحية وأخيرًا إلى الفيلم هو انتقال من العُرف الكتابي (الذي لم يكن إلى حد الآن إلا أكاديمي القلم) إلى العُرف الشفهي، وأن التنوعات الفنية تجد أسبابها عند جمهور مختلف القطاعات. لقد كان بإمكان كنفاني أن يُغني هذه التنوعات، ويعطي أكثر، إلا أن موته المبكر قد منعه من الذهاب إلى أبعد.
المراجع
(60) لينين: عن زيلينسكي: الأدب السوفياتي، المواضيع والرجال، دار التقدم، موسكو 1973، ص 305.
(61) بريشت: حول الواقعية، منشورات لارش، باريس 1970، ص 125.
(62) غسان كنفاني: ثورة 36-39 في فلسطين، خلفيات وتفاصيل وتحليل، منشورات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بيروت 1974، ص 14.
(63) أنطونيو جرامشي: قضايا المادية التاريخية، دار الطليعة، بيروت 1971، ص 131.
(64) يعرف الأدب العالمي كثيرًا من الأمثلة حول الشعبية التي يلقاها كاتب “صعب” وفي الوقت نفسه عميق، ويبدو لنا أن أفضل هذه الأمثلة شكسبير بالنسبة إلى دراماته، وشيلر بالنسبة إلى أسطوراته. وهكذا فقد عرف “هاملت” كل الإنجليز وكل الشعوب كبطل متمرد، كذلك عرف “نشيد الفرح” العالم أجمع كغناء الإنسانية المتحدة.
(65) فضل النقيب: في: غسان كنفاني إنسانًا وأديبًا ومناضلاً، منشورات الاتحاد، بيروت 1974، ص 54.
(66) للتذكير: كان غسان كنفاني رسامًا.
(67) غسان كنفاني: في: غسان كنفاني إنسانًا… ص ص 69-70.
(68) مثل الشاعر المارتينيكي إيميه سيزير الذي انتقل من الشعر “دفتر عن عودة إلى الوطن الأم” إلى المسرح ليخدم بشكل أفضل قضيته الكتابية.
(69) كارل ماركس: الحرب الأهلية في فرنسا 1871، منشورات سوسيال، باريس 1968، ص 217.
(70) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 81.
(71) أدولفو سانشيز فاركيز: مشركة الخلق أو موت الفن، مجلة الإنسان والمجتمع عدد 26، باريس 1972، ص 77.
(72) غسان كنفاني: الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال سنة 48-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1968، ص 9.
(73) كتب موسورجسكي مسرحية موسيقية بعُنوان “لوحات من معرض” ليصف –موسيقيًا- لوحات الغاية من ورائها توسيع وسائله التعبيرية، وهذا ما يسمونه مزيج أنواع “الموسيقى المبرمجة” للقرن التاسع عشر.
(74) مهدي عامل: في المسرح السياسي، مجلة الطريق عدد 4، بيروت 1973، ص ص 134-135.
(75) وولتر بنيامين: الشعر والثورة، منشورات دونويل، باريس 1971، ص 177.
(76) نُقلت “رجال في الشمس” إلى السينما تحت عُنوان “المخدوعون”.
(77) غسان كنفاني: في: غسان كنفاني إنسانًا… ص 140.
7 – القيمة التاريخية لأدب الواقعية
منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأ تأريخ تيارين في أوروبا، التيار الأول يميل أكثر فأكثر إلى فردانية متطرفة، نذكر على رأسه فلوبير وبطلته مدام بوفاري التي هي تجسيد كلي لهذه الفردانية، ونذكر كذلك هايسمان وبطله الأرستقراطي الذاهب في بحثه عن حس فردي يبلغ أقصاه في قصره المقطوع تمامًا عن العالم. لنذكر أيضًا موريس بارِس الذي أشاع عبادة الأنا، فعَبَّر بذلك عن الأنانية كاحتقار للآخر، وفيما بعد، طوَّر أفكاره سياسيًا بشوفينية أعدت الفرنسيين للحرب العالمية الأولى التي وصفها “بالحرب العادلة”.
أما التيار الثاني، فهو إنْسِيَّة البرجوازية الثورية المتجسدة بصورها وأفكارها لدى جوان وولفجانج وجوته وشيلر على الخصوص. كان من الواجب على هذه الإنْسِيَّة أن تصاغ من جديد في اللحظة التي استقرت فيها البرجوازية كقوة مضطهِدة، وكان على هذا الاتجاه أن ينحو أكثر فأكثر نحو البروليتاريا ليرسخ فيها. حوالي سنة 1850، تأكد للفنان الانقلاب الذي طرأ على دور البرجوازية بعد أن أفضت إلى السلطة العليا تحت حكم نابليون الثالث، وأصبح دورها في الحقيقة دورًا عسكريًا، فلم تستطع البرجوازية ضمان نظامها البرلماني لتقف في وجه البروليتاريا التي كانت تنتظم، وفضلت لمواجهة هذا الخطر النظام الاستبدادي العسكري للويس نابليون بونابرت الغاصب. وهكذا تم تحالف أولي بين الجيش ورأس المال، سيصبح في عصرنا الحالي: الفاشية.
لقد كان من نتيجة ما تقلدته البرجوازية المسيطرة من سلطات تلغي في المستقبل كل القيم لصالح قيمة النقود وحدها: تتجير الفن، أي تحويل الفن إلى سلعة تجارية، فأصبح الفنان إما “أكاديميًا” لحساب نابليون الصغير وإما “هامشيًا”، من هنا يأتي التناقض الداخلي لكثير من فناني ذلك العصر الذين يشنون حربًا مزدوجة ضد البرجوازية وضد التقدم بمعناه الشامل، لأنه يسير في منهج واحد مع تقدمها، وكذلك ضد كل المجتمع الذي يبدو “غير فاهم” و “غير مدرك”. إن جوستاف فلوبير هو التشخيص الكلي لهذا الوجه المزدوج، والذي هو في الوقت نفسه “ملتزم” بفنه كله في المعركة الاجتماعية. سيصبح هذا التناقض من الآن فصاعدًا سمة الفنان البرجوازي: إنه ينقد طبقته، لكنه لا يرى مخرجًا، لأنه يرتكب خطأ مطابقة طبقته على كل المجتمع. والنتيجة على مستوى الفن أنانية مدفوعة إلى أقصى حد، تبدأ بإنكار الجميع عندما تعكف على تكوين نظرية ما. هذه حال بودلير كأرفع مثال، فهو يهاجم بشراسة كل تقدم، ويدعو إلى فردانية يسميها فردانية ذات كفاية-ذاتية:
“تقف فكرة التقدم المدرجة في نسق الخيال بلا معقولية ضخمة، وبسخرية ترقى إلى حد الفظاعة. إن القضية لا يمكن احتمالها، ونادرًا ما تكون لكل موحٍ في النسق الشعري والنسق الفني بادرة تدل عليه. كل ازدهار هو عفوي وفردي، فهل كان سنيوريللي حقًا خالق مايكل إينجل؟ وهل كان بيروجين يحتوي على رافائيل؟ إن الفنان لا يعلي إلا ذاته، ولا يرصد للعصور القادمة إلا أعماله الخاصة، ولا يضمن إلا ذاته. يموت بلا أطفال. إنه مَلِكُ ذاته، كاهن ذاته، وإله ذاته.” (78)
إذا ما تفهمنا موقف بودلير فيما يخص إعلاء الفنان لنفسه في سياق ثقافي وسياق تاريخي مدمرين، وإذا ما شعرنا بصدمته من طبقته وباقي الطبقات، كل الناس بشكل أعم، فلأنهم لا يقرأونه ولا يحاولون فهم كتاباته وتقييمها التقييم الذي تستحقه، من هنا تجيء الفردية المتفاقمة لديه، الحافظة لإنتاجه من كل هؤلاء المتمدنين من البرابرة. أضف إلى ذلك، أن هذا التيار قد ساعد على ظهور التيار الثاني بوضوح أكثر بعد أن اكتشف في سنوات الخمسين على التحديد، لأول مرة في تاريخ الإنسانية، مجموع النظرية المادية للتاريخ. (79)
إنه تصور جديد للتاريخ يحتوي على كل النشاطات الإنسانية في وَحدتها وفي نوعيتها، لكن في اللحظة التي يطرح فيها النقد سؤال “ما الأدب؟” توضع كل وجوهه في “وَحدة المتناقضات”، وتَعمل الرؤية الشاملة للإنتاج والتنظيم الاجتماعي التي تحتوي عليها المادية على إقامة رؤية شاملة (بالأحرى شمولية) للناحية الجمالية والناحية الأخلاقية للعمل الأدبي، لشكله ومضمونه، لناحيته الاجتماعية وناحيته الفردية، للأدب والمجتمع، ولا تجيب الماركسية أبدًا على السؤال الخاص بتبعية الأدب للمجتمع، وكما يقول رينيه ويليك وأوستن وارين: “هناك أدب عظيم له أو ليس له علاقة اجتماعية صغيرة، فالأدب الاجتماعي هو نوع واحد فقط من أنواع الأدب، وهو ليس أساسيًا في نظرية الأدب، إلا إذا اعتبرنا أن الأدب أولاً “تقليد” للحياة كما هي عليه، وللناحية الاجتماعية على الخصوص. لكن الأدب ليس بديلاً للعلوم الاجتماعية أو السياسية، له تبريره الخاص، وهدفه الخاص.” (80)
إنه لمن السهل إثبات عمه الماركسية من أعين أبنائها: لوسيان جولدمان وجورج لوكاتش وأرنست فيشر كذروة للنظرية العلمية في الأدب، فأولئك المفسرون الميكانيكيون لنظرية الانعكاس لم يكونوا ماركسيين بدون صفتهم التمثيلية والشاملة (بالأحرى الشمولية). علمًا بأننا لا نتجاهل تجاهل النقد السلطوي للجمال غير السلطوي الذي يشكل الجمال الماركسي جزءًا منه، فالأفق الذي يطرحه الجمال الماركسي يختلف جذريًا عن أفق النقاد السلطويين السائدين، لأنه يثير مسائل الفن ضمن إطار تغيير بِنى المجتمعات العالمية، ويضع الفنان داخل هذا الإطار:
“أكيد أن الأصالة الخلاقة لكاتب هي شيء فريد من نوعه بشرط ألا نعتبر هذه الفرادة كتعبير عن عزلة العمل الأدبي لكل كاتب إزاء الكتاب الآخرين. إن أصالة رجال الأدب لا تعني على الإطلاق أنه لا توجد بينهم علاقات داخلية، أنه لا تظهر في أعمالهم اتجاهات ومبادئ مشتركة، وهذه الاتجاهات والمبادئ المشتركة لا توجد فقط بل تلعب دورًا هامًا في التطور التدريجي الأدبي تحت أشكال مختلفة. وإذا تكلمنا مثلاً عن أدب وطني، عن تطوره، فكرنا في الوقت نفسه في أعمال الكُتاب الهامة نسبيًا، وفي كل ما هو مشترك في الظواهر الأدبية المختلفة.” (81)
هذه “الدولانية” في الأدب، والتي تسمو إلى تجاوز حدود الدول، هي مستقبل جدلية الأدب الوطني والأدب العالمي، فكل قصيدة، كل قصة، كل رواية، كل مسرحية، الكونية خصوصيتها، لكن في الخصوصية أنواع منها خاصة. ويتطور الأدب الذي يطرح المشاكل الجوهرية لحياة الشعوب حقًا في كل القارات وتحت كل الأشكال مولدًا مزيجًا معقدًا وتركيبًا ليس متوقعًا لعناصر قومية عميقة وعناصر مستعارة، عناصر بدائية وعناصر عصرية جدًا.” (82)
في هذا السياق يجب تحديد موقع الأدب الفلسطيني، فلسطين في خصوصية كفاحها، أي كفاح شعب عربي مطرود من أرضه، محروم من حقوقه، وفي عمومية كفاحها، أي الكفاح من أجل العدالة والكرامة والتقدم الاجتماعي. هذا هو الأفق المستقبلي الذي يحدد القيمة التاريخية للأدب الفلسطيني، وكان على غسان كنفاني نفسه أن يتجه ببطء نحو هذا الأفق المستقبلي التاريخي العميق الذي تركه من ورائه. وكما على أدوات النقد أن تكون موافقة لهذا الأدب الجديد، كذلك على الفنان نفسه أن يتبنى موقفًا واعيًا أكثر فأكثر من قضيته، وهذا ما أسماه الكلاسيكيون ب “التاريخية”، يعني فهم القيمة التاريخية للقضية، عليه أن يجعل من منطق “المشايعة” منطقه، أي أن يقف موقفًا واعيًا من أجل الدفاع عن كل القضايا العادلة بما فيها قضية الورود، وعليه أن يتخذ من كوكب “الأدبية” كوكبه.
إنه فن المستقبل الذي إحدى خصائصه الجوهرية: التاريخية الواعية. بتطوير هذه الفكرة، نقدم مبدأ الدفاع الواعي والفعال للكاتب عن المثل الأعلى الجمالي، الحقيقي لا الزائف ولا الكاذب. بكلام آخر، بتطوير هذه الفكرة، نقدم مبدأ القتال المستميت والمتفاني للكاتب ضد المثل الأعلى الجمالي السائد في مجتمعاتنا وفي مجتمعات العالم الثاني. في هذا يكمن، دون نزاع، الحل الأكثر منطقية للمسألة التي تطرحها المهمة الإنسانية العظمى للفن: كلما فقد الفن السلطوي إنسِيَّتَهُ (بداية انحطاط مرحلته البرجوازية الثورية بعد جوته) كلما نهض الفن الإنساني بما فيه الفن الواقعي العميق السحر للشعوب المسحوقة بهذا الميراث، أي بالإنْسِيَّة، في سبيل الإنسانية جمعاء، ليصبح الضامن الوحيد القادر على ذلك.
خاتمة
تمثل أعمال غسان كنفاني المختلفة، القصصية منها والروائية والمسرحية، كلاً واحدًا مترابطًا بعَلاقات داخلية تعطيها منطقًا خاصًا. هذا المنطق الداخلي هو طريق متعاقب، ينبسط بالتدريج، مرحلة بعد مرحلة، طريق صعب يمتد من البطل المستسلم إلى البطل الثوري، ويمضي بمرحلة وسيطة تميزت بالبطل المتمرد. تغطي هذه الموديلات الثلاثة الأدب السردي لدى كنفاني، ويقترح كل موديل من خلال البِنية التعاقبية لهذا الأدب نقيضه، وكأنه مزدوج الشكل.
في “أرض البرتقال الحزين”، استطعنا إبراز التعبير الفردي لموديلين، البطل المستسلم والبطل المتمرد، اللذين حددا فنيًا نقطة انطلاق الشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948.
البطل المستسلم مَنْ قَبِلَ ذُلَّ المنفى، وفيه نلتقي بالشكل الخاص لهذا الفلسطيني المنفي الذي يرحل إلى طرف العالم، إلى كاليفورنيا، كي يهرب من البؤس الحقيقي لوسطه.
يعطي كنفاني في المجموعة نفسها الصورة المضادة، ألا وهي صورة البطل المتمرد، الذي يرفض هذا الذل، والذي يفضل الموت، وذلك بتمزيق نفسه والضابط الإسرائيلي بقنبلة دون أن يقبل الاستسلام.
لمثل هذه الموديلات العامة للبطل اختلافات دلالية وحياتية خاصة تُظهر كل المراحل الوسيطة التي تمثلها.
هذا وقد سجلنا مرحلة ثانية كبرى للتعاقب الخاص باستسلام المنفي، الذاهب إلى التمرد من أجل التحرر، في “رجال في الشمس”، فالطريق الخاطئ للخلاص من المنفى، الطريق الواهم للثروة السهلة التي توجد في مكان آخر، قد تم إيضاحه في الرواية.
أما المرحلة الثالثة، فقد وقفنا عليها في “ما تبقى لكم”، هنا يبدو، للمرة الأولى، الطريق الصحيح للخلاص من المنفى، طريق الكفاح، فالشعور بالوعي يدفع البطل المتمرد إلى مواجهة البؤس لأول مرة، والهدف قهره، دون أن يوفق إلى ذلك، فيقهره البؤس في مسرحية “الباب” عندما يهدم الإله الجنة التي يريد أن يبنيها. ولضرورة إيجاد وسيلة حاسمة لمصارعة البؤس، أُدخل في هذه المرحلة الثالثة السلاح (الذي يسحق الإنسان ويمكنه في الوقت نفسه تحريره) والإيديولوجيا كأداة ضرورية للتغلب على هذا البؤس، لأن الإيديولوجيا أيضًا سلاح ذو حدين، وقد فسرت مسرحية “القبعة والنبي” ذلك بالتفصيل.
أخيرًا مرحلة أخيرة لهذا المسار التعاقبي مثَّلَها البطل الثوري كما جرى وصفه في “أم سعد” وصفًا “ثورجيًا”، لكن الكاتب بدافع التزامه السياسي أراد أن يقول إن الطريق الصحيح يقوم في صميم بِنية طريق الكفاح ضد الاضطهاد كما يفهمه القائد كنفاني في الجبهة الشعبية المعروفة في تطرفها، فتم تنميط البطل الثوري، دون أن يعي كنفاني المأزق التاريخي الذي وضعت الثورة نفسها فيه.
لقد كان موت غسان كنفاني العاجل، في هذا السياق، مثل محاولة سَلبية وغير مجدية لإيقاف كفاح الشعب الفلسطيني بالقتل، هذا الكفاح الذي هو حقيقة تاريخية، وليس اختراع بعض القياديين الذين ربما كانوا –كما يقال اليوم- هم من وراء قتله، وعلى عكس ما كان يرمي إليه قتلة غسان، يستمد هذا الكفاح الطويل النَّفَس قوى جديدة من شهدائه ومريديه.
لقد أبرز كل سطر من تحليلنا الميزة الواقعية لأسلوب غسان، وتميزت هذه الواقعية باقتصاد فني كبير يتحاشى الملحمة التاريخوجغرافية من نوع “الحرب والسلم” لتولستوي، والملحمة الاجتماعية الشاملة الرامية إلى وصف كلية المجتمع على طريقة بلزاك. لا يتحاشى غسان هذه الأشكال لِهَمِّ “الابتكار”، ولكن لأجل البحث عن تعبير ملائم لواقع شعبه المشخص “هنا والآن”، ويوجد التعبير الملائم لهذا الواقع في “الشكل المختصر” المستعمل في تقنية المقطع الواقعي الذي لا بداية ولا نهاية حقيقيتان له، فاستنبطنا من ذلك تقنية “الشكل المفتوح” الذي يجعل من كل عمل أدبي حلقة من الأعمال الكاملة بحيث يشكل كل واحد “بقية” للآخر، كصورة عن التطور المتواصل لقصة الشعب الفلسطيني الحقيقية التي ليس لها، هي نفسها، “بداية” أو “نهاية”.
ختامًا لعملنا نحرص على لفت نظر القارئ إلى أي مدى يستحق غسان كنفاني سمعة أحسن كاتب استطاع أن يعيش زمنه، وأن يصف كفاح شعبه من أجل انعتاقه الوطني وانعتاقه الاجتماعي. لذا، لن تشيخ أعماله، ستبقى الحافز والأمل، وسيحفظ الشعب تعليماته: ستقودنا هذه التعليمات في كفاحنا ضد كل أشكال الاستغلال وكل أنواع البشاعة، بشاعة واستغلال كل الذين يبيعون ويخلعون ويتسلقون على حساب كرامة شعبنا وتاريخه وثقافته وباعه الواسع في التضحية والفداء والإقدام، لنفتح باب مدخل تاريخ الإنسانية كي يبدأ تاريخها الحقيقي الإنساني.
مراجع
(78) شارل بودلير: فضولية جمالية، الفن الرومانسي، منشورات جارنيه، باريس 1962، ص 216.
(79) وفي الحقل الأدبي كذلك كان بزوغ أول أدب بروليتاري كتيار “الشبان الألمان”، خصوصًا الشاعر جورج ويرث، وإلى حد ما هنريش هين وقصيدته “النساجون”.
(80) رينيه ويليك وأوستن وارين: نظرية الأدب، منشورات بنجوين، لندن 1970، ص 109.
(81) ميكائيل خرابتشينكو: دراسة تصنيفية للأدب، سيانس سوسيال عدد 4، موسكو 1972، ص 127.
(82) تامارا موتيلوفا: تراث الواقعية الحديثة، سيانس سوسيال عدد 3، موسكو 1971، ص 117.
مراجع عربية وأجنبية
أعمال غسان كنفاني:
الروايات:
المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972.
1 – رجال في الشمس
2 – ما تبقى لكم
3 – أم سعد
4 – عائد إلى حيفا
5 – العاشق
6 – الأعمى والأطرش
7 – برقوق نيسان
المجموعات القصصية:
المجلد الثاني، دار الطليعة، بيروت 1973
8 – موت سرير رقم 12
9 – أرض البرتقال الحزين
10 – عالم ليس لنا
11 – عن الرجال والبنادق
المسرحيات:
12 – الباب، دار الطليعة، بيروت 1964
13 – القبعة والنبي، مجلة شئون فلسطينية، بيروت أبريل 1973.
الأبحاث:
14 – ثورة 36-39 في فلسطين خلفيات وتفاصيل وتحليل، الجبهة الشعبية، بيروت 1974.
15 – الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 48-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1968.
16 – قضية أبو حميدو، مجلة شئون فلسطينية عدد 12، بيروت 1972.
17 – غسان كنفاني إنسانًا وكاتبًا ومناضلاً، الاتحاد، بيروت 1974.
* * *
18 – باتع ف. م. (ال): وداع مع الأصيل، منشورات سناد، الجزائر 1970.
19 – توما أ.: جذور القضية الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت 1973.
20 – جندي س. (ال): عرب ويهود، دار النهار، بيروت 1968.
21 – خليل ه. وآخرون: المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، مركز الأبحاث، بيروت 1971.
22 – خوري إ.: مقدمة في دراسة الرواية العربية بعد نكسة 1967، مركز الأبحاث، بيروت 1974.
23 – سراج ن. ج. (ال): سميرة عزام في ذكراها الخامسة، مجلة شئون فلسطينية عدد أكتوبر، بيروت 1972.
24 – شرابي ه.: المقاومة الفلسطينية في وجه إسرائيل وأمريكا، دار النهار، بيروت 1970.
25 – شريف ج. ف. (ال): الشعر العربي المعاصر والتحديات الجديدة، مجلة الموقف الأدبي عدد 6، دمشق 1974.
26 – عالم م. أ. (ال): تأملات في عالم نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1970.
27 – عالم م. أ. (ال): الوجه والقناع في مسرحنا العربي المعاصر، دار الآداب، بيروت 1973.
28 – عامل م.: حول المسرح السياسي، مجلة الطريق عدد 4، بيروت 1973.
29 – عبد الناصر ج.: خطب 9 مارس في دمشق، الجزء الثاني، دمشق بلا تاريخ.
30 – عبد الصبور ص.: حتى نقهر الموت، دار ال-طليعة، بيروت 1966.
31 – عرفات ي.: خطاب 13 نوفمبر، جريدة النهار، بيروت 14 نوفمبر 1974.
32 – عقاد ع. م. (ال): عبقرية عمر، المكتب التجاري، القاهرة 1948.
33 – علوش ن.: الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية (1882-1946)، مركز الأبحاث (بيروت) ورابطة الأدباء (الكويت) 1974.
34 – فقيه أ. أ. (ال): الجراد، مجلة المعرفة عدد 64، دمشق 1967.
35 – محاسني ز. (ال): طوقان شاعر فلسطيني، دار الفكر العربي، القاهرة بلا تاريخ.
36 – محمود م. أ.: الفلسطينيون في لبنان، دار ابن خلدون، بيروت 1973.
37 – مندس ه.: العمل والعمال في المخيم الفلسطيني، مركز الأبحاث، بيروت 1974.
38 – منصور ف. (ال): غسان كنفاني في كتبه الأحد عشر، مجلة شئون فلسطينية عدد 13، بيروت 1973.
39 – نقيب ف. (ال): في: غسان كنفاني إنسانًا وكاتبًا ومناضلاً، الاتحاد، بيروت 1974.
40 – وزارة الإرشاد القومي: قضية فلسطين، مصلحة الاستعلامات، دمشق 1968.
41 – ياغي ع. ر.: حياة الأدب الفلسطيني، المكتب التجاري، بيروت 1969.
42 – Baudelaire C. : Curiosité esthétique, l’art romantique, Ed. Garnier, Paris 1962.
43 – Benjamin W. : Poésie et Révolution : Ed. l’Arche, Paris 1971.
44 – Brecht B. : Sur le réalisme, Ed. l’Arche, Paris 1970.
45 – Brecht B. : L’achat du cuivre, Ed. l’Arche, Paris 1970.
46 – Brecht B. : Petit organon pour le théâtre, Ed. l’Arche, Paris 1970.
47 – Brecht B. : Ecrits sur la politique et la société, Ed. l’Arche, Paris 1970.
48 – Corno A. : Les racines de la pensée marxiste, Ed. Dar Al-Adab, Beyrouth 1968.
49 – Desne R. : Adamov et la politique, supplément de la Nouvelle Critique n° 66, Paris 1973.
50 – Engels F. : Ludwig Feuerbach, Etudes philosophiques, Ed. Sociales, Paris 1968.
51 – Fischer E. : Le problème du réalisme dans l’art moderne, Revue Al-Adab n° 8, Beyrouth 1971.
52 – Girnus W. : Lignes du futur, Ed. Akademie Verlag, Berlin 1974.
53 – Gorki M. : In : Socialisme et culture, Ed. du Progrès, Moscou 1972.
54 – Gramsci A. : Ecrits politiques, Ed. Gallimard, Paris 1974.
55 – Gramsci A. : Questions du matérialisme historique, Ed. Dar Al-Tali’a, Beyrouth 1974.
56 – Hadjinicolaou N. : Histoire de l’art et lutte de classes, Ed. Maspero, Paris 1974.
57 – Julia D. : Dictionnaire de la philosophie, Ed. Larousse, Parsi 1964.
58 – Khtaptchenko M. : Etude typologique de la littérature, in : Sciences Sociales n° 4, Moscou 1972.
59 – Kouzmenko Y. : In : Socialisme et Culture, Ed. du Progrès, Moscou 1972.
60 – Lefevre H. : Au-delà du structuralisme, Ed. Anthroposs, Paris 1971.
61 – Lénine V. : La question de la terre et la lutte pour la liberté, Ed. du Progrès, Moscou 1969.
62 – Lukacs G. : Ecrits de Moscou, Ed. Sociales, Paris 1974.
63 – Lukacs G. : La signification présente du réalisme critique, Ed. Gallimard, Paris 1960.
64 – Markov D. : La richesse esthétique du réalisme socialiste, in : Sciences Sociales n° 1, Moscou 1974.
65 – Marx K. : Le Capital, livre premier, tome I, Ed. Sociales, Paris 1972.
66 – Marx K. : Le Capital, livre premier, tome II, Ed. Sociales, Paris 1967.
67 – Marx K. : Le Capital, livre premier, tome III, Ed. Sociales ? Paris 1969.
68 – Marx K. : Misère de la philosophie, Ed. Sociales, Paris 1972.
69 – Marx K. : Manuscrit de 1844, Ed. Sociales, Paris 1972.
70 – Marx K. : La guerre civile en France 1871, Ed. Sociales, Paris 1968.
71 – Marx K. et Engels F. : Sur la religion, Ed. sociales, Paris 1972.
72 – Engels F. : Sur l’art et la littérature, volume 1, Ed. Dietz, Berlin 1967.
73 – Engels F. : L’Idéologie allemande, Ed. Sociales, Paris 1972.
74 – Engels F. : La sainte famille, Ed. sociales, Paris 1972.
75 – Miquel A. : La littérature arabe, Ed. PUF, Paris 1967.
76 – Mittenzwei W. : In : Révolution et Littérature, Ed. Reclam, Leipzig 1971.
77 – Morawski S. : L’absolu et la forme, Ed. Klincksieck, Paris 1072.
78 – Metylova I. : Le patrimoine du réalisme, in : Sciences sociales n° 3, Moscou 1972.
79 – Sanchez Vasquez A. : Socialisation de la création ou mort de l’art, revue l’Homme et la Société n° 26, Paris 1972.
80 – Soutchkove B. : Le processus littéraire mondial et l’actualité, in : Sciences sociales n° 4, Moscou 1971.
81 – Trager G. : Etude pour la théorie du réalisme et la méthodologie des sciences littéraires, Ed. Reclam, Leipzig 1972.
82 – Trager G. : In : Pour une théorie du réalisme socialiste, Ed. Dietz, Berlin 1974.
83 – Wellek R. and Warren A. : Theory of literature, Ed. Penguin Books, London 1970.
84 – Yisovtoy A. N. : In : l’Esthétique d’un point de vue marxiste, Ed. Ministère de la culture nationale, Damas 1968.
85 – Zelinski K. : La littérature soviétique, les problèmes et les hommes, Ed. du Progrès, Moscou 1973.
وهذه المراجع البِنيوية التي ذكرناها بكل اهتمام:
86 – Bachelard G. : La poétique de la rêverie, Ed. PUF, Paris 1974.
87 – Barthes R. : Introduction à l’analyse structurale des récits, in : Communications 8, Paris 1966.
88 – Goldmann L. : In : Structuralisme et Marxisme, Ed. 10/18, Paris 1970.
89 – Greimas A. J. : Du sens, Ed. du seuil, Paris 1970.
90 – Greimas A. J. : Sémantique structurale, Ed. Larousse, Paris 1966.
91 – Guiraud B. : La Stylistique, Ed. Que sais-je ? PUF, Paris 1974.
92 – Hjelmslev L. : Le Langage, Ed. de Minuit, Paris 1966.
93 – Le Guern M. : Sémantique de la métaphore et de la métonymie, Ed. Larousse, Paris 1973.
94 – Richard J.-P. : Poésie et Profondeur, Ed. du Seuil, Paris 1955.
95 – Sperper D. : Le symbolisme en général, Ed. Hermann, Paris 1974.
96 – Todorov T. : Qu’est-ce que le structuralisme ? Ed. du Seuil, Paris 1968.
97 – Todorov T. : Poétique de la prose, Ed. du Seuil, Paris 1971.
98 – Todorov, Bremond, Genette, Eco… etc : In: Communications n° 8, Paris 1966.
إضافة إلى هذين المرجعين المترجمين:
99 – ماركيز جابرييل جارسيا: إيرينديرا البريئة، ترجمة سمير نصار، دار النسر، عمان 1990.
100 – شوبان وليامز: في: مقالات ضد البِنيوية، ترجمة إبراهيم خليل، دار الكرمل، عمان 1986.
أعمال أفنان القاسم
المجموعات القصصية
1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995
7) كوابيس 2013
الأعمال الروائية
8) الكناري 1967
9) القمر الهاتك 1969
10) اسكندر الجفناوي 1970
11) العجوز 1971
12) النقيض 1972
13) الباشا 1973
14) الشوارع 1974
15) المسار 1975
16) العصافير لا تموت من الجليد 1978
17) مدام حرب 1979
18) تراجيديات 1987
19) موسى وجولييت 1990
20) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
21) لؤلؤة الاسكندرية 1993
22) شارع الغاردنز 1994
23) باريس 1994
24) مدام ميرابيل 1995
25) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
26) أبو بكر الآشي 1996
27) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
28) بيروت تل أبيب 2000
29) بستان الشلالات 2001
30) فندق شارون 2003
31) عساكر 2003
32) وصول غودو 2010
33) الشيخ والحاسوب 2011
34) ماكبث 2011
35) ساد ستوكهولم 2012
36) شيطان طرابلس 2012
37) زرافة دمشق 2012
38) البحث عن أبولين دوفيل 2012
39) قصر رغدان 2012
40) الصلاة السادسة 2012
41) مدينة الشيطان 2012
42) هنا العالم 2012
43) هاملت 2014
الأعمال السينمائية
44) إرهابيون 2015
45) رعب 2016
الأعمال المسرحية النثرية
46) مأساة الثريا 1976
47) سقوط جوبتر 1977
48) ابنة روما 1978
الأعمال الشعرية
49) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
50) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
51) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
52) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
53) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
54) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
55) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
56) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010
الدراسات
57) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
58) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
59) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
60) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
61) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
62) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
63) خطتي للسلام 2004
64) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
65) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
66) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
67) الله وليس القرآن 2008 – 2012
68) نافذة على الحدث 2008 – 2012
69) المشروعان مشروع التنوير ومشروع الدولة 2015
كلمة الناشر عام 1993
هذه الدراسة
أولى الدراسات عن غسان كنفاني، وأولى المقاربات النقدية حسب المنهج البِنيوي، لم تزل تحتفظ بأسلوبها المجدد ونظرتها المستقبلية إلى “سحر” غسان كنفاني بعمق وعلمية…
ولم تزل ترى في أعمال غسان كنفاني حضورًا مذهلاً اليوم أكثر من أي وقت آخر لنحفظ لنا هذه الأعمال –وكل الثروة الأدبية الفلسطينية- من احتمال الإلغاء في حرب “التطبيع” الفكرية القادمة، حرب إعادة النظر في كل شيء، ابتداء من المصطلح، مرورًا بالمفهوم، وانتهاء بالدلالة: عالم غسان كنفاني الروائي، وحقل أفنان القاسم النقدي.
* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدَرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا…