الحالة الدرزية في المشرق: الاختبارات، المغامرات، الدروس المستفادة

بقلم حسن منيمنة/
ثمة خصوصية فريدة للطائفة الدرزية في جميع بلدان المشرق ـ لبنان، سورية، إسرائيل، فلسطين، الأردن. هي عدديا ضئيلة الحجم، في كل من هذه البلدان. فأعلى نسبة تبلغها، في لبنان، قد لا تزيد إلا قليلا عن خمسة بالمئة من مجموع السكان. ولكنها في أكثر من موقع تحظى بنفوذ أو حضور يتجاوز وزنها العددي بأشواط، وصولا إلى أن يكون لزعامتها السياسية أو الروحية دور حاسم في ملفات عدة.
فرادة الطائفة الدرزية تبتدئ بهويتها الدينية. موضوعيا وعمليا، الدين الدرزي قائم بذاته. عقائده الإيمانية، نصوصه، شخصياته التأسيسية، سوابقه المرجعية، جميعها تختص به دون غيره وتتباعد في تفاصيلها كما في ماهياتها عن سائر الأديان الحاضرة في جواره.
الكتمان ليس مسألة عرضية في الدين الدرزي، وهنا وجه آخر من أوجه الفرادة فيه
وإذا كان ثمة مسعى إلى إدراجه في سياق إسلامي، انطلاقا من الخلفية الشيعية الإسماعيلية التي أطرت نشأته، فإن في ذلك الكثير من التكلف، بل التدليس. فالدين الدرزي منقطع بالكامل عن الإسماعيلية، فيما الإسماعيلية بدورها تقع على مسافة كبيرة في قراءاتها العقدية وممارساتها الشعائرية من التوجهات الشيعية الرئيسية، الإمامية والزيدية. وإذا كانت المراحل الماضية قد تطلبت بعض التماهي الشكلي مع المحيط الإسلامي، فإن الدافع هنا بحاجة إلى قدر من المراجعة.


غالبا ما يجري إدراج الإبهام في الهوية الدرزية في سياق روايات المظالم على أنه حاجة دفاعية للطائفة درءا للاضطهاد. غير أنه ثمة جانبا آخر مهملا في هذا التصوير، وهو أن الدروز، أصحاب الدين المتشكل بعد قرون من الدعوة الإسلامية، بفعل وجودهم وعزتهم وسطوتهم، مع استعدادهم للتعامل البناء مع الدول السلطانية الإسلامية، قد نقضوا فعليا الحكم الفقهي الذي اشترط أنه لا يقبل دين بعد الإسلام. فالإبهام في هويتهم كان حاجة فقهية، بغض النظر عن أي شأن دفاعي للدروز أنفسهم، لتجنب الإقرار بهذا النقض. أي أن التماهي مع الظاهر الإسلامي جاء لالتماس الأعذار للدول السلطانية الإسلامية في تعاملها الندي مع الدروز.
ولم يكن في هذا المنحى الشكلي أي زعم على مستوى الهوية الذاتية أو على مستوى الصفة الملقاة من الخارج. أي أن الغالبية العظمى من الدروز بالأمس لم يقدموا واليوم لا يقدمون أنفسهم على أنهم مسلمون، ولا يعتبرهم الآخرون، من مسلمين وغيرهم، أنهم على الإسلام.
ثم أن الكتمان ليس مسألة عرضية في الدين الدرزي، وهنا وجه آخر من أوجه الفرادة فيه. فخلافا لسائر الأديان في محيطه، والتي لا تتضمن أصنافا أو درجات من المؤمنين، باطنية الدين الدرزي تفرز الدروز إلى عامة وخاصة. وحصة العامة من الدين قليلة، تقتصر لدى العديدين على تلاوة القَسَم الديني (ميثاق ولي الزمان) عند بلوغ الأهلية، فيما الخاصة أو “العقّال” تنطبق عليهم جملة واسعة من القيود والشروط والمراحل في ترقيهم في دينهم.
على أن الثقافة الدرزية قد استعاضت عن الفروض والشعائر بالحمية والعزة الجماعية، فغياب الأشكال الظاهرة من الممارسة الدينية لا يفيد تمكسا أقل لدى الدروز بهويتهم الدينية ولا يعترض استتباب قناعتهم، كما قناعات غيرهم، بأنهم الصفوة. بل يشهد لهم، على مدى تاريخهم الطويل، وعلى الرغم من تكرر الانقسام في صفهم بين القيسية واليمنية، ثم بين اليزبكية والجنبلاطية، أنهم قد ألزموا محاوريهم الإقرار بأولوية التعاضد الطائفي في أوساطهم.
تصلح الإشارة الى حادثة تبين كيفية تمكن هذه الطائفة الصغيرة من المحافظة على تفردها واستقلاليتها، وتعود إلى مطلع القرن السادس عشر وقدوم العثمانيين إلى بلاد الشام، والتي كان يحكمها حينئذ المماليك. انقسم الدروز فريقين، أحدهما حارب إلى جانب المماليك، والآخر انضم إلى العثمانيين. وإذ أبلى كل فريق البلاء الحسن، فإن شرطه كان ألا يحارب أبناء ملته. وبعد انتصار العثمانيين، تمكن فريق الدروز المناصر لهم من الشفاعة للفريق الموالي للمماليك. ثلاث خصال لدى هذه الطائفة تتجلى هنا: قدرة على التعبئة والأداء، تضامن داخلي صارم، ولاء وثبات إزاء المعاهدين.
هي الصفات التي حافظت على الدروز كجماعة ذات عزة على مدى القرون، إذ هي الصفات التي تستنفر الجماعة لصالح الفرد، وإن إلى حد الغلو، ولكنها كذلك الصفات التي تغلب الجماعة على حساب الفرد. وهي عينها الصفات، بجدواها وإشكاليتها، التي طبعت الدروز خلال القرن الفائت.
انتقل المشرق في المئة عام الماضية من منطق الفرقة المنفردة إلى خطاب الجماعة المتحدة، وإن لم يتضح له الإجماع على ماهية الجمع وطبيعة الاتحاد. الطروحات الوطنية ثم القومية ثم الأممية سعت إلى الإحاطة بالهوية السياسية، وكان على الزعامات الدرزية الاعتبار والتصرف على أساس الواقع المستجد.
ثلاثة زعماء دروز، في دول ثلاث، تقدم كل منهم بمشروع مختلف في موازنته لاعتبارات التمايز والتعايش.
كمال جنبلاط، الزعيم الإقطاعي لطائفة قد تكون الأكثر تمسكا بأعرافها وتقاليدها، أراد لها أن تتحول إلى “الحزب التقدمي الاشتراكي”
في سورية، وضع سلطان باشا الأطرش، الناشط في عشرينيات القرن الماضي، نفسه وطائفته، في صلب الحركة المعادية للانتداب الفرنسي، رافضا الخطة التي لحظت فصل جبل الدروز إداريا عن سائر سورية، مفضلا الالتزام بالهوية السياسية العليا الجامعة، بما يصون الخصوصية الدينية والثقافية والاجتماعية للدروز في سورية. شكل سلطان باشا الأطرش استمرارا لصيغة زعامة متكررة خلال ألفية الدروز لا ترى التعارض بين المصلحة الذاتية للطائفة وبين الواقع التعددي (قبل الاصطلاح). مشروع سلطان باشا الأطرش كان المشروع الوسطي الذي يعتبر ضمنا أن الصيغة التاريخية للتمايز والتعايش لا تزال صالحة وإن احتاجت إلى تموضعات جديدة.
في إسرائيل، والتي أشهرت استقلالها في سياق من الاستقطاب الحاد بينها وبين جوارها، بل داخلها أيضا في الالتباس في هويتها السياسية بين الرؤية الدينية القومية التي ترى البلاد موطنا لليهود أولا حيثما كانوا في العالم، وبين التصور الحداثي والذي يعتبر أن إسرائيل هي الوطن لمواطنيها وإن غلب الطابع اليهودي عليها، كان للشيخ أمين طريف، الوجه الدرزي الأبرز من خمسينيات القرن الماضي وصولا إلى تسعينياته، نهجا مختلفا عن الصيغة التاريخية التي أبقى عليها سلطان باشا الأطرش.
مع هذا النهج، جرى اعتبار الدروز قومية قائمة بذاتها، فلا تصنفهم الدولة الإسرائيلية عربا ولا فلسطينيين، بل لهم مناهجهم الدراسية المستقلة، وخدمتهم العسكرية واجب فردي عليهم، بل جرى الدفع ثقافيا باتجاه قدر من التماهي بين الدرزية واليهودية، من إيجاد الروايات (الضعيفة) والتي تتيح الاشتراك بالمزارات، إلى إطلاق حركات درزية صهيونية، وإن كان طرحها على قدر واضح من التصنع والتزلف.
مال مشروع الشيخ أمين طريف إلى تحبيذ التمايز على حساب التعايش كوسيلة لصون الطائفة، فالدروز ليسوا جزءا من كل، بل هم شريك منفصل للفئة الغالبة. رغم استتباب الغلبة لهذا المشروع وترسخها على مدى العقود الماضية، فإنه قد شهد معارضات متواصلة داخل الصف الدرزي في إسرائيل. وقد تعرض هذا المشروع لاهتزاز خطير مع إقرار قانون يهودية الدولة أخيرا، إلا أن الأصوات الدرزية المعترضة على هذا القانون تبدو معنية أولا بالإساءة التي تطال الطائفة الدرزية منه، لا بتعارضه مع منطق المواطنية.
في لبنان، ومن قلب الأسرة الجنبلاطية المتربعة على كرسي الزعامة الدرزية من أكثر من قرنين، جاء المشروع الأكثر جرأة وخطورة بحق الواقع الدرزي. كمال جنبلاط، على الخلاف من سلطان الأطرش وأمين طريف، لم يعمد إلى الخطوات التي تحتاج إلى الاستقراء لتبين وجهتها. بل، من الخمسينيات إلى السبعينيات التي نشط فيها، كان لجنبلاط رؤية صريحة، بل رؤيا متسعة، للانتقال بالطائفة الدرزية من صيغتها التاريخية المغلقة على أكثر من صعيد، إلى حالة جديدة من الانفتاح والريادة والقيادة، للشرق أولا وربما للعالم بأسره لاحقا.
سياسيا، أراد كمال جنبلاط لطائفته أن تجعل من القيم العالمية، بصيغتها اليسارية، منطلقها الأخلاقي والمبدئي، وأن تعتمد النضال والتقدمية في متابعتها لزخمها التاريخي. كمال جنبلاط، الزعيم الإقطاعي لطائفة قد تكون الأكثر تمسكا بأعرافها وتقاليدها، أراد لها أن تتحول إلى “الحزب التقدمي الاشتراكي”، العضو في الأممية الاشتراكية، والطرف الرائد في الحركة الوطنية اللبنانية، والشريك العلني للثورة الفلسطينية في حربها المرتبكة لتحرير فلسطين كما في قرارها المذهل بأن “طريق القدس تمر من جونية”.
دينيا، بنى كمال جنبلاط على التقارب الجلي بين العرفان الدرزي والطروحات الأفلوطينية (الأفلاطونية الجديدة)، وعلى أوجه التشابه مع النظم الروحية الهندية خاصة والشرقية عامة، كما على التماهي مع بعض المعتقدات الصوفية، ليبدأ بجهد إحياء لعقيدة درزية عالمية سمحة، يصاحبها ربما فتح لباب الدعوة بعد ألف عام على إغلاقه. ما مدى نضوج هذه الأفكار التحديثية وجدية الخطوات المتوافقة معها، ولا سيما أن كمال جنبلاط أشار إليها علنا في أكثر من مقابلة وكتاب؟ سوف يبقى الجواب على هذا السؤال مستعصيا. فقد قتل كمال جنبلاط عام 1976، وانتهى معه مشروعه.
بعد زهاء العقدين من مقتل كمال جنبلاط، احتضن شيخ عقل الطائفة الدرزية بهجت غيث، في أجواء خلافية محتدمة، محاولة أخرى لوضع الدين الدرزي في سياق أوسع. وإذا كان كمال جنبلاط قد سعى إلى ترسيخ الدين الدرزي في صلب التجربة المعرفية التاريخية الإنسانية، فإن المحاولة التالية اعتمدت غيبيات القرن العشرين، من “العصر الجديد” الغربي وروحانياته الاستهلاكية والملتبسة، وصولا إلى لمحات من مقولات الأشقاء الكونيين والمخلوقات الفضائية الوافدة إلى كوكب الأرض. وسرعان ما تلاشت.
من رصانة تجربة سلطان باشا الأطرش، بسعيها إلى إعادة صياغة الموازنة بين التمايز والتعايش، مرورا بالمخاطرة التي لجأ إليها الشيخ أمين طريف في تغليبه لتمايز قد يؤدي إلى العزل والاستفراد، وصولا إلى المغامرات الطموحة، الجريئة والمتهورة، لكمال جنبلاط، ومتابعاتها في اتجاهات مختلفة ومخالفة، سياسيا ودينيا، بعده، ثمة إجماع لدى الشرائح القيادية للطائفة الدرزية أن واقع منظومة الدول القائمة يفرض الحاجة إلى مقاربات جديدة.
التجربة اليزيدية، حيث أقدم “شرعي” من البحرين على قراءة مختزلة للتاريخ ومبتذلة للفقه، ليقرر أن اليزيديين “كفار أصليون ومحاربون”، وليجيز قتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، تكشف بوضوح أن زمن الكتمان قد ولى. وليس المقصود هنا كتمان الدروز لدينهم، بل تدليس الفقهاء حول “أموية” اليزيديين و”تنوخية” الدروز.
مال مشروع الشيخ أمين طريف إلى تحبيذ التمايز على حساب التعايش كوسيلة لصون الطائفة
ففيما الأوساط الدرزية أمام استحقاق مستمر يواجهه الناشطون، ابتدأ قبل شكيب أرسلان في عشريات القرن الماضي وسوف يستمر بعد أمل كلوني في عشريات القرن الحالي، لإيجاد السبل العملية والصيغ المقبولة لاستيعاب حداثة يرفض الواقع الدرزي فجاجتها، فإن هذا الواقع بحد ذاته قادر أن يفرض على التأطير الثقافي الإسلامي الممعن في التشدد، بغض النظر عن أحوال الحركات السياسية الإسلامية أو المؤسسات العلمائية الإسلامية، تحديا يدعوه إلى مواجهة استحقاق آخر له.
آن أوان إزالة الإبهام والتصريح بأن الدين الدرزي دين مستقل، بأبعاد سابقة لقدوم الإسلام، وأخرى متجاوزة له إلى لقاءات مع أرصدة دينية بعيدة عنه، نشأ بعد الإسلام، وفي أرض حكمتها الدول السلطانية الإسلامية. هو دين أصيل في أوطانه ومستمر في مهاجره، وجزء لا ينقطع من النسيج الإنساني والروحي والاجتماعي في المشرق. فالتحدي الذي يواجهه الفكر الإسلامي هو إيجاد الصيغة التي تقر بهذا الواقع، لا من منطلق التسليم المرحلي بالتغلب، بل على أساس الإقرار بالحق الإنساني بالحياة والحرية والكرامة.
والمسألة هنا ليست “طمأنة” الدروز، فلا يبدو من مراجعة السجل التاريخي أن هذه الطائفة بحاجة إلى من يطمئنها، بل هي قادرة على الدفاع عن نفسها وإن إلى حد التعسف والإفراط. بل المسألة هي تحقيق التجانس بين الفكر الزاعم النطق بلسان المسلمين والقناعات السائدة لدى عمومهم وللتخفيف من التجاذب بين قناعاتهم الأخلاقية وبين قراءات لتراثهم الديني تلزمهم بخلافها وبقبول الظلم.
ولا شك بأنه في إنتاج الصيغة التي تحقق شكلا من هذا التجانس فائدة لمن يحتاج إليه، وتجنيبا له من الاستغلال من أطراف متشددة. غير أن المستفيد الأول هو الفكر الإسلامي عامة، والفقه الإسلامي خاصة، إذ استمرار الدور الفاعل لكل منهما رهن بتجاوبه مع الواقع الذي يعيشه جمهوره، لا الدعوة إلى اجتثاث أجزاء لا تتجزأ من النسيج الاجتماعي، ولا الزعم الكاذب بأن هذه الأجزاء تستوفي شرطا قطعيا لم تلتزم به منذ أكثر من ألف عام.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.