كانت وفاة الرَّئيس العراقي جلال طالباني (1933 – 2017) عبأً مضافاً على السَّاحة العراقية، فقد كان مُقرباً بين المختلفين ومقللاً من تباعد المؤتلفين، بحظوته لدى الجميع وخفة دمه، مع أنه لم يكن صاحب قرار ورأي أُحادي كالرؤساء الأقدمين، كي يحس العراقيون بالقرب منه أو البعد عنه، بل أخذ أكثر مِن المنصب لمميزات شخصه. فالدُّستور العراقي (2005) قد سلم السُّلطات التَّنفيذية، الخاصة بالقوة والثَّروة وما يهم مصالح المواطنين كافة بيد رئيس الوزراء، وهذا مبعث ندم مِن قِبل مَن شرعوا هذا التَّشريع.
ونقول حزناً مضافاً أيضاً، بما سببته وفاته، بتزايد الهوة، التي ظهرت بسبب الاستفتاء بين العراق وإقليمه، ولف رئيس العراق بعلم الإقليم لا علم الدَّولة العراقية الاتحادي، مع تقدير الاختلاف على نوع العلم، فالإسلاميون تمسكوا بالعلم السابق، ليس حباً بما يرمز إليه، إنما لإسلاميته، وهذا ما لم يحبذه الكردستانيون، حتى إن في وقتها دعا رئيس الإقليم مسعود بارزاني إلى رفع علم ثورة 14 تموز 1958 كونه يمثل فيه العراق أكثر، ويُشير إلى قومياته.
بعد هذا المستهل، نتناول هنا ظاهرة الصَّداقة الحميمة بين محمد مهدي الجواهري (ت1997) وجلال طالباني، الذي عاش بعده عقدين مِن الزَّمن، تحول خلالها إلى راوية لشعر الجواهري، فما حضر مناسبة تأبين أو مناسبة وطنية ونضالية إلا واستشهد بشعره، يقرأه بعربية سليمة، وبحماسة كأنه شاعر القصائد، ومَن يفتقد صوت الجواهري عليه سماعها بصوت طالباني.
وقع جلال في حبِّ الشَّاعر، وهو فتى يحضر مؤتمراً طلابياً ببغداد (1948)، وخلال تظاهرات معاهدة بورتسموث، فكان أول مرة يسمعه مباشرة بقصيدة «يوم الشَّهيد»، وتبقى القصيدة وطريقة الإلقاء المميزة في ذاكرته، ثم يجده الجواهري أمامه عضواً في اتحاد الأدباء العراقيين (1959) مندوباً عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحسب الجواهري أن الملا مصطفى البارزاني (ت1979)، كان يُقدره جداً، فأراده ممثلاً عن الحزب في الاتحاد (الجواهري، ذكرياتي).
يختلف السياسي طالباني والشاعر الجواهري على الأمكنة، والوصل ظل مستمراً بينهما، حتى تأتي قصة غطاء الرأس، ليجد طالباني الفرصة في أن يجعل اسم كردستان محمولاً فوق رأس الجواهري، وهو يعلم أن الأخير كان جوالاً منتدباً في الدَّواوين ومسموعاً من على المنابر. بدأت قصة الغطاء بنصيحة طبية من قِبل أطباء براغ للجواهري، في أن يحجب رأسه من شمس الشتاء والصَّيف، فصار ذلك الغطاء، حسب قوله في إحدى المقابلات، ملازماً له في اليقظة والمنام. اقتنى الغطاء الطاجيكي أول مرة، لكن طالباني زوده بغطاء منسوج محلياً بكردستان – العراق، وطرز عليها حروف كردستان، وظل يزوده به، بين الحين والآخر.
كان الجواهري مِن أكثر الشّعراء تغنياً بأمجاد العرب، وبالمقابل كان طالباني مِن أكثر السياسيين دواماً على تمجيد كرديته، ولم يعش يوماً منذ صباه خارج السياسة والحزبية، لكن لم تتصادم القوميات ولم تعبث السياسة في العلاقة، بين الشَّاعر والسياسي، وإن قصائد الجواهري لكردستان، لم تأت بتأثير صاحبه، في شكل مِن الأشكال.
حين نظم الجواهري قصيدة «ماذا أغني؟» (1980) الخاصة بجلال طالباني، لم يكن الأخير ملكاً أو رئيساً إنما كان حزبياً مقاتلاً يكر ويفر، فجاءت متانتها مِن متانة الصَّداقة، كانت رداً على رسالة منه إلى الشَّاعر، يُثير فيه الشّعر بعد طول صمت، وكان مطلعها معبراً عن عمق العلاقة، وعلو منزلة طالباني عند الشَّاعر: «شوقاً جلال كشوق العين للوسن / كشوقِ ناءٍ غريب الدَّار للوطن / شوقاً إليك وأنت النُّور مِنْ بصري / وأنت مني محلَّ الرُّوح في البدن». (الديوان). كم مدح الجواهري، وكم اشتاق لأصدقاء وأعزة، لكن قد لا تألف قصائده هذا الفيض مِن العاطفة.
كان الجواهري، في عقد الثمانينات والتسعينات، محط اهتمام أهل السلطة والثروة، وإشارة منه تُفتح ما أغلقت مِن أبواب دونه، إلا أنه لم يطلب في خصوصياته إلا مِن جلال طالباني. اتصل بي الرَّئيس فؤاد معصوم، قُبيل توليه الرَّئاسة، قال: «عثرت بين دفاتري على رسالة بخط الجواهري موجهة إلى مام جلال، وأرى أن تكون ضمن أرشيفك». ذلك لدرايته بشغفي بالجواهري كظاهرة شعرية فريدة، ويكذب مَن يدعي أن الجواهري خصه بوراثته، مثلما ادعى البعض أو شاع ذلك، فقد كان نسيج وحده، توقف عنده ذلك الطراز الجبار مِن الشِّعر.
تبدأ الرِّسالة بعبارة: «أخي الحبيب أبا شلال»، وكانت كُنية طالباني بين العراقيين «أبا شلال»، طلب منه التَّدخل لدى المسؤولين الأتراك، كي يسهلوا له أمر تأشيرة السفر إلى تركيا بعيداً عن الشكليات، بعد أن ضاق به العيش بأثينا. كتب يقول: «عساني واجداً بذلك، وفي عشٍ صغير على البحر بديلاً عن ذلك العش الصغير في أثينا، والذي أُرغمتُ، وليس أكرهتُ وحسب، على تركه وما فيه نهباً للناهبين، ذلك العش الذي ناغيته بسجى البحر..».. ذكراً مِن «سجى البحر» البيت التالي في رسالته: «وعاطيتك النَّجوى معاطاة راهبٍ / مُصيخ إلى همسٍ مِن الغيبِ نازل».
ليس لنَّا عِلم بهوية النَّاهبين ومقصدهم، الذين نهبوا ذلك العش الموحي للجواهري بإحدى أجمل لامياته، وماذا عن دمشق وإقامته آنذاك بها؟ لكننا أتينا بشيء مِن الرِّسالة المؤرخة في 28 سبتمبر (أيلول) 1991 للتدليل على عمق العلاقة. كان الجواهري في وضع نفسي صعب حينها، هذا ما يتضح في السطر الأول مِن رسالته: «تحياتي وبعد، فعندي مِن ضيق النَّفسِ والنَّفس ما لا أقدر معه حتى على تذوق طعم المناجاة».
لسنا بموقف تفسير نص الرِّسالة، والدوافع التي دفعت الشَّاعر إلى اتخاذ قرار ترك أثينا أو أي بلد آخر والعيش على ساحل بحر بإسطنبول، بقدر ما أتينا عليها كونها تعكس عمق الصِّلات بين الشَّاعر والسِّياسي. إنها علاقة خارج الطَّائفة، وهنا تدخل القومية في مفهوم الطَّائفة، وخارج السِّياسة.
نختم ببيتين مما قاله الشَّاعر في جلال: «يا صاحبي – ويموتُ المزمنون غداً – / وخالدُ صِدق قولٍ ناطفٍ زَمِن / لئن ندمتُ على ما فات مِن زمنٍ / فلستُ آيسُ أن يمتدَّ بي الزَّمن». رحل الاثنان وظل ما بينهما كصحبة عراقية مثار عجب وإعجاب، عربي يحمل كردستان على رأسه وكردي يخزن قصائد صاحبه في القلب، أكبر مما يُداف بسم الكراهية.
*نقلاً عن “المجلة”
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- كيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟بقلم علي الكاش
- مباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراثبقلم مفكر حر
- دراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.بقلم آدم دانيال هومه
- إشكالية قبول الأخر
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :