كان لدى المتكلمين المسلمين في العصور الوسطى مصطلح يدين إساءة الفهم في الدين هو «الغُلُوّ». وهذا المصطلح في الأصل قرآني، فقد جاء في القرآن الكريم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}.. وإذا كان الغلوّ في القرآن يشير إلى الانحراف العقدي، فإنه في السنة النبوية يعني أيضاً التشدد والمضي إلى الحدّ الأقصى بحيث يصير الحق باطلاً. كيف يُعرفُ الغُلُوُّ؟ ومن هو صاحب السلطة في إدانته؟ صاحبُ السلطة في الدين والدنيا في مجتمعات المسلمين: جماعةُ الناس، أو سوادهم الأعظم، فالدين ركنان: نصوص الكتاب والسنة، وإجماعاتُ المسلمين عليهما احتضاناً وفهماً وإفهاماً. وهذه الجماعة أو التيار الرئيسي هي التي تحدد ثوابت الدين، لذلك فقد سمَّى هذا التيار الرئيس نفسه: أهل السنة والجماعة. ولذا فالغُلُوَّ يعني انحرافاً عن التيار الرئيسي أو الخروج عليه. والخروج هو الغُلُوُّ الذي ينبغي مكافحته. لأنه كما يكون في الاعتقادات والآراء، يكون في السلوك.
وكان المسلمون قد نسوا ما أحدثه الغُلاةُ القُدامى من اضطرابٍ على مفاهيم دينية رئيسية، لذلك عندما فاجأتهم الظاهرة منذ سبعينيات القرن العشرين، لجؤوا إلى استنكارها تحت اسم التطرف شأن الآخرين. والتطرف قد يكون دينياً وقد يكون سياسياً، فيما لا يكون إطلاق الغلو إلاّ على التطرف والانشقاق في الدين.
إنّ المتطرف تزداد احتمالات لجوئه للعنف، لأنه يكون شديد الاقتناع بوجهة نظره، وإلا لما جرؤ على مخالفة ثوابت ومفاهيم مستقرة في الدين أو المجتمع. لذلك فقد اقترن الإرهابُ بالتطرف في الأفكار والأقوال، وصرنا نقول إنه لكي لا تظهر أجيالٌ جديدةٌ من الإرهابيين، فلا بد من مكافحة التطرف والإرهاب معاً، لكنّ الواضح أن وسائل مكافحة التطرف غير وسائل مكافحة الإرهاب، فالإرهاب عُنفٌ يُكافَح بالقوة والوسائل الأمنية والعسكرية، أما التطرف فيُكافَحُ بالفكر والفهم الصحيح للدين. وهذه المكافحة ذات جانبين: الردع، والتربية. والأسلوب الردعي إنما يُمارَسُ ضد المتطرفين المعلنين في الكلام والخطابة والكتابة، فيُجابون علنياً وبالحجج الضرورية للإقناع وللردع معاً، رجاء استعادة فعالية صحيح الدين، ولكي لا ينخدع بذلك العامة، فالجمهور ينخدع بأولئك الذين يُظهرون حماساً شديداً للدين، وحماساً شديداً في الإنكار على الآخرين، وحماساً شديداً في مهاجمة من يعتبرونه خصماً أو عدواً في الدين والدنيا. أما الجانب الفكري أو الديني أو الخطابي أو الكلامي الآخَر، فهو تربوي وتعليميٌّ وليس ردعياً، وذلك لأنّ المتطرف في هذه الحالة تسيطر عليه قناعاتٌ قد لا يعلنها جميعاً أو لا يقوم بالدعوة إليها، لكنه يظل جاهزاً ومستعداً للانضمام العلني أو السلوك العلني. وفي حالاتٍ كهذه، وهي الأكثر، ينبغي اللجوء إلى التربية وعمليات تصحيح المفاهيم، والكتابة العميقة والمستفيضة وهي الأبقى والأكثر تأثيراً.
من أين أتى التطرف؟ وكيف تغذّى وتزايد؟ أتى في الأصل نتيجة الإحساس بأنّ الدين في خطر من الاستعمار والتغريب، فنشأت تنظيمات للحفاظ على الهوية الدينية من أوضار الحداثة. وبعد جيل أو جيلين، وقد اصطدمت تلك التنظيمات بكل ما تعتبره مضراً بالدين، بدأ التفكير بأنّ الدين يغادر المجتمع بتاتاً، فتطور التفكير بأمرين: استعادة أو اكتشاف نظام الحكم الإسلامي، والاستيلاء على السلطة من أجل إحقاقه أو تطبيقه من خلال تطبيق الشريعة! وهذا خطلٌ في الفهم طويل وعريض، لأنه يستند إلى عدة فرضيات أو مسبقات: أنّ هناك نظام حكمٍ ديني أو دولة لاهوتية في الإسلام، ولأنه ركنٌ ثابت فلا يمكن التهرب منه وبخاصة أنه صار ضرورياً لتطبيق الشريعة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب! والفرضية الثالثة أنّ الشريعة أو الدين مهجوران، وأنّ على أهل الحاكمية النضال من أجل تطبيقهما أو يكونوا قد أهملوا واجباً أساسياً. وتترتب على هذه المقولة الرابعة أو الخامسة تغييراتٌ جذريةٌ في وظائف الدولة، فالدولة عند المسلمين وعند غيرهم، ومنذ القِدم، هي لإدارة الشأن العام، لكنها صارت لدى جماعات الإسلام السياسي والجهادي لتطبيق الشريعة أو الدين (!). وهذا خطلٌ ما بعده خطل.
لا شك أن للتطرف أسباباً غير سياسية، بيد أنّ الجانب التسييسي، وإدخال الدين في بطن الدولة، هو المسبب الرئيس للتطرف: اعتقاد شبان متحمسين ومضللين أنه يمكن بالمهاودة أو بالقوة صرف الناس عن الغفلة والضلال، وإعادتهم إلى رحاب الدين، الذي لم يغادروه إلا في الخيال المريض للمتطرفين! وهذه المقولات تتطلب نضالاً فكرياً ودينياً لا هوادة فيه، وهو شأن المؤسسات الدينية والمثقفين، وكل الحريصين على استنقاذ الدين، واستنقاذ الدولة الوطنية.
*نقلا عن صحيفة “الاتحاد”.