يواجه العراق هذه الأيام أزمة مياه خانقة وذلك بانخفاض حاد في منسوب المياه في نهري (دجلة) و(الفرات) اثر قيام تركيا وإيران بإنشاء سدود دون الاكتراث بالاتفاقيات الدولية والتي لا يسمح لأية دولة من دول الجوار الثلاث بإقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر من دون أن تعقد بين الدول الثلاث جلسات مشتركة والاستشارة والحوار فيما بينهم لضمان عدم إلحاق الأذى بأي منهما، وكان من بين تلك الاتفاقات اتفاقية لوزان عام 1923 الموقعة بين الحلفاء وتركيا، حيث إشارة المادة 109 من هذه الاتفاقية إلى ذلك بكل وضوح، كما جرى الاتفاق بين العراق وتركيا في آذار من عام 2017 على تفعيل مذكرة التفاهم الموقعة بينهما في 2014، والتي تضمنت اثني عشر فقرة و أبرز ما جاء فيها هو التعاون في مجال إدارة الموارد المائية لنهري (دجلة) و(الفرات) وتحديد الحصة المائية لدول المعنية، إلا إن تركيا لم تبالي بتلك الاتفاقات، ومنذ ذلك الأمد، أي منذ عشرينيات القرن الماضي، فان تركيا أقامت وأنشأت خلال هذه الفترة أكثر من 22 سدا وخزانا مائيا على طول منابع نهر (دجلة) في تركيا ولحين اكتمال سد (إليسو) قبل أيام والذي أقيم على نهر (دجلة) بالقرب من قرية (إليسو) وعلى طول حدود محافظة (ماردين) و (شرناق) في تركيا، حيث بدء تشغيل هذا السد، وعلى أثره تسبب انخفاض مناسيب المياه في نهر (دجلة)، ولم تمضي أيام معدودة على بدا التشغيل السد حتى بدأت آثار انخفاض مناسيب المياه تظهر بشكل ملحوظ على نهر(دجلة) في مناطق عدة من العراق وتحديدا في مدينة الموصل والعاصمة بغداد و بشكل غير مسبوق ولدرجة بات من الممكن معها عبور النهر سيرا على الأقدام في كثير من مناطق النهر، علما، بان مياه التي تغذي نهر(دجلة) من تركيا يبلغ سعته بحدود أكثر من ٥١% من تدفق مياه (دجلة)، وحين اكتمال المشروع فإن مياه نهري(دجلة) و(الفرات) انخفض بنسبة قريبة من النصف؛ مما أدى إلى انخفاض مناسيب المياه من المدن والقرى العراقية
بنحو نصف احتياجاتها من المياه، وهو ما أثار مخاوف المواطنين من إن الجفاف سيضرب مناطقهم ومحاصيلهم؛ وما يتبع ذلك من أزمة وكارثة بيئية في محيط مجرى نهري (دجلة) و(الفرات) في العراق وعلى طول المناطق المحيطة، لأن سدود التركية ستؤثر بشكلٍ كبير على كمية المياه في نهري (دجلة) و (الفرات)، بالإضافة إلى ما يترتب عنه من الإضرار بملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية العراقية، ويتسبب بأزمة بيئية حقيقية على طول ضفاف النهرين؛ إن لم يسبب بجفاف الاهوار الجنوبية، الأمر الذي سيؤدي إلى القضاء على كافة المحاصيل الزراعية التي تعتمد على الري؛ أضاف إلى القضاء على الثروة السمكية وهجرة ملايين الطيور وسكان تلك المناطق، فما يجري يعد مؤشرا خطرا هو أشبه ما يكون بإعلان حرب مياه مقبلة تريدها تركيا مع العراق، لان كل ما تفعله تركيا عبر بناء السدود وقطع المياه عن العراق يأتي من اجل مساومته لاحقا تحت بند النفط مقابل المياه، الأمر الذي يتطلب من الحكومة العراقية بذل مزيد من الجهود الدبلوماسية إقليميا ودوليا والدخول في مفاوضات جادة مع الجانب التركي والإيراني أيضا التي هي الأخر أنشئت سدود على الأنهر التي تصب مجاريها في نهر(دجلة)، فقد حولت إيران مجرى مــياه نهري (كارون) و (كرخه) وكذلك الوديان الجانبية على فروع نهر (دجــلة) إلى أنهر وخزانات داخل أراضيها؛ ما تسبب إلى انخفاض حصة العراق من مياه النهر بقرابة 95 في المائة من مياه الأنهر المغذية لنهر (دجلة) من الجانب الإيراني، وهذا ما جعل العراق يعاني منذ سنوات من انخفاض في إيرادات المائية والتي لا تسد حاجة العراق، في وقت الذي عجزت الدولة منذ 2003 والى يومنا هذا بتخطيط وبناء سدود ووضع دراسات ميدانية لتجاوز أزمة المياه بشكل مدروس دراسة علمية وعملية بسبب استشراء الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة وعدم المبالاة والاكتراث بهذا الشأن رغم تخصيص وصرف مبالغ مالية كثيرة لتحسين شبكات الري في العراق؛ إلا إن بغياب الرقابة والمتابعة من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة لإدارة شؤون الدولة العراقية منذ 2003 والى يومنا هذا لم تبالي ولم تجعل من أولوياتها معالجة مشكلة المياه في العراق ومراقبة مستوى المياه في نهري (دجلة) و(الفرات) ومستويات المخزون المياه في السدود العراقية، فان كل ما تم صرفه ذهب إدراج الرياح، دون إن يعلم احد أين ذهبت هذه الأموال، في وقت الذي يشار بان مبلغ (تريليون وخمسمائة مليار دينار) صرفتها الحكومة خلال السنوات 2007 ولغاية 2009 ومبلغ (ثلاثة تريليونا وخمسمائة وخمس وثمانون مليار دينار) صرفتها الدولة العراقية خلال السنوات 2010 ولغاية 2013 وصرفت الحكومة مبلغ (تريليون ومائة واثنان وثلاثون مليار دينار) خلال السنوات 2014 ولغاية 2017 ليكون إجمالي المبالغ التي صفت لموارد المائية خلال السنوات 2007 ولغاية 2017 هي بحدود (ستة تريليون ومائتان وسبعة عشر مليار دينار عراقي)، إي بحدود خمسة مليار دولار، علما بأنه لم يتم بناء إي سد أو خزان أو مشروع إروائي جديد خلال هذه الفترة؛ لذلك يتحتم علينا إن نسأل: أين ذهب هذه المليارات وكيف تم صرفها…..؟
ولهذا لابد من فتح ملف هذا الفساد لمعرفة أين وكيف صرفت هذه المبالغ، لتقديم المقصرين والمتلاعبين بأمن الدولة وحياة الشعب إلى القضاء، رغم إن الفساد يسري في شريان كل المؤوسسات الدولة العراقية برمتها؛ وكان من ضمنها هذا القطاع الحيوي من الحياة منذ أمد؛ دون إن تقوم أجهزة الرقابة بمتابعة هذا الملف، لان الحكومات المتعاقبة لم تجعل معالجة مشكلة المياه من أولوياتها….!
في حين لو عدنا قليلا إلى تاريخ العراق القديم لوجدنا كيف كان ملوك العراق من (الأشوريين) القدامى يعطون أهمية وأولوية للأمن المائي بكونها رافد من روافد الحياة لدولة بأسرها؛ ففرضوا سيطرتهم وسيادتهم على منابع الأنهار في العراق بكون وجود العراق مرتبط بوجود الماء منذ فجر التاريخ، فهاجس الأمن المائي في العراق لم يكن وليد اليوم بل كان منذ القدم، فقصة الخليقة البابلية- الأشورية ( الاينوما ايليش) كانت تنطلق باعتبار أن الماء ألبدئي هو أصل الخلق الكوني بنوعيه (العذب) و(المالح) فقد أشاروا إلى الماء العذب بـ(مذكر- آبسو) والمالح بـ(المؤنث- تيامات)، ومن جسد الأنثى خلق النهران( دجلة والفرات)، فولادتهما كانت على يد (مرودخ – أشور)، ملك الإلهة، وابن اله المياه الحلوة (أنكي)، إذ حال انتصاره على الإلهة الأم (تيامات) التي شطر جسدها إلى نصفين صنع منهما الأرض والسماء، ثم أقتلع عينيها وغرزهما في جبال (طوروس) ليتدفق منهما (دجلة) و(الفرات).
فالأساطير العراقية القديمة تذهب في القول بأن الآلهة شرعت بالعمل الشاق على الأرض وأخذت بشق مجرى (الفرات) أولا ثم تلاه (دجلة) وروافدهما، وشقوا قنوات الري ليصلحوا الأرض وليقوموا بزراعتها؛ ثم خلقوا البشر ليتحملوا نير العمل الشاق عنهم بعد ذلك ارتقى النهران( دجلة والفرات) مقاما دينيا مقدسا، وتطور هذا الفهم من (البعد الفكريٍ) إلى (البعد السياسي) وهو البعد والمنهج الذي تبنوه كل ملوك العراق القديم من (سومر) و (أكد) و (بابل) و (آشور)، باعتبار أن أعالي حوضي (دجلة) و (الفرات) وروافدهما في (الأناضول) تحمل أهمية روحية و سياسية، لذلك حرصوا على إنشاء الحاميات العسكرية لتأمين موارد المياه لنهري (دجلة والفرات)، فكانوا يحرصون على زيارتها ليتعمدوا بمياهها ويغسلون أسلحتهم فيها كنوع من طقس قديم موروث، ثم يقدم الملك بنفسه الأضاحي للآلهة ويقيم المآدب الفخمة احتفالا بالانتصار على الأعداء وتطهير مياه (دجلة) و (الفرات) من إي تدنيس قد تلحقه ممارسات الأعداء عليهما، لذا أقاموا ملوك (الأشوريين) حصونهم على ضفتي النهرين (دجلة) و (الفرات) و من المنبع شمالا باتجاه المصب جنوبا لحماية المجرى والأراضي من حولهما، ولأن الآلهة – بحسب عقائدهم – هي من شقت مجرى النهرين وحفرت قنوات الأنهر ونظمت الري، فأن المحافظة عليها ضمن الحدود السياسية لـ(بلاد النهرين) كانت أولوية إستراتيجية ومسؤولية سيادية تحفظ المقام الديني المقدس الذي بارك الأرض وشرايينها منذ فجر الحضارة الموغل بالقدم لترقى إلى زمن الملك الأشوري العظيم (سرجون الاكدي – القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد)، الذي قاد جنوده إلى قلب (الأناضول) لحماية القوافل التجارية لدولته وصولا إلى البحر الأعلى الذي اليوم يسمى (البحر المتوسط)، ومن هنا تظهر أهمية حوض نهر (الفرات) بذات الأهمية كحوض نهر (دجلة)، والدليل على إعطاء الملوك (الأشوريين) أهمية على الحفاظ على منابع نهري (دجلة والفرات)، فقد أرسلوا الحامية للحفاظ على المنابع بقيادة حفيده العاهل العظيم (نرام سين) في (تل براك) على أحد روافد نهر (الخابور)، وهناك نقش العاهل (الأشوري) الملك (توكلتي ابيل ايشارا الأول) على جدران كهف أحد منابع نهر (دجلة) في (ديار بكر – الأناضول)، ويعد نهر (بيركلن) أحد روافد نهر (دجلة) حيث يتدفق من سلسلة كهوف طبيعية وسط بيئة وعرة ومعقدة تضاريسيا، وأهمها كهف (كورخو) الذي عده أهل العراق القدماء والمؤرخون اليونانيون و العرب منبعا لنهر (دجلة) ويقع إلى الشمال من (آميدي – منطقة ديار بكر الحالية)، وهناك ترك ملوك (آشور) مجموعة نقوش وبجانب بعضها كتابات مسمارية على الجدران الخارجية لتلك الكهوف، وأشاروا إلى الموقع والإحداث التي وقعت فيها، من بينها نقش ألعاهل (توكلتي ابل ايشرا الأول – تيجلابليزر) من (العصر الأشوري الوسيط – القرن الثاني عشر قبل الميلاد)، وهو أول (ملك آشوري) يأمر بنحت صورته وتسجيل مآثره في أعالي نهر(دجلة(، كما ويذكر التاريخ القديم بان العاهل (الأشوري) الشهير( شلمانو أشريد الثالث – شلمنصر858- 824 ق.م) قاد حملات على منابع (دجلة) في (الأناضول)، وكان هاجس الأمن المائي حاضرا لديه وبقوة إلى الحد الذي جعله يطلق على نفسه لقب (مكتشف منابع دجلة والفرات)، وأن يقود حملات في أعالي حوض النهرين لسيطرة ولحماية المنابع، وهناك أمر بوضع نقشه وتدوين مآثره، يرد في حولياته ما يلي :
“أخضعت تحت قدمي أراضي كلزان (شمال شرق العراق ) وخوبوشكيا (سهل خاني شمال إيران) من منابع (دجلة) إلى منابع (الفرات) من البحر في ارض زاموا الذي (في الداخل) إلى البحر ” .
وفي المسلة السوداء الشهيرة ( الصورة المقابلة ) التي يعود تاريخها الى سنة 826 ق م، يرد نصا على لسان ذات الملك حي تقول:
“في السنة السابعة من اعتلائي العرش…زحفت حتى رأس نبع (دجلة) إشارة إلى المكان التي تنبع منه المياه، فغسلت أسلحة (آشور) فيها، و قدمت الأضاحي لآلهتي وبسطت مأدبة للاحتفال.. وأمرت بنحت صورتي الملكية الرائعة ودونت عليها عبارات الثناء لآشور” .
في شاهد أخر اكتشف علي الصفائح برونزية غلفت البوابات الخشبية الكبيرة لقصره في مدينة ( بلاوات – وهو تل بلوات في قضاء الحمدانية الحالي – محافظة نينوى )، نجد تفصيلة لإحدى تلك الحملات ، حيث يشاهد الجنود وهم عند مدخل إحدى المغارات التي ينبع منها رافد لنهر (دجلة) وهم منشغلون بتقديم الأضاحي و نحر الذبائح إمام الملك آو احد موظفيه قربانا لمنبع النهر المقدس (دجلة)، وهذه البوابات محفوظة حاليا في المتحف البريطاني.
ومن كل ما تقدم تظهر أهمية ما كان للعقيدة الدينية لدى ملوك (الأشوريين) القدامى لنهري (دجلة والفرات) من دور أساسي في صياغة (العقل السياسي العراقي القديم على طول تاريخه)، ولذا كانت الوحدة السياسية لـ(سومر) و(أكد) و( بابل) و(آشور) مظهرا من مظاهرها، وانحصرت ما بين منابع (دجلة) و(الفرات) حتى مصبهما والضفاف التي من حولهما، وهذا ما منح سكان البلاد (أشور) شعورا بوحدة الكيان السياسي و شجع حكامه على الاستمرار بما قام أسلافهم من تأمين المنابع والاهتمام بشق القنوات وشبكات الري، ومن استخدام أفضل للموارد التي هي هبة الآلهة لإرواء الأرض ولديمومة الحياة.
فأين نحن اليوم من هذا المقام الذي يوضح لنا عن مدى ما أعطوه ملوك العراق في تاريخ العراق القديم من أهمية كبرى لقيمة نهر (دجلة) و(الفرات) لنواجه اليوم ونحن إمام أمر الوقع؛ بعد إن شح المياه في نهر (دجلة) و(الفرات)، إلى مستويات خطيرة بسبب تجاوز خطير على منابع النهر من قبل تركيا وإيران دون اكتراث مسؤولين الدولة العراقية بهذا الأمر الخطير لتكون المقارنة بينهم وبين ملوك العراق الأشوريون القدامى بواقع يوحي بعدم حرص المسؤولين عن إدارة شؤون العراق الحالي عن امن واستقرار وحماية ثروات الوطن وامن الدولة والمواطن والشعور بالمسؤولية كما يحدث أو سيحدث إذ استمر التجاوز على منابع انهر العراق .
ونحن إضافة إلى هذه الأزمة نواجه موجة الجفاف الذي يضرب المنطقة على مدى السنوات الماضية وتدني كميات الإمطار المتساقطة في البلاد مما زاد وسيزيد من مشاكل الأزمة أزمة؛ لدرجة التي أصبحت انخفاض مناسيب المياه في (دجلة) و(الفرات)، النهرين اللذان يغذيان كل مناطق العراق، وقد أضاف هذا الانخفاض وما رافق من قلة سقوط الإمطار حجم تناقص تغذية الأمطار للمياه الجوفية، فتقلصت مخزناتها أيضا، فقد بات هذا الانخفاض يهدد جميع الأنشطة الزراعية في المحافظات؛ بل إلى توقف مشاريع المياه الصالحة للشرب لعموم سكان العراق، وهذا ما جعل وزارة الزراعة العراقية إن تصدر أوامر بحظر زراعة ثمانية أنواع من المحاصيل الزراعية، ضمن الخطة الزراعية للموسم الصيفي الحالي 2018، بسبب قلة الإيرادات المائية، فقد تم إلغاء زراعة محاصيل الأرز، الذرة الصفراء، الذرة البيضاء، السمسم، القطن، الدخن (من الحبوب يستخدم كعلف للحيوان) و زهرة عباد الشمس و(الماش) وهي من أنواع البقوليات، من الخطة الصيفية الحالية، ومما يزيد من أزمة انخفاض مناسيب المياه في انهر العراق هو سوء الإدارة وغياب التخطيط الذي هو ليس وليدة اليوم بل هي قديمة – جديدة ومع ذلك فان تبعات عدم اللامبالاة وعدم الاستفادة من إحداث التاريخ العراق القديم بهذا الشأن يتحملها اليوم أبناء هذا الجيل، فالأرقام المقلقة التي تنشرها وزارة التخطيط عن نسب سكان المدن والأرياف العراقية الذين سيتضررون من أزمة المياه الحالية واللذين سيلاقون وفق استمرار انخفاض مناسب المياه صعوبة في الحصول على الماء الصالح للشرب، جلها ترتبط بسوء وغياب التخطيط أكثر من ارتباطها بتناقص مياه (دجلة) و(الفرات)، ولذلك فان المعالجات والحلول الجذرية لأسباب المشكلة ما لم تستند إلى الحقائق والمعطيات القائمة على أرض الواقع والتي لابد إن تنطلق وفق تصورات ورؤى إستراتيجية بحجم التجاوزات وما تفعله دول الجوار على منابع الأنهر المتجه نحو العراق والتي تغذي (دجلة) و(الفرات) والتي لها جذور وخلفيات لهذه المشكلة القائمة اليوم في البلاد، ودون هذه الروائية فإننا نمض بحلول دون جدوى؛ ولنا في ذلك تجربة مع دول المنبع مع تركيا حينما تفاقمت المشكلة المائية معها في سبعينيات القرن الماضي حين برزت هذه المشكلة بشكل لافت آنذاك – أي بين تركيا والعراق – وها اليوم تتكرر تلك المشكلة، وكذلك مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي أيضا اثر ترسيم حدود المياه في شط العرب وبسبب المشكلة المائية تطور الخلاف بين الدولتين إلى حرب مدمرة دامت لأكثر من ثمانية سنوات. وهذا ما يتطلب من ساسة الدولة العراق اليوم اتخاذ إجراءات للحد من الأزمة وبالطرق الدبلوماسية وعلى كافة المستويات الدولية والإقليمية على الأقل لإقناعها بخطورة الموقف الإنساني وما سيترتب عن انخفاض مناسيب المياه لمستقبل البلاد. فالتقارير والأرقام التي تنشرها وزارة الزراعة والري تشير إلى تصحر أكثر من ربع مليون هكتار زراعي في العراق بفعل الجفاف الذي ضرب مدن جنوب العراق خلال السنوات الماضية، والتي أدت إلى تصاعد موجه هجرة السكان لـ(17) قرية جنوب العراق بفعل انخفاض مناسيب المياه، خاصة إذ علمنا أنهم يعيشون على صيد السمك والزراعة، نتيجة تلاعب كل من إيران التي حولت مجرى روافد (دجلة) إلى بحيرات وأنهر داخلية وتحريف مساره ومنعه من دخول العراق، وتركيا عبر بنائها سدودا على (دجلة) و(الفرات)، بحصة العراق المائية.
لذا فان ساسة الدولة العراقية مطالبين اليوم أكثر من أي وقت مضى باتخاذ كل ما يلزم من قرارات إستراتيجية، قبل أن يجد الشعب العراقي بلدهم ارض صحراوية، إذ استمر انخفاض مستوى المياه في نهري (دجلة) و(الفرات) على ما هو عليه اليوم فإننا لا محال بعد عدة سنوات سنلاحظ ملامح الجفاف نهري (دجلة) و(الفرات) واضحة في عموم العراق وقد يؤدي إلى جفاف كلي لنهر (الفرات) باتجاه الجنوب وكذلك الحال بالنسبة إلى نهر (دجلة) الذي سيتحول إلى مجرد مجرى مائي صغير محدود الموارد، ولا محال سيجفان رويدا – رويدا ليتحول العراق من بلاد (الرافدين) إلى بلاد (بلا رافدين)، بلا (دجلة) و(الفرات)، ولما كان امن المياه من امن الغذاء؛ فان أي مؤشر عن إجهاد المائي سيترتب إجهاد في امن الغذاء لشعب العراقي، وهو ما (لا) يتحمله أي شعب، فكيف الحال بالنسبة إلى الشعب العراقي……!
ومن هنا نقول: على دول المنبع إن تعي بان الحلول السلمية والمناسبة والتعامل وفق ضوابط أخلاقية تحتمها الظروف لان العراق ليس بلدا ضعيفا ولا يستطيع الرد؛ بل انه يستطيع الرد والتعامل بالمثل مع دول المنبع؛ إذا ما شعر بان ما تقوم تركيا وإيران إنما هي حرب فعلية عليه .