صباح يوم من ديسمبر (كانون الأول) 2004، كانوا يمضون نهارا آخر من عطلتهم على شاطئ سريلانكا. فجأة صوت يصرخ: البحر يهجم. وبعد دقائق أخذ البحر والدها ووالدتها، وزوجها وابنيها البالغين 5 و7 سنوات. أخذ التسونامي، دفعة واحدة، الماضي والمستقبل، وترك سونالي ديريناغالي لتعيش أمر الحياة وتكتب أمر المذكرات تحت عنوان «موجة».
بينما طمر التسونامي جميع أحبائها، رماها هي إلى دائرة من الطين اللزج وراح يلف بها بجنون: «يا إلهي ماذا فعلت لكي أستحق كل هذا؟! لعلني كنت قاتلة جماعية في حياة سابقة». ولدت سونالي في سريلانكا ودرست الاقتصاد في أكسفورد وكمبردج، وتزوجت من زميل لها في الأخيرة. وذلك الشتاء قررا المجيء في إجازة مع الأولاد لرؤية الأهل. وكانت معهما صديقتهما، أورلانتا.
تلك اللحظة كانت أورلانتا تقول لهما، إن حياتكما جميلة مثل حلم، ثم توقفت فجأة وصرخت: يا إلهي. البحر داخل علينا.
أورلانتا أيضا أخذها البحر. رفضت سونالي أن تعود إلى منزلها الخالي في لندن. كيف ستتحمل رؤيته من دون زوجها وولديها. وكيف ستبقى في منزل سريلانكا من دون أهلها. وهل بسببها ماتت أورلانتا؟ هل كان من الضروري أن تدعوها ذلك الصباح؟ كلما كان الموت جماعيا أحاطت به سخافة الحياة. نحن لا نعرف عن ضحايا الكوارث سوى العدد، إلى أن يأتي شاهد مثل سونالي، ومعه قلمه، وصور الأهل والأبناء، المحفوظة على جدار لم يصل إليه التسونامي. هذا أفظع ما في الموت الجماعي. لا أسماء له، ولا مجالس عزاء.
نحن الذين عملنا خلف المكاتب في الصحف، نعرف هذا الشعور. تبدأ الأخبار الأولية بعدد غير مؤكد ثم تكبر الأعداد. ألف؟ لا. عفوا، عشرة آلاف. وإذا كان التسونامي في اليابان فإن الأرض قد انقلبت والبيوت قد تفتت والمراكب تناثرت علبا من الكبريت فوق طين البحر والأرض. وفي اليوم التالي يأتي خبر آخر فيجتاح الخبر السابق، بينما ينصرف أهل الضحايا هناك إلى أعراس الحزن وقوافل الموت الجماعي.
لكن حتى في الموت الجماعي كل قصة هي حكاية فردية، وكل ألم هو ألم حميم خاص ومحدد الجراح والجمع. الموت الجماعي لا معنى له إلا بالفداحة الفردية. لو لم يسجل لنا أدباء روسيا آلام سيبيريا لما عرفنا عنها. ولو لم يسجل لنا ديكنز فقر لندن، ولو لم يسجل فيكتور هيغو فقر باريس، ولو لم يسجل شتاينبك الفقر في أميركا، ولو لم يسجل يحيى حقي الفقر في مصر، لظل حجم الأسى بلا معنى.
يجب أن نتذكر عندما نسمع أرقام سوريا اليومية أن لكل رقم اسما وعائلة وحزنا ومصيبة وأسى. وكذلك أرقام المشردين. وكذلك فظاعة السقط البشري في الجهة الأخرى، سواء كان ذلك من فئة «جهاد المناكحة»، أو المواقحة، الذي ورد ذكره في تونس، حيث أكثر الشعوب تعليما، أو في «نصرة» النازحات السوريات بـ«الزواج» منهن بالرخص الفاجر، مع ادعاء الحرص وحفظ الأعراض، بينما هو في الحقيقة رق رديء ودعارة مبطنة.