لا نتصور أن عصرنا أردأ العصور في إشاعة الخُرافة والتَّدين الهابط، لكنه قطعاً أردأ العصور لاتساع انتشارها، فقديماً كانت تُبث على أنفار، لا تتعدى أسماع الجالسين تحت أعواد منابر الدُّعاة. أما اليوم، فاتسع المجلس لملايين السَّامعين والمشاهدين، ناهيك عن فتح أبواب المدارس والدَّوائر للخُرافيين من معتمري عمائم الدِّين ومرتدي جببه. إنه باب الحُرية المفتوح، مع أن للحُرية حدوداً، تقف عند حماية العقل من التَّلاعب، وما يقود إلى التعصب والكراهية.
ما سأذكره من مثالين مِن فظاعة الخُرافة، ليسا مقطوعَي الصِّلة عن التُّراث الدِّيني والاجتماعي، وكم تبدو الفضيحة صارخة لعصرنا، المتسم بغزو الفضاء واكتشاف قيعان البحار، ومحاولة الوصول إلى إنتاج الخلية الحيَّة، مع اجترار تراث الخُرافة وتقديمه عبر الأثير، استخفافاً بآدميتنا، على أن ما يُقدم مقدس لا يمس. لا أجد فرقاً بين مغتالي العقول وذباحي الرِّقاب بسطوة دينية، فهما يتخادمان، لم يبقَ لمَن يجلس تحت منابر الدُّعاة إلا الانفصال عن الواقع بما فيه من اختراعات واكتشافات.
تُبث يومياً مئات الأشرطة المسجلة، باستغلال أروع ما توصل إليه العقل البشري «اليوتيوب»، تحمل فايروسات الخُرافة، كي تكون العقول والأفئدة على استعداد للخراب الفكري، ليسهل قيادها، وتهيئة الشَّباب للانتماء ضد أوطانهم ومجتمعاتهم، فهم يتبعون الخُرافة عابرة الحدود.
شاع «يوتيوب» لرجل دين أكد مِن على منبره، بيقينية، والذين يسمعونه يهللون استحساناً، أن آدم ولدٌ من أولاد علي بن أبي طالب، بدليل كنيته «أبو تُراب»، وبما أن الحديث يقول: «كلكم لآدم وآدم من تُراب»، بنى صاحب المنبر خُرافته قائلاً: «فالظَّاهر آدم أبو البشر، ولكن في الباطن أن علياً هو أبو آدم، مثل البذرة في داخل الثَّمرة». فعلى ما يبدو أنه اطلع على فكرة «الكمون» الفلسفية عند المتكلمين الأوائل، فظهر بهذه الخيبة!
لكن هذا الرَّجل أتى بما وصله مِن سابقين، ما زالت كتبهم تُشكل الثقافة الدِّينية والمجتمعية. فقد أورد محمد باقر المجلسي (ت1699) حديثاً نبوياً يقول: «خلقتُ أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد، نسبح الله يمنة العرش قبل أن خلق آدم بألفي عام، فلما أن خلق الله آدم عليه السلام جعل ذلك النور في صلبه، ولقد سكن الجنة ونحن في صلبه، ولقد هم بالخطيئة ونحن في صلبه، ولقد ركب نوح عليه السلام السفينة ونحن في صلبه، ولقد قُذف إبراهيم عليه السلام في النار ونحن في صلبه… حتى انتهى بنا إلى عبدالمطلب، فقسمنا بنصفين، فجعلني في صلب عبدالله، وجعل علياً في صلب أبي طالب» (بحار الأنوار). كذلك لم يكن المجلسي الأول في نقل الحكاية، إنما استند إلى مَن سبقه، فتداولت وأُضيف عليها حتى أطلقها صاحبنا حقيقةً مُسلّماً بها!
فإذا أضفنا هذه الخُرافة إلى خُرافة قتل الطُّيور لأنثى اتهمها ذَكرها بالزنى، فسنكون على بينة مِن أن التجهيل كارثة عامة، يقول صاحب المنبر الآخر ما ينسبه إلى باحث فرنسي في علم الطُّيور، بأن لقالق اجتمعن على أنثى ومزقنها، فعمد إلى تجربة لاستيضاح ما جرى، فقام باستبدال بيض دجاج ببيض لقلق وفي عشٍّ آخر، ليفقس البيض أفراخ دجاج، فحس اللقلق أن أنثاه قد زنت مع ديك، فصد عنها، وبهذا أدرك الباحث الفرنسي عِلة غضب اللقالق على الأنثى، فأشهر إسلامه فوراً!
كذلك كانت خُرافة زنى اللقالق مبثوثة في كتب التُّراث، لغرض تعظيم أحكام الشَّريعة خارج مجال الإنسان، وإن كان بما يُخالف العقل. أتى بالحكاية القاضي التَّنوخي (ت384هـ)، لكن حدوثها بين القرود لا بين اللقالق، نقلها ممِن سمعها مِن أحد الرُّعاة باليمن: «كنت أرعى غنماً لي في بعض الأودية، فرأيت قردين، ذكراً وأنثى، وهما نائمان في مكان مِنْ الجبل، فجاء قردٌ ذكر يخفي مشيه حتى حرك الأنثى، وهي إلى جنب الذَّكر، فانتبهت ومضت معه وافترشها، وأنا أراهما، فانتبه ذَكرها فرآها، فزعق زعقةً عظيمةً، فاجتمع إليه مِنْ القرود عددٌ كثيرٌ… نزلوا بها وبالذَكر الذي وطئها تخفياً مِنْ ذَكرها إلى وهدةٍ بعيدةٍ، فدحرجوهما فيها قهراً، ثم رجموهما بالحجارة حتى ماتا» (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة).
يقول المعري (ت449هـ)، المنتمي لعصر ظهور الحكايتين الخُرافيتين، لكنه استعظم ما سمع مِن أمثال ذلك: «تفوه دهركم عجباً فأصغُوا/ إلى ما ظلَّ يخبرُ يا شهودُ/ إذا افتكر الذَّين لهم عقولٌ/ رأوا نبأً يحقُ لهم السُّهودُ» (لزوم ما لا يلزم). أقول: لا يجب التَّقليل مِن خطورة ما يُبث مِن مغتالات العقل، لأنها تؤهل لاستيعاب الأفظع، بما يواصل فضيحتنا أمام الاختراعات والاكتشافات الهائلة، فشتان بين إعادة تصدير خُرافة واختراع «يوتيوب»!
*نقلا عن صحيفة “الاتحاد”