العلمانية… كما ذكرنا في المقالة السابقة من هذه السلسلة … اصبحت كما هو الدين اداة للبعض للوصول الى السلطة او شرعنة مسار سياسي او منهج فكري اجتماعي .. او التخفي في ظلالها تعبيراً عن رفض و إنكار الواقع الاجتماعي … و هكذا تبدو الحدود مبهمة و تختلط احداثيات الصور الذهنية و الواقعية لدى الكثيرين…
و في محاولة لرسم ملامح واقعية لتصوراتنا اعتقد انه لابد من الانتباه الى بعض الملاحظات العامة و هي:
اولا… يجب ان نعرف ان الحدود بين الأشياء و منها المكونات الفكرية لا تتمتع بالصلابة كما توحي الطروحات … و هي ليست ثابتة الا من خلال الشعارات و السلوكيات السياسية .. و هذا معناه ان المشاريع الفكرية و حتى التجارب البشرية تتقارب بل و تعتمد على بعضها سواء عموديا اي تاريخيا و حضاريا و فلسفيا… او افقيا اي جغرافيا او التبادل التجاري و الثقافي و السياسي و بناء شبكات المصالح و غيرها..
ثانيا… ان العلمانية هي نتاج في الفكر السياسي – الاجتماعي يختص بادارة المجتمع و لا يتعداه الى القيم الاخلاقية العليا و لا الى الحرية الشخصية للإنسان … العلمانية هي تجربة سياسية لا تختلف عن اية تجارب سياسية في تاريخ الانسانية … بل هي خلاصة و تطوير للمناهج السياسية التاريخية لإدارة المجتمع و الدولة منذ بداياتها الاولى في الحضارات القديمة و عبر مراحل مختلفة من التقاطعات بين الادارة الحكيمة و الدولة المتسلطة و الدكتاتوريات المختلفة …
ثالثا… في التجربة العلمانية لا يتم التغاضي ابدا عن البعد الاخلاقي و القيم لدى السياسيين … فكل الأحزاب لديها اسس فلسفية ترتكز بشكل او باخر على فلسفات و أديان … لكن بدل الأعلان المباشر عن هذه الفلسفات و الأديان يتم وضع اسس اخلاقية في اطار ما يسمى بالثقافة السياسية
Political Culture …
هذه الأسس تدخل في اطار البعد الاخلاقي للسياسات و المصالح العامة …لكن في المقابل فان الظروف الواقعية و الحاجات اليومية هي التي تحدد كيفية ادارة المجتمع و الدولة من حيث وضع خطط واقعية و واضحة و قابلة للتطبيق و تخدم المجتمع و حياة الفرد اليومية بشكل مباشر و بسيط حتى يوفر للجميع فرصة التفاعل و المشاركة …
بكلام اخر … ان التجربة العلمانية في ادارة المجتمع و الدولة ليس لها علاقة بالصراع المفاهيمي حول وجود الله .. بل هي محاولة لابعاد الخلط بين الكنيسة من حيث كونها مؤسسة مختصة بإعتقادات الفرد و علاقته مع الله و طريقه الى الآخرة … و بين ادارة شؤون الحياة اليومية للفرد من حيث توفير الأمن و الغذاء و الدواء له… و هذا هو واجب الاب و الام في العائلة كما هو واجب الخكومةً في المجتمع و الدولة …
فالصياد و المزارع و العامل و التاجر يقوم صباحا و يصلي و يطلب من الله ان يرزقه هو و اطفاله… و لكنه لمجرد ان يخرج من بيته يقوم بنفسه بإعداد شبكة الصيد او أدوات الزراعة او الصناعة او إقامة علاقة جيدة مع هذا و ذاك من التجار و الزبائن… و عندما يعود مساء يشكر الله مرة اخرى على الرزق ( اذا كان قد ربح و اذا خسر فلا يشكر على مكروه سواه )… لكن في كل الاحوال لابد ان يجلس مع نفسه او بالمشاركة مع اخرين ليعد خطة الغد … و هكذا ..
إذن لدينا جزء إيماني نفسي و هذا عمل الكنيسة او المسجد … و جزء عملي (تعلم و إعداد خطط و اليات تطبيق) يختص بِنَا افرادا و جماعات… و هذا التقسيم للشؤون هو بالضبط ما طورته التجربة العلمانية في المجتمعات الغربية و حددت له ضوابط و قوانين و إجراءات يمكن معها ضبط إيقاع التطور الاجتماعي بشكل كبير..
لكن العلمانية… بما انها تجربة سياسية…. فإنها كثيرا ما يتم إقحامها مع الايديولوجيات و المشاريع السياسية المختلفة… بعضها تخدم مجتمعاتها … و بعضها الاخر تؤسس لمجتمعات احادية دكتاتورية … و قد تعادي المجموعات الدينية او الاثنية او القومية و غيرها و تفرض عليها تغييرا قسريا… و في هذا فهي لا تختلف كثيرا عن الدول الدينية …. او اللادينية هنا و هناك في العالم ..
في الخلاصة الأولية … ان العلمانية ليست مرادفة بالضرورة للإلحاد بل توفر للانسان حق الاحتجاج حتى على الثوابت الى درجة التنكر .. او الإلحاد بها…و الإلحاد لا يعني بالضرورة عدم الإيمان … بل يعني معاداة الهيكلية الدينية فكريا و اجتماعيا… و اخيرا التدين لا يعني بالضرورة مطلق الإيمان و التخلي عن العقل … لكن العقل له أولوياته التي تحددها تجاربه و اعتماد التجارب مقياسا هو أساس العلمانية…
انها إذن مشكلة الحدود … و لعلنا نخطىء عندما نعتقد ان الأشياء اصبحت واضحة جلية لاننا نملك في أيدينا الكتب المقدسة و افكار الفلاسفة العظام و انه ” قد تبين الرشد من الغي… البقرة 256.”… و اننا أصبحنا قادرين ان نعرف الحدود..
سلوكنا مع ذاتنا و مع الاخر توحي ان الانسانية ما تزال تعيش مرحلة البحث عن الضوء… و ان كثيرا مما نفعله هو من عالم الغي و ان الرشد ما يزال هناك بعيدا عن الحدود التي نرسمها… نؤمن بها و نقدسها و نفدي بها ارواحنا و ارواح الآخرين ….!!!..
في مقالة لاحقة سنحاول تبين الخيط الأبيض من الأسود في المفهوم الديني للدولة و المجتمع و علاقته بالإلحاد …حبي للجميع..