لا يخامرني أدنى شك أن الإسلام منظومة سياسية تقمصت لبوس الدين، والدين منها براء. الأديان يمكن إصلاحها كما حدث مع المسيحية واليهودية دون التعرض للنص المقدس لأتباع تلك الديانات. الإصلاح يكون عن طريق تغيير الخطاب الديني الذي ينطق به رجالات الدين أو بغض الطرف عن بعض الآيات التي تحدث إشكالاً مع متطلبات العصر. فهاهي المسيحية اضطرت للخضوع لمجاراة العصر وسمحت بتعميد النساء والقساوسة المثليين بعد أن نفضت يدها عن السياسة مجبرةً. أما اليهودية فقد حاول حاخاماتها الاحتفاظ بنصوصها كما هي وتطبيقها على أرض الواقع. ورغم أن بعض الحاخامات المتشددين في إسرائيل ما زالوا يطبقون نفس النصوص الجامدة التي تحدد ما يمكن أن يفعله اليهودي يوم السبت، وما يجب أن يتحقق منه الرجل أو المرأة قبل الزواج، فإن غالبية الشعب الإسرائيلي قد اضطرهم المجتمع الحديث للعمل يوم السبت والزواج من الزميلة الموظفة ذات الدخل الكبير حتى وإن لم تكن يهودية. و في الولايات المتحدة وأوربا قد تخلى اليهود وحاخاماتهم عن أشياء كثيرة وقبلوا بتعميد النساء وبزواج اليهودي بغير اليهودية وتخلوا تماماً عن الخوض في السياسة. فانتشار التعليم والضغوط الاقتصادية والمجتمعية حملت الأديان على التأقلم أو الانقراض.
ولكن للأسف نفس الضغوط لا تؤثر على الأيدولوجيات السياسية لتتأقلم معها. المنظومات السياسية مثل الفاشية الموسولينية ومثل النازية الهتلرية لم يكن من الممكن أصلاحهما لأنهما بُنيا على استعلاء جنس معيّن من البشر على بقية الأجناس، وسعيا للسيطرة على بقية الأجناس ليس بالعلم أو المقدرة الفكرية، وإنما بوراثة جينات جنس معيّن من البشر كالجنس الآري مثلاً. وما زال شباب النازية الجديدة في أوربا يلبسون نفس القمصان الهتلرية أو الموسولينية ويؤدون نفس التحية العسكرية ويستعلون على المهاجرين ويقتلونهم إذا تمكنوا منهم لأنهم لا يستحقون الحياة في نظرهم. مثل هذه الأديدولوجيات السياسية يكون إصلاحها في الخلاص منها نهائياً لأن تعاليم الأيدولوجية لا تسمح بالتأقلم مع الزمن
وفي اعتقادي نفس الشيء ينطبق على المنظومة الشيوعية التي بُنيت على سيطرة الطبقة العاملة على مفاصل الانتاج، أي على ديكتاتورية البروليتاريا. فلا يمكننا أن نتخيل منظومة شيوعية تتأقلم مع سيطرة الإقطاع الصناعي أو الزراعي على مفاصل الدولة وتسخير الطبقة العاملة كعملية إصلاح للأيدولوجية الشيوعية. فالمنظومة الشيوعية أمامها خيران لا ثالث لهما: إما أن تُطبق عملياً وتبلغ شأوها، وإما أن تنهار نهائياً، فالاشتراكية ليست هي الشيوعية. وأرجو أن يصوبني صديقي فؤاد النمري إن كنتُ مخطئاً في طرحي هذا.
نأتي الآن إلى الإسلام، وهناك الكثيرون الذين يعتقدون أنه بالإمكان إصلاحه. وقد شاركت في ندوة في روما عن إصلاح الإسلام قبل عدة أشهر مع الصديق الدكتور عبدالخالق حسين وبعض الكتاب العرب وبعض المستشرقين. وكان مركز “المصلح” http://www.almuslih.org
قد دعا لهذه الندوة. كل المشاركين الذين قدموا أوراقاً في هذه الندوة قالوا بإمكانية إصلاح الإسلام، وكنتُ أنا الصوت النشاز الوحيد لإيماني المطلق أن الإسلام أيدولوجية سياسية إما أن تُطبق بكاملها أو تنقرض.
استحالة إصلاح الإسلام ترجع إلى عدة عوامل سوف أركز على بعضها وأذكر الأخريات بدون نقاش. العامل الأول هو نظرية المسلمين الدونية لغير المسلم. فهم يتبعون قدوتهم الأولى محمد الذي لا يرى بأساً في قتل عصماء بنت مروان التي كانت ترضع وليدها على صدرها، ويقول: لا ينتطح فيها عنزان لأنها لم تسلم وبالتالي هي أقل شأناً من أن تنتطح فيها عنزان ناهيك عن رجال مسلمين هم فوقها درجات . وهم كذلك يتبعون قدوتهم الحديثة هتلر لأنه اضطهد اليهود وقتلهم، فبعثوا إليه مفتي القدس الشيخ الحسيني للتهنئة. وما دام المسلم أعلى مرتبةً من غير المسلم، فلن يتنازل المسلم طواعية عن هذا الموضع ويقبل بإصلاح الإسلام فيصبح مساوياً للكافر
السبب الثاني هو جهل “علماء” الإسلام بالعلوم الطبيعية والعلوم السياسية والاجتماعية. كل ما يعرفونه هو القرآن والسنة والفقه والسيرة. هؤلاء الجهلاء هم المتحكمون في رقاب الأمة، وهم المسؤولون عن مناهج التعليم وبالتالي يزرعون نفس البذرة في أجيال المستقبل. وهذا الوضع المريح قد جعلهم نجوم فضائيات عديدة يحصدون منها ملايين الريالات ويبنون القصور الشامخة. فهل يمكن أن يقبلوا طواعيةً بإصلاح الإسلام وتنوير العامة؟
كلما شذ عالم دين أو فلسفة عن إجماع جهلاء الإسلام كان الجلد والسجن وحرق كتبه عقاباً جاهزاً متفق عليه. فمثلاً الفيلسوف العربي المسلم أبو يعقوب الكندي (ت 873م) عندما قال إن النبوة تعلو على الفلسفة في بعض الأشياء ولكن محتوى الاثنين لا يختلف كثيراً، تواطأ عليه رجالات الدين فطرده الخليفة المتوكل من بغداد وصادر مكتبته العامرة
(The Closing of the Muslim Mind, p 41).
فهل يجرؤ رجل دين آخر على نقد الإسلام والمطالبة بإصلاحه؟
تأصيل الخرافة الإسلامية حتى في عقول المتعلمين منا. فمثلاً نجد ابن خلدون، الذي كان من اتباع المدرسة الأشعرية، يقول عن دراسة الفيزياء في كتابه – المقدمة –”يجب أن نمتنع عن دراسة هذه الأشياء لأن مثل هذا الامتناع من صميم واجبات المسلم التي تحتم عليه عدم الخوض فيما لا يعنيه. مسائل الفيزياء لا تهمنا في أمور ديننا أو دنيانا، وعليه يجب أن نتركها جانباً.” (نفس المصدر أعلاه، ص 43).
قفل باب الاجتهاد، وقد ظل مقفلاً منذ القرن الثاني عشر، وليس هناك من رجل دين معاصر أو هيئة دينية تستطيع فتحه. يظهر هذا جلياً عندما حاول الشيخ محمد على السنوسي (ت 1859م)، والذي كان معروفاً بالسنوسي الأكبر، فتح باب الاجتهاد فرد عليه مفتي مصر بفتوى تقول “لا ينكر أحد أن فضل الاجتهاد قد اختفى منذ أمد طويل، وليس في زماننا الحاضر أي رجل وصل في العلم إلى درجة فتح باب الاجتهاد.” وعليه سوف يظل باب الاجتهاد مغلقاً إلى الأبد لأن فقهاء السلف لم يتركوا مسألة في الدين إلا وقتلوها بحثاً، وليس هناك ما يمكن إضافته لما قالوه. ورغم أن باب الاجتهاد ظل مفتوحاً في المذهب الشيعي، فإن “علماء” الشيعة لم يأتوا بأي اجتهاد في العصور الحديثة. وهكذا كُتب علينا الجهل وترديد مقولة محمد “كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؟”
جهل “العلماء” وإيمانهم بنفي السببية لأن الله هو السبب في كل شيء. وقد حمل هذا الموقف “علماء” باكستان بالمطالبة بأسلمة كتب الفيزياء والكيمياء، فنجدهم مثلاً يقولون “عندما يؤلف المختصون كتاباً للفصل الثالث الإعدادي، يجب ألا يسأل المعلم: ماذا سوف يحدث إذا لم يتناول الحيوان طعاماً؟ بل يجب أن يكون السؤال: ماذا سوف يحدث إذا لم يرزق الله الحيوان بأي طعام؟” وبالنسبة للفيزياء، يقول الشيوخ “العلماء” “إن جملة (الطاقة تسبب التغيير) جملة ملغومة لأنها توحي للطفل أن الطاقة هي سبب التغيير بينما الله هو السبب.” وهنيئاً لأمتنا بمثل هؤلاء العلماء. هل يمكن أن نُصلح الإسلام وأطفالنا يحشي الجهلاء عقولهم بتعاليم المدرسة الأشعرية؟
وإنكار السببية هذا قد قادنا، وسوف يظل يقودنا إلى متاهات عويصة. فمثلاً العالم كله يعرف أنه إذا تجمع السحاب في مكانٍ ما وابرق ذلك السحاب فهطول المطر يصبح احتمالاً كبيراً. ولكن “علماء” المسلمين يقولون التنبؤ بسقوط الأمطار يقع خارج ما يمكن للمسلم شرعاً معرفته وربما يدخل في علم ما فوق الطبيعة. وكنتيجة حتمية لمثل هذه الفتاوى نجد أن نشرات الأحوال الجوية اختفت من الصحف والراديو والتلفزيون الباكستاني بين العام 1983 و العام 1984 في أيام حكم الجنرال ضياء الدين أو “ضياع الدين” كما سماه بعضهم. وبدل أن نستفيد من العلم الحديث في رصد تحركات السحب ودرجة الحرارة حتى يمكننا التنبؤ بأماكن هطول الأمطار، يطلب منا جهلاء الأمة وساستها أن نصلي صلاة الاستسقاء التي ظل المسلمون يقومون بها منذ ظهور الإسلام وحتى يومنا هذا وما زالت مكة صحراء جرداء لا تعرف المطر.
غياب سلطة دينية مركزية تكون كلمتها ملزمة لجميع المسلمين، كما يحدث في الكنيسة الكاثوليكية. فنحن نجد أن المسلمين قد انقسموا إلى 73 فرقة كما قال رسولهم. فتوى الأزهر ليست ملزمة للشيعة بكل فروعها من فاطميين واثني عشرية وعلويين وغيرهم، وغير ملزمة للإسماعيليين أو الدروز أو حتى الصوفية. و”علماء الأزهر أنفسهم لا يتفقون على رأي واحد في أي مسألة تُعرض عليهم، كما رأينا في فتوى رضاع الكبير. فكيف لنا أن نحمل “علماء” الأزهر على الاتفاق لإصلاح الإسلام وهم يرتعدون خوفاً من تنقيح كتاب البخاري الذي يقول فيه إن الله يمني وينزل المني من عرشه؟ هل يجرؤ مثل هؤلاء “العلماء” على تعليق العمل بآيات القتل والذبح وقطع الأيدي والأرجل؟
خوف أي رجل دين أو مفكر من التصريح بأي رأي قد يكون مخالفاً لإجماع بقية رجال الدين، ولو أنهم نادراً ما يجمعون على شيء. يظهر هذا جلياً في حالة الشيخ الشيعي أحمد القبانجي الذي أجهر برأيه في القرآن فتبرأ منه أخوه الأكبر وبقية عائلته واعتقلته إيران لفترةٍ من الزمن. ناهيك عن الاغتيالات التي طالت المفكرين من أمثال فرج فودة وحسين مروة وغيرهم الكثير. فالخوف من الإرهاب يمنع المتنورين من الكُتاب والفلاسفة من طرح آرائهم في العلن حتى تساعد في تغيير تلك العقول المتحجرة. ففي الهند حاول السيد أحمد خان (1817-1898) فعل ذلك وقال إن القرآن يجب أن يُعاد تفسيره ليتماشى مع العصر الحديث. فقامت عليه قيامة “العلماء” الجهلاء وقاطعوا الجامعة التي كان يُدرّس بها وأخيراً أصبحوا هم الذين يعلمون في الجامعة. وعندما حاول تلميذه سيد أمير علي (1849-1924) نفس الشيء وقال إن أبا الحسن الأشعري، وابن حنبل والغزالي وابن تيمية هم سبب تأخر المسلمين، أصدر متولي الكعبة فتوى بكفره وأباح دمه (نفس المصدر أعلاه، ص 170)
الجهل والأمية المتفشية في ربوع العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى موريتانيا ومن باكستان إلى السودان، تمثل العائق الأكبر لإصلاح الإسلام لأن الإصلاح يحتاج قاعدة عريضة تقف وراء من يدعون للإصلاح. فمثلاً في الولايات الأمريكية الجنوبية في القرن الثامن عشر عندما كان الجهل متفشياً في البيض والسود معاً، ظهرت فجأة حركة الصحوة الدينية المسيحية
Born Again Christians
وقاد هذه الحركة خريج من جامعة ييل
Yale
الشهيرة اسمه جوناثان إدواردس
Jonathan Edwards (1703-1758).
كان خطيباً موفهاً واستطاع أن يقنع الجهلاء أن الله غاضبٌ عليهم لعدم ممارستهم طقوس دينهم. وفي فترة وجيزة انتشرت الصحوة لكل أنحاء الولايات المتحدة ووصل الناس إلى مرحلة الهستيريا الجماعية فكانوا يبكون في الكنائس بصوت عالٍ ثم بعد دقائق يضحكون ويرددون الأناشيد عندما يخبرهم القسيس أن الرب قد سامحهم
(Karen Armstrong, A History of God, p 371).
نفس هذا الجهل والهستيريا الجماعية موجودة عندنا في كل أنحاء العالم الإسلامي خاصةً العراق وإيران عندما يضربون أنفسهم بالسلاسل طواعية وينتحبون من أجل شخص قُتل قبل 1400 عام.. وفي مصر والسودان واليمن وغيرها يتكدس آلاف المسلمين في ضرائح الموتى يتبركون بها ويطلبون منها الشفاء من الأمراض ومن العقم. فما هو الدافع لرجالات الدين في مثل هذه الأجواء إلى محاولة إصلاح الإسلام الذي سخّر لهم جمع أموال الخُمس لمليء كروشهم، أو سخر لهم ملايين المشاهدين لقنواتهم الفضائية التي تجلب لهم الملايين؟ لا يمكن أن يأتي الإصلاح من شيوخ الإسلام. فمن الذي يمكن أن يُصلح لنا الإسلام؟ هل يصلحه المتعلمون من غير الشيوخ من أمثال أستاذ القانون في جامعة الكويت، راشد العنزي، الذي يشرف على لجنة المناهج المدرسية، وقال يجب إلغاء المادة 18 من قوانين حقوق الإنسان من الكتب المدرسية لأنها تقول بحرية الاعتقاد، وهذا يخالف شرعنا الإسلامي؟ إذا كان هذا رأي أستاذ القانون فما هو رأي الشيوخ؟
شيوخ الإسلام يستميتون في الدفاع عن الموروث الإسلامي ولا يتورعون عن مناجزة التنويريين الذين يحاولون بعض الإصلاحات الطفيفة، فمثلاً في السودان قال السيد حسن عبد الله الترابي إن الملائكة لم تقاتل مع المؤمنين، ولو قاتلت فكان قتالاً معنوياً، وإن عائشة كان عمرها ثمان عشرة عاماً لما تزوجها محمد، فانبرى له شيخ اسمه الكاروري يؤم مئات المصلين يوم الجمعة وله أتباع بالآلاف، فقال ” أما نفيه لفعل القتل مادياً فهذا غير مقبول”.. وأكد أن القتل فعلياً قد حدث في معركة بدر الكبرى، وأن هناك من مات هلعاً من المشركين ممن كانوا يراقبون معركة بدر حينما سمعوا أصوات الملائكة في المعركة. وأشار إلى أنه ورد أن من شاركوا في معركة بدر الكبرى قالوا إن (الضرب) وطريقته في جثث المشركين لم يكن بالضرب المعروف والمألوف. (متوكل أبوسن، صحيفة الراكولة السودانية، 5/5/2013). يؤكد الشيخ الكاروري أن الملائكة قتلوا المشركين وينسى أن ربهم عندما قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا له “أتجعل فيها من يسفك الدماء”؟ وهاهم يسفكون الدماء. من مصلحة الشيوخ زيادة جرعة التخدير.
في اعتقادي أن الحقوق لا تُمنح بل تُؤخذ عنوةً، أو كما قال جمال عبد الناصر “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”. حرياتنا أُخذت منا ومن أسلافنا بالقوة وبالسيف والسبي. ونحن ضربونا عندما كنا أطفالاً لنحفظ خزعبلات الإسلام، وعليه يبقى الطريق الوحيد لتحديث الإسلام أو إلغائه هو القوة التي استعملها الحبيب بورقيبة لتحديث بعض أجزاء الإسلام، أو القوة التي استعملها كمال أتاتورك ليُرجع الإسلام إلى المساجد. وقد تقدمت كلا الدولتين في فترات وجيزة إلى أن استجاب الجهل إلى أصوات الشيوخ مرة أخرى ورجع الإسلام تدريجياً إلى تركيا مع حزب العدالة، وإلى تونس مع ثورة الربيع العربي. وإن قلبي ليتفطر على مصر أم الدنيا وعلى تونس الخضراء وعلى ليبيا والسودان. ولكن الجهل يصنع المعجزات
وفي الخلاصة أقول إنه لا يمكن إصلاح الإسلام بتاتاً ومكانه الطبيعي هو المتحف البريطاني مع هياكل الديناصورات.
الرجاء مشاهدة هذا المقطع، وشكري لمن أرسله لي: كامل النجار (مفكر حر)؟