رشيد الخيّون الإتحاد الاماراتية
إن التحزب باسم المقدّس، والانطلاق من المسجد، وإعلان راية الدفاع عن الدين وعن حقوق الله تعالى، واستغلال خطب صلوات الجمع، والعمل الحزبي تحت غطاء الجمعيات الخيرية، وكنز المال الهائل عن طريقها، كل هذا وغيره يوفر جمهوراً واسعاً للأحزاب والمنظمات الدينية، ناهيك عن إعلان ما يشبه صكوك الغفران، فالتدين هو الخطوة الأولى في كسب المريدين، حتى يصل بالمنتمي إلى موقف العداء مع أهله، فالحزب هو الأب والأم، وهو الطريق إلى الجنة.
كم اُستغلت آلام الشباب النفسية والاجتماعية في التطويع إلى الانتماء. سألت أحدهم: لماذا انتميت إلى هذا الحزب بالذات، فأجابني قائلاً: «لأني فهمت من الذي أقنعني بالانتماء أن الدين سينتهي وواجب الحزب الدفاع عنه»! بمعنى أن هذا الشاب دخل العمل السياسي وهو على إيمان بأن مصير الدين مرتهن بهذا الحزب. لكن لا علم لي بموقفه بعد أن تسلم حزبه زمان السلطة، وظهر من بين قادته فاسدون ومستحوذون!
أجاب على تساؤلي هذا أحد الأتقياء في ممارسة تكاد تكون فريدة من نوعها، وهو شاب تفانى في العمل الحزبي الديني متعرضاً للمخاطر الجسام، حتى تسلم حزبه زمام السلطة، وبما أنه نقي الطوية، وبالفعل دخل الحزب مثالياً مثلما هو الشعار والهتاف والخطاب، فما هي إلا أيام بعد سقوط النظام العِراقي (9 أبريل 2003) حتى أخذ سجادته واعتزل قائلاً لمن ألح عليه بتسلم المسؤوليات وحصد الأتعاب الجهادية: «ما أراه ليس ديناً إنما تكالب على المنافع»! فعاد إلى وظيفته السابقة التي فيها هو مرؤوس لا رئيس، حاله حال الملايين يسدون العوز بالحصة التموينية التي ظلت تنهب حتى كثر الجدل على إلغائها. ولولا عدم استئذانه بالنقل عنه لذكرت اسمه ومكانه وعنوان وظيفته الأقل من سائق أو حارس لدى موظف بسيط في مجلس الوزراء. هذا هو الفرق بين الدين والحزب، الدين والسياسة، فالرجل صاحب دين وغيره أصحاب حزب، يشترون العقارات ببخس الأثمان مستغلين الظروف، وينزلون في أفخم البيوتات ويمارسون ممارسة الذين أكثروا الكلام فيهم، وحشدوا الناس باسم الدين ضدهم، لا تفوتهم خطب الجمع، ولا تصدر المواكب، ولا امتلاك الجوامع، مع أنها بيوت الله لا بيوتهم.
كانت التجربة المصرية والتونسية، بعد الإيرانية والعراقية والأفغانية والسودانية، نماذج على تجارب الإسلام السياسي بين المعارضة والسلطة، فالجميع ركبه الغرور بالجمهور، لهم الدنيا والدين معاً، بتقديم أنفسهم أنهم صوت الله، ومن له الاعتراض على صوت الله! هم يعتقدون ذلك، آملين أن الناس يخدرهم هذا الخطاب، ولا يصحون على الخراب الذي حولهم، وأن عقولهم لا تميز مادام الدين يرفع شعاراً ودثاراً، وفي عرفهم أنهم يمتلكون ناصية الحقيقة، لمَ لا، فالمساجد والحسينيات بيوتهم، وكيف لا يندفع الناخبون لانتخابهم؟!
نعم، هم صادقون، فالديكتاتوريات السابقات ماضيات بالغرور، لكن ليس بالجمهور إنما بقوة الجيش والأمن وحبس الأنفاس، يضاف إلى ذلك رضاء الدول الغربية، وهي -نريد أو لا نريد- صاحبة السهم الأكبر في تغيير الأنظمة، وتلك حقيقة لا مفر منها ولا تعالٍ عليها. أكاد أجزم أنه ليس هناك انقلاب حصل بالمنطقة من دون عون أو غض نظر في الأقل، مع اختلاف الدرجة بين بلد وآخر.
أما الأحزاب الدينية، أو الإسلام السياسي، فقد أخذها الغرور بالجمهور، مع أنها صادرت الدين وأمكنة العبادة والمواسم الدينية والجمعيات الخيرية، وما يعبرون عنه بالإصلاح والصلاح، إلا أن فوزها جاء باهتاً قياساً بتسخيرها للدين والدنيا لجذب الأصوات، في بيئة حيث يجول الجهل والتخلف. فهتاف «تطبيق شرائع الله»، «الدين يا محمد» في حال مصر، و«يا حسين يا مظلوم» كحال العراق… شعارات جاذبة كاسبة للجمهور، ومع ذلك ظهرت النتائج أقل من المتوقع كثيراً، بل وكابحةً لنشوة الغرور بالجمهور.
لنتذكر أن صدام حسين (أعدم 2006) نفسه حاول منافسة الموجة الدينية بحملة إيمانية؛ ونقش «الله أكبر» على العَلم العراقي، وقيل نقشها بنصيحة السوداني سوار الذهب خلال مؤتمر إسلامي عُقد ببغداد (1992) كأحد مظاهر التنافس على توظيف الدين (الدليمي، آخر المطاف). أما اللاحقون فتمسكوا بالحملة والنقش تعبيراً عن وجودهم.
لكن، الناس تتعظ بالتجربة، وتصل إلى قناعة بأن الدين ليس حزباً سياسياً ولا مجرد دعاية، وأن مقولة «لولا الخبز ما عُبد الله» (الميداني، مجمع الأمثال)، حقيقة عبر عنها الدين نفسه، عندما نقل الفقهاء: «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» (الغزالي، نصيحة الملوك، والمجلسي، بحار الأنوار). وقصته: «إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه في مملكة جبار من الجبارين، أن أتى هذا الجبار فقال له: إني… استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً» (المصدر نفسه).
لقد تحول ميدان التحرير بالقاهرة إلى بحر من البشر احتجاجاً على محاولة «الإخوان المسلمين» في سلب الديمقراطية، وجمع التشريع والتنفيذ بيد صاحبهم، وهو ظلم صريح، فهل كان هذا الحشد خالياً من متدينين، من غير «الإخوان»؟! لقد لاحت فيه العمائم والطرابيش والحاسرات والمحجبات، ومع ذلك قال «الإخوان»: إنه انقلاب على الديمقراطية!
ألم يأت «الإخوان» إلى الحكم بالحشود، فماعدا مما بدا حتى صار الجمهور، المتنوع مِن شخصيات وأحزاب، منقلباً على الديمقراطية، بينما يصبح «الإخوان» الذين ظلوا لعقود يعتبرون الديمقراطية كافرةً هم الأحرص عليها!
الحال نفسه بتونس، الاحتجاج عارم ضد محاولات حزب «النهضة» الإخواني في أسلمة المجتمع، ومعلوم أن المقصود بالأسلمة هو إبقاء الأحزاب الدينية حاكمةً بأمرها. شأنها شأن البقاء على عبارة «الله أكبر» في العلَم كمظهر لا أكثر على وجودها.
لكن فات هذه الأحزاب أن الغرور بالجمهور إلى حين، فالسلطة غير المعارضة، والدوائر تدور، وأن صفة الدولة، خصوصاً ببلدان متعددة الأديان والمذاهب، لا دين لها، لأن الإنسان هو الذي يصلي ويصوم، بينما الدولة السقف الذي يجمع الوطن بما فيه من أنواع، وللشيخ محمد رضا الشبيبي (ت 1965): «يا ليت مَن جعل التباين زينةً/ للورد قدرها تزين الناسا» (شناوة، الشبيبي في شبابه السياسي). فهل الإسلام السياسي قادر على جعل التباين زينة، أم تتحول البلدان في ظله إلى طاردة لأهلها! لغروره بالجمهور، ومن عادة الجمهور أن لا يبقى على حال!