شكلت الانتفاضات المتلاحقة في دول المنطقة أو ما سمي بموجة “الربيع العربي”، انطلاقًا من تونس، البوابة الأوسع لخروج الإسلام السياسي من “دهاليز العمل السري”، إلى واجهة العمل السياسي، من خلال العنوان الأبرز له في العالم العربي، وهو حركة الإخوان المسلمين، وهنا لن ندخل في مسارات التجربة ومآلاتها، والتي لم تبلغ منتهاها بعد، سواء في مصر أم تونس أم غيرهما، بل سنحاول رصد تطورات تجربة إخوان سورية خلال سنوات الصراع المتصاعد في سورية.
منذ بداية أحداث الثورة السورية في ربيع 2011، بدأ الحديث عن دور حركة الإخوان في مسار التحركات الشعبية، على الأقل من جهة النظام، محاولًا وصم المشهد بطابع إسلامي، سعيًا منه لإخافة الحواضن الشعبية، لا سيما في المدينتين الكبريين: حلب ودمشق، اعتمادًا على مخزون الذاكرة الجمعية للسوريين، في ما يتعلق بأحداث الثمانينيات من القرن الماضي؛ ما أدى بطريقة أو بأخرى، مع غيرها من الأحداث، إلى إعادة إنتاج معادلة الصراع القديمة (الإسلاميون والنظم القومية)، لا سيّما في ظل ضعف التيارات اليسارية والليبرالية، وعجزها عن ملء الفراغ.
عسكرة الثورة ودور الإخوان
منذ منتصف العام 2012 تصاعد الحديث عن وقائع تشير بوضوح إلى دور الإخوان المسلمين في نقل الانتفاضة السورية من حيز التحركات الجماهيرية، إلى ميدان العمل العسكري ضد النظام، وهو ما حاول ناشطوا الانتفاضة المدنيون تفاديه؛ خوفًا من الخبرة الكبيرة لنظام الأسد في هذا المضمار.
استمرت قيادة الإخوان المسلمين في نفي هذا الأمر، على الرغم من كثرة المعلومات المتواردة عن تشكيلات عسكرية مرتبطة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بهم، خاصة في الشمال السوري، وأكّدت مصادر في المعارضة السورية أن الإخوان المسلمين أسسوا على الأقل تشكيلين عسكريين، وذلك في حلول حزيران/ يونيو 2012:الأول، “هيئة حماية المدنيين” برئاسة نذير الحكيم، وإدارة هيثم رحمة، ثقله الأساسي في المنطقة الوسطى (حمص، حماه)، في حين تركز وجود التشكيل الآخر في الشمال السوري (حلب، إدلب)، وكان اسمه “هيئة دروع الثورة”، الذي ضم -آنذاك- مجموعة من الألوية والكتائب، أبرزها لواء الحرية، لواء الصديق، لواء أحرار الشام، لواء الشهباء وغيرها. تطورت هذه المجموعات والتشكيلات لاحقًا؛ لتصبح أكثر وضوحًا تحت اسم “الاتحاد الإسلامي (همزة) لأجناد الشام” في دمشق ومحيطها، و”فيلق الشام” في الشمال والوسط.
في إحدى تصريحاته التي نٌشرت، في آب/ أغسطس 2014، على موقع “المونيتور”، قال صدر الدين البيانوني، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سورية: “من المهمّ التأكيد في البداية على أن الإخوان المسلمين لا يمتلكون أي تشكيلات عسكريّة مسلّحة في إطار الثورة السوريّة، لكننا في الوقت ذاته، نشجّع أي جهة وطنيّة ثوريّة تقوم بالدفاع عن الشعب السوري، وحماية المدنيّين في وجه هذا النظام، ونحن لا نميّز -في دعمنا- ما بين تشكيلة وأخرى، لكننا نركّز على التنظيمات المسلّحة، ذات الأفكار الوسطيّة والتوجّهات المعتدلة”.
إلا أن تصريحًا مناقضًا لـ ملهم الدروبي، القيادي في حركة الإخوان، نُشِر قبل نحو عام في صحيفة الشرق الأوسط، قال فيه: “إن الحركة تعمل منذ 3 أشهر على تشكيل مجموعات عسكرية في الداخل السوري، مهمتها الدفاع عن النفس، وتأمين الحماية للمظلومين”، مضيفًا “هذه الكتائب منتشرة في معظم المناطق والمحافظات السورية، وخاصة الملتهبة منها، هذه الكتائب تابعة للجيش الحر، وتتعاون وتنسق معه”.
هل الإخوان سبب رئيس في تشظي الصراع في سورية
بحسب خصوم الإخوان من ليبراليين ويساريين، فإن سعي الإخوان لتشكيل تجمعات عسكرية مرتبطة بها كان دليلاً واضحًا على مآرب الأخيرة؛ للاستحواذ على الميدان كمقدمة للانقضاض على السلطة في حال سقوط النظام، وهو من الأسباب الرئيسة داخليًا على الأقل، في مجريات وتطورات الصراع إلى ما وصل إليه الآن، ومازال السوريون يدفعون ثمنه، إلى ذلك أكّدت قيادات الجيش الحر -في ذلك الحين- في تصريحات متعاقبة، أن تشكيلات الإخوان لم ترم بثقلها في المعارك مع النظام، وإنما احتفظت بأسلحتها ومقاتليها لمعارك مؤجلة، مع بقية المجموعات العسكرية غير المنتمية، أو المدعومة من الحركة في حال سقوط النظام، وهذا ما نفته الحركة جملةً وتفصيلًا على لسان أحد قياداتها، حين قال، في تصريحات نُشرت في صحيفة العرب اللندنية في أيلول/ سبتمبر 2013: “هذه إشاعات مغرضة، الهدف منها تشويه صورة الجماعة ودورها في الثورة، هل من المنطق والعقل أن يقوم إنسان بتخزين السلاح لمعركة مقبلة، وهو لم ينته من معركته الحالية؟ هذه افتراءات، ونحن سنتعاون مع الجميع؛ من أجل حكومة وحدة وطنية في حال وصولنا إلى السلطة، لا يوجد شيء اسمه حكومة إخوان، ولكن من حقنا أن نطرح مشروعنا الفكري والسياسي كباقي طيف المعارضة، ولا نريد الديمقراطية لمرة واحدة للوصول إلى السلطة، ونقبل بآلية التصويت ونتائج صناديق الاقتراع دائماً”.
محاولات تطوير الخطاب النظري للإخوان
رغم أن سلوك جماعة الإخوان المسلمين على أرض الميدان، يشير -في حدود ما- إلى نيات واضحة للجماعة للتحكم في أغلب مفاصل القضية السورية، ما يمنحها زخمًا سياسيًا أكبر على مستوى الإقليم، إلا أن كثيرين -أيضًا- من خصوم الإخوان سياسيًا، عدّوا وثيقة “العهد والميثاق”، التي أطلقتها جماعة الإخوان المسلمون في سورية، في آذار/ مارس عام 2012، تحولًا جوهريًا في تطور الخطاب النظري للجماعة، من جهة، وفارقًا كبيرًا على مستوى المشهد السياسي السوري بشكل عام، من جهة أخرى.
في المقابل، العديد من وجهات النظر الأخرى تؤكد أن أي تغير جوهري، في رؤية الإخوان المسلمين للعمل السياسي، ما زال مبكرًا الحديث عنه، لا سيما أن كثيرًا من المؤشرات تدل -بوضوح- على نية الجماعة في السيطرة، والتحكم بمختلف أطر وهياكل الحياة السياسية والخدمية الناشئة بعد الثورة، ابتدأت مع تشكيل المجلس الوطني، ومحاولاتهم الحثيثة في السيطرة عليه، وأدى -بطريقة أو بأخرى- إلى إنهائه والذهاب باتجاه تشكيل الائتلاف الوطني، إضافة إلى تحالفات وتكتيكات الجماعة داخل سورية، بخصوص المجالس المحلية والمنظمات المدنية العاملة على الأرض، والتي أفضت -في كثير من الأحيان- إلى صدامات كان بالإمكان تفاديها، وتجنيب السوريين كثيرًا من المآسي التي واجهوها.
باسل حفار عضو المكتب السياسي، وأمين سر القيادة في الجماعة سابقًا، رأى أن أي متابع أو مهتم بتجربة الإخوان المسلمين في سورية، سواءً في الثمانينيات، ثم التسعينيات، وأخيرًا بعد الثورة السورية، “بإمكانه أن يلحظ -ببساطة- أن هناك تطورًا كبيرًا على مستوى الخطاب، على الأقل هناك اختلاف، بما يلائم المرحلة ومتطلبات العملية السياسية، أما ما يتعلق بتقديم أنموذج لتجربة مغايرة؛ فهذه لا أعتقد أن خطابًا أو رؤية نظرية ممكن أن تجسدها”، وأضاف، في تصريح لـ (جيرون): “هذه أبعد من مجرد خطاب، والدليل مثلًا أن خطاب حماس متقدم على مثيله لكثير من النظم القائمة في المنطقة، ومع ذلك؛ فإن التجربة حملت بعض الإيجابيات، وفي الوقت نفسه، عليها من السلبيات كثير”، موضحًا “بمعنى آخر، الخطاب السياسي، هو أحد المرتكزات الدالة على ملامح التجربة، لكنه يبقى غير كاف دون ممارسة عملية، وبالتالي؛ لا بد من الممارسة حتى يتضح، أي نموذج يمكن أن يحكم معالم تجربة إخوانية في سورية على المستوى العملي، وإن كانت، وحتى اللحظة، جماعة الإخوان في سورية تحتفظ بأنموذج الثمانينيات، ولديها أنموذج آخر، مازال قيد النقاش والبحث داخل مستويات الجماعة”.
إخوان سورية والشراكة السياسية
تُشكّك عدة وجهات نظر بمدى جدية طرح الإخوان، أو قناعتهم بمبدأ الشراكة السياسية مع المكونات الأخرى، ودائمًا ما تذهب تحليلاتهم إلى أن الجماعة “لا يمكنها الحياة”، ضمن رؤية قواسم مشتركة، مع قوى سياسية واجتماعية مختلفة؛ لأنها -أساسًا- لا تتقن سوى الاستحواذ الكامل على السلطة، ومن ثم، فهي توزع الأدوار على بقية القوى، وفق قناعاتها ورؤاها، مستندين في ذلك إلى ممارسات الإخوان سابقًا في المجلس الوطني، وحاليًا ضمن الائتلاف.
عارض الحفار ذلك الطرح، مؤكدًا أن “الإخوان المسلمون السوريون -بالذات- هم الأكثر قناعة بمبدأ الشراكة السياسية، وهذا ليس على مستوى التنظير أو الفكرة فحسب، وإنما تم تجسيده بطريقة عملية؛ ففي الستينيات والسبعينيات، على سبيل المثال، قائمة الشيخ عثمان أبو غدة التي وصلت به إلى البرلمان، كانت قائمة مشتركة مع المسيحيين، وقائمة الشيخ مصطفى السباعي كانت تضم النواب العلويين، التجربة السورية -أساساً- لم تواجه أي مشكلات تخص قضية الشراكة السياسية مع بقية المكونات، الإقصاء بدأ مع استحواذ حزب البعث على السلطة، وبالتالي؛ حالة الغياب -ربما- ولدت شكوكًا، لدى بعضهم، بأن الإخوان لن يقبلوا بالتشاركية السياسية مع الآخرين، وأعتقد أن ذلك ليس صحيحًا”.
نبيل الفواز، من حزب الشعب الديمقراطي، وافق الحفار في أنه لا داعي للمخاوف من الإقصاء، واستفراد قوى معينة بسورية مستقبلًا، لكنه عارضه في التحليل، حيث رأى أنه “ومع وصول سورية إلى عتبة الديمقراطية، فإن الإخوان، ومعظم الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة (قومية أو يسارية)، لن تحصل -مجتمعة- عبر صناديق الاقتراع على أكثر من 10%، إذ مع التغيرات العميقة على المجتمع السوري، خلال سنوات الثورة، ستجعل من فرص كل الأحزاب والحركات السياسية ضئيلة، وسيتجه المجتمع نحو إعادة إنتاج البرجوازية الوطنية، (برجوازية الأحياء/ المدن وحتى الطوائف والأعراق)، كما قلنا سابقًا؛ لأن هذه الأحزاب لم تستطع أن تكون ديمقراطية في داخلها؛ فكيف يمكن أن تُنتج رؤية ديمقراطية لدولة ومجتمع”.
الإخوان والدولة المدنية
كثير ممن يُوصفون بمعارضي الإسلام السياسي عمومًا، والإخوان المسلمين بشكل خاص، يعدّون “وثيقة العهد” التي أصدرتها جماعة الإخوان السورية، لا تتعدى كونها تكتيكًا سياسيًا، نابعًا من براغماتية يجيدها الإسلاميون، ومحاولة للتكيف مع معطيات الواقع الراهن، معززين وجهة نظرهم باستطلاع للرأي منشور على موقع الجماعة الإلكتروني، في وقت لاحق من إصدار الوثيقة، يقول بأن 88% من السوريين غير مقتنعين بالدولة العَلمانية، ما يعزز المخاوف بشأن عدم قناعة الإخوان بمبدأ الدولة المدنية، المحكومة بانتخابات تقود إلى سلطة تعددية، قائمة على فصل السلطات.
في هذا السياق، أوضح الحفار “أن فكرة الدولة العَلمانية لا تلقَ قبولًا واسعًا داخل سورية، أولًا؛ للطبيعة المحافظة، أو المتدينة، للشعب السوري، وثانيًا، بسبب موقف بعض الدول العَلمانية المعادي من الثورة السورية، أو على الأقل الصامت تجاه ما يجري بحق السوريين من جرائم، ويضاف إلى ذلك النقاشات بين أيديولوجيات دينية متنوعة، داخل المجتمع السوري حاليًا، بالتالي؛ رفض العَلمانية كمفهوم أو فلسفة لا يعني رفض مبدأ الديمقراطية والتعددية والانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع″، مضيفًا: “هذه المبادئ ليست مرتبطة بالنظم العَلمانية، وطُبقت -من قبل- نظم إسلامية، قبل أن تظهر فكرة العَلمانية، وأعتقد أن المطلوب هو توضيح، أو شرح من قبل الإخوان لطبيعة الدولة، وشكل الحكم، ومعنى الديمقراطية، والتعددية داخل الدولة، وما النقاط التي تُعدّ قواسم مشتركة، وأي منها يمكن أن تشكل سببًا للتصادم والاختلاف، ولكن يمكن الجزم بأن تصور الإخوان للدولة، القائم على فكرة التعددية، والتداول الديمقراطي للسلطة”.
رأى نبيل الفواز “أنه لفهم تجربة الإخوان المسلمين، وتطورها إلى ما وصلت إليه الآن، لا بد من قراءة تاريخية للإخوان، ومجمل الأحزاب السياسية في سورية، على اختلاف توجهاتها، فكل هذه الأحزاب، بما فيها الإخوان، أُسست نظرياتها على إرث سياسي، يمجد الشخص، ولا يرضى بديلًا عن المركزية في العمل السياسي داخل أطر الحزب أو الحركة، وهو أساس صناعة الديكتاتوريات”، مضيفًا: “حتى اللحظة لم نلحظ تطورًا حقيقيًّا باتجاه تفكير ديمقراطي ليبرالي، ولذلك؛ يمكن القول بأن الجميع، بمن فيهم الإخوان، مازالوا -حتى اللحظة- عاجزين عن (هضم) واستيعاب مفاهيم الدولة المدنية التعدية، إلا وفق مقاييس الحزب، ومشروعه السياسي”.
الاتجاه نحو فصل العمل السياسي عن الدعوي
شهدت التجربة الإخوانية، خلال العقدين الأخيرين، نقاشات كثيرة، ركزت على ضرورة فصل العمل السياسي عن الجانب الدعوي؛ لأنه يمنح الجماعة مرونة أكبر في التكيف مع الأوضاع الموضوعية، المحيطة بكل ساحة توجد فيها الأخيرة، دون أن يؤثر ذلك على المضمون الفكري والمنهج العقدي الحاكم للجماعة، بوصفها حركة عالمية، وهو -ربما- ما يمكن ملاحظته في التجربة التركية، وأخيرًا في تونس، وهو ما أكده الحفار، فقال: “أعتقد أن جماعة الإخوان المسلمين، بشكل عام، أجرت العديد من النقاشات والمراجعات النقدية، وجزء من هذه المراجعات والنقاشات، كان يتمحور حول فصل العمل السياسي عن الجانب الدعوي، ومن الطبيعي -في مثل هذه الحالات- أن يظهر عديد من التيارات، داخل إخوان سورية، كان هناك تيار يطالب بالفصل الكامل بين العمل السياسي، والعمل الدعوي، وآخر كان يرى بوجوب الفصل بشكل جزئي، في حين هناك تيار مازال يعتقد بأن الجانبين لا يمكن الفصل بينهما، وفي هذا الإطار يُدرَس -حاليًا- العديد من التجارب، منها: تجربة الإخوان في المغرب، وفي السودان، وتونس، وبطبيعة الحال الأنموذج التركي، مضيفًا، أعتقد -شخصيًّا- أن تجربة الإخوان السوريين، ذاهبة باتجاه الفصل بين العمل السياسي والجانب الدعوي، ولكن إلى أي مدى، بمعنى هل سيكون فصلًا كاملاً، أم جزئيًا. أعتقد أنه من المبكر الحكم على ذلك الآن”.