ما زال كلام المؤرخ المصري(المقريزي) يخطر على بالي كلما شاهدتُ جيوب الفقر في بلادي تمتد عرضا وطولا , ما زالت ذاكرتي تحتفظ بما قاله المقريزي حتى اليوم , ويعتبر فتحا كبيرا في مجال علم الاجتماع السياسي,ومن كلامه المهم قوله -عن المجاعة التي عاصرها-: أن سبب المجاعة في القرن الرابع عشر في مصر لا تعود إلى(جدب) نهر النيل, أي أنه ليس دائما أن يكون الفقر والجوع بسبب الظروف المناخية بل يرجع اغلبها إلى(النظم السياسية المنهارة) , وهذا مؤشر على أن المقريزي تلميذ ابن خلدون تحدث عن الفساد السياسي منذ أكثر من سبعة قرون,أي منذ أكثر من 700 سنة خلت.
واليوم نحن لا نستطيع القول بأن سبب الفقر يعود إلى جدب المنطقة التي نعيش فيها, فهنالك أسباب أخر أكثر أهمية من العوامل المناخية, وهي: فساد الحكام,والفساد السياسي,والتسلط الأمني,والدكتاتورية,ومراقبة الناس وملاحقتهم,وعدم اعطاء أي فرصة للناس بتغيير أوضاعها الاقتصادية, فالدول العربية جميعها تلاحق المواطن وتحاصره في مصادر رزقه وخصوصا محاصرة المثقفين وتهميشهم,ومراقبة أعمالهم وأشغالهم وما يحتاجونه من وسائل لتحسين طبيعة حياتهم,وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أننا نعاصر أنظمة حكم عربية منهارة, فحين يشعر الحاكم أنه في خطر فورا يلجأ إلى محاربة الناس ومقاومة التغيير,وتجحيش الشعوب, وإبعاد كل وطني حر عن الساحة السياسية والاجتماعية واستقطاب الجهال والغوغاء من الناس ورفعهم إلى أعلى المراتب الاجتماعية والسياسية, أما أولئك الأذكياء فتتم عملية تهميشهم وزجهم في السجون وفي المصحات العقلية ومحاصرتهم حتى لا يفكروا لا في الأدب ولا في السياسة ولا في الثقافة, والحاكم حين يشعر بأن كرسيه يهتز وبأن سقف قصره سينهار عليه, فورا يلجأ إلى تشكيل عصابات من اللصوص والحرامية والسرسرية والشلاتية, وتمكينهم من التحكم في رقاب الناس, ألا تلاحظون في كل بلد عربي أن الأذكياء والمثقفين يشحدون لقمة الخبز؟ وأيضا الجهال والغوغاء من الناس يمتلكون أعظم المراتب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وفي كل بلد عربي يلتم اللصوص والنصابون حول ضباط كبار في أجهزة الدولة , يبيعون ويشترون بالشرفاء؟ هؤلاء المثقفون هم الضحية للمجتمع ولأجهزة البيروقراط الفاسد, وكما قال أحد الفلاسفة: الذي يوهم الجماهير يصبح سيدا لهم,والذي يريد أن يزيل الغشاوة والوهم عن أعين الجماهير يصبح ضحية لهم.
وهكذا هم المثقفون الحقيقيون في الوطن العربي,كلهم ضحايا للنظم الاجتماعية المنهارة وضحية للنظم السياسية المنهارة, وإن الفقر الذي نعيش ليس له علاقة بالاقتصاد وإنما يعود إلى طبيعة الأنظمة السياسية الفاسدة المنهارة, حيث تلجأ أجهزة الحكومة إلى تثبيط عزيمة الناس, وإحباط كل مساعيهم التي تهدف إلى التطوير والتغيير, والأنظمة العربية الحاكمة تكره مصطلح(التنمية الشاملة) لأن في التنمية الشاملة هلاك للمعسكرات القديمة التي تحكم بواسطة العشائرية والقبلية, فالعشائرية والقبلية أنظمة حكم قديمة جدا, والحكام مرتاحون عليها جدا وأي تطور اجتماعي فورا سيؤدي إلى زوال تلك النظم الاجتماعية وبالتالي تحل محلها أنظمة حكم حديثة تحت مسمى جديد وهو(مؤسسات المجتمع المدني) , وبالتالي المتحكمون والمتنفذون ينشطون جدا كلما لاحظوا أن هنالك سيحدث تطوير على أنظمة الحكم, لذلك تلجأ الدول العربية المنهارة إلى المحافظة على الجهل والتخلف والاستبداد وإعادة تحديث الاستبداد, وتقهر كل مثقف يهدف إلى التطوير والتغيير, وتلجأ إلى السعي وراء إفقار الناس لأن الشبع يؤدي إلى التفكير والتفلسف, وحتى يبقى المجتمع غارقا في الجهل تلجأ الدولة إلى التعمد لإفقار الناس وجعلهم يركضون وراء لقمة الخبز ليلا ونهارا, وهذا ليس من عند الله كما يزعمون, إذ أنهم يزعمون أن الرزق من الله والله لا يريد لفلان أن يشبع لقمة الخبز, أي أنها أيضا تحرض على تمرير مصطلحات (البلاد قليلة الموارد) في حين أن الدولة وأعوانها من العملاء والجواسيس الفاسدين هم من ينهب خيرات البلد ويحتكرون التجارة والتحكم بالزراعة, فأين تذهب موارد الدولة وما يأت الدول الفقيرة من مساعدات خارجية؟ إن الدولة من ينهب ويأكل كل شيء لتقول في النهاية بأن إرادة الله هي التي عملت على جدب المنطقة بأكملها, وهذا ليس لله فيه أي دخل لا من قريب ولا من بعيد والفقر سببه أنظمة حكم فاسدة ومنهارة , وتلجأ الدولة إلى المحافظة على أنظمة الحكم القديمة العشائرية والدينية وعدم تطوير أي منها, وتكفير المطورين الدينيين الذين يريدون تطوير الدين, واتهام المطورين السياسيين ووصفهم بالعملاء وبالخونة, والسبب في ذلك للبقاء على النظم القديمة لأن عقلية المتحكمين والمتنفذين هم كلهم ينتمون إلى نظام ثقافي وديني وسياسي قديم جدا وأي تغيير سيؤدي حتما إلى استبدال الأشخاص والرموز بأشخاص ورموز قديمة وهذا يتعارض مع النظم الاستبدادية المنهارة.