الأصولية الدينية والديمقراطية لا تلتقيان

شاكر النابلسيtkharif

-1-

من بديهيات الليبرالية، قيام التعدّدية في المجتمع ووجود معارضة دائمة. ودون معارضة تنتفي الديمقراطية، ويتحوّل نظام الحكم إلى نظام ديكتاتوريّ. فلا بُدَّ من وجود معارضة تكون قوّامة على الحكومة، أي تراقب أفعالها وقراراتها وخطواتها، وتنتقد هذه الأفعال وهذه القرارات نقداً علمياً موضوعياً، لصالح المجتمع كله. أمّا الأصولية، فهي تعتبر الاعتراض معارضة، والمعارضة خيانة.

وقد صدرت عدّة فتاوى دينية متضاربة ومناقضة لبعضها بعضاً، بل مناقضة لما يجري على أرض الواقع العربيّ. ولكن لم تعد مثل هذه الفتاوى تلقى صدى كبيراً عند الشارع العربيّ وعند صُنّاع القرار، في معظم الأحيان. فقد سبق للشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو “هيئة كبار العلماء” في السعودية، أن أصدر فتوى دينية في يوليو 2002، تُحرّم الانتخابات والمظاهرات كآلية من آليات الديمقراطية. قال فيها:

“أوّلاً: إذا احتاج المسلمون إلى انتخاب الإمام الأعظم، فإنّ ذلك مشروع بشرط أن يقوم بذلك أهل الحلّ والعقد في الأمّة والبقية يكونون تبعاً لهم، كما حصل من الصحابة رضي الله عنهم، حينما انتخب أهل الحلّ والعقد منهم، أبا بكر الصديق رضي الله عنه وبايعوه، فلزمت بيعته جميع الأمة، وكما وكَّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختيار الإمام من بعده إلى الستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة، فاختاروا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبايعوه فلزمت بيعته جميع الأمة.

ثانياً: الولايات التي هي دون الولاية العامة . فإنّ التعيين فيها من صلاحيات وليّ الأمر، بأن يختار لها الأكفياء الأمناء، ويعينهم فيها، قال الله تعالى: ﴿أن اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتم بَيْنَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ ، وهذا خطاب لولاة الأمور، والأمانات هي الولايات والمناصب في الدولة جعلها الله أمانة في حقّ وليّ الأمر وأداؤها اختيار الكفء الأمين لها.

وكما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم وخلفاؤه وولاة أمور المسلمين من بعدهم يختارون للمناصب من يصلح لها ويقوم بها على الوجه المشروع. وأما الانتخابات المعروفة اليوم عند الدّول، فليست من نظام الإسلام وتدخلها الفوضى والرغبات الشخصية وتدخلها المحاباة والأطماع، ويحصل فيها فتن وسفك دماء، ولا يتمّ بها المقصود، بل تصبح مجالاً للمزايدات والبيع والشراء والدعايات الكاذبة.

ثالثاً: وأما المظاهرات، فإنّ الإسلام لا يُقرّها لما فيها من الفوضى، واختلال الأمن، وإتلاف الأنفس، والأموال، والاستخفاف بالولاية الإسلامية، وديننا دين النظام والانضباط ودرء المفاسد. وإذا استخدمت المساجد منطلقا للمظاهرات والاعتصامات فهذا زيادة شرّ وامتهان للمساجد وإسقاط لحرمتها وترويع لمرتاديها من المصلّين والذاكرين الله فيها، فهي إنما بُنيت لذكر الله والصلاة، والعبادة، والطمأنينة”.

وتبدو هذه الفتوى مجانية، لا أثر لها، ولا يستمع إليها أحد. والدليل أنّ انتخابات الغرف التجارية السعودية بدأت منذ عام 1946 وتجري إلى الآن. كما جرت انتخابات بلدية لأول مرة عام 2004، وإن كانت مخيّبة للآمال، حيث سيطر عليها الدينيون المتشدّدون والمتطرّفون.

-2-

من ناحية أخرى، أفتت الأصولية المصرية بعدم جواز قيام الإضرابات العامّة احتجاجاً على سياسة الدولة. ففي مصر قامت اضرابات واسعة في شهر ابريل 2008 احتجاجاً على رفع الأسعار وعدم توفّر بعض الأغذية، فعارض شيخ الأزهر والشيخ يوسف البدري هذه الإضرابات، وأفتيا بعدم جوازها شرعاً. وقال الشيخ سيد طنطاوي شيخ الأزهر “إنّ الإضراب لا يجوز من الناحية الشرعية، لأنه يعمل على تعطيل المصالح العامة للمسلمين، وهو ما ترفضه الشريعة الإسلامية والأديان السماوية”.

وأضاف: “أنا شخصياً ذهبت إلى عملي وذهب كل العاملين في مشيخة الأزهر إلى العمل، وأنني أدعو الناس إلى الذهاب إلى عملهم وعدم الاستجابة لمثل هذه الأشياء التي تضرّ أكثر مما تنفع”.

وأوضح طنطاوي: “أنّ الإضراب يجب أن يكون بإذن من السّلطات المختصّة، لأنّها الأحرص على المصالح العامة حتى لا يقع الضرر على المؤسسات والهيئات التي تعمل على تسيير مصالح الناس”.

واتّفق الداعية الشيخ يوسف البدري مع شيخ الأزهر وقال: “عدم وجود شيء اسمه إضراب عن العمل أو مظاهرات في الإسلام لأنّ كلّ هذه الأعمال ليس لها سند في الأثر، وعلى الناس أن تذهب إلى العمل ولا تتوقف عن تسيير مصالحها”.

وأضاف “لم يحدث على مدار التاريخ الإسلاميّ أن حدثت إضرابات أو مظاهرات لا في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الصحابة، ولم نسمع عن أناس أضربوا عن العمل بسبب ارتفاع الأسعار، وإنما كانوا يصلّون لله ويرفعون أيديهم بالدعاء إلى الله لرفع البلاء بدلاً من تعطيل العمل”.

وأشار البدري إلى أنّ ظاهرة الإضرابات مستحدثة ومستوردة من الخارج، ولا يجب أن نأخذ المساوئ المناوئة للشريعة ونترك المزايا.

وقد اختلف عميد كلية أصول الدين السابق الدكتور منيع عبد الحليم محمود مع الآراء السابقة، وقال “إنّ الإضراب جائز شرعاً، لأنه يعني حالة احتجاج على وضع يجد فيه الإنسان نفسه مظلوماً، فمن حقّه التعبير في هذه الحالة عن هذا الرأي بكل وسيلة ممكنة، ومنها الإضراب”.

وعن الدليل الشرعي على الاحتجاج والإضراب، قال عبد الحليم إنّ الرسول صلي الله عليه وسلم، جاءه شخص يشكو من جاره الظالم فأمره الرسول بأن يخرج أثاث منزله إلى الشارع ويجلس في الشارع، وكان أن حدث أن سأله الناس عن هذا الفعل، فأخبرهم بظلم جاره له، وهي رواية صحيحة تدل على أنّ كلّ وسائل التعبير عن الظلم مباحة بشرط ألا يسيء الإنسان أو المُضرب إلى الغير أو يهدّد مصالح بقية المسلمين.

واتفقت معه العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية والعربية الدكتوره سعاد صالح في أنّ الإضراب الهادف الذي لا يترتب عليه ضرر بالنسبة للإنتاج أو مؤسسات الدولة، حقّ للتعبير عن الرفض لوضع مّا، أما إذا كان مقترناً بالخروج عن المألوف والاتجاه للتخريب والاعتداء على الملكيات العامة، فهو حرام.

كذاك فقد أباح العميد السابق لكلية الشريعة بجامعة الأزهر وعضو مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا الدكتور محمد رأفت عثمان التعبير عن الرأي، سواء كان فردياً أو جماعياً شريطة الحرص على عدة ضوابط، أهمها عدم الإضرار بالآخرين. وقال عثمان “إنّ التظاهر وإبداء الرأي، سواء كان فردياً أو جماعياً يجوز شرعاً، ولكن شريطة ألا يؤدي إلى الإضرار بمصالح الدولة أو الأفراد”. وأكد عثمان بأنّ العَلْماء أجازوا التسعير “إذا اشتدت حاجة الناس إلى سلعة معينة واستغلّها التجار”.

-3-

ورغم هذه الفتاوى وفتاوى دينية أخرى كثيرة، فإنّ جماعة الإخوان المسلمين في مصر، تسعى بكلّ جهدها، لأن تنال ترخيص حزب سياسيّ. كما أنّ جماعات الإخوان المسلمين في كلّ أنحاء العالم العربيّ تشارك في الانتخابات التشريعية والبلدية، وتنظّم المظاهرات الدينية الصاخبة المنطلقة من المساجد أيام الجمعة رافعة المصاحف، هاتفة بشعارها التقليديّ: “الإسلام هو الحلّ”.

وتدلّل هذه الحوادث وهذه الفتاوى المتضاربة والمتغايرة تدليلاً واضحاً وصريحاً، على مدى الضرر والسوء الناجم عن تدخّل رجال الدّين بالسياسة وأنّ دعوة العَلْمانية إلى عزل رجال الدين عن السياسة هي دعوة مصيبة في الماضي والحاضر. وأنّ حجج رجال الدين لن تثبّت تجاه عدة قضايا سياسية، لمجرد أن يثبتوا لنا بأن ما نواجهه اليوم من قضايا سياسية، لم يكن موجوداً في الماضي، ومن هنا يبطل وجوده.

فعدم وجود ما لم يكن موجوداً، لا يبطل ما هو موجود الآن، على أرض الواقع.

About شاكر النابلسي

شاكر النابلسي كاتب وباحث أردني من مواليد 1940 م مختص بقضايا الإصلاح في الوطن العربي والقضايا الإسلامية بالإضافة لكونه باحث لبرالي في الفكر العربي, ويصنف بين من يوصفون "بالليبراليين الجدد" في المنطقة العربية.له مؤلفات كثيرة وعُرف بمقالاته التي تتناول في مجملها الإصلاح إضافة للمنظمات والأفكار "الراديكالية" و"المتطرفة" في الوطن العربي. توفي في الولايات المتحدة في 14 كانون الثاني (يناير) 2014. أثارت أفكاره المتعلقة بالإسلام جدلاً واسعاً في الأوساط الإسلامية, فقد تميزت كتابات النابلسي بالجرأة على نقد المقدس، ففي سياق حديثه عن القرآن يقول: «فالقرآن الكريم، هو أهم مصدر تاريخي/ وعظي/ عجائبي/ أخلاقي لنا ولغيرنا من المؤرخين ومن الباحثين –حيث كان الكلام التاريخي المكتوب الوحيد الدال في صدر الإسلام المبكر-، من الصعب أن يكون مصدراً تاريخياً علمياً، لسبب بسيط جداً وهو أن الأخبار التي وردت فيه عن الماضي وعن حاضر القرآن غير موثّقة بتواريخ محددة، أو بمصادر تاريخية أخرى موثوقة تسندها، يستطيع المؤرخ أو الباحث معها اعتمادها، وبناء أحكامه واستنتاجاته على أساسها. فالقرآن جاء على دفعات متفرقة، خلال مدة طويلة بلغت حوالي ثلاثة وعشرين عاماً، وتاريخ مجيء معظم آيات القرآن غير موثق تاريخياً باليوم والشهر والسنة والمكان المحدد، وترتيب القرآن توفيقي، لم يراعَ فيه تاريخ النـزول ولا اتخاذ الموضوع، ولا سيما أن في القرآن الكريم آراء متضاربة حول كثير من المواقف نحو الأحداث والأديان الأخرى، وعلى رأسها اليهودية، وبالتالي فإن القرآن لم يكُ "كتاب تاريخ" بقدر ما كان كتاب "موعظة تاريخية"»
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.