هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع”سي ان ان” بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة”سي ان ان” .
في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي أراد مجلس كنائس الشرق الأوسط تنظيم عدة مؤتمرات لتدريب زوجات رجال الدين في كنائس الشرق الأوسط (مصر – سوريا – لبنان – الأردن – فلسطين) في كيفية بناء ذاتها كزوجة لرجل عام جماهيري، وكيف تتعامل مع زوجها وأولادها والجماهير التي تقوم بخدمتهم. وفي الأتوبيس الذي أقلهم من المطار بعد تجمعهم إلى مقر بيت المؤتمرات بقبرص وضع السائق شريطاً لأم كلثوم وإذ بزوجات رجال الدين من لبنان يصفقن ثم يرقصن في ممر الاتوبيس وكانت صدمة للمصريات والأردنيات، أما السوريات فكن يصفقن ويرقصن جلوساً، وفي جلسة التقييم بعد العودة سمعت من تصف زميلاتها من نساء لبنان بـ “الغوازي” والذي لفت نظري أن نساء الريف المصري تقبلن الأمر قائلات “عادي” أما اللاتي يعشن في المحافظات أو في العاصمة فكن يتحدثن برفض شديد.
وهذا جعلني أخرج بنتيجة أن العيب ليس في الرقص لكن في الثقافة والرؤيا، فنساء الريف يرقصن في الأفراح بسهولة شديدة أما الطبقة الوسطى وفوقها بقليل فيترفعن لأنهن (هوانم) فهن لم يصلن بعد للرقص الغربي ويترفعن على الرقص الشعبي.
ما جعلني أتذكر هذه القصة هو الفارق بين رؤية معظم المصريين للمطربة صباح ورؤية معظم اللبنانيين لها، لقد اعتبر رجال الدين المصريين أن صباح “إنسانة منفلتة” لأنها تزوجت سبع مرات، وخلطوا بين الأدوار التي تقوم بها على الشاشة وحياتها العادية. وكنت أرى أن رجال الدين الذين يتحدثون عن صباح بحيادهم الأفضل حتى استمعت إلى الكاردينال بشارة الراعي بطريرك الكنيسة المارونية في جنازة صباح لقد اختار نصاً من الكتاب المقدس يتحدث فيه السيد المسيح بمثلٍ عن رجل ثري كان له ثلاثة عبيد، وإذ كان مسافراً أعطى الأول خمس وزنات (الوزنة مجموعة عملات ذهبية أو فضية الفضية تساوى الآن “ألف جنيه” والذهبية حوالي ثلاثة ألاف، وأعطى الثاني وزنتين والثالث وزنة ليستثمروها) وعندما عاد من السفر قال له الأول أعطيتني خمس وزنات وهاك خمس وزنات أخر ربحتها وكذلك الثاني فقال لكل واحد منهما “أهنئك أيها العبد الصالح والأمين كنت أميناَ في القليل أقيمك على الكثير ادخل الى قصري وتناول العشاء مع كبار القوم”، أما الثالث فقال” يا سيدي عرفت إنك إنسان قاس تحصد من حيث لا تزرع وتجمع من حيث لم تبذر فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض هوذا الذي لك” قال السيد خذوا منه الوزنة واعطوها للذي له العشر وزنات”، وعادة يفسر المثل ويطبق على الذي يعمل في خدمة الله وكتبه المقدسة وأن الشخص الذى لا يستخدم المواهب التي أعطاها له الله لخدمته فسوف يأخذها منه ويعطيها للذي لديه القدرة على استخدامها. يقول السيد المسيح “لأن الذي له (القدرة على استخدام عطايا ومواهب الله) يعطي ويزداد والذي ليس له (هذه القدرة) فالذي لديه يؤخذ منه”.
من الرائع أن الكاردينال استخدم هذا المثل على مواهب الفن والموسيقى والشعر، وكيف أن صباح وهي الآن بين يدي الله تقول له “يا سيدي لقد أعطيتني وزنات (مواهب) وها أنا أقدمها لك مضاعفة بعد مماتي فيقول لها الله أهنئك كنت أمينة في القليل في الدنيا سأقيمك على الكثير في الآخرة أدخلي الى جنتي لأنك أسعدتي العالم بفنك وصوتك وملأتي قلوب الناس بالحب والبهجة”. بالطبع صدمت هذه الكلمات رجال الدين والمؤمنين الذين يتحدثون عن أن صباح تتلوى الآن في الجحيم وقد تحطم جمالها وصوتها لأنها استخدمتهما في الشر والخطيئة.
لم يكتف الكاردينال بذلك لكنه اضاف: “إن صباح ملأت حياتنا بالفرح والحب كانت محبة للحياة فأحبتها الحياة، وقال: “ماتت فقيرة لأنها أعطت كل أموالها للفقراء عندما كانت ثرية”.
اقتبس كلمات للبابا يوحنا بولس بابا الفاتيكان الراحل من تفسيره لسفر التكوين “إن الله بعد ما خلق الله العالم ألقى نظرة على عمل يديه فرأى أن ما عمله إذ هو حسن، ثم خلق الإنسان ورأى ما عمله فإذ هو حسن جداً”، ويقول يوحنا بولس في تفسيره لهذا الجزء “إن الله خلق الإبداع في الإنسان والإنسان يقوم بتصنيعه بأشكال ونوعيات متعددة ومتنوعة ثم يقدمه للإنسانية جمعاء”. ثم أنهى الكاردينال كلمته بالقول “لقد علمتنا صباح الكثير”.
لقد كانت جنازة صباح فرحاً حقيقياً امتلأ بالتصفيق والزغاريد والأهازيج وصدحت أغانيها بدءاً من الفندق الذي عاشت فيه أواخر أيامها إلى كنيسة مارجرجس في وسط بيروت ثم بلدتها وكنيسة سانت تريزا حتى المقابر كما أوصت تماماً. وكانت الكلمات المرفوعة على الطريق تقول:” ستبقين يا صباح في صوتك الذي يلون حياتنا بلون الحب”، “ستبقين يا شحرورة الوادي خالدة كأرزة من أرزات لبنان وإن سقطت فروعها فجذورها تنبت من جديد”، “شلال صوتك يا صباح ينبوع فرحتنا”.
ومن هنا نجد المفتاح للإجابة على سؤال: لماذا لا تظهر تنظيمات مثل “داعش” إلا في منطقتنا؟ ولماذا كل هذا الدم لا يسيل إلا عندنا؟ ولماذا لا يتم تهجير الأقليات وحرق الكنائس والمعابد والحسينيات إلا بيننا؟! ولماذا لا تقام الحروب بين أتباع الدين الواحد ونغمة التكفير بين أتباع ذات المذهب إلا في ظهرانينا؟! لماذا يشرد أتباع الكنيسة المختلفين مع أزواجهم لسبب أو آخر ولا يجدون حلولاً مقنعة فيتركون الايمان إلى الإلحاد إلا عندنا؟ لماذا لا نرى في الله إلا جانب الانتقام والغضب؟ لماذا نرى في الكتب المقدسة عبئاً على الانسان مع أن الله قصد بها رحمة لهم وسعادة وسلام.
إنه يا صديقي الفكر الديني المتشدد المبني على تفسير متطرف للكتب المقدسة والمقبول من أولي الأمر لقرون مضت، حتى صار هذا جزءاً من تكويننا وحضارتنا وثقافتنا ففقدنا روح الدين وحياته. وكانت النتيجة أن طعم الحياة في أفواهنا ليس كطعم الحياة عند آخرين يدركون معنى الحرية والحب والحق والخير والجمال والفرح، ويستطيعون أن يروا الله في كل ذلك.