يوسف بشير: دراج
عُثر مؤخّراً على وصيّة الزعيم الشيوعيّ السوريّ خالد بكداش الذي رحل عن عالمنا في 1995. في ما يلي ننشرها بعدما ساد الظنّ قبلاً بأنّها فُقدت، وفيها يُبدي بضعةَ آراء بسياسيّين وقادة عرفهم وعايشهم:
“سأبدأ بالقول إنّني، عبر هذه الحياة المديدة، كرهت وأحببت واحتقرت وحسدت أشخاصاً كثيرين، لكنّ أكثر مَن انتابتني حيالهم مشاعر حادّة هم شخصان كرهتهما وشخصان أحببتهما وشخصان احتقرتهما وشخصان حسدتهما.
فأنا كرهت خصوصاً جمال عبد الناصر وميخائيل غورباتشوف. ذاك أنّ حزبنا، في أواسط الخمسينات، كان في ذروة صعوده. أنا انتُخبت نائباً عن دمشق في 1954 بـ 17 ألف صوت، واستطعنا فرض صديق الحزب عفيف البزري رئيساً لأركان الجيش السوريّ. حزبنا كان ينمو ويتمدّد يوماً بعد يوم. صرنا موجودين بقوّة في المدن والأرياف، حتّى أنّ أكرم الحوراني، المتظاهر بأنّه حليفنا، راح يتخوّف من “سيطرة الشيوعيّين على سوريّا” ويحرّض علينا. هكذا جاؤونا بعبد الناصر كي يحكمنا.
كنت الوحيد في مجلس النوّاب السوريّ الذي لم يحضر جلسة المهزلة للتصديق على الوحدة مع مصر. لقد تركت احتفالهم الأبله وركبت الطائرة التي أقلّتني إلى براغ وموسكو.
فجأة لم أعد أنا قائدَ الجماهير الكادحة. لم يعد هناك من يهتف: “خالدٌ يهدي خُطانا/ في طريق الخالدين”. جمال عبد الناصر بات كلّ شيء. هو الزعيم. هو المعبود. حين جاء إلى دمشق احتشدت مئات الآلاف. حملوا سيّارته في مظاهرات استقباله. أحسست أنّه يأخذ منّي كلّ ما أملك وكلّ ما صنعت. حتّى مواصفاتي الشخصيّة، كرجل طويل ووسيم وأنيق، فضلاً عن خطابتي التي كانت تلهب الجماهير، استولى عليها هذا الضابط المصريّ الذي كان في عمق أعماقه فاشيّاً متأثّراً بموسوليني. لقد قُتل وعُذّب الشيوعيّون، المصريّون قبل السوريّين، في سجونه، ومع هذا استطاع أن يخدع رفاقنا السوفيات. وأنا لا أزال أجزم أنّه أميركيّ الهوى، لو لم تمتنع واشنطن عن تمويل سدّه العالي، لما جاء أصلاً إلينا.
الشخص الثاني الذي نافس عبد الناصر على كراهيتي كان ميخائيل غورباتشوف. من أين أتانا هذا الوغد؟ لا شكّ أنّ الإمبرياليّين دَسّوه في قيادة الحزب الشيوعيّ السوفياتيّ. العناصر اليهوديّة لا بدّ لعبت دوراً في ذلك. هذا الرجل دمّر الاتّحاد السوفياتيّ. دمّر كلّ ما لدينا وبدّد كلّ ما صنعناه. كنت دائماً على يقين بأنّ القوّة الثوريّة الأولى في العالم هي الاتّحاد السوفياتيّ، تليها الأحزاب الشيوعيّة في أوروبا، لا سيّما الحزب الفرنسيّ. أمّا ما كنّا نسمّيه حركة تحرّر وطنيّ فهذه لم أحملها مرّةً على محمل الجدّ. إنّهم خلائط قوميّة وقبَليّة ودينيّة متخلّفة. غورباتشوف دمّر كلّ شيء، وكان الحزب الشيوعيّ الفرنسيّ قد تراجعت قوّته كثيراً بسبب تكالب القوى البورجوازيّة والمتآمرة عليه.
لقد أشعرني غورباتشوف بموت يسبق الموت الفعليّ. باللاجدوى والعطالة. أنا خالد بكداش، الذي كان يستقبلني كبار الرفاق في بلدان الكتلة الإشتراكيّة، ويستضيفونني في أبهى البيوت، وأحياناً القصور، صرت أصل إلى تلك البلدان كما يصل أيّ شخص آخر: أفتّش عن حقائبي في المطار ثمّ أحملها بيدي وأتوجّه إلى فندق شعبيّ رخيص.
يستحيل أن تغفر حركة الطبقة العاملة لغورباتشوف أفعاله. هذا الوغد استسلم للإمبرياليّة ودمّر الصرح الذي بناه لينين وستالين.
والحال أنّ هذين هما أكثر مَن أحببت في حياتي. فلاديمير إيليتش صانع الثورة الكبرى الذي علّمنا كيف نبني الحزب الحديديّ. لقد برهن لينين أنّ دور القائد في التاريخ أكبر قليلاً ممّا اعترفتْ به ماركسيّة ماركس وإنغلز. تخيّلوا لو أنّ قيادة الثورة كانت في يد شخص كتروتسكي أو شخص كبوخارين. الأوّل كان مشبوهاً لم يتخلّص من أصول يهوديّة كانت مشبوهة بدورها. يساريّته المتطرّفة وتعويله على عمّال أوروبا كانا كفيلين بتدمير التجربة في مهدها. أمّا بوخارين اليمينيّ فكان نفّذ ما نفّذه غورباتشوف قبل سبعين عاماً على الغورباتشوفيّة. كان سلّم الاتّحاد السوفياتيّ العظيم للبورجوازيّة والفلاّحين ومن ورائهم الإمبرياليّة.
وأمّا ستالين، أب الشعوب، فلا تمضي ليلة إلاّ أراه في أحلامي. أراه واقفاً على شرفة الكرملين يبتسم واثقاً بحركة التاريخ فيما يهدي الانتصارات للشعوب والطبقة العاملة. ولأعترف الآن بأنّني لم أطمح إلى شيء كطموحي أن أكون ستالين سوريّا. لقد ظهر حتّى في أوساط الشيوعيّين مَن عابوا عليّ عدم عقد مؤتمرات أو إجراء انتخابات حزبيّة. هؤلاء الأغبياء لا يعرفون أنّ وجود قائد تاريخيّ كخالد بكداش يُغني عن ذلك كلّه. فلماذا نبدّد جهودنا في المؤتمرات والانتخابات؟!. لقد قدت حزبنا على مدى 62 عاماً متواصلة فجعلته حزباً عظيماً ولم أرتكب خطأ واحداً. هؤلاء أنفسهم من عابوا على ستالين عنفه وقمعه، ولم ينتبهوا إلى أنّه جعل من الاشتراكيّة كتلة ضخمة من البلدان المتراصّة بعدما انحصرت طويلاً في بلد واحد. هؤلاء يتحدّثون كالليبراليّين التافهين. إنّهم لم يقرأوا كتاب “الدولة والثورة” ويظنّون أنّ الإشتراكيّة إنّما تُبنى بتوزيع الشوكولا على البورجوازيّة.
لهذا شعرت، على رغم التظاهر بالعكس، بالكثير من الاحتقار لنيكيتا خروتشوف. هو الذي عقد ذاك المؤتمر العشرين البائس لنقد الستالينيّة وما سمّوه عبادة الشخصيّة. لقد قتل الرفيق بيريا الذي كان يُرهب أطفال البورجوازيّين والمتآمرين وهم في أسرّتهم. لكنّ خروتشوف، على رغم مكابراته، اضطرّ أن يعتمد الحلّ الستالينيّ يوم تآمرتْ هنغاريا بزعامة الخائن إيمري ناجي. لقد سحقهم كأنّهم ذباب. وخروتشوف، ذاك الفلاّح الأبله، هو من ورّطنا بعبد الناصر ومَن يشبهونه من قادة قوميّين وبورجوازيّين صغار. قال لنا: حلّوا أحزابكم واندمجوا في تنظيمات عبد الناصر! حدّثنا عن طرق لارأسماليّة إلى الاشتراكيّة وطالبنا بأن ننسى الآلام التي نزلت بنا في سجونه. هذه هرطقات محضة اضطررتُ طويلاً إلى التظاهر بقبولها حرصاً على صلتي بالمعسكر الاشتراكيّ. فأنا أدرك منذ شبابي في دمشق أنّ هذه القوميّة العربيّة، التي كانت باستمرار تتذكّر أصولي الكرديّة وتذكّر بها، لا يمكن إلاّ أن تكون شوفينيّة وبغيضة.
لكنّ الشخص الثاني الذي احتقرتُه لم يكن إلاّ فرج الله الحلو. هو أيضاً فلاّح ساذج كان يتوسّم في نفسه قيادة الطبقة العاملة. كانت علاقته بالشيوعيّة كعلاقة رهبان الأديرة بالدين، لا يقارب النساء ولا يشرب الخمر ولا يغيّر ملابسه الداكنة المتقشّفة. يعيش في أيّ مكان مهما كان بسيطاً ويأكل أيّ شيء ممّا لا يؤكل. هذا زعيم ريفيّ يصلح، في أحسن أحواله، مختاراً لقريته حصرايل. القائد ينبغي أن يفتن الجماهير ويسحرها أيضاً، لا أن يكون مجرّد مفتون بها أو مسحور.
فؤاد الشمالي كان نقابيّاً تدرّب في مصر على النضال العمّاليّ. مع هذا، استطعت بسهولة أن أزيحه، فكيف لا أزيح هذا الفلاّح البسيط؟
ذات مرّة تحذلق فرج الله وتحدّث عن “عبادة الشخصيّة” في الحزب. كان يقصدني، فقلتُ لنفسي: إنّ غداً لناظره قريب. رحت أترصّده إلى أن أدلى بموقفه القوميّ التافه محتجّاً على تقسيم فلسطين. كيف يمكن أن تُترك قيادة حزبنا لجاهل لا يعرف أنّ تأييد الموقف السوفياتيّ هو دائماً معيار الثوريّة والتقدّميّة؟ قررت حينذاك أن أحطّمه فكتبت “رسالة سالم” وقلت له: إمّا أن توقّعها كنقد ذاتيّ أو أن تُطرد من الحزب. صار يبكي ويتوسّل: لا تطردوني! قلت: إذاً وقّع على الرسالة، والرسالةُ كانت تمتلىء بإهانته وتحقيره واعتذاراته عن التطاول على قيادتي وعلى الموقف السوفياتيّ.
تأمّلوا: فلاّح حصرايل يتحدّى قرار الرفيق ستالين!
لكنّ غباءه كان أبعد من ذلك: في 1959، حين كان رفاقنا في سجون عبد الناصر وعبد الحميد السرّاج، وحزبنا مفكّكاً، طلبت منه أن يتوجّه إلى سوريّا لإعادة بناء الحزب. قلت في نفسي، وأنا أتجوّل بين موسكو وبراغ الرائعتين، إنّه سيعترض على تنفيذ قرار كهذا، قرارٍ قد يؤدّي إلى موته. لكنّ الأبله ذهب. ربّما فعل خوفاً من أن يتسبّب الاعتراض بـ “رسالة سالم” ثانية. هناك في دمشق، حصل المتوقّع. اعتقلوه لحظة وصوله وقتلوه وذوّبوا جثّته بالأسيد. كلّنا كنّا نعلم ذلك ولا نقوله.
كم كان ساذجاً. بعض رفاقنا العراقيّين من صغار السنّ الذين لم يعرفوه غنّوا له وقالوا إنّ حزبنا هو “حزب فرج الله وفهد”. لا يا رفاق، حزبنا هو حزب خالد… خالد وحده.
هل يُعدّ هذا من قبيل تضخّم الأنا عندي، كما قال ويقول البعض؟ أبداً. إنّه من قبيل الحرص على أن يكون القائد قائداً فعلاً، وأنا وحدي من بين هؤلاء مَن كان يتمتّع بالمواصفات القياديّة.
لهذا حسدت حافظ الأسد وياسر عرفات اللذين صارا قائدين، وهما لا يملكان شيئاً من هذه المواصفات. لم أكرههما، فهما لم يستحقّا كراهيتي، لكنّني حسدتهما.
حين كان حافظ الأسد يجلس على رأس الطاولة التي تجتمع حولها “الجبهة الوطنيّة التقدّميّة”، كنت أقول لنفسي إنّه يجلس على الكرسيّ الذي ينبغي أن يكون لي. هذا الضابط إنّما يقتصر كلّ ذكائه على تدبير المؤامرات والمكائد، وأنا مع احترامي للمؤامرات والدسائس التي قد يحتاجها العمل الثوريّ، أميّز بين نوعين منها: النوع المحصّن بتعاليم الماديّة التاريخيّة والماديّة الجدليّة وبخبرة الطبقة العاملة، والنوع الذي لا يملك في جعبته إلاّ الترّهات البورجوازيّة الصغيرة، الخطابيّة والإنشائيّة، لميشال عفلق وزكي الأرسوزي.
لقد كان الرجل مهذّباً معي، وأنا كنت مضطرّاً أن أبدو مهذّباً معه لمعرفتي بالثمن الباهظ لأيّ سلوك معاكس، فضلاً عن تشجيعه على المضيّ في التحالف مع الاتّحاد السوفياتيّ. لكنّه لم يكفّ عن إضعافي وإضعاف حزبنا وكان يتلذّذ بذلك. لقد قبل أن يضمّ إلى “الجبهة” جماعة ذاك التافه يوسف فيصل بوصفها حزباً شيوعيّاً آخر! وهو كان مستعدّاً أن يضمّ جماعة قريبه الذي يفوقه تفاهة، رياض الترك، كحزب شيوعيّ ثالث، إلاّ أنّ الترك هو من عاداه. ذاك الترك، الذي كشفه العلماء السوفيات مبكراً بوصفه قوميّاً في زيّ شيوعيّ، رأى قيادة البروليتاريا العربيّة معقودة لـ… ياسر عرفات!
وأنا، في الحقيقة، أخجل بالقول إنّني حسدت تلك الكميّة الضئيلة المسمّاة عرفات. مع ذلك حسدته لأنّ قضيّته الفلسطينيّة جعلت منه زعامة عالميّة. لقد سرق كنيتي التاريخيّة: أبو عمّار. صار هو، لا أنا، أبا عمّار.
وأنا، من البداية، لم أحمل هذه الثورة الفلسطينيّة وقضيّتها على محمل الجدّ: ثورة مخيّمات، أي جماعات غير منتجة وبلا طبقات! ثورة تقوم على النفط الخليجيّ الرجعيّ وعلى عواطف نوستالجيّة إلى قطعة أرض أقيم فوقها مجتمع كامل أكثر تقدّماً بكثير. وهذا فضلاً عن الشخصيّة المقزّزة والمداهنة لعرفات. لقد صنعنا في الأحزاب الشيوعيّة منظّمة “الأنصار” وطلبنا من “جيش التحرير الفلسطينيّ” أن يدرّبها. لم نقاتل، لكنّنا تظاهرنا بأنّنا سنقاتل لأن جماهير الأعاريب يحبّون ذلك. تأمّلوا: لقد اضطررنا إلى كلّ هذا التظاهر بما لا يشبهنا من أجل أن نرضي مَن؟ السيّد ياسر عرفات! هل هذا كافٍ لتوضيح السبب الذي يقود شخصاً مثلي لأن يحسد شخصاً مثله؟
على أنّني لا بدّ، في نصّ وداعيّ كهذا، أن أتحدّث عن ثلاثة رفاق هم من أهل بيتي وأقرب الناس إليّ.
أوّلهم، وصال فرحة، زوجتي منذ 1951. لقد عشنا معاً في السرّاء والضرّاء، وكانت دائماً وفيّة لي وفاءً لم أستطع أن أبادلها بمثله. وصال تقمّصت أفكاري كلّها وصارت أقرب إليها منّي. إنّها تعرف سلفاً كيف سيكون ردّي على موقف من المواقف، وكيف سيكون تعليقي على حدث من الأحداث. ومع أنّ حزبنا ضدّ التوريث الإقطاعيّ، أعتقد أنّ ضرورة الحفاظ على خطّي وتراثي تستدعي تولّي وصال للأمانة العامّة من بعدي.
لماذا وصال وليس ابني عمّار أو صهري قدري؟
عمّار يملك الكثير من صفات وصال، لكنّ مشكلته أنّه، وهنا قد تستغربون، يبالغ في تناول السمن الحمويّ. هذا يجعله بطيئاً في حركته الجسمانيّة وفي تفكيره أيضاً. حتّى لفظه بطيء كما لو أنّ بعض ذاك السمن الحمويّ قد علق في حنجرته. لقد قلت له ألف مرّة أن يكفّ عن الإكثار منه، وضربت له المثل بنفسي: فأنا أيضاً كنت أحبّ السمن الحمويّ كثيراً، لكنّني في شبابي الأوّل واجهت هذا الخيار الصعب وكان عليّ أن أحسمه سريعاً: إمّا سمن حمويّ أو قيادة الطبقة العاملة، واخترتُ الثانية بالطبع. إنّ على عمّار أيضاً أن يختار.
أمّا قدري، فأنا بصراحة لا أثق به. هو أيضاً يشارك عمّار بطئه وضعف جاذبيّته، إلاّ أنّني أشتبه بأنّه لم يقترن بابنتي سلام إلاّ طمعاً بوراثتي السياسيّة. وهناك أمر آخر يدعو إلى الحذر: صحيح أنّني كنت أسهّل بعض الصفقات الماليّة لوالده فؤاد جميل كي يستفيد الحزب من عائداتها. أمّا نجله قدري فمنذ توجّهه إلى الدراسة في موسكو، وهو يقيم علاقات ماليّة غريبة تعود منافعها عليه أوّلاً وأخيراً. لقد استمرّ في هذه النشاطات بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ، فتعامل مع المافيات التي ازدهرت في عهد يلتسن، وباع واشترى وهرّب كلّ ما يمكن أن تقع عليه اليد. هذا الرجل لا يصلح أصلاً لأن يقود حزبنا، مع أنّ طموحه لابتلاع الحزب يكاد يكون في حجم الحزب نفسه.
إنّ على الرفاق، وعلى رأسهم الرفيقة وصال، أن يحذروا الانتهازيّين، وأن يحافظوا على خطّ خالد بكداش، خطّ لينين وستالين العظيمين.
عاشت ذكرى الاتّحاد السوفياتيّ العظيم،
عاشت الطبقة العاملة العالميّة،
عاش الحزب الشيوعيّ السوريّ