وجدت الكثير من الأجوبة التي أشغلتني حول الواقع الاسرائيلي في كتاب جديد ظهر تحت عنوان: “اسرائيل – مستقبل مشكوك فيه” (ישראל – עתיד מוטל בספק) صدر عن “راسلينج” 2011 – باللغة العبرية مترجما عن الفرنسية) المؤلفان هما “ريشار لأوف” باحث نشط في جامعتي “الحرة” في بريسيل و”كارنجي ميلون” في الولايات المتحدة و”اوليفيه بوروكوفيتش” باحث من جامعة “لوفن” وكان خلال عقد كامل محررا للمجلة الشهرية البلجيكية “ريغاردز” المتخصصة بالحوار الاسرائيلي – فلسطيني.
لتقديم رؤية دقيقة اقول اننا امام تطور نوعي سلبي في الحركة الصهيونية نفسها. لا اريد ان أضع نفسي خبيرا في الحياة الحزبية في اسرائيل، ولكني متابع ومطلع بتوسع على الواقع السياسي الذي نتنفسه ونعيشه، واكتب احيانا بدافع تنظيم أفكاري ومعلوماتي ووعيي لفهم التطور التاريخي السياسي لهذه الحالة الإسرائيلية.
جاء الكتاب في وقت هام جدا من التسانومي السياسي الذي تواجهه اسرائيل، والحركة الصهيونية نفسها خاصة بعد قرار الاتحاد الأوروبي بمقاطعة كل ما يتعلق بالمستوطنات الاسرائيلية.
قبل ان اتناول جانب مما ورد في هذا الكتاب الهام (على امل ان اعود للكتابة عنه بتوسع) أمهّد للموضوع واقول: من المفترض ان الأحزاب في اسرائيل لا تمثل وجهة نظر سياسية واحدة ولا نهجا اجتماعيا – اقتصاديا متشابها، غير ان المراقب يقف حائرا، من ظاهرة نادرة في المجتمع الاسرائيلي، ظاهرة الموقف المتماثل من قضايا حاسمة في مصير الدولة ومستقبلها في منطقة جغرافية متفجرة بأحداث لا يمكن التنبؤ بتطورها بدقة، او حتى بالتقريب.
جميع الأحزاب الصهيونية تساهم في إكساب اسرائيل صفة دولة لا تعرف غير لغة القوة. ليس ضد الشعب الفلسطيني فقط، انما يتبلور العنف كأسلوب اخلاقي في التعامل والعلاقات. العنف أصبح يشمل مجمل العلاقات الإجتماعية بين المواطنين اليهود انفسهم، ليس ضد العرب مواطني اسرائيل فقط، او ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة تحديدا..
العنف صار اخلاقا سائدة، حتى بين الزوج وزوجته والأب وأولاده، ظواهر للفاشية السياسية تتعزز وتلقي ظلالها الكئيبة على المجتمع اليهودي في اسرائيل. تبرز وتتسع سياسة تفريغ الديمقراطية من مضامينها بكل ما يخص التعامل مع المواطنين العرب وضد قوى يهودية لم تفقد ضميرها وحسها الانساني، القوى الديمقراطية اليهودية ترى الصورة السوداء لهذا النهج، وهي قوى تمثل الفئات الأكثر وعيا واتساعا بالآفاق وتبرز بينهم الفئات الأكاديمية والأدباء ورجال الفكر والفن والعديد من الشخصيات الاجتماعية والمنظمات الحقوقية التي تطرح مواقف واقعية بعيدا عما اعتدناه من مواقف المؤسسة الحاكمة وأحزاب ما يعرف بالمعارضة.
رغم انهم يمثلون تيارا هاما له تأثيره الكبير على المستوى الشعبي لكنه لا يترجم سياسيا ولا اجتماعيا، حتى الهبة الاجتماعية في اسرائيل قامت بتنظيم قوى شبابية غير حزبية، بعضهم استفاد من الهبة ليجد له مكانا مضمونا في قوائم الكنيست.. اذن الهبة يمكن وصفها بالعفوية وارى صعوبة في استئنافها بنفس الحجم، بسبب غياب تنظيم مدني يجمع قيادات الانتفاضة، بدل ان يتناثروا بين صفوف الأحزاب منافسين على مقاعد الكنيست وبعضهم وصلوا للبرلمان و”ارتاحوا” من النضال الشعبي !!
ما لفت انتباهي في الكتاب بشكل خاص هي المقدمة التي كتبها بروفسور ايلي بار- نفي، والتي وجدت فيها الجواب لواقع الأحزاب الصهيونية بعد ان دخلت اسرائيل عقدها السابع.
كتب بروفسور ايلي بار – نفي في مقدمته، ان الجميع يعرف ان الصهيونية السياسية انقسمت منذ بدايتها الى تيارات متنافسة، تمثل تيار المركز وبالأساس تيار اليسار. كل تيار انقسم الى روافد ايديولوجية مختلفة ويضيف ان كل تيار وجد لنفسه اسباب ارتباطه بالصهيونية، التي يصفها أنها ايديولوجية اوروبية وانها “هدية اوروبا لليهود” حسب قول احد قادة الحركة الصهيونية.
رايي ان الصهيونية بالوقت نفسه، هي هدية اليهود لأوروبا بعد أفول نجم الاستعمار القديم. الصهيونية بفكرها الاوروبي حلت مكان الاستعمار المباشر لأوروبا بعد الحرب العالمية الأولى لتنفيذ سياسة استعمارية لم يعد من الممكن ممارستها بالطرق القديمة. ان استعراض تاريخ الحروب التي قامت بها اسرائيل منذ حرب السويس 1956، يشير بكل وضوح الى ان الدور الاسرائيلي جاء بديلا للاستعمار المباشر. واسرائيل انجز المهمة بإتقان كبير. اليوم اصبح هذا الدور حجر عثرة لأوروبا في محيطها الجغرافي، مناطق نفوذها،اختلاف المصالح، تغير نوعية العلاقات وايضا لأن اسرائيل أصبحت أداة أمريكية والعالم الرأسمالي ليس جسدا واحدا، بل رؤوس عديدة تتصارع على مناطق النفوذ والتجارة.
يصنف ايلي بار التيارات الصهيونية التي برزت في ذلك الوقت (عمليا الأحزاب الإسرائيلية اليوم هي استمرار لها)، لكنه يبدو استمرار أقرب لصورة المسخ. يكتب: “الصهيونيين الماركسييين وصفوا الضرورة العاجلة لإيقاف الهرم الاجتماعي اليهودي على قدميه (اي بناء الدولة- نبيل) من أجل افساح المجال لنشوء حرب الطبقات (الفكرة الماركسية للثورة الاشتراكية – نبيل)، هذا النشوء لا يمكن ان يتطور الا بدولة قومية (في حالتنا دولة يهودية- نبيل)، الاشتراكيين غير الماركسيين رأوا أمرا عظيما في العودة الى العمل في الأرض والعمل اليدوي. اليمين القومي اراد التوحد من جديد مع الشرف المفقود للشعب المقاتل، الصهاينة الروحانيين ارادوا ان ينقذوا اليهود من الذوبان داخل الشعوب بأن يؤمنوا لهم مركزا روحانيا في وطن الآباء”.
لا ارى استمرارا صهيونيا في اسرائيل لهذه التيارات حسب منشأها. الماركسيين الصهيونيين اليهود اختفوا (يمكن اطلاق صفة الماركسيين اليهود الصهاينة، على اعضاء أحزاب مبام وإحدوت هعفودا وقسم من حزب مباي (العمل اليوم) والجناح اليهودي في الحزب الشيوعي الذي انشق بدوافع قومية (صهيونية) في بداية سنو ات السبعين وكان بقيادة شموئيل ميكونس وموشيه سنيه، كلها احزاب اختفت عن الساحة السياسية، الحزب الشيوعي الإسرائيلي يعتبر رسميا حزبا يهوديا عربيا معاديا للصهيونية، بعد الانشقاق بدأ يتحول الحزب الشيوعي بتسارع الى حزب عربي بنسبة (99%) وهو يمثل أفضل تمثيل الجماهير العربية في اسرائيل، رغم ما يعانيه من أزمة قيادة وأزمة فكرية وتنظيمية لأسباب عديدة ليست موضوعنا الآن!!
من الواضح ان كل النظريات الصهيونية تطورت في فترة سيادة مبدأ الفكر القومي الذي اوجدته الثورة الفرنسية، وأصبح نموذجا لكل المتعلمين، وكان التعريف السائد ان مميزات القومية هي اللغة، الأرض، الثقافة والذاكرة المشتركة، بفضل هذه المميزات يصبح كل شعب جديرا “بحق تقرير المصير” في اطار دولة قومية هي التعبير القانوني الأعلى لوجوده. بما ان اليهود كانت لهم عدة صفات مشتركة، اهمها لغة مشتركة هي لغة “الإيديش” (منتشرة في اوروبا والولايات المتحدة واسرائيل طبعا)، الدين الذي يعتمد على اساطير منقولة معظمها عن اساطير بلاد ما بين النهرين وتشكل جوهر التوراة اليهودية وعلى اساسها نشأت الذاكرة الجماعية حول ارض الميعاد، التي هي قصص خرافية، بينما نجد ان المجتمع اليهودي في اسرائيل متناقض في تركيبته بمجالات اساسية عديدة، الثقافة تختلف حسب اختلاف بلاد الهجرة، التقاليد تختلف، المستوى التعليمي يختلف، لا شيء مشترك مثلا بين يهود الشرق ويهود الغرب، لا لغة، لا ثقافة لا فنون لا مستوى تعليم ولا مستوى حياة ولا نهج اجتماعي. السؤال: هل يمكن ان تصبح الأسطورة الدينية قاعدة لشرعية طرد شعب من أرضه واحضار شعب آخر بدلا منه؟
نجحت الصهيونية بدعم الدول الإمبريالية بإقامة دولة اسرائيل، لننتبه ان اليسار أيضا بكل احزابه بما فيها الأحزاب الشيوعية، وفي مقدمتهم الاتحاد السوفييتي دعموا وايدوا بحماس انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بظنهم انها ستكون دولة اشتراكية، فالكيبوتسات التي انتشرت في فلسطين ساد انطباع عام عنها انها خلايا اشتراكية شبيهة بالكولوخوزات السوفياتية، قسم كبير منها كان تابعا لحزب مبام الذي اعلن انه حزب ماركسي لينيني ونافس الحزب الشيوعي في فلسطين على مقعد الكومنترن (المنظمة الشيوعية الدولية التي اشرفت على نهج ونضال جميع الأحزاب الشيوعية في العالم). لا بد ان أشير ان تطوير اقتصاد مشترك وعلوم الى جانب بناء جيش قوي، والتربية العنصرية بامتياز، كان وراء النجاح بتطوير قومية اسرائيلية – يهودية من يهود الشتات.
ان الفوارق بين اليهود في اسرائيل عميقة للغاية، في مختلف المجالات، الثقافة، العلوم، العمل، العادات الاجتماعية، الفنون، مستوى الدخل، تعامل الدولة وما تخصصه من ميزانيات واراض، وهنا يبرز التمييز العميق بين ما يحصل علية الأشكناز (الغربيين) وما يحصل عليه السفراديم (الشرقيين) وليس فقط التمييز ضد العرب بشكل عام.
المقارنة مع البدايات الصهيونية تظهر ان الحياة الحزبية في اسرائيل تفقد حيويتها، الأحزاب تفقد ما يميزها، ان ظاهرة الوقوف الشامل لكل التيارات السياسية تقريبا، مع الحكومة بدون تردد، في أي أزمة ناشئة، وخاصة بموضوع الأمن والحرب، او من النزاع الإسرائيلي – قلسطيني، بحيث تصبح جميع الأحزاب في “خرج” واحد، من اليمين الفاشي والديني المتطرف وصولا الى من يدعي اليسار (ما عدا حزب “ميرتس” الصغير) هي حالة لا تشرف الأحزاب الإسرائيلية، وتظهر عبث التمييز بين حزب صهيوني يميني متطرف او ديني متطرف وحزب يدعي الإشتراكية الديمقراطية او انه يمثل خط وسطي او يسار وسط. اذا لم يكن فرق جوهري في سياسة الأحزاب العامة، لماذا اذن هذه التشكيلة الكبيرة من الفرق الحزبية؟ الجواب بوضوح، ان الوصول الى البرلمان هو مصدر رزق ومكانة اجتماعية وسياسية. ارى بذلك دافعا لتعدد الأحزاب الإسرائيلية، وليس لرؤية أيديولوجية مختلفة.
من هنا طرح مؤلفا الكتاب المذكور عنوانا مثيرا:” اسرائيل – مستقبل مشكوك فيه”!!
مجتمع يفتقد للتعددية والحوار حول قضايا مصيرية بين أحزابه، وكل معارض يوصم بالخيانة القومية، (حتى لو كان رئيسا للحكومة مثل رابين) هو مجتمع مندفع في منحدر بدون فرامل.
آمل ان اعود قريبا لمواضيع الكتاب المثيرة، وآمل اكثر ان يترجم الكتاب ليتسنى للقارئ العربي ان يطلع عليه!!
nabiloudeh@gmail.com