اسبح عكس التيار

الجزء الرابع من الموضوع!
********************************
عام ١٩٧٩، أي بعد استلام حافظ الاسد للسلطة بحوالي تسع سنوات كنت وحبيبي يومها ـ زوجي الآن ـ نتناول وجبة خفيفة في مطعم ستراند بحلب، وجبة ربما أخذتنا عدة شهور لنوفر ثمنها. بالصدفة المطلقة جلس على الطاولة بجوارنا ثلاثة رجال.
خلال الخمس دقائق الأولى عرفنا من لهجتهم وببساطة أن أثنين منهما علويان من الساحل، والثالث سني من حلب.
وخلال أقل من عشر دقائق فهمنا القصة! العلويان ضابطا مخابرات والحلبي تاجر، الحلبي جاء بهما إلى المطعم ليحرضهما على معاقبة تاجر حلبي آخر يبدو أنه ينافسه، وهما يعدانه ويتوعدان ذلك التاجر بأنه سيدفع الثمن غاليا! الدنيا رمضان، والتاجرالسني لم يأكل، لكنه بين الحين والآخر يلتقط قطعة لحم من الصحن ويمدها إلى فم أحد الضابطين وهو يقول: (بسيدنا محمد دوأ ها اللؤمة سيدي) والضابطان ينهشان كوحوش لم تذق الأكل منذ شهور!
…….
قبل أن أغادر اللاذقية إلى أمريكا بعدة أشهر، زارني صديق مسيحي عزيز علي. دار بيننا خلال الزيارة حديث موجع جدا
جورج يملك شركة لتركيب المصاعد الكهربائية, قبل أشهر اتصل به فواز الأسد وطلب منه أن يركب له مصعدا كهربائيا
أعطاه عنوان البناية والزمن الذي يجب عليه أن ينتهي من مهمته, تفرغ جورج على الفور للقيام بالأمر خوفا من عواقب التأخير, مضت عدة أشهر بعد التركيب ولم يدفع له فواز قرشا واحدا، ورفض أن يرد على كل مكالماته
اضطر جورج أن يزور فواز في مكتبه في حي “الأمريكان” دخل المكتب وسأل عن “معالي” فواز فأجبوه أنه غير موجود وسألوه لماذا؟ كان يسمع صوت فواز من الغرفة المجاورة بوضوح وبوقاحة رهيبة, المهم خرج من المكتب صفر اليدين، وراح يشتغل فورا على فيزا هجرة، وهو اليوم ينعم بحريته بعيدا عن ذلك الماخور!
……
عائلة الأعسر عائلة سنية اصولها من بانياس ولها سمعة طيبة جدا تعرفت على سيدة من تلك العائلة أثناء تواجدي في اللاذقية،
بعد زيارتي الاولى لها بفترة، كان ابنها الوحيد يركب باصا للنقل الداخلي في اللاذقية شاءت الأقدار الغاشمة أن يكون هارون الأسد في نفس الباص
للسبب لا أعرفه تلاسن ابن السيدة مع هارون، فما كان من هارون, إلا أن أخذ سكينا وخرطه بها، فأرداه قتيلا
طبعا، من شدة ألمي وخجلي لم أتواصل مع السيدة لتقديم التعازي, ابنها انتهى في القبر وهارون ظل يرتع ويمرح ربما حتى تاريخ اليوم!!
……
كنت طبيبة مؤسسة الانشاءات العسكرية في اللاذقية، وكان بها موظفا علويا من القرداحة يشتغل أيضا مهربا بين لبنان وسوريا
كنا في منتصف الثمانينيات وكانت سوريا تعاني من ضائقة اقتصادية وعلى شفا مجاعة حقيقة
ابنتي الوسطى كانت في أشهرها الاولى، ولم أستطع أن أعثر على علبة حليب واحدة في الاسواق, فتوسلت لهذا الموظف أن يجلب لي واحدة من لبنان وناولته مائة ليرة سورية، وكانت كلفتها أقل من ذلك بكثير
وعدني وعدا قاطعا أنها ستكون في حوذتي خلال ايام, مضت عدة أشهر ولم أر شيئا
مرة دخل مكتبي يسأل عن بعض الادوية، فقلت مازحة وبحرص شديد: شو وين علبة الحليب اسا مارحت عا لبنان؟
فرمقني نظرة تشع نارا: خريتينا بعلبة الحليب….احترمي حالك!
فتجمدت في مكاني، وحمدت الله أنه خرج قبل أن يخرطني هو الآخر سكينة!
……….
كان أحمد معروف بدر مدير صحة اللاذقية علويّا وكلبا من كلاب السلطة، ويعاملنا نحن الأطباء ككلاب في مزرعته. اتصل بي وكنت يومها عضوة في لجنة فحص الموظفين، وطلب مني أن أتوجه إلى بيت رفعت الأسد في حي “الأميركان” كي أصدّق على تقرير طبي لإحدى “بعلات” رفعت يعفيها من مهمة التعليم. لا تستغربوا أن تكون زوجة رفعت الأسد بحاجة لتقرير طبي يعفيها من مهمتها لأسباب “صحية”، ويؤهلها في الوقت نفسه للاستمرار في الحصول على الراتب الشهري. القصة وما فيها، أنه في ذلك الوقت غضب حافظ على أخيه رفعت فطالب كل “بعلاته” بالعودة إلى العمل وإلا ستتوقف رواتبهن، عندها لجأن لطلب تقارير طبية.
تساءلت سرا مع بعض الأطباء، وهل فعلا زوجة رفعت الاسد بحاجة لراتبها؟
أبلغني أحدهم ـ سراـ أن كل بعلة مما ملكت يمينه مسجلة بأكثر من وظيفة ووتقاضى أكثر من راتب.
المهم، ركبت سيارة مرسيدس مفيّمة، ويقودها أحد الشبيحة باتجاه أحد بيوت رفعت وقلبي يدق خوفا وأعصابي في أتون من نار. صافحت السيدة سلمى مخلوف وجلست على كرسي مقابلها بعد أن أشارت لي لأجلس. رفعت قدمها حتى وازت وجهي وقالت باستهزاء: ياحضرة الدكتورة راتبي لا يشتري لي هذا الحذاء، ولكن سيأتي يوم ويدفع الثمن هؤلاء الاوغاد! وقعت على التقرير وأنا ابتسم: أعرف ذلك واقدر شهامتك (!!!!!!!) ثم غادرتُ وكأنني مُنحت من السماء عمرا جديدا، ولساني حالي يتساءل: يابنة ستين ألف كلب لماذا تصرين على تقاضي الراتب إذا كان لا يشتري لك حذاءا؟؟؟؟
…..
نعم، هذا غيض من فيض ماعانى منه الشعب السوري بكل أطيافه على يد تلك الطغمة المارقة على كل عرف أخلاقي وانساني!
حكمت بالنار والحديد، وباسم أفقر فقراء الأرض!
الثمانينيات كانت مرحلة عصيبة من تاريخ سوريا، مرحلة اختلط فيها الحابل والنابل وصار الظالم والمظلوم خيطين متشابهين
في صحن معكرونه
بدا العلويون وكأنهم الزبد الذي يطفو على السطح ويوهمك أنه يمتد إلى العمق باسمهم ارتكبت الجرائم وصار الشعب يعيش داخل برميل بارود محكم الإغلاق.
………
رفض السنة في سوريا، أن يروا حقيقة أوضح من شمس النهار، وهي أن تلك الطغمة المفلسة أخلاقيا كانت خليطا من السنة والعلويين وكل الأقليات الأخرى، وبأن أغلبية العلويين تضرروا منها كما تضررت أية فئة أخرى وربما أكثر! رفض عقلاء السنة أن يفهموا ذلك السيناريو، وصاروا يتطلعون إلى العلويين كالغنمة السوداء في قطيع من الغنم الابيض.
لقد اعتاد المسلمون بكل طوائفهم أن يعمّموا تقييهم للآخر، أعتقد أن سبب الميل النفسي للتعميم عند المسلمين، وخصوصا عندما تكون الصفة المعمّمة سئية يكمن في اللاوعي، ويمتد جذر هذا التعميم إلى القرآن الذي يصدر أحكاما معمّمة: إنهم لقوم ظالمون, مجرمون, فاسدون, ضالون, فاسقون
علما بأنه من المستحيل أن يوجد قوم ينتحل صفة سيئية أو جيدة بالمطلق!
………
طبعا في الوطن الواحد كل انسان مسؤول بغض النظر عن طائفته ومنبته، ولكن بالنهاية الأكثرية ، الأكثرية وحدها، تتحمل الجزء الاكبر من المسؤولية عن الوضع العام. إذ لا تستطيع أقلية في العالم أن تحكم إلا إذا كانت مدعومة ولو من وراء الستار من قبل الأكثرية !!
………..
ترددت كثيرا في أن أطرق هذا الموضوع، لا لأني أشكّ بقدراتي على طرحه من كل جوانبه، ولكن لثقتي أن العقل الجمعي في أي بلد عربي أو اسلامي مازال في طوره البدائي، وليس جاهزا ليستوعب أفكارا تسبقه بمئات السنين. لقد تعلم هذا العقل أن يدفش كل أوساخه تحت سجادة بيته، ويوهم نفسه أن بيته نظيفا. تراكمت الأوساخ تحت السجادة حتى فاحت رائحة القمامة وانتشرت الجرائيم في كل البيت، وأوشكت أن تقضي عليه. العقل الجمعي ليس جاهزا ليقبل فكرة أنه طائفي وعنصري حتى نخاعه، وإنه يدفع ثمن  عنصريته. فالحقد كالأسيد يحرق الوعاء الذي يحتويه أكثر من السطح الذي يصب عليه.
الثقافة الاسلامية بمفهومها السني كانت هي السائدة، وتبنتها الطوائف الأخرى كي يقبلها القطيع في حظيرته. وفي محاولة يائسة لأن تكون ملكيّة أكثر من الملك، تشربت تلك الثقافة إلى حد الثمالة!
……………
لذلك، فكرت وفكرت وفكرت حتى خرجت بتساؤلات: هل يجب أن أنتظر حتى يصبح العقل الجمعي جاهزا لقبول هكذا افكار؟
ولكن، كيف سيصبح جاهزا مادامت المشكلة مستمرة؟ ومن يضمن أن اراه جاهزا قبل أن أرحل عن هذا العالم؟ ومن يضمن إذا رحلت قبل أن يصبح جاهزا أن يأتي أحد من بعدي ويكمل المهمة؟ في غمرة هذه الستاؤلات شعرت وكأنني أدور في دائرة مغلقة لا أعرف أيهما بدايتها الفرخة أم البيضة؟ استمر صراعي مع نفسي حتى قرأت قولا لأحد أكبر الأثرياء وأشهر الناجحين في تاريخ أمريكا
Sam Walton
مؤسس أكبر سلسلة من المحلات التجارية في العالم سلسلة
Wal-Marts
جاء فيه: (اسبح عكس التيار، خذ الطريق المعاكس، تحدَ الحكمة السائدة، ولكن كن جاهزا لأن تصادف في طريقك اناسا كثيرين يلوحون ويصرخون، محاولين أن يعرقلوا مسيرتك ويخففوا من همتك: ارجع إنه الطريق الخطا)!
في وطني حيث أنشد التغيير تقضتي الحكمة السائدة أن لا أقترب من الخط الأحمر لأنه محميّ بالعقل الجمعي، والعقل الجمعي هناك مازال في عصره الحجري، ولا يستطيع أن يتجاوز مافي يده من حجارة! لكن، لم يستطع مفكر في تاريخ البشرية أن يغير شيئا حتى تجاوز الحكمة السائدة وسبح عكس التيار ليس هذا وحسب بل أكل من الحجارة ما فجّ رأسه. فلماذا لا أسبح عكس التيار ولماذا لا أضرب تلك الحكمة بعرض الحائط إن كنت معنية بالتغيير، وخصوصا أنني تعلمت في امريكا، حيث عشت نصف عمري، أن ألبس درعا مضادا للحجارة! لا أحد فينا يستطيع أن يغيّر الحقيقة، لكنّ الحقيقة كفيلة بتغيير كل واحد منا، وإذا كان قولها صعب جدا، فإن قبولها أصعب بكثير!
………….
أعزائي القرّاء: أشعر أن الفكرة لم تكتمل في هذا البوست، ولكن تحت شكوى بعض القرّاء من طول البوست قررت أن انشر هذا الجزء اليوم، وسأنشر الجزء المكمل غدا. أرجو إن كنت تقرأني للمرة الأولى أن تعود إلى البوستات الثلاثة السابقة كي تفهم الفكرة كاملة, شكرا مع خالص محبتي

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to اسبح عكس التيار

  1. سوريانو السوري says:

    ذكرتيني بقصه كنت شاهدها، شاهدت رفعت الاسد في مقابله على اليوتيوب كالفئر المبلل بالزفت يتجنب الاسئله الحرجه ويدعي الشرف واللامسؤليه عن كل موبقاته،كنا بجامعه دمشق وكان يأتي بسياره لمبرغيني لم نكن نعرف ان نلفظ اسمها ويتبختر بين الطالبات وكانت ابنته قد سببت رعبا في كليه الطب بحضورها المحاضرات حينها. سافرت للدراسه في اوروبا وتعرفت على طبيب وقسيس بنفس الوقت شهير اخبرني بان ابنه يعمل في شركه طبيه لصناعه ادوات الطب والجراحه للاستعمال الواحد وكانت بدايه ثوره طبيه حقيقيه، وبدراسه الواقع في الشرق الاوسط وجدوا مناسبا ان يكون المصنع في حمص لخدمه سوريا ،لبنان،الاردن،والعراق. واجريت الدراسات وذهبت اللجان ثم قبل بدء التنفيذ حضر اخو الرئيس (ريفاات )على حد لفظه ومع مترجم شرح للشركه انه في سوريا مجرمون وقطاع طرق وحراميه سيقتلعون اساسات المعمل ان لم تكن هناك حراسه مهمه وهو سيؤمن الحراسه من الجيش مقابل ٢٥ بالمئه من المصنع ، طبعا انسحبت الشركه من المشروع ،ولم يحتاج المالكين للكثير من الجهد لمعرفه السارقين المارقين وقطاع الطرق السوريين من هم….

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.