في معركة التحول نحو الديموقراطية في العالم العربي، يلقي سؤال الدين ودوره في الدولة والسياسة ثقله على الحراك فينهكه، فيقسم النخب ويدفعها إلى حال غير صحية من التخندق والاستقطاب تنعكس على كامل المجتمع، وأحياناً – وقد حصل – تعطل عملية التحول نحو الديموقراطية بل حتى تميتها، فهل هي قضية حقيقية أم مصطنعة؟
كنت أعتقد أنها حقيقية، بل شاركت في أكثر من ندوة طوال ربع القرن الماضي، الذي يمكن أن تُؤرخ بدايته بسقوط جدار برلين الذي أطلق سلسلة من عمليات التحول نحو الديموقراطية في كامل أوروبا الشرقية، نجح معظمها خلال فترة قصيرة جداً، وما تعثر منها انتظم عقده في نهاية المطاف. ما أطلق رغبة خافتة في العالم العربي لتحول مماثل، فكان السؤال المطروح بين المثقفين وقتها: هل يمكن «تأهيل» قوى الإسلام السياسي ودمجها في الحياة السياسية شراكة وانتخاباً وتداولاً للسلطة؟ طرح هذا السؤال وكأن الديموقراطية تنتظر العرب في المنعطف التالي، ولكن تبيّن أن الهدف من السؤال ليس إعداد الدول العربية للتحول الديموقراطي المنتظر وإنما للتحذير منه، فروّج لعبارة «شخص واحد، صوت واحد، لمرة واحدة» كي تحذّر الغرب من دفع العرب نحو الديموقراطية، لأن الأحزاب الإسلامية ستنتصر في الانتخابات ثم تلغي المسار الديموقراطي.
ما حصل في جزائر 1992، ومصر 2013 بتدخل الجيش في المسار الديموقراطي وبرضا وتشجيع من القوى «المدنية الليبرالية» قلب تلك النظرية تماماً، بل نقل مشكلة التعامل مع الديموقراطية إلى المعسكر «الديموقراطي»، ولكنه لا يزال وبإصرار عجيب يطرح السؤال عمّا إذا كان الإسلام السياسي مؤهلاً للممارسة الديموقراطية! إنه نقاش غير جاد، تستخدمه القوى «الليبرالية المدنية» للتغطية على موقفها المخجل من الديموقراطية، كما أنه استدعاء لجدل حول وضع عربي انتهى تماماً ولا عودة إليه، ففي ذلك الزمن «البعيد»، كان المحلل السياسي والباحثون العرب والغربيون، ومعهم إصلاحيون محليون، يتعاملون مع كتلة صلبة متشبثة بالحكم، تتمتع بشرعية ما نتيجة غلبتها، وبدا أنها قدر العرب المحتوم. إنها النظام العربي القديم، المكوّن من عناصر ثلاثة، عسكر يقودون، وبيروقراطية مطيعة تسيّر أحوال البلد، وطبقة مدنية منتفعة، فحاولوا إقناعها وقلبوا معها احتمالات ونتائج إشراك الإسلاميين في شكل محدود ومسيطر عليه في مؤسسات النظام، بعدما استعصوا على الزوال، على رغم التنكيل من إعدامات ظالمة واعتقالات لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، وحملات تشويه، ولم يكن ذلك نتيجة يقظة ضمير ورغبة في الإصلاح، وإنما اعتراف مستحق نتيجة قوة الإسلاميين في الشارع، قلّل الإعلام الرسمي من حجمها، ولكن أمنه الفعال والعالِم بواقع الحال في الأحياء الشعبية والمساجد يرفع التقرير تلو التقرير الذي يؤكد وجودهم القوي.
اتخذ هذا الجدل سبيله إلى الندوات الثقافية، وأعمدة الصحف، عنوانه «الإسلام السياسي والديموقراطية»، يظهر تارة كرغبة في الإصلاح والانفتاح، وتارة أخرى لتبرير التطبيق المشوّه للديموقراطية، فكان العذر المزعوم هو حماية «المجتمع المدني» من تغوّل الإسلام السياسي عليه، بما يحمل من أفكار رجعية تهدّد الإصلاحات الاجتماعية التي تحقّقت. وجدت الأنظمة «التقدمية» سلوتها في «السلفية» فشجّعتها على النمو، فاشتبكت معها تارة، واستفادت منها تارة أخرى بتشجيع مدرسة «السمع والطاعة» السلفية، التي تدعو الفقراء والعامة في الأحياء الشعبية إلى «السمع والطاعة»، كما استفادت أيضاً من الجانب المنغلق للسلفية العاجزة عن التطور وقبول الديموقراطية التي تراها كفراً وعدواناً على حاكمية الله وشريعته، فعمّمت هذه النظرة الضيّقة على عموم الإسلام السياسي، فكان مثقّفو النظام مثل دون كيشوت يستمتعون بمصارعة فكرة غير موجودة في صلب الحركية الإسلامية التي اصطلحت مع الديموقراطية منذ الثلاثينات الميلادية، ولكن تشجيع الأفكار السلفية أدى إلى انتكاسة بعض الحركيين حيال الديموقراطية، وظهر هذا جلياً مع «الإخوان المسلمين» في مصر بعد سقوط مبارك، خلال سنتي الديموقراطية القصيرة الأجل هناك، ظهر خلالهما حجم «تسلف الإخوان» وابتعادهم عن المشروع الوطني المصري التقليدي الذي تميزوا به خلال الأربعينات، فدفعوا ولا يزالون يدفعون ثمن ذلك من شعبيتهم خصوصاً بين النخب المثقفة.
لم يكن الحوار والتدافع بين الإسلام السياسي والنظام العربي القديم صدامياً دوماً، وإنما أدى إلى شراكة بينهما في بعض الدول العربية كاليمن، إذ تحالف «الإخوان» مع الرئيس المعزول علي عبدالله صالح لأكثر من عقدين، ولم ينهِ تحالفهما غير الربيع العربي، وفي السودان أيضاً بين الجيش والإسلاميين، ولكن كانت شراكة وفق قواعد النظام العربي القديم، أي أنها كانت على حساب الديموقراطية. الشاهد هنا أن مشكلة العرب، ليبراليين كانوا أم إسلاميين، هي مع الديموقراطية، وليست مع الإسلام السياسي أو أية آيديولوجية أخرى، وأن موقفهم المتردد والانتقائي نحوها هو الذي عطّل مسيرتها.
لقد حان الوقت لإعادة طرح أسئلة المستقبل، فالديموقراطية، أو المشاركة الشعبية، أو الشورى، سمّها ما تشاء، آتية لا ريب فيها. إنها الاستحقاق الطبيعي والتطور الحتمي للتاريخ، ومن أهم شروطها «الحق في الاختيار»، هذا الحق الذي يبدو بسيطاً هو الذي غيّر وجه أوروبا عندما أعلنت حكومة ألمانيا الديموقراطية (نعم كان هذا هو الاسم الرسمي لألمانيا الشرقية ذات الحزب الواحد والنظام الشمولي) في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 أن من حق مواطنيها عبور سور برلين الشهير وزيارة برلين الغربية، هذا الحق تحوّل إلى موجات بشرية هدّت السور حجراً حجراً، وأنهت النظام الشمولي ليس في ألمانيا «الديموقراطية» وحدها وإنما في كل أوروبا الشرقية.
الديموقراطية هي حق الاختيار، ولا يمكن لأي نخب مهما بلغت من الوعي أن تحدد من يحق له ممارسة لعبتها ومن يحرم منها وإلا تحولت إلى نادٍ خاص. لقد فعل ذلك عبدالناصر، الذي ألغى بانقلابه على نظام ديموقراطي في 23 تموز (يوليو) 1952، وأراح نفسه والنظام عندما شكّل ما سماه «الاتحاد الاشتراكي» ليحل أزمة نظامه الشمولي من وعد الديموقراطية الكامن في الضمير المصري، ولكنه كان برلمان نادي نظام عبدالناصر وليس برلماناً شعبياً وفق قواعد الديموقراطية الليبرالية، فسنّ بذلك سنّة سيّئة اتبعها من جاء مثله بانقلاب في بقية الجمهوريات العربية.
لا توجد منزلة بين المنزلتين في هذا الزمن، إما ديموقراطية كاملة كما يعد بها أي دستور متحضّر، أو لا ديموقراطية، كما أنه لا يمكن تأجيل الديموقراطية حتى يعمّ الرخاء ويتحسّن الاقتصاد ويرتفع وعي الشعب، فالنظرية المجرّبة أن كل ما سبق لم يتحقّق إلا بسبب الاستبداد، بالتالي لا يمكن أن يكون الاستبداد مفضياً إلى رخاء واقتصاد جيد، إذ تنعدم قواعد «المكاشفة فالمساءلة ثم المحاسبة». النظرية واضحة ولا حاجة لمقالة أخرى في مساوئ الاستبداد.