إشكالية المواجهة في الثورة السورية: لا يمكن لتحرك شعبي أن يكون منفصلا عن المؤثرات الواقعية والتداعيات الموضوعية لتطور الحدث وتفاعله.
لغاية مرحلة معينة من عمر الثورة كان الجميع متفقين على أن كل التخريب ناتج عن ممارسات النظام على مدار خمسين عاما مضت على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري، ولكن عمق الجرح واستثمار الدم في الترويج للخطاب الطائفي كان لعبة النظام، إلا أنه أنتج رد فعل منطقي مقارنة مع الإجرام الذي توجه لعموم المجتمع السوري، وبدا الاستهداف السني واضحا، بحيث إنه سيؤتي مفعوله بشكل طبيعي كمحصلة لانعدام الحوامل الاجتماعية والمدنية لمجتمع قائم على الفراغ، ومجهل تماما بفكرة الوطن والمواطنة وينظر لها على أنها حالة فطرية يمكن أن تنسحب على حوامل أوسع وأكثر قبولا لتأصلها في النفس المقهورة والمظلومة، وهنا من الطبيعي الالتجاء الكامل للروحانيات وانتشار الفكر الأصولي عند الجميع بلا استثناء لملء الفراغ الإنساني ومقاومة حالة السحق المتعمد للروابط الإنسانية الطبيعية.
إن ما يعيشه الشعب السوري هو ظرف استثنائي قهري ينتج ردود فعل متطرفة متوافقة تماما مع النهج المتبع في تفتيت كل أواصر التواصل البشري.
وحتى لا نبتعد عن المراد نقاشه فإنه قد نما في الفترة الأخيرة عداء طائفي واضح في مناطق التماس لم يكن ظاهرا بالوضوح الحالي.
ولما كان انقسام المجتمع اتخذ عدة مناحٍ، منها: معارض وموالي، مع السلاح وضد السلاح، نخبة وعامة، سياسي وثوري، علماني وديني، طائفي وغير طائفي.
لكن الإشكال كان قائما نتيجة تدخل الفعل الطائفي بكل المستويات السابقة سواء بوضوح تام وفاجر أو بشكل موارب وبتورية تحت شعارات أكبر.
فقد شهد المثقفون الكبار انزياحات واضحة في خطاباتهم محيرة جدا، خصوصا العلمانيون منهم، حيث يعكس هذا الخلل سطوة الموروث الجمعي على الخطاب وانسلال الطائفية الواضح بين الكلمات وما وراء السطور.
ومن الأمثلة الواضحة لحد كبير وإن لم تكن حالة عامة ولكنها قابلة للإسقاط على الواقع: انحياز الغالبية العظمى من معارضة الأقليات لخيار الحل السياسي، وهذا يعكس قلقا مبطنا من تفشي الحرب الأهلية التي يصبحون فيها كجماعات حلقة أضعف.
تباين الموقف بين من يطلق عليهم علمانيون من الأقليات ومن يطلق عليهم علمانيون من السنة مما يعيدنا للمربع الأول، وهو أن العلمانية مفهوم لم يصل لعمق البنية الجذرية للبشر ولا حتى بعموم نخبتهم.. لأن غياب المواطنة يؤدي إلى غياب المدنية وانعدام الانتماء الوطني.
إن علاج الأزمات المركبة من هذا المستوى غير ممكن بالمنحى التثقيفي أولا تبعا للظرف الذي يعطي الشرعية والرواج للخطاب الشعبوي، وثانيا لانشغال الناس بقضاياهم المعيشية الدقيقة نتيجة الوضع المعاشي السيء من جهة والالتفات لصراع البقاء في ظل الحرب الطاحنة على هذا الشعب والمآسي المتلاحقة التي تفتح طريق الجنة أمام الثائرين والمنتقمين والانتحاريين. وبالتالي ليست كتاباتنا ترفا وإنما يمكن أن تكون توثيقا وشهادة مسبقة.
سأعطي مثالي الذي سأختم به عما حدث في قرية كفتين قرية الموحدين في إدلب في شمال سوريا ودون الدخول في تفاصيل كيف ولماذا؟ وماهي مواقف أهالي المنطقة الثورية أو غير الثورية، سأنتقل مباشرة لطبيعة الخطاب المحلي لمناطق الموحدين أنفسهم:
1- الموالاة التي تتبنى خطاب النظام بالكامل والعصابات والتطرف وتهديد الوجود الطائفي وتزيد من الشعر بيتا بالتركيز على وجود الطائفة واستهدافها.. إلى آخر ذلك من حملات التحريض التي تخلق جيشا من الميليشيا الطائفية بدافع الخوف وصراع البقاء.
2- المعارضة التي تتبنى رواية أن كل تطرف هو صنيعة للنظام وأن النظام يريد استهداف الطائفة لتعزيز الفرقة بين أطياف المجتمع وتتودد هذه المعارضة للتوجهات الإسلامية بشكل مبالغ فيه للتأكيد على الأخوة في الدين و.. و..
واقع الحال لا هذا ولا ذاك ربما الصمت أبلغ في هذه الحالة وهذا ما اختاره معظم السوريين لعجزهم عن استثمار الدم والخوض فيه.
بالنهاية ما يجب الانتباه له هو آلية إنتاج عقد اجتماعي بمستوى ما.. ربما طائفي عشائري.. مصالحي المهم استنباط حل متوافق مع قراءة مدروسة ومنهجية تنطلق من الحقيقة وليس من الاصطفاف السياسي.. ومن خيارات البشر وحقهم بالحياة.. وهذا كان السبب المباشر لمحاولاتنا المتكررة تحييد مناطق الطائفة الدرزية عن الصراع بمنطق الحياد التام وجعل تبني مواقفنا السياسية تبنيا شخصيا.. وهذا هو المسعى الذي يجب أن يتم العمل عليه لخلق قيادة محلية ضمن منطق العرف الاجتماعي وتقويتها خارج فكرة المعارضة والموالاة تماما وتحريم الصراع الداخلي على أرضية سياسية وهذا شكل من أشكال العقد الاجتماعي الممكن بمعنى لا ضرر ولا ضرار.
أنا لا أكتب هذا بصفتي الناشطة السياسية المعارضة، وإنما بصفة امرأة تنتمي لأقلية دينية من جهة وتنتمي لسوريا الغنية بطوائفها ومكوناتها من جهة ذات الأغلبية السنية، وبالتالي هنا لا أمارس دورا سياسيا وإنما أبحث عن صيغة عقد يخفف من احتمال الحرب الأهلية وتساهم بوقف هدر الدم ضمن المنطق الواقعي وليس خيالات الايدولوجيات الحزبية البائدة التي لو أنتجت المواطنة لما وصلنا إلى هنا.