حالة السيولة العجيبة التي يتسم بها مصطلح ‘العرب’ لا تحتمل أن يكون أساسًا لأيّ تخطيط في أيّ مجال.
العرب: وليد علاء الدين
كلما طُرح سؤالٌ يستخدم كلمة “العرب” في جملة تشي بأنها مفردة واضحة الدلالة وجدتُني مندفعًا نحو التفكير في معنى تلك الكلمة السائلة التي بهت لونُها من كثرة ما اختزن من بقايا ألوان راكمتها التجارب والسنون.
وتزداد خشيتي حين يرتبط الأمر بسؤالٍ عن قضايا مصيرية وعمومية في الوقت نفسه؛ كالسؤال عن حاضر العرب أو مصيرهم أو مستقبلهم أو ثقافتهم أو ماذا عليهم أن يفعلوا في قضاياهم الراهنة؟ فأجدني أتساءل بدوري: مَنْ؟
في ظني أن الأزمة الحقيقية تكمن في ذلك الإصرار المستمر على اعتبار “العرب” مصطلحًا مفهومًا واضح الملامح والأبعاد.
الواقع أن هناك أكثر من “عرب”، مختلفون أحيانًا إلى حد التباين. ولا يجوز اختزالهم في مصطلح واحد. أو -على أقل تقدير- لا يجوز الارتياح لذلك من دون النظر مليّا في كل سؤال على حدة، ثم إعادة تعريف المصطلح وتعبئته بما يتفق والهدف منه، لكي تتسق نتائج كل أطروحةِ إجابةٍ أو سيناريو عمل مقترح، مع ما رمى إليه السائل وسؤاله.
من فترة قصيرة، حكى لي زميلُ عملٍ حضر مؤتمرًا علميًا أقيم في إحدى دول الخليج العربي، أن السيرة الشعبية العربية “عنترة وليلى” كما يصنفها خبراءُ التراث الشعبي، حظيت بعدة ورقات بحثية ألقاها باحثون من أقطار عربية مختلفة منها تونس ومصر والعراق.
وفور انتهاء هؤلاء الباحثين من عرض أفكارهم بشأن السيرة -التي يعتبرونها جزءًا من تكوينهم كعرب- تفضّلَ أحدُ الباحثين من المملكة العربية السعودية فأبدى استهجانه وغضبه لتدخل هؤلاء الباحثين بالبحث والعرض في سيرة لا تخصهم! فهي بحسب وصفه “لا تنتمي إليهم ولا ينتمون إليها”!
انتهى المثال. وعلى الرغم من بساطته الظاهرية إلا أنني أرى فيه دليلًا هامًا على الطبيعة المتغيرة لمصطلح العرب والعروبة بتغير زوايا نظر من نصفهم بالعرب من ناحية. وإشارة ذات دلالة على التراكمات التي لم يُلتفت إليها في مضمون هذا المصطلح من ناحية أخرى، وهي التراكمات التي تستدعي ضرورة النظر فيه وإعادة تعبئته بما استجد من معان.
هذا جهد كالواجب اليومي لا بد من القيام به في كل مرة نتعامل فيها مع هذه المصطلح في إطار وحدود زاوية التعامل وأهدافه، وإلا كانت النتائج كارثية.
وإن كانت كارثية بالفعل منذ أن استقلت الدول العربية عن الاستعمار العثماني باسم الخلافة الإسلامية، ليستعمرها الغربُ بأسماء أخرى عديدة.
حالة السيولة العجيبة التي يتسم بها مصطلح “العرب” لا تحتمل أن يكون أساسًا لأيّ تخطيط في أيّ مجال. إنه أشبه بوصف كل سائل بأنه ماء، مع إغفال التفاوت المذهل بين مواصفات وخصائص هذه السوائل الكيميائية والفيزيائية، وبالتالي آثارها التي تقع ضمن طيف يبدأ من “ترياق” وينتهي عند “سم زعاف”.
ثمة لبس شديد التعقيد بين (العرب) وبين ما يوصف بـ(الحضارة العربية)، وبينهما معًا وبين (الإسلام) بصفته الدين الرسمي لتلك الحضارة
الأمر أشبه بسحب صفة واحدة من صفات كائن شديد الثراء لأغراض التصنيف والدراسة ولتسهيل الحديث عنه، ثم يقع هذا الكائن أسيرًا لهذا الوصف ولا يمكنه الفكاك من أسره. من قبيل تصنيف الكائنات الحية إلى خمس ممالك في مقدمتها “الحيوانات”، والتي تنقسم بدورها إلى قسمين: الفقاريات، واللافقاريات.
ماذا لو اكتفينا في تعريف الإنسان بكونه “حيوانًا فقاريًا”، ثم تعاملنا معه على هذا الأساس، هل ننتظر منه أن يتمكن من العيش تحت الماء كالأسماك، ونحاسبه كيف لم يفعل؟ أو يطير كالطيور ونعاقبه إن لم يحلّق في الهواء؟ ولم لا… فالأسماك والطيور هي الأخرى حيوانات فقارية؟
استخدام مصطلح العرب هذه الأيام من دون إعادة تعبئته وتحديثه وتحيينه لا يختلف كثيرًا عن ذلك.
كيف يمكن -والحال كذلك- وصف وتشخيص حاضر العرب، أو التخطيط لمستقبلهم قبل أن نتفق على معنى المصطلح وإعادة تعبئته بمعانيه الواقعية؟
كيف يمكن أن نواجه -إذا كانت هناك رغبة في الأمر- عمليةَ التحول التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية ورأسُ حربتها “إسرائيل”، من مصطلح الوطن العربي إلى مصطلح العالم العربي وصولًا إلى مصطلح الشرق الأوسط الذي لا هدف له سوى دمج “إسرائيل” في المنطقة، إذا لم نكن متفقين على العنصر الرئيس في المصطلح وهو “العرب”؟
ثمة لبس شديد التعقيد بين “العرب” وبين ما يوصف بـ”الحضارة العربية”، وبينهما معًا وبين “الإسلام” بصفته الدين الرسمي لتلك الحضارة.
هذا اللبس سببٌ رئيس في التعميم المخلّ بسحب مصطلح “العرب” على كل أبناء النموذج الحضاري الذي نشأ تحت مظلة اللغة العربية والدين الإسلامي، وهما عنصران لا يمكن الفصل بينهما باعتبار أن الأول انتشر بسبب الأخير.
وخطورة هذا اللبس -بين اللغة والدين وما نتج من حضارة تحت مظلتهما- أنه وقف أولًا حاجزًا أمام محاولات تحليل هذا النموذج الحضاري ودراسة أسباب نجاحه، واكتشاف أن النسبة الغالبة في أسباب هذا النجاح لا علاقة مباشرة لها بهذين العنصرين: اللغة والدين، إنما الأمر مرهون بحالة نموذجية اجتمع فيها الثراء -بأبعاده المادية والفكرية والمعرفية والخبراتية- مع الاستقرار والديمومة (المدى الزمني الطويل).
صحيح أن هذه الحالة هي نتيجة مباشرة للتوسع الجغرافي باسم الدين، سواء بالفتح أو بطرق الاتصال. إلا أنها ليست نتيجة مباشرة لهذا الدين أو للّغة التي حملته وحملها. هذا مفهوم وجب تصحيحه منذ أمد بعيد.
لا شك في أن الثراء -كما وصفناه- والاستقرار والديمومة، هي أبرز العناصر اللازمة لقيام أيّ حضارة.
هذا الاستقرار جمع تحت مظلته -بحكم التوسع الجغرافي- ثقافات وأساطير ومعارف وعلوم وخبرات شعوب عدة.
لوحة: محمد خياطة
إنه أشبه باستدعاء ممثلي ثقافات وأعراق شعوب الأرض المختلفة منذ نشأة البشرية وخلق المناخ المناسب لهم بالتناغم والتواصل في مختبر واحد كبير، مع كسر حاجز التواصل عبر توفير لغة وسيطة تسمح للجميع بالتعبير عن أفكارهم.
ماذا لو كانت اللغة لغة أخرى غير العربية؟ هل كان الأمر يختلف؟ ماذا لو كانت اللغة هي الهندية مثلًا هل كان الأمر يختلف؟ ماذا لو كان هذا التوسع الجغرافي تم تحت مظلة دين آخر هل كان الأمر يختلف؟
كلها تساؤلات تستحق عناء البحث والتنقيب والتفكير، وأظنها مقدمة لا فرار منها لإعادة تعبئة مفهوم العرب والعروبة بمعانيهما الحقيقية.
عند لحظة تاريخية معينة لم يعد “العرب” مصطلحًا عرقيًا، ولا جغرافيًا. وفي لحظات تاريخية لاحقة لم يعد حتى مصطلحًا حضاريًا -فقد ذابت الحضارات وتداخلت أطرافها- ولم يعد من المنطقي أن تُحيل العروبة إلى الحضارة التي ازدهرت تحت مظلة الإسلام وكانت العربية لغتها.
في لحظات تاريخية بعينها كان المصطلح مؤهلًا لحمل مسؤولية مشروع قومي ذي ملامح محددة وآمال مرسومة تسمح بتأجيل نقاش الأمر، إلا أن الواقع بما يطرح من مستجدات يستدعي العودة بعمق إلى هذا الملف وفتحه على مصراعيه.
لم يعد مصطلح العرب، بسبب تلك اللحظات التاريخية التي مرّت من دون تأمل ونظر لإعادة تعبئته، قادرًا على التعبير عن فكرة محددة الملامح والأبعاد يمكن الاطمئنان إليها كأساس للبناء.
لقد نجح الإسلام في دق راية العروبة -سواء عبر الفتوحات أو غيرها- في ثقافة عدد كبير من الشعوب التي فتحها أو وصل إليها بطرق أخرى، فتغيرت اللغة وبالتالي منظومة التفكير.
في المقابل استقبلت شعوب أخرى المنظومة العقائدية الدينية من دون التخلّي عن لغاتهم الأصيلة بما تحمل من منظومة فكرية وتواصلية وإرث حضاري كبير. هذا الأمر محل نقاش آخر ليس هنا مجاله، ولكن ما يهمنا منه أن العربية كلغة فاتح، وثقافة وافد، لأسباب عديدة، فشلت في تغييب لغات أصحاب حضارات عريقة حلّت فيها باسم الإسلام، بينما نجحت في حضارات أخرى.
والنتيجة أنه لم يعد هؤلاء الأقوام أنفسَهم، لكنهم رغم ذلك لم يصبحوا عربًا. هم -إذا شئنا الدقة- أصبحوا عربًا آخرين، لهم مواصفات مختلفة وتراكيب فكرية وثقافية مختلفة وإن تغير لسانهم، أو بالأحرى نتيجة لتغير ألسنتهم. فهل أُخذ هذا الاختلاف بعين الاعتبار عند صك مصطلح العرب؟
ما حدث أنه في ظروف تاريخية ما وتحت وطأة الرغبة في تشكيل قومية عربية لمزيج من الأهداف أبرزها سياسي، تم التغاضي عن هذه التباينات الجلية في تركيبة القوم الذين تم سحب مصطلح العروبة عليهم. هذا التغاضي العاطفي، لم يكن مدروسًا لصالح تحقيق أهدافه الزمنية، لذا فقد تحول بسهولة إلى عيب رئيس في الأساس الذي نشأت عليه الفكرة. وكان لا بد لها من التهاوي تحت ضربات مطارق وجّهها لها الآخر على اختلاف أجناسه ومصالحه.
(العروبة) ليست دليل وحدة ثقافة ولا تصلح كوحدة تفكير مشترك. ولا هي وحدة قياس للكيفية التي يزن بها كل شعب من الشعوب الحاملة لصفة العروبة ذاته أو يخطط بها لمستقبله
هذا “التعدد العروبي” كان ينبغي له أن يصبح عامل قوة، وليس ثغرة تنقض غزل “العرب”. لكن الأمر كان مشروطًا بالانتباه إلى تلك التعددية ورعايتها لتصبح روافد ثقافية وفكرية ودينية تصبّ في تعزيز قوة العروبة في تجلياتها الجديدة.
هذه الرعاية كانت ضرورة لا غنى عنها خاصة وأن العامل المشترك الأهم بين معظم هذه القوى هو “الانهزام” لدرجة التخلي عن جوهر الذات.
معظم من يشتركون في صفة العروبة في تجلياتها الجديدة هم سلالات شعوب تخلت عن إرثها الحضاري -متمثلًا في اللغة والمعتقد- لصالح لغة الوافد ودينه.
هذا “الانهزام” هو الخصيصة التي لولاها لما تحوّلت هذه الأقوام إلى عرب بفتح أو بغيره!
ومع ضرورة تقدير كل ما يمكن الوقوف عليه من ظروف وملابسات لكل تجربة منفصلة، قد تخفف من قسوة الوصف بالانهزام أو تعمقه، إلا أن انتباهًا مبكرًا لهذه الخصيصة كان -في ظننا- كفيلًا بتغيير مسار الأحداث وضبط مصطلح العرب بشكل يجعلهم أشد منعة وقوة في مواجهة تجارب الاستعمار سواء تحت البطش أو باسم الخلافة أو بغيرهما من أسماء.
عدم الانتباه المبكر إلى ذلك جعل العروبة “ترقيعًا حضاريًا” كان من الأجدر به أن يكون “ترصيعًا” حضاريًا، لولا غياب الوعي بأن الأصل المتعدّد لن يمكنه الصمود إلا في ثقافة منفتحة ومناخ من الحرية لا يقف أبدًا عند حدود دين أو جنس أو عنصر أو لون.
كل عنصر في هذا التعدد مهما طالت به الأزمان يحتاج إلى الشعور بأنه يستدعي كل جماله وروعته بوصفه جزءًا من فسيفساء عظيمة. لا أن يشعر بأنه مطالب بالتخفي والتلون في لون آخر بادعاء أنه الأصيل أو الأرقى أو التدين بدين باعتباره دين الحضارة أو الأعلى، أو الفخر بثقافة بإدعاء أنها مصدر الحضارة بينما لا يشعر بنسغها يجري في عروقه.
“العروبة” ليست دليل وحدة ثقافة ولا تصلح كوحدة تفكير مشترك. ولا هي وحدة قياس للكيفية التي يزن بها كل شعب من الشعوب الحاملة لصفة العروبة ذاته أو يخطط بها لمستقبله.
التمسك بالعروبة في حدها الأدنى وهو اللغة خطر داهم، وغنيّ عن البيان أن اللغة لم تعد ذلك العامل المشترك شديد الجوهرية كما كان في السابق. ولم تعد ذلك العائق عن التواصل والتكامل والاندماج، نتيجة للتغير المذهل في أشكال التواصل متعدد اللغات وانتشار وسائل الترجمة الفورية واتساع نطاق المعرفة بالآخر.
لم تعد اللغة حائلًا دون إقامة وحدة مع من يشبهك في رؤيتك للعالم والكون.
الحديث الآن حديث رؤية؟ كيف ترى نفسك وكيف تراها وسط العالم. والوحدة وحدة مع من يمكنه أن يساعدك على دعم رؤيتك. والسؤال سؤال تبادل مصالح، والمصالح مرتبطة بالموقف من العالم والكون.
هذا أمر جدير بأن يتحقق بسهولة بين دول تشترك شعوبها في اللغة، فتصبح اللغة عاملًا جيدًا لتسريع وتسهيل الأمور. لكن لم يعد مقبولًا أن تكون اللغة هي الأساس لبناء الوحدة.
لم يعد مقبولًا ولا معقولًا وضع اللغة العربية -بهذا التصور العاطفي القومي الديني لها- ضمن منظومة مشتقة من اسمها “العروبة” مطمئنين إلى أنها تعني وحدة في الرؤية، وأنها تصف حالة من التناغم والتقارب الفكري والثقافي تسمح ببناء وحدة على أساسها.
هذا خطأ كبير، لا أقول علينا التخلص من مفهوم العروبة، ولكن أقول علينا إعادة تعبئته بما يتضمنه بالفعل من معان حتى يمكن التفكير بعد ذلك أين يجب علينا أن نتحرك به وفي ضوئه.
كاتب من مصر