إعادة التفكير في مبادئ ويلسون
بينما يفكر واضعو السياسات الأميركية في الشكل المستقبلي لمنطقة الشرق الأوسط، قد يكون من الواجب عليهم تذكر معارضة الولايات المتحدة لاتفاقية سايكس – پيكو عام 1916، وكذلك «الخط المرسوم على الرمال» الشهير الذي قسم المنطقة، والذي يقال الآن إنه آخذ في التلاشي.
وكانت تستند معارضة الولايات المتحدة للاتفاقية آنذاك إلى رفضها للدبلوماسية السرية بين بريطانيا وفرنسا، التي بموجبها وضعت الخطة لتقسيم الإمبراطورية العثمانية عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ حيث عارضت الولايات المتحدة هذا التقسيم الاستعماري الجديد للمنطقة، وطالبت بدلا من ذلك بتطبيق مبدأ حق تقرير المصير.
تعود مأساة الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط الحديث إلى أن الولايات المتحدة أصبحت – دون قصد أو إدراك كامل لذلك – بمثابة الحامي لنظام ما بعد الإمبريالية الذي كانت تعارضه وتقاومه من قبل. هذه القصة من الممكن أن تملأ صفحات كتاب، ولكن دعونا الآن نسترجع بالذاكرة الرؤية البديلة التي وضعتها الولايات المتحدة في الوقت الذي انهارت فيه الإمبراطورية العثمانية.
أوضح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون إطار عمله في بيانه الشهير الذي أعلن فيه عن «المبادئ الأربعة عشر» في يناير (كانون الثاني) 1918، أي بعد مرور تسعة أشهر من التدخل الأميركي في الحرب العالمية الأولى.
عقب الهدنة التي أبرمت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1918، كانت المبادئ المثالية التي وضعها ويلسون محور النقاش المثير للجدل في مؤتمر فرساي للسلام؛ حيث كانت تلك المبادئ بمثابة مصدر للإلهام لأولئك الذين يشعرون بأنهم ضحايا للنظام القديم، وينزعجون من التدابير المتخذة من جانب فرنسا وبريطانيا.
وقد قامت كل من بريطانيا وفرنسا في مؤتمر فرساي بفرض اتفاق سلام أناني وقصير النظر للغاية، كان يضمن تقريبا صعود ألمانيا الانتقامية؛ مما أسفر عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، وصداع الشرق الأوسط الحديث الذي لا يتوقف؛ فقد كان هذا الاتفاق – كما اتضح في عنوان كتاب ديفيد فرومكين الرائع الذي يعود إلى عام 1989 – بمثابة «سلام ينهي كل السلام». هذا الاتفاق الذي انهار الآن؛ حيث إن الحروب الأهلية التي نشهدها في سوريا والعراق أسفرت عن تقسيم تلك البلدان بحكم الأمر الواقع، وأصبح التساؤل الذي يشغل بال واضعي السياسات يدور حول ما إذا كانوا يعملون على إعادة رسم الخطوط أم يتركون المنطقة تتحول إلى كانتونات أصغر، مثل نظام التقسيم الإداري المتماسك عرقيا (يتس vilayets) أيام العهد العثماني.
أرى أنه من السابق لأوانه للغاية أن نصدر حكمنا حول ما إذا كان قد جرى الانتهاء من مرحلة ما بعد حدود عام 1919 أم لا، فقد كانت لبنان مقسمة فعليا أثناء الحرب الأهلية التي واجهتها، والتي دامت لمدة 15 عاما، ولكن برهنت الهوية الوطنية اللبنانية عن قوتها بما فيه الكفاية؛ حيث تمكنت من استعادة سيادتها في اتفاق الطائف عام 1989. وأعتقد أن فكرة الوطنية السورية ستظل قائمة بمرور الوقت أيضا، وإن كنت لست متأكدا من هذا الأمر بالنسبة للعراق، ولكن على أي حال فهذه الأمور تخص شعوب المنطقة والقرار لهم، ولا يحق لأجانب التدخل في هذا الأمر.
وهنا نتساءل: ما الذي يمكن أن نتعلمه من مبادئ ويلسون الأربعة عشر فيما يتعلق بالأحداث المطروحة على الساحة حاليا؟ في الواقع، المبادئ التي تتعلق إلى حد ما بالأحداث الراهنة تكمن في أول خمسة مبادئ، ويتعين التطرق إليها بدقة لأنها تضع إطارا للعمل يمكن الاستفادة منه عند أي محاولة لإعادة النظر في خريطة الشرق الأوسط. وما يلي يوضح تلك المبادئ الخمسة، مع الإدلاء ببعض الملاحظات بشأنها:
1- «تقوم العلاقات الدولية على مواثيق سلام عامة، وتكون المعاهدات الدولية علنية وغير سرية». جاء هذا المبدأ من جانب ويلسون كرد فعل للصفقات الخاصة التي تهدف إلى تحقيق المصلحة الذاتية من جانب السير مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو، تلك الاتفاقات التي أثارت فزع المراقبين أمثال تي. إي. لورانس الذي يمكن أن نتعلمه من ذلك المبدأ اليوم أنه يتعين على أي نظام جديد في المنطقة أن يحظى بالقبول من جانب المنطقة ذاتها، بدءا من الدول الإقليمية الرئيسة أمثال إيران والسعودية.
2 – «حرية الملاحة المطلقة في البحار». لا يزال من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة – القوة البحرية الرائدة في العالم – ضمان تدفق النفط في مضيق هرمز والخليج العربي، ولكن بالنظر إلى تراجع القوة الأميركية، هل من الممكن أن تسيطر الصين على هذا النظام البحري المفتوح، الذي يستند إلى قواعد تحكمه؟
3 – «إلغاء كل الحواجز الاقتصادية بقدر الإمكان». تعد الرؤية الواعدة الوحيدة بالمنطقة هي تلك التي تبدأ بحرية التجارة، والتي بموجبها يتدفق العمل ورأس المال عبر الحدود الإسرائيلية والعربية، وبالتالي يمكن أن تكون منطقة الشرق الأوسط المتكاملة اقتصادية مربحة بشكل مثير للدهشة.
4 – «تخفيض التسلح إلى الحد الذي يكفل الأمن الداخلي». فقد بات من الواضح على نحو متزايد فكرة منطقة الشرق الأوسط الخالية من الأسلحة النووية، حتى بالنسبة لإسرائيل، ولكن هل يكون تنافس إيران ومصر والسعودية، لكي يكون لديهم قوة ردع مماثلة لقوة الردع الإسرائيلية غير المعلنة، في صالح إسرائيل؟
5 – «عند تقرير المسائل المتعلقة بالسيادة، يجب أن تكون مصالح الشعوب المعنية ذات ثقل مكافئ للمطالب العادلة للحكومة التي سيجرى اختيارها». وهنا نجد أن صميم الموضوع يعد واحدا ضمنيا؛ حيث إن تطلعات الأكراد، فيما يتعلق بالقومية، لا تزايد على السيادة العراقية، ولكنهم يستحقون أن يكون لهم ثقل مكافئ.
دعونا نفكر مليا، ففي النهاية نجد أن «الدولة الإسلامية» المعلنة لا تلبي أيا من هذه المبادئ التي وضعها ويلسون، بل إنها في الواقع تعد مثالا حيا على إقامة دولة غير شرعية.
يكمن الجانب الإيجابي الوحيد لهذه الدولة الإسلامية في أنه بقيام الجهاديين إعلان الخلافة، فإنهم بذلك أعطوا الفرصة للدول المجاورة لهم، وكذلك القوى الدولية التي تعمل على مكافحة الإرهاب، الحجة للتصدي لهم؛ فأي دولة تجعل نفسها ملاذا آمنا للإرهاب ستكون مستهدفة، وبهذا المعنى ولدت الدولة الإسلامية وفي فمها حبوب انتحارية قاتلة.
* خدمة {واشنطن بوست} نقلا عن الشرق الاوسط