القضية المحورية فى الإسلام، والتى يكون منها المنطلق هى أن الله تعالى أراد أن يجعل الإنسان خليفة له على الأرض، ووضع العوامل التى تحقق هذه المشيئة أفضل تحقيق سواء كان ذلك بالنسبة للزمان والمكان، أى الوقت الذى يأتى بعد اليهودية والمسيحية ويكون بمثابة النهاية لمسيرة البشرية، كما أراد للإسلام أن يظهر فى صحراء العرب على وجه التعيين، وجعل الطبيعة الإنسانية وطبيعة الإسلام تتلاقيان فى الوقت والمكان المعينين، وبالتالى فإن كل الخيوط تتلاقى فى العوامل وتتفاعل لتحقيق المشيئة الإلهية التى تتبلور فى «إسلام الإنسان» الذى مَثـَّـل الأساس النظرى والكيان العملى لخلافة الإنسان «إسلام الإنسان».
جاء الإسلام بعد أن مضت ستة قرون على المسيحية، وبعد أن طال الجدل حول طبيعة الأقانيم الثلاثة وعلاقتها ببعضها، وبعد أن توصلت الكنيسة إلى وجود قوى وبارز دون أن تحل المشكلة اللاهوتية للأقانيم، وما كان يمكن لهذه الافتراضات اللاهوتية أن تحل إلا بظهور الإسلام الذى يقدم رؤيته عن «الله».
وظهر الإسلام فى شبه جزيرة العرب حيث تنبسط الصحراء كالبحـر وتنطلق الرياح كالعواصف، وبين أقوام لم يكدحوا بأيديهم فى الأرض، ولم يحملوا على ظهورهم الحجر، مما شغل حياة الناس فى العهود القديمة، كانوا أحراراً يعيشون عيشة البداوة وتحكمهم الفطرة أو العرف، ويعيشون فى خيام يذهبون بها حيث الرعى أو فى بيوت ساذجة ويتحملون الحر اللافح نهارًا والبرد القارص ليلاً، ويعبدون آلهة من صنعهم فما كانت تملك تحريمًا أو تحليلاً أو تفرض قداسة أو «تابو»، ولم يكن لديهم ميثولوجيا.
وكان البساط الأصفر المترامى للصحراء، والرياح المنطلقة دون ما يصدها من جبال شاهقة تمثل أبرز خصيصتين لهذا المجتمع: المساواة والحرية، فلم يعرف المجتمع العربى القديم النظم الطبقية، ولا الألقاب الوراثية، ولا الحواجز ما بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا.
كيف تصور الإسلام الطبيعة البشرية؟
إن القرآن الكريم عندما عالج قضية الخلق، لم يسلك مسلك التوراة فيتحدث عما خلقه فى كل يوم من الأيام الستة حتى جاء اليوم السابع فيعطيه إجازة وراحة، إنه عندما أشار إلى خلق السموات والأرض تحدث عنها باعتبارها دليلاً على وجود الله والإيمان به، ولأنها على روعتها فهناك ما هو أكثر روعة هو الإنسان الذى بعد أن تحدث عن طريقة خلقه ــ كما سنشير إليها لاحقاً ــ تابع الحديث عنه فى كل صفحات المصحف بحيث يمكن القول إن القرآن كتاب يتحدث عن الإنسان فى شبابه وشيخوخته، فى غناه وفقره، فى أمله ويأسه، فى صحته ومرضه، فى استشرافه للهدى واستسلامه للشهوة، فهو فى حقيقته كتاب عن الإنسان.
وعندما أشار إلى خلق آدم اختلفت رواية القرآن عن رواية التوراة، فقد خلقه الله من طين لازب فأعطاه الطبيعة الأرضية ونفخ فيه من روحه فأعطاه العقل، والضمير، والوعى، والإرادة، ثم علمه الأسماء، وهو لا يسلك مسلك التوراة فى تحديد الأشياء وأسمائها لآدم، ولكن يقول «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» باعتبار أنها مفاتيح المعرفة، بعد هذا قرر أن يجعل الإنسان خليفة له فى الأرض، ولما أعربت الملائكة عن دهشتها، أجرى بين آدم وبين الملائكة مناظرة، تميز فيها آدم على الملائكة بفضل معرفته الأسماء، وأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا «إبليس» وهو الشخصية التى يرمز بها الإسلام للشر ولإغواء آدم، وتكريم للإنسان فى دين يقوم على التوحيد لله يكون أعظم تكريم يقدمه هو أن يوجد خليفة لله.
ولكن الطبيعة البشرية معقدة ومركبة، تتلاقى فيها الأضداد، فقد ورثت عن أصلها الطينى غرائز مادية، وأنانية تجعلها تميل للشهوات من مال أو جاه أو نساء أو نفوذ أو سلطان، كما ورثت من نفخة الله الضمير والوعى والإرادة، كما أنها بفضل تهيئة الله تعالى عندما «علمها الأسماء كلها» أى وضع فى يدها مفاتيح المعرفة بحيث يمكن أن ترتاد عالم العلم العجيب وما يتيحه لها من إمكانيات.
وأراد الله تعالى أن يختبرها فسلط عليها الشيطان، وأعطى هذا الشيطان «شيك على بياض» لخداع الإنسان وتضليله وصرح له باستخدام كل قدراته الفائقة التى يتميز بها عن الإنسان، وأن يستمر فى أداء دوره حتى يوم الساعة.
ولكن الطبيعة البشرية رغم هذا، وبحكم النفخة الإلهية فيها توق للإيمان وإحساس مبهم بوجود الله، وقدرة ما على التمييز ما بين الخير والشر، والإسلام يطلق على هذه الملكة «الفطرة» التى يولد بها كل الأطفال حتى يتولى الأبوان توجيه هذه النزعة الإيمانية إلى الدين السائد «يهودية، أو مسيحية، أو بوذية»..إلخ.
كان على طبيعة الإسلام هذه أن تتلاءم مع مقتضيات ممارسة مسؤولية الخلافة خاصة وقد هيأ الله تعالى الزمان والمكان والطبيعة البشرية لتقبل ذلك، وبقى أن تأتى طبيعة الإسلام سائرة فى الاتجاه نفسه.
ونتيجة لأن الإسلام دين الفطرة، فلم يجد الإسلام حاجة لإجراء يثبت به «إسلامية» الإنسان، ومن هذا المنطلق – منطلق الفطرة – لم يتقبل الإسلام كدين فكرة «الرهبنة» والابتعاد عن عالم الحياة الدنيا، والتخلص من الثروة والالتزام بالعفة، أى عدم المخالطة الجنسية حتى لو كانت بين الزوجين، وقال الرسـول «لا رهبانية فى الإسلام»، ورأى أن رهبانية الإسلام هى الجهاد لمقاومة الاستسلام للشهوات الجامحة وليس مقاومة الالتزام بما توحى به الفطرة والطبيعة البشرية التى لا يمكن أن تتنكر أو تتجاهل أقوى الغرائز – الغريزة الجنسية ــ ومن ثم جاء حرصه على الزواج الذى يكفل قضاء ما تتطلبه حياة الإنسان، وقد رفض الرسول مسلك مجموعة ارتأت أن تقوم الليل، وتصوم النهار، ولا تقرب النساء، ورأى أن هذا يخالف الفطرة، ولا يعد من سُـنة النبى الذى كان يصوم ويفطر، وينام ويصلى، ويتزوج، ويقر الملكية.
جمال البنا – مفكر حر
Related
About جمال البنا
ولد فى المحمودية من أعمال محافظة البحيرة (تبتعد عن الإسكندرية 50 كيلو) فى 15/12/1920 من أسرة نابهة عرفت بعلو الهمة ، فوالده هو مصنف أعظم موسوعة فى الحديث (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى فى 24 جزءًا ، وشقيقه الأكبر هو الإمام الشهيد حسن البنا المرشد المؤسس للإخوان المسلمين .
عكف منذ طفولته على الاطلاع بحيث تزود بحصيلة ثقافيـة غزيرة ، وبعد أن أتم دراسة الابتدائية ودخل المدرسة الخديوية الثانوية . حدث شجار بينه وبين أستاذه فى اللغة الإنجليزية وهو إنجليزى ، فترك الدراسة غير آسف ، واستكمل دراسته بوسائله الخاصة .
واصل جمال البنا مطالعاته ، وأصدر كتابه الأول سنة 1945 وهو عن الإصلاح الاجتماعى، وفى العام التالى (1946) أصدر كتابه "ديمقراطية جديدة" الذى تضمن فصلاً بعنوان "فهم جديد للقرآن" استعرض فيه فكرة المصلحة كما قدمها الإمام الطوفى ، وانتقد الموجة الحماسية لدى بعض الدوائر بفعل نجاح دعوة الإخوان المسلمين وقال : "لا تؤمنوا بالإيمان .. ولكن بالإنسان" وهذه الملاحظة لا تزال أحد معالم دعوة الأستاذ جمال البنا فى الإحياء الإسلامى .
فى عام 1952 أصدر "مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم" كما أسس (1953 ــ 1955) الجمعية المصرية لرعاية المسجونين ، وحققت الجمعية ثورة فى إصلاح السجون ، وأدت إلى مجابهة بينه وبين السلطات .
عندما قامت حركة الجيش فى مصر بقيادة عبد الناصر فى 23 يوليو سنة 1952 بدأ الأستاذ جمال البنا فى كتابة كتاب باسم "ترشيد النهضة" ارتأى فى الفصل الأول أن هذه الحركة هى انقلاب عسكرى وليس ثورة ، وما أن اطلع الرقيب على ذلك حتى أصدر أمرًا بمصادرة الكتاب ، وأخذ كل الملازم المطبوعة ، وبهذا التصرف تأكد جمال البنا من أن الحركة ذات طابع ديكتاتورى ، وأن لا فائدة من محاولة تقدم الرأى والمشورة .
عنى الأستاذ جمال البنا خلال الحقبة الناصرية المعادية للاتجاهات الإسلامية بالحركة النقابية ، فأصدر وترجم الكثير من الكتب والمراجع التى نشرتها منظمة العمل الدولية بجنيف والجامعة العمالية بمدينة نصر والدار القومية.. كما حاضر بصفة منتظمة فى معهد الدراسات النقابية منذ أن تأسس سنة 1963 حتى سنة 1993 عندما انتقد التنظيم النقابى القائم .
وقد كان آخر كتبه النقابية عن (المعارضة العمالية فى عهد لينين) الذى كتبته مدام كولونتاى ، فقام بترجمته والتعليق عليه .
فى سنة 1981 أسس جمال البنا الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل ، وكانت منظمة العمـل الدولية قد استعانت به فى عـدد من الترجمات ، كما استعانت منظمة العمل العربية كخبير استشارى . وبحكم هذه الصفات نظم شبكة من العلاقات بقيادات اتحادات ونقابات فى كثير من الدول الإسلامية . وفى 1981 دعا معظمها للاجتماع فى جنيف خلال انعقاد مؤتمر العمل الدولى بها ، وفى هذا الاجتماع تأسس الاتحاد الإسلامى الدولى للعمل من مندوبى اتحادات عمالية فى الأردن والمغرب وباكستان والسودان وبنجلاديش .
وللاتحاد مكتب فى كوالامبور وآخر فى الرباط .
مع السبعينات وملاءمة المناخ للعمـل الإسـلامى بدأ الأستاذ جمال البنا كتاباته التى كان أولها "روح الإســـلام" و "الأصــلان العظيمان : الكتاب والسُنة" ، وعددًا آخر من الكتب لا يتسع المجال لها .
ابتداء من 1990 شغل بإصدار كتابه الجامع "نحو فقه جديد" فى ثلاثة أجزاء الذى دعا فيه إلى إبداع فقه جديد يختلف عن الفقه القديم ، ولا يلتزم ضرورة بالتفسيرات ، أو علوم الحديث .. الخ ، أو أصول الفقه ، وصدر الجزء الثالث عام 1999 .
أثار الكتاب ضجة كبيرة ودعا بعضهم لمصادرته ، ولكن المسئولين تنبهوا إلى هذا سـيذيع دعوته فمارسوا مؤامرة صمت إزاءه ، رد عليها جمال البنا عام 2000 بإعلان تأسيس "دعـوة الإحياء الإسلامى" التى ضمنها خلاصة فكره الإسلامى والسياسى والثقافى .
فى سنة 1997 أسس بالمشاركة مع شقيقته السيدة فوزية "مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامى" ، وتبرعت السيدة فوزية بقرابة نصف مليون جنيه للمؤسسة مكنها أن تؤدى دورها فى غنى عن السؤال .
ولما كانت زوجة الأستاذ جمال البنا قد توفيت سنة 1987 ولم يتزوج بعدها ، فإنه حول شقته إلى مكتبة تحمل اسم المؤسسة . وتضم المكتبة قرابة خمس عشر ألف كتاب عربى ، وثلاثة آلاف باللغة الإنجليزية ، كما تضم مكتبة والد الأستاذ جمال وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن ، والكثير من تراث آل البنا ، والأصول الخطية لكتب الشيخ البنا ، وقد زودت المكتبة بقاعة إطلاع وآلة تصوير ووحدة كمبيوتر .
بالمكتبة 15 ألف كتاب عربي وثلاثة آلاف كتاب إنجليزي وبها قسم للدوريات يضم 150 مجلة ، وبعض الموسوعات والمجموعات القديمة لصحف الإخوان المسلمين من سنة 1936 ، وأوراق خطية للإمام الشهيد حسن البنا ، والكثير من وثائق الإخوان المسلمين ، فضلاً عن جذاذات من الصحف ، ومسودات وأصول كتب للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ولجمال البنا .
استطاع الأستاذ جمال البنا بفضل تفرغه للكتابة أن يصدر أكثر من مائة كتاب (منها قرابة عشرة مترجمة) وهو يكتب بتمكن وأسلوب سهل ، وإن كان له طبيعة فنية ، وقد أصدر كتابًا من ثلاثمائة صفحة عن "ظهور وسقوط جمهورية فايمار" كما تعد كتبه عن "الدعوات الإسلامية" من المراجع الرئيسية لما توفر له من صلات ومراجع .
أن دعوة الإحياء الإسلامى رغم أنها قوبلت بتعتيم إخبارى أريد به عدم التعريف بها ، فإنها شقت طريقها ليس فحسب فى مصر والدول العربية ، ولكن أيضًا فى الخارج حيث أصبحت محل اهتمام الهيئات الدولية والجامعات ، وهي لا تهدف لتكوين حزب أو جماعة ، ولكنها تريد أن تقدم رؤية حرة للإسلام يُعد كل من يؤمن بها مالكا لها أو شريكاً فيها .
لدعوة الإحياء الإسلامى موقع على الانترنت ، وعنوان إليكترونى كالآتى :
gamal_albanna@yahoo.com
E-mail :
gamal_albanna@infinity.com.eg
www.islamiccall.org
وعنوانها : 195 شارع الجيش ــ 11271 القاهرة
هاتف وفاكس 25936494