العلاقة بين المكان والإنسان لا تثير أي إشكالية ولكن ؟
ما هي صور الانتماء للمكان ؟
عصمت شاهين دوسكي
الجزء الخامس
يتخذ الشاعر إبراهيم يلدا اللغة الشعرية المميزة سبيلا للكشف الوجداني ، الفكري ، الحسي ، فإنه يعلم قدرة اللغة الشعرية وسحرها حتى إن تمردت على كل القواميس ، فالشاعر يلج إلى أعماق اللغة لكي يكون تأويلا ضمنيا وأسس يبنيها بالرموز والدلالات فينمو نصه على كسر سياق ذلك الانسياق التقليدي للنص من حيث اللغة والأسلوب ومحاولة الخروج من تلك العقد التي رسخت منذ أزمان سحيقة بأسلوب سردي ، روائي ، درامي مع همسات الإيقاع وحنين صوت موسيقى خفية تذوي في القلوب ، عن هذه النصوص المختارة من ديوان الموت والميلاد للشاعر إبراهيم يلدا اخترتها على ذائقتي الشخصية والأدبية والشعرية والتي اعتقد يجب تسليط الضوء عليها حتى لو كانت محاولاتي هذه بسيطة وقاصرة عن ما تكتنز النصوص من مضامين ودلالات ومعان ، فقد مرت المراحل النقدية بمراحل عدة وتنوعت أشكالها تنوعا كبيرا وتعددت مناهجها التأويلية والتوضيحية كونها تأثرت بموجات التغيير الأدبي التي اجتاحت العالم الثقافي من خلال ترجمات لأهم الشعراء والأدباء العالميين أمثال بودلير ورامبو وادونيس وطاغور وارسطو وغيرهم الذي مثلوا علامات مميزة في الخارطة الشعرية والثقافية في العالم وظهرت الاختلافات في النقد مع اختلاف الشعر والثقافة العصرية التي تدنينا من قصيدة الشاعر إبراهيم يلدا ” وجودي مصنوع من الصخر ” ومن عنوان النص الشعري نحس بالقوة والعناد والإرادة الثابتة في الوجود والزمان ، والمكان الذي يتجلى من العوامل الأساسية في وجود الإنسان ولا يظهر أثره إلا إذا دخل في الغرائز وامتزج بالنفس والروح والإحساس واخذ مثوى القلب فصار المكان من المشاعر المهمة التي تلازم الإنسان أينما رحل وأينما حل ، ( سألني عن اسمي ، قلت نينوى أنا ) العلاقة بين المكان والإنسان لا تثير أي إشكالية لكن تكون علاقة شائكة حين تنطبع بعدم المرونة ووجود الخلل السياسي والإداري والثقافي البنيوي الذي يعتري عالمنا المبنية على الرؤية الذاتية والمادية والشيطانية التي لم تتخلص منها الممارسات السلطوية ( تأمل صاحب الجلالة طويلا ) فالمكان وجود والإنسان وجود وهذه حقيقة تنتج خطابا فكريا واعيا يلاءم كل عصر عندما يكون المكان نينوى أو حضارة تحت إمرتها كل الحضارات .
(( سألني عن اسمي ، قلت نينوى أنا
ولدت في أرض بين النهرين ، في اشور الشرقية
تأمل صاحب الجلالة طويلا حين سمع لقلبي
كان فمه مفتوحا ، كالذي ينظر إلى ميت منبعث
ليس من العجب أن أكون بن اشور الخالد
ولا أن نلتقي من جديد في يوم القيامة
ولكن كيف لي أن أقول أنا الجبار العالمي
وكل ما كان لي من الأرض كانت حقولا وقوتا للجياع
جميع الشعوب والأمم في العالم كانت تحت إمرتي
واليوم قد ولدت برعما ومن أمثالك نسوا اسمي )) .
لم يعد المكان مجرد مكان ولا الإنسان مجرد وجود ، فالعلاقة التفاعلية بين المكان والإنسان توصف بالالتصاق حيث الانسجام الروحي والتأثير الفكري والتفاعل الجسدي بينهما وأي خصائص وملامح بالإنسان نتيجتها صور من انتماءه للمكان وعلاقة الإنسان بالمكان تولد خلال معرفته الأولية ثم تضاف الأفكار والصفات والتفاعل والانسجام معه بمسار المفهوم الإبراهيمي للمكان ، قوة على الرغم من الضعف ، عنفوان على الرغم من الجفاء قريب على الرغم من الغرباء ، تحمل صبرا على الرغم من الجوع والقهر ، يأخذ هذا المسار نسقا متناغما حواريا دراميا بين صاحب الجلالة إن كان دينيا تاريخيا ( متنكرا اسم يسوع الناصري ) وحضاريا ثريا وفيرا ( فقلبي ثمرة زرع نبتت في تراب النهرين ) بوعي جوهر من أنا ؟ ومن أي مكان أنا ؟ هذا الحوار له أمد بعيد ليميل إلى مفهوم وجود المكان والإنسان أكثر من ميله لقضية نص شعري عابر مع الأنواع الشعرية وتقسيماتها وإن رجحوا نصا على آخر فالحوار الدرامي ثابت ومباشر على الرغم من همسات الحزن والجراح والآلام بعد الطرد والنفي ( أعرف جيدا قد طرت ونفيت ) وعلى الرغم من الثبات والمباشرة تصطدم بتصورات وتوجهات ومبادرات تجاه التراث والحضارة والمكان وكيفية التعامل معها بعد إشكاليات ذهنية عديدة .
(( أعرف جيدا
قد طردت ونفيت من أرض أجدادي
ومكاني بين صفوف البشر هو بعد الصف الأخير
منهمك أنا بلقمة العيش واسكن كوخ الغرباء
خائبا أبحث عن بيت يحميني
أتذكر ذلك اليوم الذي فيه
وصلت متنكرا اسم يسوع الناصري
وقلت لي حياتك تشبه حياة البراري
تقبلت كلامك بألم لأنك غريب
ولكن دعني أبين كيف تكون قوة الإنسان
فقلبي ثمرة زرع نبتت في تراب النهرين
إنه وطن أجدادي فكلما بعدت عنه ازداد اشتياقي
هذه العلاقة لتكن جوابي .))
يعد الإنسان أكثر وعيا وتقديرا للمكان حيث يتفاعل مع المكان من خلال أسس الاستقرار والأمان وبعدها تسخير المتطلبات المكانية لتحقيق مقومات الوجود والعيش في ذلك المكان الذي يحبه وهنا تتجلى حالة الإنسان وإحساسه بالحنين النقي الصادق حينما يغادر مكانه إلى مكان آخر ، وهذا إيحاء ودليل واثبات على قوة التفاعل وصدق الانتماء للمكان وما ( المخلص مقمط ، ابن البيت) ما هما إلا صورتان للإنسان والمكان وللخلاص وما ( الصليب ، الدم ) إلا جدلية السلام والحرب وما ( قبلات يهوذا الاسخريوطي ) وهو من تلاميذ المسيح الإثني عشر ويهوذا بالعبرية معناه ” الحمد ” ومن لقبه الاسخريوطي يدل على إنه من قرية ” قريوط ، قريوت ” تقع جنوب مملكة يهوذا والتي ذكرت في العهد القديم وبحسب الأناجيل القانونية فإنه التلميذ الذي خان يسوع وسلمه لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة وبعد ذلك ندم على فعلته ورد المال لليهود وذهب وقتل نفسه وما رمزه غلا لوجود من يدعي البراءة وفي قلوبهم وعقولهم يوسوس الشيطان لفعل خيانة ما حتى لو كان تنازلا عن شخص ما أو مكان ما ومن خلال هذه التصرفات يتجلى الإنسان ضحية في دائرة الضيق والحرمان والجوع والمشي حافيا تمهيد على الخروج من المكان ” الوطن ” ( لتنمحي الأصالة وتضعف الجذور المكانية .
(( من بعيد جاءنا الخلص
مقمطا بملابس ابن البيت
بيده صليب الخلاص وفي قلبه يضمر لنا دما
وبقبلات يهوذا الاسخريوطي أظهر لي البراءة
يداه الشيطانان بدأتا تبحثان عن رأسي
وبمرور الزمن انحدرت إلى قعر درجة بعد أخرى
فمن رب الأرباب صرت عبيدا متسولا
الظالم المقنع بوجهه ثعلب ، جعلني أتضايق
ففي الشتاء تركني جائعا وفي الظهيرة حافيا
ناداني بأسماء عدة حين كان يعمدني مرة تلوى أخرى
يطردني من وطن لآخر ليمسح أصالتي )) .
الشاعر إبراهيم يلدا يصف بعدين مهمين المكان والإنسان ، المكان والزمان ففيهما يحيا الإنسان ويتطور ولاشك إن المكان أقدم تاريخا من الإنسان ، والإنسان بوجوده الجذري في المكان يعد ارتباطا روحيا حياتيا ثقافيا وثيقا على الرغم من المكان ثابت عكس الإنسان والزمان المتحرك ، وبثبوت المكان واحتوائه على كينونة الإحساس المستقرة فيه يدركها الإنسان بصورة أولية إلى سلطة الحساسية المكنونة في الإنسان التي تشمل حواسنا الخمس وبنمو تدريجي إلى حين يصبح المكان واحدا ، ومن القضايا التي لا تفارق الإنسان ،ولأهمية المكان وجد علم خاص بدراسة المكان وهو علم الطوبولوجيا الذي قام بدراسة وتحليل وتأويل المكان في مختلف المجالات ودراسة أخص خصائص المكان من حيث هو مكان والعلاقة المكانية كعلاقة الجزء بالكل وعلاقات الاندماج والاتصال والانفصال الذي لا يتغير على الرغم من اختلاف المسافات والمساحات والأحجام ومن أهم الخصائص المكانية إنها تكون تحت السلطة التي تخضع لها فعدم وجود الشاعر في مكانه الطبيعي يسبب كل التناقضات والتداعيات والأفكار والغايات كأنه لا يستوعب إن كان مأساة ضياع المكان وضعفه حلما أم حقيقة ( غن كنت أحلم أم إنها حقيقة ) فلا يجد الخلاص إلا بعد إيحاء إدارة وجهه نحو ( السماء ) حتى لو كان ضحية فما أعظم الاهتمام بالقوي إذا ضعف والعزيز إذا ذل والكريم إذا فقر ، فيتساءل : ( كيف لي أن أغيب عن الأرض ، وجودي مصنوع من الحجر ) فنينوى بالنسبة مكان مطلق منظور وليس خيالا .
(( قل لي إن كنت أحلم أم إنها الحقيقة
أدرت وجهي نحو السماء وحيث السماء تسمعني
اهتزت حتى عظامي حين سمعتها تنادي باسم اشور
كالولد الذي يتبع أباه وجده الأول
ويقسم بكل ما لديه سيسير في خطاهم
فإن كان لابد لي أن أكون ذبيحة فلأشوى على الموقد
أبحث عن جمرة نار تحت الرماد
إلى أن يأتي لألقن عدوي درسا
كيف لي أن أغيب عن الأرض
وجودي مصنوع من الصخر
ليعلموا سيبقى اسمي النينوي الآثوري )) .
الشاعر إبراهيم يلدا حضي المكان في نصه الشعري باهتمام كبير وكيف لا وهي من أولى الحضارات نينوى بلاد النهرين فبالنسبة له المكان يتجاوز كونه مجرد شيء صامت أو أرضا تقع عليها أحداث حضارة فهو دلالة ومحور أساسي في نصوصه الشعرية فهو مفجر الطاقات والمشاعر والإحساس والأفكار الإبداعية فاستخدام الصورة المكانية وتوظيف الرموز بشكلها السليم لكل منها دورها الفاعل في النص الشعري الذي يتميز الشاعر إبراهيم يلدا بصدق المفردة ونقاء الإحساس وصفاء الوعي من أجل توضيح وكشف معاني الزمن والوجود الخاصة بالمكان والإنسان .
************************************************************
الرؤيا الإبراهيمية بين الموت والميلاد – الجزء الخامس – طبع في أمريكا وفي مدينة
Des Plaines
دسبلين ،،، الينوي،،،، ,في مؤسسة
Press Teck .. بريس تيك . 2018 م