هناك مسؤول عربي كان يتحدّث إلى مسؤول أميركي عن سبب تخوفه من السياسة الإيرانية. قال هذا المسؤول العربي ان ما يلفت انتباهه ويثير مخاوفه في الوقت ذاته وصف الإذاعة الإيرانية نفسها بأنّها «صوت الجمهورية الإسلامية من طهران». حسنا، تبث الاذاعة الإيرانية من طهران، لكنّها لا تحدّد لمستمعيها أين تتوقف حدود «الجمهورية الإسلامية». صارت حدود إيران هذه الأيام في لبنان. هذا، على الأقلّ، ما يؤكّده كلام الجنرال يحيى رحيم صفوي المستشار العسكري لـ«مرشد» الجمهورية الإسلامية في إيران، السيّد علي خامنئي.
كلام القائد العسكري الإيراني المسؤول في مكتب خامنئي أكثر من كافٍ كي يتأكّد اللبنانيون من أن بلدهم ليس، بالنسبة إلى إيران، أكثر من «ساحة».
قال صفوي، الذي كان حتّى السنة 2007 ولمدة عشر سنوات قائدا لـ«الحرس الثوري»، الذي لديه فرعه اللبناني، ان «قدرة إيران ونفوذها امتدا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، مضيفا أنّ «خط الدفاع الأوّل لإيران أصبح في جنوب لبنان». كان كلام القائد العسكري الإيراني بمثابة كشف للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة. تقوم هذه الاستراتيجية التي عبّر عنها «حزب الله» عبر تدخلّه العسكري في سورية، إلى جانب نظام يذبح شعبه، على أن الرابط المذهبي فوق كلّ اعتبار. انّه يتجاوز حدود الدول وسيادتها والانتماء القومي، قبل أيّ شيء آخر.
لم ينسَ صفوي بالطبع، في سياق كلامه الصادر بمناسبة استعادة إيران مدينة خورمشهر (المحمّرة بالعربية) التي احتلها العراق في بداية حربه مع إيران في العام 1980، التذكير بوقوف إيران مع النظام السوري.
عادت به الذاكرة إلى أن حافظ الأسد جعل سورية تدعم إيران في حربها مع العراق. كانت سورية وقتذاك النظام العربي الوحيد، إلى جانب نظام معمّر القذّافي، خاطف الإمام موسى الصدر، الذي يزود إيران بالصواريخ دعما لمجهودها العسكري في المواجهة مع العراق.
أشاد صفوي بموقف النظام السوري وجدّد دعم إيران له. قال بكل بساطة ووقاحة ما معناه أن سورية تعني كلّ شيء لإيران وهي جسرها للوصول إلى لبنان بغض النظر عن الظلم الذي يتعرّض له شعبها.
كاد أن يقول ان لبنان مجرّد مستعمرة إيرانية بعدما أشار إلى أن إيران كانت في الحرب مع العراق بين 1980 و1988 تدافع عن حدودها، فاذا بها في السنة 2014 على تماس مع إسرائيل عبر لبنان، كما أنها دولة مطلة على البحر المتوسّط بعدما صارت في وضع القوة المهيمنة على الوطن الصغير. تغيّرت حدود إيران على حساب لبنان!
يكشف هذا الكلام حقيقة النظرة الإيرانية إلى لبنان. هناك بلد صار رهينة لدى «الجمهورية الإسلامية» لا أكثر ولا أقلّ. لم يكن الأمر ممكنا لولا وضع اليد على الطائفة الشيعية الكريمة في مرحلة أولى ثم تمدّد الميليشيا المذهبية المسمّاة «حزب الله» في كلّ الأراضي اللبنانية تقريبا. حصل ذلك بعد استيعاب الحزب لحركة «أمل» التي صارت جزءاً لا يتجزّأ منه اثر فقدانها القدرة على مواجهته عسكريا. خضعت «أمل» للحزب وباتت تستخدم لأغراض تخدم إيران، بعدما كانت في الماضي، في مرحلة ما بعد اخفاء الامام الصدر في ليبيا، أداة سورية. كان أفضل تعبير عن تلك المرحلة الدور الذي لعبته «أمل»، لما طلبت منها دمشق مهاجمة المخيّمات الفلسطينية، خصوصا في بيروت وضواحيها. لايزال مخيّم صبرا وشاتيلا شاهدا حيّا يرزق على ذلك!
من يتمعّن في كلام صفوي يفهم حقيقة ما يجري في لبنان حاليا. يكتشف قبل كلّ شيء لماذا الاصرار الإيراني على الفراغ الرئاسي من جهة ولماذا هذا الاصرار الآخر على افقار اللبنانيين من جهة أخرى.
يتبيّن كل يوم، في ضوء كلام الجنرال الإيراني أن الفراغ الرئاسي في لبنان هدف بحدّ ذاته. امّا يكون رئيس الجمهورية اللبنانية في تصرّف إيران، والّا لا يكون رئيس مسيحي للجمهورية. لا يمكن هنا الّا العودة إلى الحملة الإيرانية على الرئيس سعد الحريري التي أدت إلى التخلص من حكومته عن طريق السلاح الإيراني الذي جاء بنجيب ميقاتي (السنّي) رئيسا لمجلس الوزراء. كلّ ما في الأمر أنّ سعد الحريري، بصفة كونه رئيسا لمجلس الوزراء في لبنان رفض في خلال زيارته لطهران ثلاثة مطالب.
كان المطلب الأوّل اعفاء الإيرانيين من تأشيرة دخول إلى لبنان، وقد وافقت حكومة ميقاتي على هذا المطلب بعيد نيلها الثقة. كان المطلب الثاني توقيع لبنان معاهدة دفاعية مع إيران، على غرار المعاهدة الإيرانية – السورية. وكان المطلب الثالث السماح لإيران بدخول النظام المصرفي اللبناني بما يسمح لها بتجاوز العقوبات الدولية المفروضة عليها.
تندرج الحملة الإيرانية الهادفة إلى ايجاد فراغ على مستوى الرئيس المسيحي في سياق النظرة العامة إلى لبنان بصفة كونه «ساحة» فيما بيروت مدينة إيرانية على المتوسط. هناك نظرة إيرانية إلى موازين القوى في المنطقة تقوم على وجود محور يمتد من طهران إلى بيروت، مرورا بدمشق وبغداد. هذا المحور يدار من طهران وليس من مكان آخر. امتلك الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ما يكفي من الشجاعة للحديث عن هذا المحور والتحذير منه في أكتوبر 2004.
هذه النظرة الإيرانية إلى لبنان، التي عبّر عنها الجنرال صفوي بدقّة ليس بعدها دقّة، تفسر التركيز على منع العرب من المجيء إلى لبنان والاستثمار فيه بغية تدمير اقتصاده، في حين هناك من يسعى باستمرار إلى الاستحواذ بطريقة قانونية، أي عن طريق الدولار النظيف والشريف، على أراض للمسيحيين والدروز في مناطق معيّنة لربط «المربّعات الأمنية» لـ«حزب الله» ببعضها البعض.
لمن لا يريد أن يفهم، من المسيحيين خصوصا، لماذا لا تريد إيران انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولماذا تعمل على افقار اللبنانيين، يمكن الاستعانة بكلام الجنرال صفوي.
كلام القائد العسكري الإيراني مفيد إلى حدّ كبير، لا لشيء سوى لأنّه يؤكّد مرّة أخرى لماذا يجب أن يكون لبنان، من وجهة نظره، ورقة إيرانية… ولماذا كلّ هذه المبالغات عن العداء الإيراني لإسرائيل، ولماذا تعتبر إيران نفسها في مواجهة معها انطلاقا من وجودها العسكري والسياسي على الأرض اللبنانية.
يبدو مطلوبا من لبنان، بكلّ بساطة، أن يكون ورقة إيرانية أكثر من أيّ وقت نظرا إلى أن طهران في حاجة ملحّة إليه بعد دخول المفاوضات في شأن ملفّها النووي مرحلة حاسمة. هناك حاجة إيرانية إلى لبنان من أجل توفير الشروط اللازمة لصفقة مع «الشيطان الأكبر» عبر مجموعة 5+1، أي الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن زائد ألمانيا. هل يعي اللبنانيون هذا الواقع ويفهمون أخيراً الأسباب التي تعيق انتخاب رئيس للجمهورية؟ كذلك، هل يعي اللبنانيون هذا الواقع من أجل فهم لماذا كلّ هذه التهديدات الموجهة إلى العرب الراغبين في زيارة لبنان ولماذا تزايد مطالب النقابات المهنية والعمالية ونزولها إلى الشارع؟
بكلام أوضح، هل بات في استطاعة اللبنانيين فهم الأسباب التي تعيق تطوّر بلدهم وتقدّمه وتشجيع الاضرابات فيه والحؤول دون استفادته من التطورات الاقليمية التي كان مفترضاً أن تصبّ في مصلحته وفي مصلحة ازدهاره؟
*نقلاً عن “الرأي” الكويتية.