أوهام حصانة النظرية وفشل الواقع : ـ

كثيرٌ من المؤمنيين ـ في محضر الدفاع عن إيمانهم وأصولهم الفكرية ومرجعياتهم المعرفية ـ يزعمون أنّ الملحديين نظروا إلى التطبيق وأغفلوا جوهر الدين الذي لوّثته التجارب التي خيضت بإسمه ، ومن ثمّ بنوا ـ أي الملحدين ـ على تلك التجارب فهمهم للدين فرفضوه ، بإختصار هي ذات المقولة التي لاكها وعجنها جميع أصحاب التجارب الإنسانية الفاشلة التي أثمرت عن إستبداد ومجازر وإنتهاك للشعارات التي رفعها أصحاب تلك الشعارات بأنفسهم ، وأعني مقولة ( الخطأ في التطبيق لا في النظرية ) ، وسواء في الإتحاد السوفيتي أو عراق البعث أو في روما الكاثوليكية بالقرون المظلمة ستجد ذات الحُجّة ، حيث يعزوا سدنة تلك المشاريع الفاشلة الفشل الذي حاق بمشاريعهم على مصاف التجربة إلى التطبيق وهوى وأهواء ( بعض ) سدنة التجربة ، نموذجاً حزب المؤتمر الشعبي والمشروع الحضاري لشيخ الحزب ( الترابي ) .

فالإسلام بوجهة نظر هؤلاء تجربة روحية كبرى لا يمسّها التطبيق التاريخي لأنّها متعاليةً عليه ، هكذا يغرق المؤمن في الفكر اللا تاريخي ، في أوهام صفاء الفكرة وعصمتها وتعاليها وسحريتها ، إنّه نمط من التفكير السلفي تبدوا السلفية الوهابية أكثر عقلانيةً وواقعية معه كما سنُبيِّن لاحقاً ، هكذا يُقام الفصل بين الوحي والتاريخ ، وبين المثال والتطبيق ، رغم أنّ الوحي يتحدث بلسانٍ بشري تاريخي يأخذ من اللغة نسبيتها وعيوبها كما يأخذ منها بديعها ومحسناتها وبلاغتها وطاقاتها التعبيرية ، إنّ الزعم بتجاوز الوحي للتاريخ وتبرئته من نماذجه التطبيقية هو كما قلنا محض حيلةٍ أدمن أدعياء المشاريع الايدولوجية الدوغمائيين على توظيفها للتهرب من مستحقات فشل نماذجهم التطبيقية بإسم ايدولوجياتهم ، وأعني الحيلة القائمة على الفصل بين الأفكار ومجالات تطبيقها ، فالكل يعملون على تنزيه أصولهم ونظرياتهم عن الخطأ والقصور ، أو عن النقصان والإستحالة . برد ذلك كلِّه إلى سوء الفهم والشرح أو إلى سوء الترجمة والتطبيق .

عموماً لا وجود لنظرية أو مشروع متعالي أو ما ورائي أو مجرد ، وإنّما النظرية في جزء أساسي منها هي فهمي وفهمك وفهم الآخرين لها ، هي تجلياتها العملية والتطبيقية ، هي تلك التجارب التي خيضت بإسمها . من المستحيل أن نزعم اليوم أنّ نظريةً ما أو مشروع إنساني ما ظل يُجرّب على مدى مئات القرون مُفرخاً نتائج كارثية وبشعة وعبر أكثر من فرد و مؤسّسة و سياق حضاري وإجتماعي مُغايرأشرف على هذا التطبيق ، أقول من المستحيل الزعم بأنّه مشروع لا يتحمل ولو ( جزئياً ) تبِعات ذلك التطبيق الكارثي . ينسحب هذا الكلام على كلِّ المشاريع الإنسانية التي صاحبها جزئياً أو كُلِّياً الفشل ، في الإتحاد السوفيتي أو رأسمالية القرن التاسع عشر المتوحشة ، أو التجارب الثيوقراطية بالإسلام أو المسيحية … إلخ .

إذاً هو ضربٌ من الطوباوية كما يتحدث المفكر علي حرب : ( الإعتقاد بوجود إسلام ـ أو فكر ـ مثالي ماهوي قائم في ذاته بصرف النظر عن أنماط تحقُّقِه في الهُنا والآن ، أي بصرف النظر عن البشر الذين أسهموا تاريخياً في صنعه وتشكليه بإبداعاتهم وإنجازاتهم ، بأخطائهم وكوارثهم ، بإصطفائهم وعنصريتهم ، أو بإنفتاحهم وتسامحهم ) ، هذه هي فعلاً المُسلّمة الضمنية التي يسكت عنها الزاعمين بوجود نظرية متجاوزة لتطبيقاتها بإستمرار ويتأسس عليها خطابهم أعني ( الإعتقاد بوجود إسلام متعالي على تاريخه ، مفصولٌ عن المسلمين الذين مارسوه أو جسّدوه بخطاباتهم ومؤسساتهم ، بأهوائهم وعصبياتهم ، برهاناتهم وصراعاتهم ، بإختلافهم وإنقسامهم ).

فجميع تلك التجارب الايدولوجية أتت نتيجة لأخطاء أو فجوات أو قصور ما بالنظرية سواء كانت ماركسية أو ليبرالية أوإسلام أومسيحية ، ولم تأتي فقط لأنّ البشر قد أخطأوا عندما طبّقوها . وحتى لو كانت النظرية ( متعالية ومتكاملة ومعصومة ومثالية كما تطرح عادةً النظريات أو المشاريع الدينية نفسها ) فإنّ مجرد فشل البشر ( الفاعلين الإجتماعيين ) في تنزيلها واقعاً معاشاً على أرض الواقع ينبني عليه ضمنياً فشل هذه النظريات ، أو على الأقل عدم ملائمتها لنا كبشر ، بمعنىً آخر ، كيف تكون المسيحية دعوة للمحبة ويعجز المسيحيين عن الحب ، ويُبدعوا في العنف والكراهية ، ويبتكروا ويطوِّروا فيهما ؟ ما الجدوى منها إذاً ؟ ألا يعني هذا أنّ هذه الدعوة دعوة فاشلة لأنّها عجزت عن إقناع حتى المؤمنيين بها على نحو يقيني وعجزوا عن أن يفهموها لما يُقارب الالفي عام ؟.

. في المسلسل الساخر ( سيمسون ) اراد الكهنة حرق ساحرة ما فقال أحد الحضور قولاً للمسيح ينهى فيه عن القتل ، فقال له أحد الحضور المتشوقين لحرق تلك ( الساحرة ) : ( لقد قال المسيح أشياء كثيرة ) ،بمعنى أن المبرِّر لأيِّ سلوك ستجد له بنحوٍ أو بآخر نصّاً من متون النصوص ، وهذا بدوره يجعل من الزعم بإنّ النظرية معصومة مطلقة البراءة والتطبيق هو الخاطئ قول لا يثبت عند إجراء أيّ محاكمة موضوعية أو واقعية له ، و لا سيّما بالنسبة للتجارب الدينية التي تستند إلى عدّد مهول من النصوص التي لها أكثر من إمكانية للقراءة وللتأويل لأنّها نصوص ذات طابع أدبي أو وعظي وليست ذات طبيعة علمية لا تقبل التأويل والقراءة المغايرة بل والمتناقضة .

وحتى هذا التطبيق الفاشل للدين سنجد أنّ من وثّقوا النصوص وجمعوها ونسبوها للنبي هم أنفسهم من كان لهم القدح المُعلى من خطيئة التطبيق ( الخاطئ ) للدين ، سواءٌ بالمسيحية أو الإسلام ، فالقساوسة أو الرهبان الذين إرتبط إسمهم بأسوء الحقب التاريخية للمسيحية هم أنفسهم من كتبوا أناجيلها المُقدّسة أو بصيغةٍ أُخرى هم من وضعوا سيرة المسيح ووثّقوا لأقواله ومقولاته ، بل وصِيغت على أيديهم المسيحية على النحو الذي إنتشرت به بالعالم وعانى معها عشرات الشعوب ، ونفس المسألة تنطبق على الإسلام ، فجيل الصحابة هو الذي دوّن أو جمع القرآن والحديث ، وهم من بادروا بنشر الإسلام مسلحين بما دوّنوه وجمعوه من آثار النبي ، فكيف ندّعي بعد كلِّ هذا أن لا صلة بين النظرية وبين تطبيقاتها .

خلاصة القول هو أنّ الأمر مرهون في آخر المطاف بقراءة الفاعلين الإجتماعيين وممارساتهم بالنّص أو بإسمه ، وجوهر النّص هو قراءة الآخرين له ، فهو غير متعالي أو مطلق ، بدليل كتابته بلغة وأسلوب بشري محض ، وأيّ قراءة أو تأويل أو تطبيق إستند إلى متن النّص هو قراءة تعكس جوهراً وبعداً من أبعاده ، ولا يحق لأحدٍ أن يُخرج فريق ـمن القارئين للنّص ـ من زمرة المؤمنيين به بدعوى أن قراءة ذلك الفريق أو تأويله مخالفة لجوهر النص ، فمن ذا الذي يدّعي أنّه مُطبق لجوهره ومستوعب له ، أو أنّ فهمه مطابق للمراد الرباني الذي ألّف هذا النّص ؟ من ذا الذي يحتكر قلماً يقول هذا هو الحق وهذا هو الباطل .

فعلى الجميع أن يتحلوا بقدرٍ من التواضع والتُقى المعرفي ، وأن يُحمِّلوا مشاريعهم وأصولهم ومرجعياتهم ـ ولو جزئياً ـ مغبّة التطبيقات الكارثية لها ، أي لتلك المرجعيات والأصول ، وتعميق النقد الذاتي بدلاً من ممارسة الكسل الفكري والإكتفاء بإلغاء اللوم على التطبيق هروباً من نقد الذات أو الإيمان .
فمثل ذلك النقد السطحي الذي لا يطال إلاّ التطبيق سيُفضي قطعاً إلى إعادة إنتاج ذات النموذج التطبيقي البائس والكارثي في حال تكرار التجربة بإسم النظرية ( المعصومة ) .
لذلك لا نستبعد ، بل ونُرجِّح أن يُعيد الترابي ـ لو أمسك بأعِنّة الحُكم من جديد ـ ذات نمط وفكر وممارسة الإقصاء والإستبعاد والعنف الذي إتّسم به ( مشروعه الحضاري ) في التسعينيات ، فقد نقل الباقر العفيف تصريحاً للترابي جاء به : أنّ السودانيين قلوبهم سوداء ولم ترتقي لسموا ورُقي المشروع الحضاري . حيث نلاحظ هنا الخطأ ليس في النظرية ولا حتى في التطبيق ، وإنّما الخطأ في الواقع نفسه وهذا هو المآل الطبيعي لأيّ فكرة أو نظرية يدّعي أصحابها معصوميتها ، إنّه مآل الإستبداد بإسمها والإقصاء والإستبعاد ، ليس للآخر المخالف فحسب ، وإنّما للواقع نفسه والشطح في الخيال والنرجسية المُتوهّمة ، نموذجاً حسن الترابي ومشروعه الحضاري .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !

 

About محمد ميرغني

محمد ميرغني ، كاتب ليبرالي من السودان ،يعمل كمهندس معماري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.