جورج سمعان
ما تحققه الحرب على «الدولة الإسلامية» في العراق تجنيه إيران. وما تحققه الفصائل الإسلامية في سورية على حساب النظام وباقي أطياف المعارضة «المعتدلة» تجنيه تركيا التي لا تخشى على حصتها أيضاً مما يجري في بلاد الرافدين. من السهل إلقاء التبعة على الولايات المتحدة التي تكرر نموذج حربيها على نظام «طالبان» ثم على نظام صدام حسين. قدمت هدايا قيمة إلى الجمهورية الإسلامية. ولا تزال إدارة الرئيس باراك أوباما مستعدة لتقديم المزيد. والمتضررون من تقاسم البلدين سيصابون بالإحباط بتعويلهم على موقفها. ونظرة واقعية إلى ما جرى ويجري، من دمشق إلى بغداد فصنعاء، كافية للإضاءة على سياسة واشنطن. يكاد لا يعنيها شيء خلاف هذه الحرب على «الدولة الإسلامية»، وقبل ذلك تحقيق اختراق في المحادثات النووية مع طهران، أياً كانت الأكلاف السياسية في المنطقة.
استبشر كثيرون بعودة الأميركيين إلى العراق. وعلقوا آمالاً على انحسار النفوذ الإيراني في هذا البلد، خصوصاً بعد إزاحة نوري المالكي. وضاعف آمالهم تعليق إدارة الرئيس أوباما تحركها لمواجهة تنظيم «داعش» قيام حكومة جامعة في بغداد تعيد إحياء اللعبة السياسية من دون إقصاء. لكنها لم تنتظر حتى تستقيم اللعبة السياسية في العراق وينصف أهل السنّة، كما اشترطت. ولم تنتظر حتى تحقيق حكومة حيدر العبادي برنامجها التوافقي وقيام «جند العشائر». وحصاد الحرب على «دولة البغدادي» تجنيه طهران وإقليم كردستان. والواقع أن الطائرات الأميركية تسهل الأمر على الميليشيات الشيعية. تتقدم هذه على الأرض في المناطق السنّية «المحررة» بقيادة قاسم سليماني قائد «فيلق القدس». ولم يتوان وزير الخارجية جون كيري عن الترحيب بمشاركة الطيران الإيراني في ضرب مواقع «داعش» في بلاد الرافدين. ولا يبقى أمام أهل السنّة وعشائرهم سوى التظلم. يرفعون الصوت بلا طائل. يشكون من أن الحزام أو المناطق المحيطة بالعاصمة تتعرض لتطهير، لتتحول بغداد ومحيطها بالكامل تحت قبضة القوى الشيعية.
الواضح أن الميليشيات الشيعية تتمدد مع الجيش أو خلفه، مخلّفة الدمار في الدساكر السنّية لتحول دون عودة أصحابها، ومخلّفة تغييراً ديموغرافياً خطيراً. ولا قدرة لهذا الجيش على مواجهة ما يجري وبعض فرقه لا يختلف عن هذه الميليشيات في الأهداف والممارسات. وحكومة حيدر العبادي هي الأخرى عاجزة عن السيطرة على قوات «الحشد الشعبي». فضلاً عن العقبات السياسية التي تواجهها من داخل الصف الشيعي، خصوصاً من «ائتلاف دولة القانون». ولا يختلف الوضع في المناطق المحاذية لإقليم كردستان حيث تحصد «البيشمركة» ما لا تصل إليه أيدي الآخرين. ولا يبقى أمام العشائر وأهل المحافظات السنّية الذين لا يرحمهم أيضاً عسكر «داعش» سوى خيارين أحلاهما مر: إما الرضوخ والعودة إلى ما كانت عليه حالهم أيام حكومة المالكي، وإما القعود عن قتال «الدولة الإسلامية» وتحمل وزر إرهابها… وما توقعه الحرب عليهم من قتل وتدمير وخراب وتهجير.
السياسة الأميركية حيال دمشق لا تختلف كثيراً: عزوف عن أي عمل يساهم في إسقاط النظام، ترجم عزوفاً عن دعم حقيقي لما تسميه واشنطن المعارضة أو الفصائل «المعتدلة». يقتصر الدعم على ما يبقي الوضع على ما هو. وحتى عندما بدأت الحرب على «داعش» لم تتأخر إدارة أوباما عن الفصل بين ما تنفذه طائراتها في سورية وما يدعو إليه حلفاؤها من وجوب توجيه ضربات إلى مواقع النظام. تعامت طوال أربع سنوات، ولا تزال تتعامى عن الدعم السخي الذي تقدمه طهران إلى دمشق. وانخراطها في العمل العسكري في شمال سورية هدفه كما تقول احتواء تنظيم «داعش» في العراق وحماية كوباني التي كان سقوطها سيفتح الطريق أمام سقوط مدينة حلب. والواقع أن الدعم الإيراني العسكري والاقتصادي لنظام الرئيس بشار الأسد حال حتى اليوم دون انهياره. إلى تدمير الزراعة والصناعة وانهيار معظم القطاعات الاقتصادية، تكفي الأرقام التي تكبّدها الجيش، خصوصاً أبناء الطائفة العلوية في صفوفه. وتشير الأرقام إلى خسارته أكثر من 120 ألف عسكري بينهم ما يقرب من ثمانين ألفاً من أبناء الطائفة العلوية الذين يشكلون نحو 200 ألف من عديده! وتدرك واشنطن أن تمسك الجمهورية الإسلامية بالنظام السوري مسألة حيوية للحفاظ على خطوط تواصل وإمداد مع مواقعها المتقدمة على حدود إسرائيل. فالدعم الذي تقدمه إلى «حزب الله» و «حماس» و «الجهاد الإسلامي» في قطاع غزة يبقي صواريخها على مشارف الدولة العبرية. وهو أمر لا يشجع خصومها على التخلي عن خيار الديبلوماسية سبيلاً إلى تسوية الملف النووي وقضايا أخرى.
يعطي هذا الواقع طهران يداً طولى في أي بحث عن تســوية للأزمة السورية. بل إن بعض الداوئر بات يتحدث عن مسؤوليتها القانونية عما يجري في سورية معتبراً أنها باتت «قوة احتلال». لا يعني ذلك أنها وحيدة في هذا البلد. روسيا تملك تأثيراً حاسماً. فالمعروف أن الجمهورية الإسلامية نفسها تتوكأ في الدوائر الدولية على موقع موسكو وقوتها في القضايا موضع الخلاف بينها وبين الغرب والولايات المتحدة خصوصاً. من هنا لا يمكن تجاهل كلمة الكرملين في مستقبل أي تسوية سياسية. ولعل الاستنزاف الذي تعرض له الجيش السوري أخيراً – فضلاً عن اعتبارات روسية أخرى – هو ما دفع القيادة الروسية إلى إعادة تحريك ديبلوماسيتها من أجل إيجاد حل سياسي. وتتساءل هذه القيادة في حلقات ضيقة معنية عن الهدف الأخير الذي يخطط له نظام الأسد. فهل يريد مثلاً الاستقلال بمنطقة الساحل إذا تعذر عليه الاحتفاظ بالسلطة في دمشق وغيرها من المدن خارج إطار المناطق الساحلية على المتوسط؟ يعزز تساؤلها أن قوى في النظام لا تستبعد خيار «التقسيم» إذا قدّر للفصائل المعارضة أن تبسط سيطرتها على حلب وشمال البلاد بعد شرقيها وبدء الإعداد لتوسيع جبهة الجنوب.
تركيا كانت وستبقى «الشريك» الأساس لإيران في كل من العراق وسورية. وتدرك أن أحداً لا يمكنه أن يتغول على دورها وحصتها. ألم تتلق سيلاً من الاتهمات بأنها مسؤولة عن تدفق «الجهاديين» إلى بلاد الشام؟ وسواء صحت هذه الاتهامات أم لم تصح، فإن تأثيرها في هذين البلدين لا جدال فيه. ثمة «زواج مصلحة» بينها وبين القوى المتشددة التي تعي تماماً أن البوابة التركية تكاد تكون الممر الوحيد والأكثر حيوية لكل أنواع الامدادات لهذه القوى. والواقع أن التجارة بين هذه البوابة وباقي محافظات العراق لم تتوقف. يكفي أن تدفع الشاحنات التي تعبر براً مناطق سيطرة «الدولة الإسلامية» ما عليها من «ضرائب» لـ «ولاة الدولة» هنا وهناك. ويدرك «المتحالفون» في الحملة على «داعش» أهمية انخراط حكومة رجب طيب أردوغان في هذه الحرب فعلياً. فلولا دورها «الممانع» حتى اليوم لكانت الصورة مختلفة ومجريات الحرب أقل تعقيداً. استثمرت ولا تزال في «حرب كوباني».
وتستثمر تركيا هذه الأيام في شمال سورية. لم تكن بعيدة من الضربات التي تلقاها النظام في وادي الضيف والحامدية. وإذا قدر لجبهة «النصرة» وشركائها أن يبسطوا سيطرتهم على المطار العسكري في ابو الضهور في ريف ادلب، تكون مبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا باتت كلها بيد رجب طيب أردوغان، ومثلها المساعي الروسية. وسيتعزز موقع أنقرة في مجلس التعاون الاستراتيجي الذي وقعته أخيراً مع الدوحة. ويعززه أيضاً تعب «الشركاء» الآخرين. فالجيش السوري المنهك عديداً وعتاداً، قد لا تستطيع روسيا التي بات اقتصادها يعاني أن تمده بكل ما يحتاج إليه. ومثلها إيران المثقلة بأعبائها الاقتصادية وأعباء حلفائها على امتداد المنطقة.
إلقاء اللوم على السياسة الأميركية وتحميل النظامين في دمشق وبغداد ومعهما إيران وتركيا مآل الأوضاع في العراق وسورية لا يعفيان أهل السنّة في هذين البلدين وفي المنطقة عموماً من مسؤولياتهم. هذه دول تسعى في ركاب مصالحها. ماذا فعلوا هم في «مؤتمر مكافحة الارهاب والتطرف» في اربيل؟ كانت فرصة لتوحيد كلمة العشائر والقوى الحزبية ليكون لها «مشروعها» مثلما للآخرين مشروعهم. قبل ذلك، ألم يساهم بعض هذه القوى، بسبب التنافس والتناحر على المواقع والمكاسب، خصوصاً أيام حكم المالكي، في تفكيك الجبهة السنّية؟ وحتى في مواجهتهم «دولة القانون» ذهبوا إلى حد التغاضي عما كان يهيئ له تنظيم «الدولة الإسلامية»، كالمستجير من الرمضاء بالنار! هل يحق لهم أن يعفوا أنفسهم من تبعات ما يحل بهم بعد الذي جرى في اربيل التي غاب عنها رئيس البرلمان السنّي سليم الجبوري والوزراء السنّة؟
أما الحديث عن المعارضة في سورية، وأهل السنّة إذا جاز التعبير، فليس أفضل حالاً. يكفي ما يقوله أهل هذه المعارضة في ائتلافهم وفصائلهم. لم تهتد هذه المعارضة بعد أربع سنوات إلى طريق توحيد صفوفها وبرامجها وأفكارها. لم تنجب «زعيماً» يلتف حوله السوريون في الداخل والخارج بكل مكوناتهم وفصائلهم السياسية والعسكرية، بقدر ما توزعوا على جبهات القتال على أكثر من ألفي فصيل! فهل يعقل أن تعقد كل فترة اجتماعات ولقاءات لتوحيد عشرات الفصائل هنا وهناك؟ قبل أسابيع تشكل «مجلس قيادة الثورة» من 17 قوة! وقبل نحو سنة قامت «الجبهة الإسلامية»، وتبعتها «الجبهة الجنوبية» من نحو خمسين فصيلاً. هذا التشرذم أتاح تمدد «داعش» و «النصرة» وغيرهما من القوى ذات «المشروع» الواضح. وهو ما سهّل تالياً لأميركا ألا تثق بالمعارضة. وهو ما سمح لنائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أن يستخف بوفد الائتلاف الذي التقاه أخيراً متسائلاً عن وجوده ودوره في الساحتين السياسية والعسكرية! بعد هذا، هل يحق لسوريين أن يتباكوا إذا تحول بلدهم أكثر من صومال واحد؟
يبقى أن تشرذم أهل السنّة في العراق وسورية انعكاس لصراع القوى السنية في الإقليم دولاً وجماعات، من الشمال الأفريقي إلى المشرق العربي وتنافسها على المرجعية والكلمة العليا. غياب «مشروعها» الواحد خلل كبير في مواجهة «مشروع» إيران الواضح والمتماسك ومشروع تركيا وغيرهما. لكن هذا التنافس لا يعفي أهل الشام من مسؤوليتهم!