سليمان يوسف يوسف
الفرات ودجلة نهران توأمان ينبعان من (الهضبة الارمنية) المحتلة من قبل الدولة التركية. معاً، يرسمان (بلاد مابين النهرين) موطن الأكاديين(الآشوريين- البابليين). الفرات/أفرت، كلمة سريانية تعني (الخصب والنمو). بابل كانت أعظم مدينة على شواطئ نهر الفرات. ضفاف هذا النهر شهدت الكثير من المعارك بين الجيش الآشوري وجيوش الغزاة القادمين من الغرب والشرق. ابرز تلك المعارك،المعركة التي انتصر فيها القائد الآشوري/البابلي (نبوخذ نصر) على (فرعون نخو) المصري 605 ق.م . لأهميته الحيوية في حياة سكان بلاد ما بين النهرين، ذُكر نهر الفرات في الكتب المقدسة.
بدأ التاريخ يعيد نفسه على هذا النهر الطويل العابر لحدود العديد من الدول.الحرب السورية الراهنة، بمفاعيلها المختلفة والتدخلات الخارجية فيها ،اعادت للنهر أهميته السياسية والعسكرية الى جانب أهميته الاقتصادية، وقد تجعل منه حدوداً وخرائط لكيانات سياسية جديدة تقوم على أنقاض الدولة السورية،الممزقة اليوم بين القوى (الاقليمية والدولية) المتصارعة على ارضها. منطقة شرقي الفرات، المعروفة بـ(الجزيرة السورية)، تشكل ثلث مساحة اراضي الدولة السورية وتحوي نحو 80% من مخزون النفط والغاز السوري، باتت منطقة نفوذ لأمريكا، حيث اقامت فيها الكثير من القواعد العسكرية وحددت نهر الفرات “خطاً أحمر” يفصل شرق الفرات، كمنطقة نفوذ لها، عن مناطق نفوذ النظام وحلفاءه الروس والايرانيين. وسط هذا التجاذب الاقليمي والدولي وتعارض الارادات السياسية حول الازمة السورية، برز (حزب الاتحاد الديمقراطي- )الكردي، متصدراً المشهد السياسي والعسكري في منطقة شرق الفرات، مستفيداًمن تجربة الحزب الأم (حزب العمال الكردستاني – تركيا)، ومن التناقضات بين
أطراف الصراع في سوريا. كما هو معلوم، لتحييد (الشارع الكردي) عن معركة الصراع على السلطة، سلم النظام السوري للبيدا ومن دون قتال معظم مدن وبلدات محافظة الحسكة. نجاح حزب الاتحاد الديمقراطي في إخراج (المرأة الكردية) من تحت “العباءة الاسلامية” الى ساحات المعارك وجبهات الحرب للقتال الى جانب الرجل، التنظيمات الاسلامية المتشددة والارهابية مثل (داعش والقاعدة والنصرة)، جعله يحظى بتعاطف غربي و نيل ثقة الامريكان، كشريك لهم في الحرب على الارهاب. وقد تكفلت الادارة الامريكية بمد الجناح العسكري للحزب(قوات حماية الشعب )،عماد ما يعرف بـ”قوات سوريا الديمقراطية”، بالمال والسلاح وحمايته من هجمات النظام وحلفاءه. بالفعل،خلال الاسابيع الماضية، قام الطيران الامريكي أكثر من مرة باستهداف قوات روسية وايرانية وقوات النظام وميلشيات مواليه له، حاولت التقدم شرقاً نحو قوات سوريا الديمقراطية. ادارة ترامب لن تترك موسكو تنفرد بملف الأزمة السورية. هي تربط تفكيك قواعدها وسحب قواتها بـ”حل سياسي” ينهي حكم الأسد ويكفل خروج القوات الايرانية وجميع الميليشيات المرتبطة بها من سوريا.هذه شروط تعجيزية ستأخذ امريكا منها ذريعة لإطالة أمد وجودها العسكري في شرقي الفرات، ربما لعقود، ولأهداف لم تكشف عنها بعد. تركيا، التي تضم أكبر تجمع كردي في المنطقة، ترى في تنامي قوة ونفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي تهديداً لأمنها القومي . هي تخشى أن يذهب الامريكان بعيداً في دعمهم العسكري والسياسي لحزب، ترى فيه امتداداً لحركة كردية تركية انفصالية (حزب العمال الكردستاني- ) وهي تخشى من أن ينتقل السلاح الامريكي من أكراد “بي واي دي” الى أكراد الـ ” بي كي كي” . الاحتضان الامريكي لحزب الاتحاد الديمقراطي لم يمنع تركيا من توجيه ضربات سياسية وعسكرية موجعة للحزب. قبل نحو عام قصفت طائرات تركية مواقع عسكرية تابعة لقيادة وحدات حماية الشعب “واي بي جي” الجناح العسكري لـ “بي واي دي” في جبل كرا تشوك القريب من القاعدة العسكرية الامريكية في رميلان . الضغوطات التركية المستمرة على الدبلوماسية الروسية وعلى المعارضات السورية، نجحت حتى الآن بحرمان البيدا من المشاركة في جلسات الحوار والمفاوضات بين النظام والمعارضات في (جنيف و سوتشي و الآسيتانة). تحت ضغط شبح (الملف الكردي)،ولقطع الطريق أمام المشروع القومي لأكراد سوريا، دفعت تركيا بجيشها للتوغل في عمق الاراضي السورية في أكثر من منطقة حدودية ( (جرابلس ، الباب، عفرين) وهي تهدد بغزو (منبج) وملاحقة مسلحي “واي بي جي” حتى نهر الدجلة على الحدود العراقية.
امتداد سيطرة “قوات حماية الشعب” الكردية، في الجغرافيا السورية في عمق التجمعات العربية، مثل منبج والرقة وشرق الفرات حتى الحدود (السورية – العراقية)، تصب في صالح حزب الاتحاد الديمقراطي، لجهة تأكيده على أن الأكراد السوريين هم جزء من الشعب السوري ولا نية لديهم بالانفصال وبأن مشروعهم الفدرالي هو مشروع ديمقراطي لكل السوريين وفي اطار الدولة السورية الواحدة. بيد أن السلوك (السياسي والدبلوماسي) للحزب يأتي خلافاً لما يعلنه . بدءاً من انفراد الحزب بإعلان “الادارة الذاتية” ومن ثم “الفدرالية” للمناطق الخاضعة لسيطرته، بتسميات دخيلة على التاريخ السوري “غرب كردستان – روج آفا “، ومن دون مراعاة مواقف ومصالح بقية مكونات المنطقة ، مثل الآشوريين والعرب والارمن. الغاء المنهاج الحكومي الرسمي وفرض المنهاج الكردي في المدارس التي استولى عليها. رفع صور زعيم حزب العمال الكردستاني “عبدالله أوج آلان ” على مقراته ومراكزه الحزبية والعسكرية ودوائره المدنية. دبلوماسياً تتنشط ممثليات ومنظمات الحزب في الخارج وكأن المقاطعات السورية التي يديرها هي دويلات بذاتها. ما يعزز الشكوك والاعتقاد بوجود نوايا أو “نزعة انفصالية” لدى حزب الاتحاد الديمقراطي، تصريحات بعض قادته حول مشاريع الحزب. كتلك التي أدلت بها (هدية يوسف) في ايار 2017 لصحيفة “الأوبزرفر” البريطانية: “إنَّ الوصول إلى البحر المتوسط ضمن مشروعنا في شمالي سوريا، وهو حقٌّ مشروع لنا”. وعند سؤال هدية عمَّا إذا كان ذلك يعني مطالبة الولايات المتحدة بتقديم دعمها السياسي لهم من أجل الحصول على طريقٍ تجاري يصل إلى البحر، بمجرد أن يساعدوها على استئصال داعش من شمالي سوريا، أجابت “بالطبع”. مثل هذه التصريحات، غير المحسوبة النتائج ، تعزز مخاوف الاتراك وتزعزع ثقتهم بحليفهم الامريكي،وتجعل الدولة التركية غير مطمئنة للسياسات الامريكية في المنطقة. فرغم النفي المستمر للإدارات الامريكية لوجود نية أو خطط لديها لتقسيم دول المنطقة ، الاتراك يخشون من استراتيجية جديدة لأمريكا بعد غزوها للعراق 2003، تقوم على تقسيم العراق وسوريا ومن ثم تركيا وايران لأجل إقامة ما يسمى بـ “كردستان الكبرى” ، في اطار هذه الاستراتيجية يضع الاتراك الدعم الامريكي لأكراد العراق و سوريا. المفارقة في المشهد، أن مخاوف الاتراك من حليفهم الامريكي لا يعني بأن أعدائهم من الاكراد مطمئنين كثيراً للسياسات الامريكية في سوريا . (اكراد الـبي واي دي)، الشريك الصغير لأمريكا في حربها على الارهاب، يخشون، بعد الانتهاء من الحرب على داعش، من أن تتخلى أمريكا عنهم في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، (منبج ومنطقة شرق الفرات)، كما خيبت آمالهم وتخلت عنهم في عفرين، حيث تركتهم مكشوفين يواجهون عدوان الغزو التركي ومرتزقته من ما يسمى بـ”فصائل الجيش السوري الحر”.
باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
المصدر ايلاف