طور عبدين ، منطقة جبلية تقع في ما بين النهرين في الشمال الشـرقي لمدينة ماردين ، متوسطة الارتفاع ، كثيرة القرى ، والجانب المطل على المنطقة المعروفة قديما بـ ” باعربايا ” أو (المنطقة العربية ) يعرف بـ ” جبل ازلا ” وقد سمّاه الاغريق “ماسيوس ” .
ان الجغرافيين العرب يصفون طور عبدين أمثال ابي القاسم ابن خرداذبة 848 م حين يقول : ,,ان منطقة بيث ريشا وبيث محلم ( المحلمية ) هي كورة في ديار ربيعة,, وابو القاسم ابن حوقل البغدادي 970 م يقول : ,,ان طور عبدين هو أكبر من جميع الرساتيق المحيطة بمدينة دارا,, . وياقوت الرومي المتوفى سنة 1222م يقول : ,,انه المنطقة المحاذية لمدينة نصيبين ، وفيه الجبل المطل عليها ، والمتصل بجبل جودي ، وهو عماد الكورة كلها ,, .
وان جبل طور عبدين يتوسط بين جزيرة ابن عمر ، وماردين ونصيبين ، وآمد ( ديار بكر ) وسعرت .
ان سكان هذا الجبل الأصليين هم من الآراميين ، وكانـوا يقطنون جبل “ماسيوس ” والمعروف اليوم بجبل ” قره جه طاغ ” وقد حاربهم شلمناصر الأول الملك الاشوري ( 1276 – 1256 ق.م ) واحتلّ مدنهم وهدّم حصونهم وكانوا قبائل وافخاذاً كثيرة ضاربة بين أنهار دجلة والبليخ والفرات .
ويذكر في أخبار الملوك الآشوريين الواردة في الكتابات المسمارية المكتشفة في أنقاض مدنهم ، ان الملك الاشوري هود ناواري ( نيراري ) الثاني ( 911 ــ 889 ق.م) ابن الملك اشوردان ( 922 – 910 ق.م ) حارب آراميي طور عبدين مرات كثيرة .
وان هذه المنطقة جميلة جدا ، وهواؤها نقي صحي ، الا ان ماءها قليل ما خلا القسم القريب من دجلة والذي بنيت فيه مدينة دارا وقرية كفرجوسى ، أما الباقي فانه يعتمد على مياه الأمطار التي يخزنها السكان في جبوب ضيقة .
اما كيفية تسميته بطور عبدين ، كما ورد في قصة الكفاني ما يأتي :
(عندما جاء الفرس سنة 604 م، وطردوا الاغريق من دارا ونصيبين وأطرافهما , واستولوا على شرقي الفرات، ونزح المسيحيون المقيمون في منطقة طور عبدين ( طور ابدين ) والتحقوا بالرومان الذين اسكنوهم في ناحية تعرف باسم ( دار الروم ) , وبعدها عادوا ملوك الاغريق لهذه المنطقة لينتقموا من الفرس وآشور ونينوى وبانوهدرا ( منطقة زاخو ) وباجرمي ( اربيل) وبيت سلوخ ( كركوك ) وغيرها , وقاموا بسبي اعدادا كثيرة من الزرادشتيين والوثنيين وأسكنوهم في هذه المنطقة حدودها من جبل ازلا الى ارزون ، ومن قرية فنك الى حصن الصور وماردين . وعندما استقروا في هذه المنطقة , سمّي هذا الجبل بجبل العبيد ، لانهم جيء بهم للعبودية والرق , فاتخذ الجبل اسمه من اسم ( العبودية ) وهكذا سمي بـ ( جبل ابدين ) او ( جبل عبدين ) (طور عبدين ) من أيام الملك يوستنيان ) .
ولم يرد في القصة عن تاريخ عودة الاغريق الى المنطقة ثانية وتحريرها من ايدي الفرس .
كان الامراء الكورد البوتانيين( البختيين ) يحكمون الجزيرة الشمالية ، وكل المنطقة المسماة (بهتان او بوتان) واولهم هو الامير عبد العزيز نحو سنة 1300 م ، وآخرهم عز الدين شير الرابع ومسّور( مسعود) بك الثاني ولدي سيف الدين بك الثاني اللذان قبضا عليهما سنة 1855 م وسيقا الى القسطنطينية كما كان قد سيق قبلهما ابن عم ابيهما بدر خان بك بن محمد الثاني
.
حكم الجزيرة و طور عبدين سبعة وثلاثين اميرا من هؤلاء الامراء الاكراد من سنة 1300م الى سنة 1855م أي خمسمئة وخمسين سنة . اما الذين خلفوا الدمار وسببوا القتل والنهب والظلم في طور عبدين فهم:
شرف الثاني 1505 – 1513م وشمدين (شمس الدين) 1711 – 1714 م وبدرخان 1833 – 1846م وعز الدين شير واخوه مسّور (مسعود) 1854 – 1855م .
يذكر كتاب (الشرفنامة) ان اول هؤلاء الامراء هو عبد العزيز والد سيف الدين . واورد اسماء واحد وعشرين اميرا ومملوكا الى عهد الامير شرف بن خان عبدال الذي عاش في نهاية القرن السادس عشر .
اما بقية الاسماء جمعت من المصادر السريانية وصبح الاعشى للقلقشندي الكاتب المصري .
كان في طـور عبدين ثلاثة حصون هي : حصن الهيثم ، وحصن كيفا ( الحصن الحجري ) والقلعة الجديدة. وفي سنة 684 م أُقيم حصن جديد لكي يلجأ اليه سكان المنطقة في الأوقات العصيبة والحروب التي تنشب بين الرومان والفرس .
في سنة 1185 م اشتعلت الحرب التي اثارها الاتراك ، واستمرت ثماني سنوات ، وهم يعيثون في مناطق كثيرة تخريبا وتدميرا كأرمينيا وبلاد أشور ، وما بين النهرين وسوريا وقفدوقيا (كبدوكيا) وسبب ذلك ان الاكراد البوتانيين كانوا يهاجمون الاتراك ويقتلون منهم اعداد كبيرة وهم يقطنون في مناطق سوريا الجنوبية . وقتل الاتراك نحو مئتي رجل من الاكراد في المناطق المتاخمة لحدود ماردين ، فثار البوتانيون لينتقموا من الاتراك . تمركز الجيش الكردي عند منطقة نصيبين وطور عبدين بزهاء ثلاثين ألف مقاتل كردي بوتاني ، والجيش التركي تمركز في منطقة الخابور ، وعند التقاء القوتين بحرب طاحنة انهزم الاكراد شر هزيمة ، فاعملوا فيهم السيف وحصلت مجزرة لم ينجوا منها أحد .
كتب المؤرخ الاكليركي الرهاوي في مجلده الثاني الفصل 14 عن قضية ظهور الامام المهدي :
(( في هذا الزمان وفي عهد الخليفة المأمون ، اعتقد الاكراد الذين كانوا مستولين على الحصن (حصن كيفا) ان الامام المهدي قد ظهر ، فاجتمعت جموع غفيرة من الناس ، من كورد وفرس وعرب ووثنيين الى رجل ادعى انه المهدي ، ولكن معظم هؤلاء كانت غايتهم الاولى السلب والنهب والسبي والدمار، وجعل (المهدي) مقره في الجبال الكردية الحصينة . وشرع مع اتباعه هجومه على المدن والقرى ، هدما وسلبا ، وتخريبا ، فدمر بازبدي (منطقة آزخ) وطور عبدين ، حتى سكرت الحراب من شرب الدماء ، وكان لايعرف الرحمة ، حتى خشى بأسه المأمون بالذات . ولما كان المهدي واتباعه ينشرون الموت والذعر والتخريب في طور عبدين ودير قرتمين والقرى المحيطة به ، هاجمهم الحسن أمير هذه المنطقة ، ورأى ما اقترفوه بحق المسيحيين والرهبان بصورة أخص . وكان هذا الحاكم رحوما برعاياه وشجاعا ، وهكذا باغتهم مباغتة خاطفة ، فانهزم الاكراد شر هزيمة وهرب المهدي المزعوم الى منطقة اسحق بن اشوط حيث ذُبح وفُصل رأسه عن جسده )) .
وفي سنة 1432 م استولى البوتانيون على قلعة هيثم ، وفي سنة 1433 م ، هاجم السلطان حمزة بن عرتمان التركي منطقة هيثم ، وساق في السبي جميع سكان باسبرينا وأسكنهم في منطقة ماردين حتى تصالح الولاة فافتدوا بني باسبرينا بمبالغ ضخمة من المال واسترجعوهم من حكم حمزة ، وذهب وزير الحصن وأتى بالفلاحين الى القرية .
وفي سنة 1462 م استولى الامير التركي الأعور ابن خليل مولى حسن بك الطويل على قلعة هيثم ، وطرد منها الامير احمد بن نطفة الضرير ، وجمع اليه عصابات كثيرة من الاكراد ، ومن الجارودية والمحلمية ، وامرهم ان يعيثوا في الارض فسادا ، سلباً ونهباً وتقتيلاً ، وان يقتلوا الامير أحمد الأعور المتحصّن يومئذ في القلعة . اما خليل المشار اليه كان قد استولى على مدينة شروان ، وكان في صبيحة كل يوم يهاجم صاحب قلعة هيثم ، ويسبي ويقتل من الاكراد أتباع الضرير . وكان المتحصنون في قلعة هيثم ايضاً يخرجون ويهجمون على المسيحيين بالقتل والسرقة والسلب . وارسل ابن نطفة لصوصاً على باسبرينا فقتلوا فيها ثلاثة رجال وسبوا كثيرين ، وأسّروهم في القلعة وباعوا كل واحد منهم بمبلغ كبير من المال . اما صاحب حصن هيثم فانه ثار على الحصنيين والاتراك ، واستولى على كميات كبيرة من مخزونهم من الحنطة والشعير والعسل والزبيب والاغطية في القلعة ، وقطع الاتراك له وعدا بالا يسيئوا اليه ، وتنازلوا له عن قلعة هيثم بعد ان تكبّدت المنطقة خسائر كثيرة بالأرواح والممتلكات.
ان الشاه صفوي اسماعيل عندما نزل في مدينة كوي ، حضر لديه الامير شرف الثاني صاحب بدليس ، وبرفقته احد عشر اميرا وحاكما كرديا . منهم الملك خليل الايوبي صاحب حصن كيفا ، والشاه علي البختي ( البوتاني) حاكم الجزيرة . وبعد ان اكرمهم وقلّدهم ، عاد فسجن الامير شرف والملك خليل ، واصطحبهم الى خرسان ، وذلك بمسعى من محمد خان حاكم مدينة آمد ، وكان ذلك حوالي سنة 1499م وهرب الامير شرف الدين ووصل بدليس ، وبعد ثلاث سنوات فر ايضا الملك خليل الايوبي وعاد الى حصن كيفا 1502م . وفي سنة 1505 اتفق والامير شرف الثاني البختي صاحب الجزيرة ، يالهجوم على طور عبدين ، مما تسبب بدمار المدينة من جراء ذلك.
وفي سنة 1515م هاجم السلطان العثماني سليم الاول ، مدينة ديار بكر ، بشخص قائده محمد باشا ، وتمرد خليل صاحب حصن سعرت على الشاه اسماعيل بقصد اخلال ملكه . ووصل الشيخ ادريس البدليس الكردي الى حصن كيفا ، وعقد اتفاقاَ مع محمد باشا القائد التركي ، طبقا للاوامر الصادرة من السلطان سليم للشيخ ادريس ، وضما اليها خليل صاحب الحصن . وزحف الثلاثة متحالفين بجيوشهم على ديار بكر ثم ماردين ودنيسر (قوج حصار) . وبعد حرب دامت سنة كاملة احتل العثمانيون قلاع ماردين وحصن كيفا واورفا (الرها) والرقة والموصل سنة 1516م .
واعاد شرف الدين الى خليل صاحب حصن سعرت الذي قتل شر قتلة منطقة حصن كيف ، بعد ان انتزعها من الحاكم البختي ، واخذ عوضا عنها من صاحب الحصن (خليل) ، منطقة ارزون ، واعادها الى صاحبها الامير محمد بك الصاصوني .
ذكر شرف خان في كتابه ان بدر بك الثاني بن شاه علي بك الذي حكم من سنة 1514م الى سنة 1568م او اكثر ، وعاش خمسا وتسعين سنة . اعاد اليه السلطان التركي امارة الجزيرة ما خلا طور عبدين ومنطقة قلعة هيثم ولما توفي اخوه ناصر بك استعاد طور عبدين وهيثم كما كان سابقا ، وخلفه ابنه محمد الاول وقتل سنة 1578م .
عند موت ناصر رغب ابنه خان عبدال بجميع ملكه بما فيه طور عبدين وهيثم وعليه قصد السلطان سليم الثاني في الاستانة (1566 – 1574م) ومنعه رئيس وزراء السلطان من مقابلته، فطرده وبعد ذلك قتله والذين معه بامر السلطان .. وكانت منطقة هيثم ، ومعظم سكانها مسيحيون غنية جدا بالمحاصيل الزراعية والمنتوجات الحيوانية، وكانت تلبي حاجات امراء الجزيرة بكل مايحتاجونه ، والقبيلة الكردية التي كانت تقطنها هي قبيلة جلكي وهي من القبائل المسيحية.
ولما كان بعض الامراء البوتانيين قد عقدوا معاهدة صداقة مع محمد باشا حاكم راوندوز وكبدوا القرى المحيطة بطور عبدين اهوالا لا بد من المرور ببعض اخبار هذا الحاكم وكما يلي:
كان محمد باشا الكردي 1808م، والمعروف بالامير كور اميرا على راوندوز وهو من الامراء المعروفين بـ (سوران) الذين اولهم عيسى وآخرهم رسول وهو ابن مصطفى بك الكريم العين ولذلك يسمى بـ (كور) أي الاعمى . كان قويا جدا وصارما متوحشا .
وكان مركز حكمه راوندوز المدينة الكردية الواقعة على مسيرة خمسة ايام شرقي الموصل بين كردستان التركية وكردستان الايرانية وكان فيها يومئذ زهاء ثمانمئة دار وتتبعها زهاء مئتي وثمانين قرية . ورأس ( محمد باشا ) قبائل كردية كثيرة حوالي سنة 1820 م .
وفي سنة 1831م استولى على منطقة حديابين ، واربيل ، وكويسنجق، والى السليمانية .
وفي سنة 1832 م استولى على قرى اشور وهاجم قرية حطارة ( الشيخان) وقتل من القوش مئة واثنين وسبعين رجلا ما عدا النساء والاطفال وقتل علي بك امير الأزيدية . وفي سنة 1833م استولى على الزيبار وعقرة ، وفي السنة التالية استولى على العمادية ، ونصب أخاه رسول حاكما عليها .
لجأ اليه الاميران البوتانيان سيف الدين ، وبدرخان فعقد معهما معاهدة صداقة وزحفوا سوية على مدينة الجزيرة ومنطقة بهتان (بوتان) وقتلوا في بازبدي (آزخ) مئتي رجل وقسسا وشمامسة كثيرين، وسبوا النساء والاطفال في مطلع تشرين الاول سنة 1834م، وكبدوا الأزيدية في شرق الموصل خسائر كبيرة وقتلوا اعدادا هائلة منهم .
وفي سنة 1836م كسرت شوكته وغلب في معركة قائداها علي باشا قادما من بغداد ورشيد باشا القادم من القسطنطينية واسر وسيق مكبلا الى العاصمة . وقتل سنة 1837 م .
وفي سنة 1855م ، اتفق عز الدين شير ومسّور(مسعود) بك من الجزيرة , وزحفا على الجبال الكردية الشمالية , حتى وصلا الى سعرت , وقتلا حاجي محمد الحاكم وتسعة آخرين , كما قتلا محمد بك في كربوران وبلغت اخبارهما امير بلجة وسكان شروان , وفتاح بك حاكم منطقة غرزان . فاتحدوا جميعا بعد الاتفاق وقاموا بحملة عسكرية كبيرة ، وقابلوا الغزاة في معركة حامية الوطيس استمرت ثلاثة ايام وثلاث ليال سقط فيها من الجانبين مئات القتلى والجرحى , الا ان عز الدين هزمهم جميعا فارسلوا السعاة الى قسطنطينة مستنجدين . استنفرت اسطنبول قواها العسكرية ، وسارت جيوشها الضخمة وكبحوا جماح عز الدين ومسّور بمعركة ضارية وكسروا شوكتهما وفرقوا جيوشهما واقتادوهما اسرى الى القسطنطينية ونفذ بهما حكم الاعدام ، وبذلك انتهت حقبة الكورد البوتانيين في طور عبدين .
في سنة 1926 شق عصا الطاعة على الاتراك زعيم كردي في خضم اعقاب حملة الابادة الجماعية للارمن والسريان ( سيفو ) وتداعياتها، وفي طريقه اكتسح الاديرة والابرشيات والقرى الصغيرة وعاث فسادا في انحاء طور عبدين . ولما هزمه الجيش التركي وولى الادبار ، ضرب الجيش التركي نفس الاديار والكنائس والقرى بحجة تصفية جيوب المهاجمين من الاكراد، وقُتل من قُتل وهرب من هرب الى سنجار والموصل .
بعد هذه الويلات والاهوال والمحن والحروب الطاحنة، تفشى الوباء في كافة انحاء طور عبدين . فمات الكثيرون من فضلات السيوف . وممن مات في الوباء، ولم ينج من هذه الكوارث الا القلائل .
زحف ملوك وحكام قساة ودمروا الجبل ، فقتلوا الكهنة والاعيان وسفكوا دماء الابرياء العزل وحولوها انهارا، وبثوا الرعب والخوف في النفوس وألبوا الالوف منهم ليقتلوا وينهبوا ويسبوا ويدمروا كل ما على الجبل ….وفي سنة 1955 اعيد تجديد بناء المدينة وترميم اديرتها وكنائسها وابرشياتها وبعض المناطق العمرانية …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هرمز أبونا ــ آشوريون وكورد وعثمانيون ــ نيويورك ــ 2008 .
أ. كوهرت ــ طور عبدين . الشعوب الاصلية ــ لندن ــ 1995 .
أفرام برصوم ــ تاريخ طور عبدين ــ ترجمة متي موسى ــ سبتمبر ــ 2008 .
هارفي مورس ــ لا للاصدقاء بل للجبال ــ جامعة اوكسفورد ــ 1993 .
ديفيد ماكدويل ــ تاريخ الكورد الحديث ــ واشنطن ــ 2004 .
والتر سكوت ــ القبائل الكوردية العثمانية ــ لندن ــ 2008 .