محمد منصور: زمان الوصل
روى أصدقاء لي أتوا من دمشق للتو… إن المرور في أحياء دمشق السكنية الراقية كحي أبي رمانة والمالكي وبعض أطراف حي المهاجرين، أصبح كئيباً ومحزناً. فمعظم بيوت هذه الأحياء تبدو في ليل دمشق مطفأة الأنوار، خالية من أهلها وسكانها… رغم أنها تقع في قلب مربع أمني كبير يشمل بيت بشار الأسد، وبعض المقرات الأمنية والسفارات أو بيوت من تبقى من المسؤولين.. أي مناطق لا ينقطع عنها الكهرباء مقارنة بالأحياء الأخرى!
ما يجري في دمشق اليوم… يكاد لا يصدق.
فالمدينة تتعرض لمحاولات تغيير طبيعتها السكانية، وفق معايير الولاء لنظام الأسد أولاً، وتغيير التركيبة الطائفية ثانياً.
من المعروف ان دمشق، رغم أنها كانت تضم تاريخياً منطقة مسيحية وحياً يهودياً وآخر شيعياً حتى داخل المدينة القديمة، إلا أنها ليست مدينة مختلطة طائفياً… إذ يشكل المسلمون السنة الأكثرية الساحقة فيها… وباقي الطوائف والأعراق والقوميات، التي سكنت دمشق عبر هجرات تاريخية أو موجات لجوء، كالأكراد والشركس ومهاجري نابلس وبيت المقدس الذين أسسوا إبان الاحتلال الصليبي للقدس حي الصالحية قبل أكثر من ألف عام، كانوا جميعاً من المسلمين السنة… وسرعان ما صهرتهم دمشق في بوتقة حالة مدنية، تعلي قيم الحب والولاء للمدينة، وثقافة التعايش والانصهار متجاوزة الحساسيات العرقية.
لكن ما يجري في دمشق في الأشهر الأخيرة، يبدو محاولة للعبث بهوية المدينة وعزلها، وتحويلها إلى بؤر استيطانية تمنع أهلها من العودة إليها، تماماً كما تفعل إسرائيل في القدس.
أولى تلك الخطوات كانت إغلاق أبواب المدينة في وجه أبناء الريف الدمشقي… علماً أن العديد من أبناء هذا الريف الذي أضحى مدناً تستوعب التفجر السكاني في العاصمة هم من أصول دمشقية. في البداية عمد النظام إلى منع أهالي الريف من النزول إلى المدينة في الأعياد فقط، خوفاً من تسلل مناوئين لحكم الأسد إليها… ثم قام قبل أسابيع عدة، بطرد سكان الريف الدمشقي من البيوت التي سكنوها في المدينة بعد أشهر طويلة من تعرض مناطقهم الثائرة للقصف والتدمير والحصار.
المعلومات التي وردتني في هذا السياق تقول أن كل من لم يمض على عقد إيجاره أقل من عام يطرد من المنزل… وإذا لم يكن مستأجراً، بل كان يسكن في بيت صديق له أو قريب مسافر، فإن قوات الأمن تقوم بإخلائه، فرداً كان أم عائلة!
وقد تطور الأمر فيما بعد ليغدو تجديد إيجار أي بيت مرتبطاً بالموافقة الأمنية… وهنا يتم التدقيق في السجل الأمني للمستأجر، فإن كان ما يشوب ولاءه للأسد، فإن عقد الإيجار لن يجدد، والموافقة الأمنية على الاستمراء في السكنى في دمشق تصبح حلماً بعيد المنال!
في مناطق المربعات الأمنية، أي تلك المحيطة بمقرات فروع الأمن، يقوم عناصر الأمن -كما في القدس تماماً- بمنع الساكنين، حتى لو كانوا من أصحاب البيوت الأصليين من إجراء أي إصلاحات داخل المنزل دون موافقة مسبقة… إنها محاولة مكشوفة لتقييد نشاطاتهم الحياتية، حيث يمنع على أي منهم، تغيير مواصفات البيت الداخلية، ويصل الأمر بهم إلى مطالبة السكان بالحصول على موافقات أمينة لتجديد اثاث البيت أو نقله أو استبداله… ناهيك عن الإزعاجات والتشبيح والوقوف على الحواجز!
ولا تبدو هذه القيود مجردة من أهدافها وغاياتها… فالمطلوب هو تطفيش سكان دمشق، او دفعهم للسفر… وفي حال فرغت البيوت من أهلها، يحظر على الأقارب والأصدقاء السكنى بها، وفي حال تم تأجيرها… فأولى شروط العقد هي الموافقة الأمنية، أي اختيار الموالين الذين يتمتعون بسجل أمني نظيف تماماً.
في ظل إفراغ البيوت من أصحابها إذن، تجري عمليات الاستيلاء عليها من قبل شبيحة النظام وأبناء طائفته… ولذلك طرق عدة… أبرزها إصدار محكمة الإرهاب قراراً بالحجز على أملاكه المنقولة وغير المنقولة إن كان من المعارضين البارزين… وثانيها الشراء بعد تحويل حياة السكان بالإجراءات السالفة الذكر إلى جحيم… أما ثالثها فهي ما يسمى بـ (المقايضة الإجبارية).
روت إحدى الدمشقيات على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك):
“العلوية يحتلون دمشق، عم ياخدوا العقارات بأرقى الحارات إما بيع شراء أو بالمقايضة الإجبارية، صاحب البيت يللي أخذوه منه وأعطوه مقابله بيتاً قديماً بحي المزرعة صار معه جلطة… وهي ثالث مرة تحدث لأناس أعرفهم”.
المعروف أن أبناء الطائفة العلوية من العاملين في أجهزة الأمن والإعلام والجيش والمطار… أسسوا حول دمشق منذ الثمانينات تجمعات سكنية يسميها الدمشقيون اليوم: (مستوطنات) هذه التجمعات كانت عبارة عن أحياء من السكن العشوائي تعلوا قمم الجبال في المزة 86 او حوالي برزة، أو في حي الورود ومساكن الحرس بين ضاحيتي دمر وقدسيا.
على مدار عقود.. ظلت هذه المستوطنات كانتونات طائفية معزولة في هويتها، تحاصر دمشق في أطرافها الغربية والشرقية والشمالية الشرقية. كانت حالة استثنائية نشازا في تاريخ المدينة التي اعتادت على مر قرون أن تحتضن الأحياء البعيدة عن مركزها، وذات التركيبة العرقية والسكانية المختلفة، لتصهرها وتذوب في ثقافتها.. وتصبح فيما بعد جزءاً منها.
العلويون وحدهم لم يتسطيعوا الذوبان… أتوا مسلحين بثقافة التهديد والعنف، وكتابة التقارير الأمنية في الجوار، والاستقواء بأجهزة الأمن وتلفيق التهم مع أي إشكال شخصي يحدث. ثلة من المسؤولين الكبار سكنوا في الأحياء الراقية كغربي المالكي وأبي رمانة والمزة… لكن الأجواء الأمنية في تلك الأحياء التي تضم إلى جانب بعض المقرات الأمنية سفارات دول، وقصر الرئيس، حالت دون خرق هدوء تلك المناطق، إلا بكُلبات حراسة بحجة حماية المسؤولين، كان السكان يتحاشونها، أو هي تتحاشهم بحكم الغنى والثراء.
اليوم يبدو المخطط الجديد، توسيع الحضور الطائفي لهؤلاء في أحياء دمشق الراقية، ناهيك عن عمليات بيع وشراء تقوم بها شركات تحمل أسماء خليجية لكن بعض من تحدثوا إلينا قالوا إنها مملوكة لإيرانيين متحالفين مع رجال أعمال من الطائفة الحاكمة.
كان هدف النظام في الأشهر الأولى لاندلاع الثورة عزل دمشق عن ريفها، وعن الريف الحوراني القريب منها جنوباً… ووضعها تحت الإقامة الجبرية، للقول إن كل شيء طبيعي في العاصمة… وأن أهلها راضون عن النظام والنظام راض عنهم… لكن عمليات التدمير الوحشية لذلك الريف دفعت بالسكان لمحاولة اللجوء إلى دمشق… قبل أن يتنبه نظام الأسد إلى أن عليه أن يقتدي بسياسة إسرائيل في عزل القدس، وحرمان الفلسطينيين من التواجد فيها، أو الصلاة في مسجدها الأقصى.
اليوم يراد تفريغ دمشق في سكانها للعبث بتركيبتها الطائفية، ثم تفريغها من المعارضين والإبقاء على الشبيحة والمنبحكجية من سكانها أو سكان المحافظات الأخرى، ناهيك عن تقوية النفوذ الإيراني الشيعي، الذي لم يستطيع رغم كل ما اخترع من مقامات ومزارات، أن يغير من هوية المدينة العربية الإسلامية وطابعها المتعايش مع الحضور المسيحي الأصيل فيها.
يمكن لكثير ممن يقرؤون هذه الكلمات أن يقرعوا ناقوس الخطر الذي قرعه كاتب هذه السطور في عنوان المقال… لكن من يعرفون روح دمشق الحقيقية، وسر حضورها التاريخي، سوف يدركون أن كل ما يفعله النظام، هو محاولة لتأخير سقوط العاصمة، أو محاولة تحصينها من الداخل بالشبيحة والمؤيدين، وترك خيار سقوطها بفعل هجوم مسلح من خارجها، رهين القرار الدولي بتسليح نوعي للجيش الحر أو قرار جدي بإسقاط النظام، حين تصبح فاتورة بقائه الإقليمية أكبر من فاتورة سقوطه، في موازين القوى المتصارعة.
لا يزال الدمشقيون يذكرون مشهد الإعلان عن موت حافظ الأسد في حزيران من عام 2000، حين شهدت مراكز انطلاق الحافلات نحو قرى الساحل السوري ازدحاماً شديداً، وحين رفع الكثير من الدمشقيين يديه ابتهالاً للسماء، مودعاً سكان المستوطنات التي شوهت مدينتهم… راجين لهم رواحاً إلى قراهم بلا عودة!
أجل…
لقد غادر معظم العلويين دمشق في تلك اللحظة، تحسباً مما يظنون ان شيئاً ما قد يحدث… وهو أمر لم يسرِ على سكان دمشق من أبناء المحافظات الأخرى… لقد لحقوا بجثمان (القائد الخالد) الذي لم يجرؤا أن يوصي بأن يدفن في دمشق… وكان ذلك في عز الاستقرار الأمني للنظام، والتطبيق الحرفي لسيناريو التوريث… فهل ستتسع دمشق لمن حاول سلب بيوتها، وقصف مساجدها، ودمر أحياءها الجنوبية، وضرب ريفها الأقرب إلى القلب بكيماوي الحقد والكراهية؟!