أحداث ذات معنى ؟

لم يرتاح ( نزيه) في هذه البلاد ! كان يشعر انه مختلف او أن الاخرين اشعروه بهذا الاختلاف . وسرعان ما اكتشف ان السبب هو اختلافه الديني المنسي في ذاكرته منذ زمن طويل , فالناس هنا تسأل كثيرا وأول ما تسأل عنه وتستفسر حوله هو هل من دين كذا او دين كذا .. وعلم ان القلة منهم تعرف المنطقة الجنوبية في سوريا وأقل منها جدا تعرف ان الناس الذين يعيشون في تلك المنطقة يسمونهم الدروز ومن النادر ان يصادف احدا يعرف تاريخ هذه المنطقة او اسما شائعا معروفا فيها . قال ( نزيه ) : قبل أيام من عودتنا من ليبيا حلمت وكاني انقسمت الى جزأين متماثلين تما ماً كالتوأم ابتعد احدهما وابتدأ بالتلاشي ثم تبدد وأختفى وبقي الاخر وكأن رجلاه ثُبتتا الى الارض لا يستطيع الحركة , أيقظتني ام هشام بنهزات ناعمة على جسدي قالت لي ان جفناي كانا يتحركان بسرعة وأهمهم بكلام غير مفهوم وكانني اعاني من شيء ما . قالت ممازحة : يبدو ان (قرآن ) قد فعل الأفاعيل و (قرآن ) هذا هو ميكا نيكي قدم من بلاد البنغال المسلمة المتطورة يطيب له في أحايين كثيرة -اعتلاء برج المئذنة- والآذان في الناس . في فترات الظهيرة والمساء يظل الصوت محتملا لإندخاله بالضجيج الخارجي لكن في الفجر ينفرد الصوت بذاته ويحتد ويتموج فتخترق موجاته جدران البيت وتضرب نوافذه ويقلق راحة الخلد في حفرته . علمنا بعدها سر عدم انشغال هذا البيت لفترة طويلة ورخص ايجاره فالمستأجرون كانوا يهربون منه بسبب مجاورته المباشرة للجامع الكبير . قلت لبعض الاشخاص الجيران بلهجة المازح الآمل يا أخي تعالوا نقول للمؤذن أن يخفض قليلا من صوته أو على الاقل ان يشغل مكبرين للصوت فقط بدلا من اربعة . نظروا الى بعضهم البعض والى الارض ولم يجيبوا او يعلقوا . يخبر ( نزيه ) ما جرى لكل شخص يقابله وكانه يتعمد نشر الحوادث بكامل تفاصيلها قال ان حظ ولديه لم يتغير من بلد مسلم ذاقوا فيه المرارة الى بلد مسيحي اذاقهم فيه المسلمون المرارة مرة أخرى . قال في ليبيا لم اكن انام مرتاحا إلا نادرا ان استطعت تحصيل اجرة أتعابي من اعمال السباكة واستخلاصها وكأني كنت استخلصها من فم السباع فلم تكن الناس وخاصة طائفة الشباب من اجيال الثورة الليبية القذافية يتورعون عن اكل العرق والتعب . الكل يريد المال والمنزل الكبير و لا ير حرجاً ان يسرق وينصب كما يسرق غيره وكان الاخلاق تبخرت من ألأعراف , وبدأ ت الناس تتحدث عن صحوة دينية ! وكثرت الجوامع وافران الخبز ونشر المصريون المقيمون خطابات الشيوخ كشك وفشك والشعراوي والبعراوي وابتدعوا اسم إسلام للذكور.., وحفظوا اسماء الممثلات التائبات العائدات الى نهج السلف الصالح مزدانات بالحجاب والمال والماكياج الفاقع وظهر بينهم الطبيب الشيخ والمدرس الشيخ والمحامي الشيخ , وكان الحجيج يعود محملا بالذخائر والنفائس وكتيبات تشرح الحياة السعيدة وحديث يعفور وضرورات قتل الوزغ . وصارت زمعة وسودة وحفصة وزينب ونساء البدو الغابرة رقياً عالياً بالتفكير والحياة ومجداً لا يدانيه مجد أي من نساء عصرنا هذا ….. إن خرج أولادي الى ا لشارع ليلعبوا عادوا الى امهم يبكون مضروبين مفشخين . . تخرج امهم وتدق على ابواب الجيران تشتكي والكل يتحجج انهم اولاد هل هكذا تلعب الاولاد بالعصي والضرب لأولادي… أ ولاد السوري العامل ؟ كانوا يعرفون ان لا ظهر لنا في بلد تضطرم

فيه القبلية والعشائرية ! . قلصتُ انا واسرتي نشاطنا وقللنا خروجنا وبتنا كمن فيه عيباً يحاول اخفاؤه – وأُجبرنا على تحمل وزر السيد الحاكم بأمر الله واخته ست الملك منذ اكثر من ألف سنة خَلَتْ – لكن ماذا تفعل بالأولاد وعلاقات المدرسة ؟ . تعلم اولادي الصلاة في المدرسه الإبتدائية , كانت مديرة المدرسة تأمر الطلاب بكنس الحجرات وشطفها فقد نشر القذافي تعاليمه السياسية والاجتماعية ومن ضمنها أن المدرسة يخدمها طلابها وبين الدروس كانت تجمع الطلاب وتعلمهم الصلاة تركع أمامهم وتقف وتطلب منهم أن يتابعوا ويقلدوا حركاتها . قلت لابني الصغير ( مجد ) يا ولدي اذهب الى الجامع معهم وشاركهم الصلاة ربما اخجلهم الدين وردتهم العبادة . قال انا كنت اذهب بالسر لم أكن اريدك ان تعلم كنت أخشى ان تمنعني , يستهويني الجمع وهواء المسجد وسقفه العالي وادعو لكم حين اصلي ثم انقطعتُ بعد أن جاءني إمام الجامع واقترب مني ومال بفمه على اذني وقال لي : هل صحيح انكم من الدروز ؟ …. ذهبت مرة الى النيابة وعدت غير مصدق ان وكيل النيابة يمكن ان يكون هكذا كان يرتدي جاكيتا اوروبيا وجزء من خياطته كان منحلا اعلى الكتف تبثق من داخله كتلة قماش صوفي من التي توضع لتثبيت شكل الكتف قال لي : لا عقاب على الاولاد تحت السن القانوني طالما لم يؤدٍ –
!!_ الضرب الى اذية او دخول المستشفى . … صدقني انا سعيد بما يحدث في ليبيا من تدمير وقتل اشعر ان الله ينتقم لي ؟ وكان لا بد أن يحصل فيها ما حصل , لان الناس كانت تسير في اتجاهات متضادة وكان لا بد من الاصطدام والاحتكاك . وكان اليوم الموعود حين خرج الاولاد الى الشارع ثم عاد (مجد ) هلعاً مرعوبا وقال ان اخوه الكبير ( هشام ) قد مات . خرجنا نطير انا وامه كان الولد مرمي في الشارع وحيدا وعلى بعد كانت مجموعة من أولاد الليبيين تراقب وتسرق النظر . كان ساخنا ودم قليل يخرج من مؤخرة راسه وضعت يدي على قلبه لم اشعر شيئا وكأن يدي استحالت قطعه من الخشب لا حس فيها اسندت راسي الى صدره لأسمع شيئا فلم أسمع الا صيحات أمه .وضربات قلبي المتسرعة اسرعت به الى السيارة واخذته امه في حضنها بالمقعد الخلفي ولم ننتبه الى (مجد) الذي كان يركض وراءنا في الطريق الى المستشفى قالت امه انه لا زال يتنفس وقال لنا (مجد ) بعد ان وصل ان احد الاولاد ضربه – ببلوكة – على راسه وهرب فقدر الاطباء انه مصب بارتجاج في الدماغ ويحتاج للمراقبة , عدنا به قبل مضي اربع وعشرين ساعة فقد عاد اليه وعيه واستطاع ان ينهض ومن فورها قامت أمه تلم الثياب والاغراض وتكدسهم في الشنط رجوتها الى الصباح . انتظرنا اليوم التالي كامل النهار تقريبا على درج البيت وشنطنا جانبنا كأننا في محطة قطار الى ان جاء المغرب وانعقد سوق السيارات شمال البلد فذهبت وبعت السيارة . خرجنا من ليبيا بالباصات لان الحظر الجوي كان فاعلاً وقت ذاك . بنيت بالمشقة والعوز غرفتين الى ان حدث هذا الهرج والمرج في سوريا . وصارت الدوريات تتصيد الشباب على الحواجز لسوقهم محاربين في الجيش لعربي السوري وصار السفر الى المانيا متاحا واسهل من السفر الى دمشق أو هكذا كان يشاع ان ماما ميركل ترحب بالسوريين المهاجرين وتوفر لهم سكناً وراتباً . استدنت المال وباعت امهم بقايا مصاغ من ايام الفرح
تعرض اولادي الى سفر طويل ووضعوا المال بين ايدي مهربين أخرجوهم الى بلاد الكرد في الشمال السوري ثم الجنوب التركي وبعد اسابيع سافروا بالسيارات والقطار وعلى الاقدام واخيرا وصلوا الى المانيا ووضعوا في أحد المعسكرات .. في المعسكر اجتمع خلق كثير لا رابط بينهم يشعر كل واحد ان الاخر منافسا له ينتظرون الماء والطعام وفي نفس كل واحد ان يكون هو االأول الذي يسوي أوضاعه ويصبح ألمانيا طليقاً! ومن قلة حظهم وحظنا كان بالمعسكر الكثير من الاخوة السودانيين من جنوب السودان عرفوا من الاحاديث وتناقلها انهم من قبائل البقارة المتخصصة في رعي البقر الأعجف الممصوص!! قامات طويلة محروقة يلبسون الثوب السوداني واسع الأكمام إلا انهم ( ولله الحمد) مسلمون مخلصون لا يجيدون شيئا بالحياة إلا رعي الابقار والتباهي بدينهم سيد الاديان . الدين المقبول الأوحد عند الله . خصص الاخوة السودانيون غرفة جعلوها كجامع وكان يقف أحدهم على الباب في موعد الصلاة يؤذن بالناس فيأتي اليه السودانيون اصحابه وأخرون من بلاد الأفغان المجيدة وغيرهم القليل . وفي يوم زارهم ثلاثة من الاخوة السودانيين وقفوا بالباب وقالوا لهما انتما سوريان ؟؟ قال (هشام ) نعم يعني عرب مسلمون ؟ احتار (هشام) بما يجيب فالمعلومات كلها موثقة وتصل الى الجميع والكل يعرف كل شيء عن الكل انما يدعي عدم المعرفة ! قال هشام نعم ! إذن لماذا لا تصليان لماذا لا تأتيان الى الجامع ؟ قال هشام: انشاء الله نحن في ظروف غير مناسبة قال اطولهم: الحفاظ على الصلاة هو الحفاظ على الدين كما ان عقوبة تارك الصلاة كبيرة في الدنيا والآخرة قال هشام انشالله وأغلق الباب . عادوا بعد ايام ووقفوا بالباب وكرروا الكلام السابق
قال لهم هشام بانزعاج وربما عادت اليه ذكرياته : سأختصر الموضوع نحن لا نصلي ولا نريد ان نصلي تفضلوا مع السلامة ودفع اقربهم في المكان الذي وصلت يده اليه ولا ادري كيف اعتبر الاخ السوداني هذه الدفعة الخفيفة ! – فليس من السهل التنبؤ بردود الأفعال البدائية لناس بدائيين – فدفع هشام دفعة قويت كادت ان ترميه ارضاً وتحول الكلام الى عراك بين ولديّ وبين ثلاثة من الاخوة السودانيين . انتهى بان طعن أحدهم هشام بسكين صغيرة كانت معه . وكان على (مجد ) أن يشهد للمرة الثانية صراع أخيه مع الموت . أخذه (مجد) ينادي وتجمع خلق كثير يساعدونه ونقلوه الى المشرفين ثم أُخذ الى احدى المستشفيات القريبة , نجا من الموت . ونُقل ولدايّ الى معسكر آخر ثم أخذتهما سيدة ألمانية ويعيشان الان مرتاحين كل يوم نكلمهم ونكلم السيدة الالمانية أتدري ماذا تقول السيدة لأم هشام .؟ تقول لها لا تشغلي بالك عليهم انا أمهم الثانية . أوصيتُ ولديّ : ان لاح لكم خيال -جامع- على بعد 10 كم ابتعدوا عنه … . بلادنا بلاد تمور بالدين والحقد والكرة وليس هناك من أمل قريب قلت له : في كل شيء يوجد الصالح والطالح يوجد المر والحلو يوجد السيئ والجيد , قال ما يشغل بالي هو النسبة نسبة الجيدين وأن تبدو كثيرة لكن معظمهم كامنون صامتون ولا يتورعون عن الاستفادة من دينهم إن واتت الظروف ليس من السهل التخلص من تراكمات المنزل والجامع وكتب الدين المدرسية وخطابات الشيوخ في بلاد لا قوانين مدنية فيها , الدين في بلادنا نظام استبدادي آخر رديف للسلطة وله ميزانية مالية ربما تفوق ميزانية التعليم بعشرات المرات .
.. . . قلتُ له : ها انت بدأت الكلام بالفلسفة والسياسة قال : هل نسيت انني معلم ابتدائي قبل ان امتهن السباكة وأسافر لضيق الحال سأعود للتعليم لعلي أُعلّم الاولاد شيئا من تجربتي .

About مروان الشامي

أنا مروان الشامي طبيب سوري مهتم بالمدنية والتحضر أعمل خارج سوريا حاليا
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.