لاشئ كالشتاء يورط في ارتكاب الكآبة ، ولا شئ يورط في الجهاد كالإمتلاء بقناعة لا تقبل القسمة علي اثنين ، ولا تقبل الجدل ،،
أكره كلمة ” الجهاد ” هذه ، ربما لأنها كانت الممر التاريخيَّ الأوفر حظاً للفتك بأحلام ٍ وأرواح ٍ ، واستباحة سلام الآخرين وأشيائهم تحت مظلة كبيرة ومرنة من حسن النوايا ، مع ذلك فهي ممرُّ صادق أيضاً لفرز المزيف من الحقيقيِّ !!
كما أنه ليس تعبيراً محميَّاً علي دين بعينه ، فإنَّ من السهل أن نعثر في الظلِّ ، في كل عقيدة ، علي تعظيم لهذه الشريعة ، غير إن انخفاض إيقاع حراسة الإخلاص له في المسيحية مثلا والمواظبة علي حراسة الإخلاص له في الإسلام واليهودية ، ليس انعكاساً علي تسامح المسيحية في جوهرها ، أو لارتفاع مسيحيي الشرق أنفسهم عن البداوة الأولي ، وإنما انعكاس ضروري لتسامح المسيحيين المتأخرين تحت ضغط الإحساس بأقليتهم لا أكثر ، ولقلة المياة التي جرت في النهر ، ولأن لا شئ تغير ، قد يتضح الأمر حين نعرف أن ” بابا الأسكندرية ” كان قبل الغزو البدويِّ يصحب معه في كلِّ رحلة إلي ” مجمع نيقية ” مجموعات من الأقباط يسمون بـ ” الصبوات ” ، كانوا يضربون الناس علي طول طريق الموكب ليفسحوا له الطريق ، كما كانوا يضربون معارضي ” البابا ” في ذلك المجمع !!
كما أن هؤلاء هم الذين قتلوا الفيلسوفة ” هيباتيا ” بتحريض من الكنيسة القبطية لا لشئ سوي أن الكنيسة أحصتها في عداد المهرطقين !!
لكن ، للحق أقول ، أن الأمور اتخذت مع الغزو البدويِّ أبعاداً أكثر سوءاً وضحالة ، وإذا كنت أظن أن اختيار مصر أنموذجاً هو الإختيار الأكثر مكاشفة ، فلأن ذلك بالتأكيد هو الصحيح ، ولا أبتعد عن الحقيقة إذا قلت أن معاناة مصر في الوقت الراهن ، حيث لم يعد أمامنا سوي القبو ، وهذا هو مكاننا الآن ، هي تعقيبٌ علي نزوة “عمرو بن العاص” الشهيرة !!
سأنقل حكاية دالة ، ومشهورة في التراث ، ولا تقال علي منابر الكهنة في الوقت نفسه ، هذه هي بحذافيرها من ” نهاية الأرب في فنون الأدب ” ، قال :
” كذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( انكم ستفتحون أرضاً يذكرفيها القيراط ، فاستوصوا بأهلها خيراً)
قال : وجعل عليهم لكل فدان نصف إردب قمحاً ، وويبتين من شعير إلا القرط فلم تكن عليه ضريبة ، والويبة يومئذ ستة أمداد كأنه يريد بذلك البدار ، قال : وروى عن “الليث بن سعد ” رحمه الله ، أن “عمرو بن العاص” جبى مصر أثني عشر ألف ألف دينار، وقال غير “الليث ” : جباها ” المقوقس ” قبله بسنة عشرين ألف ألف دينار ، قال ” الليث ” : وجباها “عبد الله بن سعد” حين استعمله عليها ” عثمان ” أربعة عشر ألف ألف دينار ، فقال ” عثمان ” لعمرو: يا أبا عبد الله ، درت بعدك اللقحة بأكثر من درها الأول ، فقال ” عمرو ” : أضررتم بوليدها ” !!
الحكاية بهذا الشكل تحتاج إلي إضاءة ، فهي تقول أن (الخليفة الراشد) ” عثمان بن عفان ” الذي كان يري مصر كما يراها أي محتل ، مزرعة خلفية لا أكثر ، أستقلَّ ما جباه “عمرو” من خراج مصر فعزله ، وولي ” عبدالله بن سعد ” مكانه ، فأجهد المصريين وارتكب الشنائع ، فاستطاع كالعادة ، لأنه الأقوي والمحصن خلف السلاح ، أن يجمع “14” مليون دينار ، ليس هذا هو المهم ، المهم نظرة عثمان إلي مصر ، الفاضحة لتعريف “مصر” عنده كمحتل كأي محتل ، إنها اللقحة ، أو الناقة الحلوب !!
والتراث مزدحم بمثل هذه الرواية المهينة ، وبعضها قادر علي استدعاء الضحكات ، كالرواية عن أحد الخلفاء العباسيين الذي كان له كل عام بناءاً علي طلبه حمارٌ من بلدة في مصر تسمي ” مريس ” ، لست أدري أين تقع الآن ، وموطن الطرافة في الأمر أن ذلك الحمار المريسي كان يصعد سلم القصر بأمير المؤمنين !!
كان يحدث هذا الابتزاز بالطبع تحت مظلة الخروج بالمصريين من الظلمات إلي النور ، دون أن يقول لنا أحد ، أين موطن الخروج إلي النور في استعباد السكان الأصليين وسحلهم واستباحة أشيائهم ؟
وأبشر إذا وجهت هذا السؤال لأحد الكهنة بسماع حكاية “عمر بن الخطاب ” حين اقتص للمصريِّ من ” ابن عمرو بن العاص ” ، مع ذلك ، فاحتفال الكهنة الزائد عن الحد بهذه الحكاية لا ينبه نظرية بقدر ما يقوم دليلاً علي ندرتها ، بل فرديتها !!
قد يعتقد خطأ أنني ابتعدت عن موضوع الجهاد ، فالسياق واحد ،،
قلتُ : لاشئ كالامتلاء بقناعة لا تقبل القسمة علي اثنين يورط في الجهاد ، ولأن قناعات الناس مختلفة كان لابدَّ أن تختلف ألوان الجهاد ، وما دام الأمر هكذا فإن الجهاد من هذه الناحية معيار للرقيِّ والحضارة !!
وهناك ، غرباً ، حيث يعيش المنهكون من الحرية ، ولأنهم ، ارتفعوا عن تصديق كلِّ ما قال أسلافهم ، وعن تصديق كلِّ ما قال ” أرسطو ” تحديداً ، فلقد كان الأوربيون ، حتي وقت غير بعيد جداً ، يصدقون أن أسنان المرأة أقلّ من أسنان الرجل ، كما قال ” أرسطو ” ، حتي تجرأ أحدهم علي الشك في هذا القول وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك خطأه ، وهنا ، وهنا تحديداً ، البداية الحقيقية لهزيم المركبة الفضائية التي حطت علي كوكب المريخ ، ربما لأنهم أدركوا بعد غفلة طويلة ، أن الجهاد في سبيل العلم ، والإنسان المقدس هو أنبل منطق للجهاد ، وهذا اللون من الجهاد هو جهاد في سبيل شئ قد يحدث وقد لا يحدث ، لكنه يستند إلي أدلة وتجارب ورواد ،،
وهناك لونٌ من الجهاد بهت تماماً وتجاوزته الأساليب إلا في المجتمعات القبلية التي يرتفع فيها القانون عن الأرض أميالاً ، وهو الجهاد في سبيل العرض ، وتراث العشيرة الفاشل ، وهو جهاد في سبيل شئ حدث بالفعل ، ويندرج تحت هذا اللون من الجهاد ، جهاد ” شارون ” ضد الفلسطينيين ، إذ يقال أن فلسطينياً هتك ذات يوم عرضه !!
ويتخذ المسلمون من الفوز بالجنة والحور العين ذريعة للجهاد ، وهو جهاد في سبيل ما لا يستند إلا علي القناعة الشخصية وحدها ، هذا جعله يجاور الخطر علي محيطه بارتياح تام ، وجعله أيضاً بحكم شهرة القناعة الشخصية علي سلوك الفرد محكاً لفرز المزيف من الحقيقيِّ !!
ومن الجيد أن المزيفين الأغلبية ، وإلا ، فمما يثير الدهشة أن يبخل مسلم عاقلٌ بروحه وهو يؤمن تماماً أن الجود بها في سبيل الله هو الممر الأمين نحو الجنة والحور العين !!
هناك لونٌ آخر من الجهاد ، وهو جهاد الخوف ، كجهاد ” أقباط مصر ” الناعم للتخلص من الإخوان بدافع الخوف منهم ، وهو خوف مبرر ، مع ذلك ، فإن الذي يجاهد وهو خائف سيجد نفسه دون أن يدري يجاهد في سبيل الآخرين لا في سبيل استقرار خوفه ، إذا اعتبرنا الاستقرار في حد ذاته قيمة تستحق الجهاد من أجلها علي حساب قيم أرقي ، وهذا ما حدث ، فإن خوف الأقباط من الإخوان المسلمين ، بل من المسلمين عامة ، جعلهم يرون مجرد التخلص من سلطة إسلامية الطابع ، مبرراً للإذعان لأيِّ سلطة أخري ،،
مما لا شك فيه أن النعرة الدينية في مصر كانت ، حتي في أكثر العهود ظلاماً ، منخفضة ، ومما لاشك فيه أن حدة النعرة الدينية ، والتوجس بين الطرفين في السنين الأخيرة هي من صناعة السلطة ، وتردد المصريين علي الخليج في العقود الأخيرة من القرن الماضي !!
ولعلَّ الشعر هو ديوان الأمم ، والمراثي تحديداً ، لبرائتها من استنطاق المشاعر ، فهي تولد في لحظة مجردة ، وحارة ، لذلك فهي بريئة من الرجم بالكذب أو الالتفات إلي فائدة مرجوة من ورائها ، لذلك سوف أستعين هنا بالمراثي الشعبية “العديد” كدليل علي ما ذهبت إليه !!
في الصعيد ، حيث ولدتُ ، أبداً ، لم أر أحداً من قريتي ينظر إلي قبطيٍّ من قريتي أو من القري المجاورة نظرته إلي الآخر ، بل كنت ، لانخراطهم الشديد في أدق تفاصيل المسلمين ، لا أستطيع استيعاب الفارق بين ديانة أهلي وديانة أهلي ، وكنت ، وكان الجميع ، يحرصون علي خطابهم بيا “عم” ، ويا “جد” ، ويا “خال” ، كما يخاطب الواحد منا أهله ، وحدث كثيراً أن سرد لنا الكبار تفاصيل معارك ، وكانوا يحرصون دائماً علي تضخيم أدوارهم فيها ، دارت رحاها بين قريتي وقري مجاورة زوداً عن أقباط !!
أجدادنا أيضاً ، تركوا لنا في ” العديد ” دليلاً مضحكاً علي براءتهم من هذه التهمة ، كأنهم أدركوا أن خصمهم الأبديَّ هو السلطة ، فهم لا يتذكرون الفارق بين الديانتين ودواعي الكراهية إلا حين تتعلق المسيحية بالسلطة !!
من الجدير بالذكر أن وظيفة ” الصراف ” ، أو الجابي للضريبة قديماً ، كانت حكراً علي الأقباط أو تكاد ، ولما لهذا الجابي من تراكمات سيئة في الذاكرة الجمعية للمصريين عبر العصور كان لابد أن يتذكروا أنه ذميٌّ ، وكان لابد أن يتسرب كرهه من الأعماق البائسة إلي ندب الكبار في المآتم :
قال للنصاري يا كلب يا ديري / هات الورق لا يحاسبك غيري
قال للنصاري يا كلب يا ملعون / هات الورق ها نحاسبك ونقوم ..
أيضاً :
قالوا النصاري خليه يلاقينا / ياخد اللي ليه وناخد اللي لينا
قالوا النصاري خليه يصادفنا / ياخد خلاصه من دفاترنا ..
أيضاً :
هات الورق يا كلب يا دمِّي / دير الحساب لا يحاسبك ولدي
هات الورق يا كلب يا ديري / دير الحساب لا يحاسبك غيري ..
تأمل عبقرية القاع في ” قال للنصاري يا كلب ” ، خطاب مفرد بصيغة الجمع ، بدلاً من “قال للنصرانيِّ” ، كأنهم يرون “الصراف” هو النصاري ، لا النصاري كسكان عقيدة !!
لا تستهن بهؤلاء البسطاء ، فهم أكثر خبثاً بالتأكيد الزائد عن الحد ، وكأنهم اكتشفوا المكيدة قبلنا ، فهم يندبون علي لسان الميت كبار موتاهم أيضاً بـــ :
أولاد الحكومة يا غز يا عسكر / ولا تمسحوا اسمي من الدفتر
أولاد الحكومة يا غز يا حكام / ولا تمسحوا اسمي من الدوار ..
المضحك في الأمر أن هذه العديد كان يستخدمه الأقباط ، كما هو ، لندب موتاهم ، وكان من غير المستغرب أن تسمع في مأتم قبطي امرأة تندب قبطياً :
هات الورق يا كلب يا دمِّي !!
لون أخر من ألوان الجهاد ، وهو محبب إلي النفوس ، وهو جهاد الشاعر “جميل بن معمر ” المعروف بـ ” جميل بثينة ” ، فلقد أراح واستراح وكرس حياته للجهاد في سبيل النساء ، بثينة تحديداً ، لذلك لم يسلم من ملامة أهله الذين أشاروا عليه بالذهاب للجهاد لعله ينساها ، فقال :
يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوة ٍ / وأيُّ جهاد ٍ غيرهنَّ أريدُ ؟!!
أكتب هذا في وقت مزدحم بالنذر السوداء ، حيث فقد الجميع أعصابه ، وحيث تزداد ضيقاً كل صباح رقعة المرحبين بما يحدث في مصر الآن ، ولقد اجترحت من قبل استبصاراتي حول انضمام ” تونس ” للمحكمة الجنائية الدولية ، وها هي المتاعب قد بدأت فعلاً ، وكرة الثلج قد انطلقت ، وهي – إذا لم يعمل من يهمه الأمر علي إيقافها – سوف تدهم قبل كل شئ المطحونين ، لا الكبار الذين يعيشون دائماً علي الحافة ، وفي حقائب السفر !!
ما أشبه مصر الآن بفيلم ” رابعة العدوية ” ، وما أشبه المشهد بمشهد احتضار “رابعة العدوية” ، وهي تقول للذين يحاصرون موتها المرتقب :
” أفسحوا الطريق لرسل الله “
وكأنَّ شبحاً من داخل المشهد السياسيِّ يعمل عن عمد ٍ علي تحريفه ليفسح الطريق فعلاً ، لوجه مصر القادم ، ولا نملك إلا أن نقول :
آن للغريب أن يري جماه ..
محمد رفعت الدومي