رياض الحبيّب
موقع لينغا
أمّا بعد فآثرت البدء من حيث انتهيت في الجزء الثالث إذ قُلت: (هكذا اعتمد البيّاتي وعدد من أترابه رواية الصّلب الإنجيليّة دون غيرها، على رغم خلفيّاتهم الدينيّة غير المسيحيّة) وعليه فمِن أين أتى الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب (1926- 1964 م) بكلمة “سِفر” هُو ومَن سبقوه؟ ومِن أين اٌستوحى فكرة تقسيم قصيدته “سفر أيّوب” إلى عشرة أقسام؛ هي: سفر أيّوب (1) وسفر أيّوب (2) وسفر أيّوب (3)… إلخ؟ عِلمًا أنّها متنوّعة وزنًا وقافية، وعِلمًا أنّ عَدَدَ فصول سِفر أيّوب في الكتاب المقدّس اثنان وأربعون، ما دلّ على ثقة الأدباء الكبار بصحّة روايات الكتاب المقدّس وبأحقيّة اعتماده مصدرًا أصليًّا للشخصيّات المذكورة فيه وللروايات، ومرجعًا ثبتت صحّته العِلميّة تأريخيًّا وجغرافيًّا. ولا يزال علماء الآثار ماضين في عمليّات البحث والتنقيب والاكتشاف والتصوير والتحليل. وقد سبق للسّيّد المسيح أنْ قال: {لأَنْ لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ. اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ، وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوح} – مَتّى:10 ومرقس:4 ولوقا:8
* * *
مقتطفات عامّة من شعر بدر شاكر السياب أحد روّاد الشعر الحديث
سفر أيّوب (5)
ليتني العازرُ اٌنفضّ عنهُ الحِمامْ
يسلك الدّربَ عند الغروبْ
يتمَهّلُ لا يقرعُ البابَ مَن ذا يؤوبْ؟
مِن سراديبَ للموت عَبْرَ الظلامْ
– – –
إيهِ إقبالُ لا تيأسي مِن رجوعي
هاتِفًا قبل أن أقرع الباب عادا
عازرٌ من بلاد الدجى والدموعْ
قبِّليني على جبهةٍ صَكّها الموتُ صكًّا أليما
حَدِّقي في عيونٍ شهِدْنَ الرّدى والمَعَادا
عُدتُ لن أبرح الدار حتى لو اٌنّ النجوما
دحرجتْ سُلَّمًا مِن ضياءٍ وقالتْ: تخطّ السّديما- بحر المتدارَك
واضح أنّ الشاعر استوحى تمنّيه في قوله (ليتني العازرُ اٌنفضّ عنهُ الحِمام. والحِمام: الموت) من رواية إنجيليّة عن إقامة السّيّد المسيح لَعَازَر من الموت الواردة في الأصحاحَين 11 و12 من الإنجيل بتدوين يوحنّا. فاٌسمُهُ لَعَازَر وليس العازر ولا عازر، كأنّ السّياب أضاف الألف في قوله “العازر” ثمّ حذف اللام في قوله “عازر” لا لشيء سوى تمشية الوزن الشّعري. والجدير ذِكرُه أنّ في جزيرة قبرص تقليدًا نصّ على أنّ لعازر بعد قيامته من الموت انتقل إليها واٌنتُخِبَ رئيس كهنة هناك، ثمّ مات ثانية بعد مرور ثلاثين سنة على موته الأوّل ودُفِن في إحدى مدن الجزيرة (لارنكا) وأقيمت في محلّ الدفن كنيسة سُمّيت على اٌسمه ولإحدى واجهاتها صورة موضوعة في القسم الإنگليزي من ويكيپيديا: لارنكا، كما وُضِعت صورة لواجهة أُخرى في كل من الأقسام التالية وغيرها؛ الاسپاني والپولندي والألماني والفارسي، عِلمًا أنّ اسم لعازر باللاتينيّة Lazarus
وعِلمًا أنّ لارنكا وليماسول وپافوس هي اليوم مدن قبرص الرئيسية بالإضافة إلى ليفكوسيا (نيقوسيا) العاصمة وهي العاصمة الوحيدة في العالم المقسّمة إلى قسمين يوناني وتركي، بعد الاحتلال التركي لشماليّ الجزيرة سنة 1974 ثمّ إعلان ما يسمّى “جمهورية شماليّ قبرص التركية” سنة 1983 غير المعترف بها دوليًّا إلّا من تركيا. وقد عَلِمتُ خلال إقامتي عامين في ليماسول أنّ شماليّ الجزيرة قبل الاحتلال كان أغنى اقتصاديًّا من القسم الجنوبي، لكنّ الاحتلال صيّر القسم الشماليّ فقيرًا، بينما انتعش اقتصاد القسم الجنوبي وانضمّ تاليًا إلى الإتحاد الأوروپي، ما دفع عددًا من القبارصة الأتراك إلى التوسّل بالقسم اليوناني من العاصمة للحصول على جواز سفر، باستثناء ذوي الأيادي الملطّخة بدماء القبارصة اليونانيّين، لأنّ جواز سفر الجمهوريّة المزعومة غير معترف به دوليًّا. ويعرف العرب ما معنى الاحتلال التركي قبلما عرفه الأرمن والسّريان والقبارصة اليونانيون. أمّا اليوم فلا يكفّ المسؤولون الأتراك عن محاولات الإنضمام الى الإتحاد الأوروپي، في وقت يحاولون تنفيذ جميع متطلّبات الانضمام السّياسيّة والاقتصاديّة والتّشريعيّة، لعلّ من أهمّها المضيّ قُدُمًا بنظام الحكم العِلماني في تركيا لاحترام حقوق الإنسان من الأقليّات ولا سيّما الكرديّة. وهناك مَن يُطالب تركيا بالاعتراف بالمجازر التي ارتكبها الأتراك خلال الحرب العالميّة الأولى ضدّ المسيحيّين ولا سيّما الأرمن. وهناك من يخشى المزيد من التوغّل الإسلامي في أوروپا بعد انضمام تركيا الى ذلك الاتحاد وهو غير حلف شماليّ الأطلسي (الناتو) المُنضمّة تركيا إليه. لكنّ المصالح الأوروپية هي التي ستقف وراء انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروپي. عِلمًا أنّي توقّفتُ، منذ بدء الخريف العربي، عن متابعة موضوع انضمامها، لأنّ القابليّة على تخيّل غباء السياسات الخارجية الأوروپية والأميركية قد ضعفت لديّ تمامًا
إقبال: زوجة الشاعر السياب وإحدى قريباته من المصاهرة (بين أسرتها وأسرة السياب) فلمّا أصابه المرض، الذي أدّى في ما بعد إلى وفاته في إحدى مستشفيات دولة الكويت، كانت مثالًا للمرأة الحنون المحتملة معه ظروفًا قاسية، قالت عنها: (عندما تغدو قسوة الأيام ذكريات، تصبح جزءً لا يتجزّأ من شعور الإنسان، تترسب في أعماقه طبقة صلبة يكاد يشعر بثقلها، إذ ما تزال تشدني ذكرياتي معه كلّما قرأت عن مأساة وسمعت بفاجعة) وللشاعر مجموعة شعريّة على اسمها (إقبال) نُشِرت سنة 1965 عِلمًا أنّ السيدة إقبال كانت معلّمة (أو موظّفة) في مدرسة الثغر الابتدائيّة المختلطة التي حصلت منها على تعليمي الإبتدائي في البصرة؛ علِمتُ في ما بعد أنّ سبب ارتدائها ثيابًا سوداء في المدرسة كان حزنًا على وفاة زوجها. وأتذكّر اليوم أنّها ذات مرّة لاحقت تلميذًا مشاغِبًا في ساحة المدرسة، خلال الفرصة ما بين درس (أي حصّة) وآخر، فدخلت إلى صفّي وتفرّست في وجوه التلاميذ فوقع بصرها عليّ ثمّ قالت غاضبة: (أنت) فوقفت خائفًا من الضّرب آنذاك وأجبتُها: (نعَمْ سِت) ولا أتذكّر ما كانت في يدها مسطرة (خشبية غالبًا ما استُخدِمت لضرب التلاميذ) ولا ما حصل بعد ذلك. بَيْدَ أنّي أتذكّر تلقّيَّ صفعة قويّة مفاجئة على خدّي الأيسر من أستاذ الفيزياء في المرحلة المتوسطة وأخرى مثلها من أستاذ التاريخ في بداية المرحلة الثانويّة. والثاني أصبح من أصدقائي في ما بعد وكان يتمتّع بذاكرة ذهبيّة لحفظ التواريخ القديمة جدًّا. أمّا موضوع ضرب التلاميذ وسبّهم فقد انتقدتُه في معرض بحر الكامل من سلسلة بحور الشعر العربي التي انتهيت من مراجعتها في بداية أيلول- سپتمبر 2012
* *
قالوا لأيوب
قالوا لأيّوبَ جفاكَ الإلهْ
فقال لا يجفو
مَن شدّ بالإيمان لا قبْضتاهْ
ترخى ولا أجفانُهُ تغفو
قالوا له والدّاء مَن ذا رماهْ
في جسمك الواهي ومَن ثبّتهْ
قال هو التكفير عمّا جناهْ
قابيل والشّاري سُدىً جنّتهْ… إلخ- بحر السّريع
لا يدلّ “قابيل” على أنّ الشاعر لم يقرأ سِفر التكوين حينما كتب قصيدته، بل رُبّما آثر كتابة اسمه هكذا، بدل الاسم المذكور في الكتاب المقدّس “قايين” بِكْر آدم وحوّاء، مراعاة للثقافة الإسلاميّة السائدة وسط أبناء جلدته. فقايين بحسب قاموس الكتاب المقدّس وسِفر التكوين:4 اسمٌ ساميّ معناه: حَدّاد. فلمّا كبر اشتغل بالزراعة وقدّم قربانًا للرّبّ من أثمار الأرض، بينما قدّم أخوه هابيل من أبكار غنمِهِ ومِن سِمَانها. فقبِل الربّ قربانَ هابيل ورفض قربان قايين فاٌغتاظ قايين جدًّا. أما سبب القبول والرفض فقد أرجعه الرسول بولس إلى الإيمان إذ قال: {بالإيمان قدَّمَ هابيلُ ذبيحة أفضَلَ مِن قايين} – الرسالة إلى العبرانيين 4:11
* *
إلى جميلة بو حيرد
لا تسمعيها إنّ أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقُلْ
بابٌ علينا مِن دَمٍ مقفلْ
ونحْنُ في ظلمائنا نسألْ
مَن مات؟ من يبكيهِ؟ من يقتل
مَن يَصْلِبُ الخبز الذي نأكُل
– – –
عِبءٌ من الآجال ما أثقلهْ
كم حاول الجلّادُ أن يُنزلهْ
كم وَدّ أن تُلقيه إذ تعجزينْ
مشبوحة الأطراف فوق الصليبْ
مشبوحة العينين عَبْرَ الظلامْ
يأتيك مِن وهران يا للزحام
حَشْدٌ مُشِعٌّ باٌشتعال المغيبْ
– – –
يا أختنا المشبوحة الباكيهْ
أطرافُكِ الداميهْ
يقطرن في قلبي ويبكين فيهْ
لم يَلقَ ما تلقين أنتِ المسيحْ
أنتِ التي تفْدِين جُرح الجريح
أنتِ التي تُعْطين لا قبْضُ ريحْ… إلخ- بحر السّريع أيضًا
واضحٌ أنّ في قوله (لم يَلقَ المسيحُ ما تلقين أنتِ) مبالغة، لكنّ ما يجب قراءته بين السّطور هو صورة آلام المسيح التي في ذهن الشاعر، إذ لم يجد ما هو أشدّ منها للمقارنة بينها وبين غيرها. والمبالغات في شعر العرب كثيرة ومألوفة حتى في حياتهم اليوميّة. أمّا قوله (أنتِ التي تفْدِين جُرح الجريح) مصوِّرًا تضحية جميلة بو حيرد بنفسها، متحمّلة ذلك العذاب وتلك الجروح لتفدي الجزائر فمقتبس بوضوح من عقيدة الفداء المسيحيّة الممثّلة بالمسيح فادي جميع البشر
* *
أمّا التالي فمُقتطف من قصيدة عموديّة مطوّلة على وزن بحر الخفيف، في رثاء “جيكور” قرية الشاعر الجميلة بأنهارها الصغيرة المتفرّعة من شطّ العرب وببساتين النخيل، وُلِد السياب فيها فباتت أشهر القرى البصريّة، واقعة جنوبيّ شرقيّها ضمن قضاء: أبو الخصيب. وأصل الكلمة فارسي مأخوذ من “جوي كور” أي الجدول الأعلى- بحسب أحد المواقع الالكترونية العراقية
مرثية جيكور
يا صليبَ المسيح ألقاكَ ظِلًّا * فوق جيكورَ طائرًا من حديدِ
يا لَظلٍّ كظُلمة القبر في اللون وكالقبر في ابتلاع الخدودِ
والتهام العيون مِن كلّ عذراءَ كعذراء بيتَ لحْمَ الوَلودِ
مرّ عجلان بالقبور العواري * مِن صليب على النصارى شهيدِ
فاكتسَتْ منه بالصليب الذي ما كان إلّا رمز الهلاك الأبيدِ
لا رجاءٌ لها بأن يُبعَثَ الموتى ولا مأملٌ لها بالخلودِ
وَيلَ جيكورَ أين أيّامُها الخُضْرُ وليلاتُ صَيفها المفقودِ
والعشاءُ السّخيّ في ليلة العُرس وتقبيلة العروس الودودِ
– – –
الصليبُ الصليبُ إنّا رأيناهُ وقد مَرّ كالخيال الشّرودِ
قد رأيناه في الصباح وفي الليل سَمِعْنا كقعقعات الرّعود
أهْوَ هذا الذي يريدون؟ أشْلاءُ وأنقاضُ منزلٍ مهدودِ
أفما قامتِ الحضاراتُ في الأرض كعنقاءَ مِن رَماد اللحودِ
لا ولمْ تفرح العقولُ على المجهول يَسْبِرْنَ فيه غَورَ الوجودِ
– – –
ساحرٌ فجَّرَ المدى عن مدىً مَلآن باللحن مُتْرَعٍ بالنشيدِ
أو تدّق الأجراس يا أرضُ يا ُبْشراكِ بالحُبّ والمسيح الوليدِ
* *
والمزيد من آثار السيّاب المسيحيّة في ديوانه ولا سيّما تلك التي ضربت منها أمثلة على وزن كلّ من الكامل والمتدارك خلال مراجعتي بحور الشعر العربي، هي التالي
غريب على الخليج
الشمسُ أجْمَلُ في بلادي مِن سواها والظلامْ
حتى الظلامُ هناك أجْمَلُ فهْوَ يحتضِنُ العراقْ
واحسرتاهُ متى أنامْ
فأحِسّ أنَّ على الوسادةِ ليلَكَ الصَّيفيَّ طلًّا فيهِ عِطرُك يا عراقْ
بين القرى المُتهيِّباتِ خطايَ والمُدُن الغريبهْ
غنَّيتُ تُرْبَتكَ الحبيبهْ
وحَمَلتُها فأنا المسيحُ يجرّ في المنفى صليبَهْ- بحر الكامل
* *
المسيح بعد الصَّلب
بعدما أنزلوني، سَمِعْتُ الرِّياحْ
في نواحٍ طويلٍ تسفّ النخيلْ
والخُطى وهي تنآى. إذنْ فالجراحْ
والصَّليبُ الذي سَمَّروني عليه طوال الأصيلْ
لم تُمِتْني. وأنصَتُّ: كان العويلْ
يَعْـبُرُ السَّهْلَ بيني وبين المدينهْ
مِثل حَبْلٍ يشدّ السَّفينهْ
– – –
بعدَ أنْ سَمَّروني وألقيتُ عَينيَّ نحوَ المدينهْ
كدتُ لا أعرفُ السَّهْلَ والسُّورَ والمقبرهْ
كان شيءٌ، مدى ما ترى العينُ، كالغابة المُزهِرهْ
كان، في كُلِّ مرمىً، صليبٌ وأمٌّ حزينهْ
قُدِّسَ الرَّبُّ هذا مَخاضُ المدينهْ- بحر المتدارَك
* * *
والاقتباسات من الإنجيل في هذه المقتطفات وغيرها كثيرة. ولا شكّ لديّ بأن السيّاب رجع إلى الكتاب المقدّس لتقصّي الحقائق. وكان والبيّاتي من ذوي الثقافة العالميّة الواسعة والعلاقات الإجتماعيّة الطيّبة مع كبار الأدباء من معاصِرَيهما، لم تفصلهما عنهم فواصل طبقيّة ولا جغرافيّة ولا دينيّة. وفي الأفق أزيد من دراسة أكاديميّة حول توظيفهما رموزًا من العهدين القديم والجديد في الشعر، علمًا أنّهما وظّفا رموزًا أخرى من فلسفات العالم وآدابه ومن الميثولوجيا، في وقت أصبح شعر كل منهما مترجمًا إلى لغات عالميّة عدّة. وهناك جامعات منحت طلبتها المتقدّمين برسائل عن شِعر السياب والبيّاتي شهادات الماجستير والدكتوراه
¤ ¤ ¤ ¤ ¤