رياض الحبيّب
موقع لينغا الاثنين، 17 أيلول 2012، 07:58
ليت بحور الشعر العربي التي انتهيت من مراجعتها قبل أسبوعين، بعد استحداث بَحْرَين لها، اتسعت لتغطّي جميع الآثار الشِعريَّة العربية الحافـلة بالتقاليد المسيحية، ممّا ترك لنا شعراء من غير المسيحيِّين وغير النصارى، من الجنسَين، سواء القدامى منهم والجدد. آثار وُظِّفت فيها الرموز المسيحية في أغراض شِعريَّة عدّة كالوصف والمدح والمناجاة والتشكّي. ولقد قام الأب لويس شيخو اليسوعي بجمع عدد كبير من الأمثلة على اعتماد العرب ألفاظًا نصرانية في آدابهم وأسماء شخصيّة وجغرافية من الكتاب المقدّس، بالإضافة إلى الحِكم والأمثال المفعمة بها آياته. ذلك في كتابه «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهليّة» ذي القسْمَين (1) وفي كتابه «شعراء النصرانية» ذي الثلاثة أقسام؛ ضمّ الأوّل منها ستّة أجزاء للفترة ما بين القرن الخامس الميلادي وبداية العصر الأموي، بينما تناول في الثاني شعراء الدولة الأموية وفي الثالث شعراء الدولة العباسية. فتقفّى آثار قبائل عربية نصرانيّة وآثار شعراء كثيرين خرجوا منها، لعلّ أهمّهم شعراء المُعَلَّقات، نقلًـا عن كتب إسلاميّة أدبيّة وتاريخيّة تعود تواريخ بعضها إلى القرن الهجري الثاني. ومن المؤسف أن عددًا من تلك الكتب لم يصلنا لأسباب عدّة، منها تأثيرات عوامل البيئة والمناخ ومنها الضياع والإخفاء عمدًا أو حرقًا لأنّ أصحابها حُكِمَ عليهم بالموت بتهمة الزندقة. والزندقة في الإسلام تقابل الهرطقة في المسيحيّة، يمكن الرجوع إليهما في ويكيپـيديا. ومعلّقة عمرو بن كلثوم التغلبي من الأمثلة على ضياع ما قيل قبل الإسلام وما كُتِب، وصلنا منها حوالي مئة وعشرين بيتًا ممّا زاد على ألف بيت ولم يذكر أحد سبب ضياع غالبيّة القصيدة، إذ خرج الشاعر من قبيلة تغلب المعروفة بنصرانيّتها والثابتة عليها زمنًا طويلًـا بعد الإسلام
* * *
لا لعقوبة الموت
ومن المؤسف جدًّا توجيه عقوبة الإعدام ضدّ شخص، على أفكاره وأقواله، على أدب وفنّ وإبداع، على مقالة وشِعر، على رسم وأغنية، أيًّا كان جنسُهُ وعِرْقه ومعتقده الذي فيه معارضة لدِين ما، شكليّة أو ضمنيّة أو صريحة، سواء أكان هرطوقيًّا أم زنديقًا. وكاتب هذه السطور قد دعا في أزيد من مقالة إلى إلغاء عقوبة الموت أو الإعدام أيًّا كانت أسبابها، مُفضِّلًـا دراسة كل قضيّة جذريًّا وخضوع المتّهم إلى تحقيق محترم ومحاكمة علنية عادلة، هذا ما لم يكن القضاء نفسه عبثيًّا وما لم يكن القضاء نفسه في قفص الاتّهام ولا سيّما القضاء الديني، أو القضاء المستند الى أحكام الدين وليس إلى أحكام حقوق الإنسان المتفق عليها عالميًّا وخصوصًا قضاء دولة موقّعة على احترام حقوق الإنسان في العيش الكريم وتبعاته، كاحترام حريّة الرأي والتعبير واختيار الدِّين والمذهب! والهدف هو إيجاد الوسيلة المناسبة لإصلاح أي خلل في المجتمع ومنع تكرار حصوله في المستقبل. أمّا قتل الجاني الذي ثبتت عليه التهمة فلا يُصلِح الخلل الذي أدى إلى حدوث الجناية، لأنّ الواقع أثبت بقاء الخلل بدون علاج وبرهن على تكرار الجناية عبر التاريخ. وأمّا البدائل عن حكم القتل فكثيرة، لكنّ المهمّ في أيّ بديل هو أن يكون رادعًا ومُصْلِحًا ومحافظًا على كرامة الجاني في الوقت ذاته. ولنا في المجتمع النرويجي خير مثال، سواء أهالي الضحايا والشرطة والقضاء؛ إذ استمرّت جلسات محاكمة المتهم (أندرس بريڤيك) بقتل سبع وسبعين ضحيّة نرويجيّة حوالي السنة قبل صدور حكم المحكمة بعقوبة حبسه إحدى وعشرين سنة، هي أطول مدّة حبس في النرويج، بعد تأكد المحكمة من صحّته العقليّة، علمًا أنّ المحامي عنه أعلن لوسائل الإعلام أنّ موكّله لا ينوي استئناف الحكم. أمّا ما يُشاع عن الحروب المسيحيّة ومحكمة التفتيش عن الهراطقة وأحكام الموت التي واجهوها فلا وجود لأيّ نصّ مقدّس ليبرِّرها في العهد الجديد، بل العكس، إذ قال الرب يسوع: {وأمّا أنا فقد أتيت لتكون لهُمْ حياة وليكون لهُمْ أفضل} يوحنّا 10:10 ولم تخجلني الإشارة إلى الأحكام الإلهية القاسية والعنيفة في العهد القديم، إنما ألقيت ضوءً عليها في معرض مقالة بحر المنسرح، مُركِّزًا على أسبابها وظروفها الخاصّة مكانيًّا وزمانيًّا
* * *
مثالًـا من العصر الأموي: غيلان الدمشقي
ما كان في نيّتي الإبتعاد عن محور المقالة الأساسي لولا ارتباطه جوهريًّا بمحورين آخرين هما ضياع بعض الآثار وقتل أصحابها. فإن كان في الإمكان قتل الجسد فالفكر لا يستطيع أحد قتله ولا دفنه لأن أثره الذي في النفوس لا يُمحى مهما طال الزمن. وإلّـا لمَا بقِي أثر لشيء ولمَا وصل إلى زماننا ومكاننا. فمن الأمثلة على الضياع المذكور؛ رسائل غيلان الدمشقي (ت 106 هـ) التي قال عنها ابن النديم (ت 385 هـ) في كتابه «الفهرست» أنها “بلغت ألفي صفحة” وقد اعتبَرَ أحَدُ الكتّاب المغاربة غيلان أنّه (مؤسس الفكر الديمقراطي في التاريخ الإسلامي) وقد (اشتهر غيلان بين جيرانه ومعاصريه بصلاحه وتقواه وورعه. ويُعدّ من أعلام الوعّاظ والخطباء والكتّاب البلغاء، وضَعَهُ العلماء والمؤرخون في الطبقة الأولى من الكتّاب، كاٌبن المقفَّع وغيره) والمزيد في ويكيپـيديا: غيلان الدمشقي. عِلمًا أنّ غيلان قبطي الأصل ومولود في دمشق. وقد عُدّ أبرز أعلام الفكر والأدب في العصر الأموي وممّن ضاع أغلب تراثهم ومن الذين اتهِموا بالزندقة فقُتِل صَلبًا بأمر من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك
* * *
مِثالًـا من العصر العباسي الأوّل: بشار بن برد
برز بين نهاية العصر الأموي وبداية العباسي الشاعر الكبير بَشّار بنُ بُرْد وهو فارسيّ الأصل وضرير منذ ولادته وقد (روى عن نفسه أنه أنشد أكثر من اثني عشر ألف قصيدة، لكن ما وصل إلينا من شعره أقلّ ممّا روى بكثير، أو يعزي بعض الرواة سبب قلّة ما وصل الينا إلى قيام الرقابات الدينية والسياسية والاجتماعية في عصره بحذف شعر كثير له، لأنه اتّهِمَ بالزندقة في معظمه، فقُتِل ضربًا بالسياط بأمر من الخليفة العبّاسي المهدي)- ويكيپـيديا بتصرّف. عِلمًا أن الخليفة المذكور هو الثالث في الدولة العباسيّة وأكثر مَن قرأت عن الخلفاء العباسيّين الذين لاحقوا المرتدين وقتلوا الزنادقة، متشدِّدًا في تقصّي الزندقة وفي منع الشعر الغزلي، بحسب شارح ديوان بشار- الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور (من تونس، ت 1972) الذي تقصّى الحقائق عن الشاعر بشّار بن برد فجمع أخباره في مقدمة ديوانه، الجزء الأوّل منه وقد وقع في أربعة أجزاء، منتهيًا إلى براءة بشّار من تهمة الزندقة، بل ألصِقت به من عدد من خصومه، إذ (لم يبق أحد من أشراف البصرة إلّـا مُنيَ بشيء من هجاء بشّار أو اتّقى هجاءَه، فكانت حياته أثقل شيء على الناس ولم يكن له بها صديق) حتى استبعد نسب البيتين التاليين، من بحر الكامل، لبشّار معنىً ولفظًا وإنْ وردا في رسالة الغفران لأبي العلاء المَعَرِّي، كما استبعد تُهَمًا أخرى عنه والتمس له العذر في بعضها كالشعوبيّة وهي، بحسب ويكيپـيديا: (ظهرت بوادرها في العصر الأموي، إلّا أنها ظهرت للعيان في بدايات العصر العباسي. وهي حركة مَن يرون أنْ لا فضل للعرب على غيرهم من العجم. وقد تصل إلى حدّ تفضيل العجم على العرب والانتقاص منهم…) انتهى
إبليسُ أفضلُ مِن أبيكُمْ آدَمٍ * فتنبَّهوا يا معشرَ الفُجّارِ
النارُ عُنصرُهُ وآدَمُ طِينةٌ * والطِّين لا يسمو سموّ النّارِ
* * *
مِثالًـا من العصر العباسي الثاني: الحلاج
إنّ شعر الحَلّاج هو بيت القصيد في هذه المقالة، إذا جاز التعبير، فإن ضاعت غالبيّة آثار عمرو بن كلثوم وغيلان وبشار وابن الراوندي (2) وغيرهم فإن آثار الشاعر المتصوّف الحسين بن منصور الحَلّـاج (ت 922 م \ 309 هـ) قد استحقّت وقفات وتأملات ومقالات ومسرحيات وقصائد وأغنيات من شعره، من كبار أدباء القرن الماضي وفنّانيه وإن قلّ ما وصلنا من آثاره (أمّا أتباعه فقد قدّسوا أقواله وأكّدوا نسبتها إليه، لكنهم قالوا أنّ لها معانيَ باطنة غير المعاني الظاهرية وأن هذه المعاني لا يفهمها سواهم. بينما جنح المستشرقون إلى تفسيرات أخرى وجعلوا منه بطلًـا ثوريًّا شبيهًا بأساطير الغربيين… إلخ) والمزيد في ويكيپـيديا: منصور الحلاج. عِلمًا أنّ من الغربيّين مَن لقّبه بمسيح الإسلام! لكنّ آراءه الفلسفية ونظرته الى العلاقة ما بين الإنسان وخالقه هُما وراء اتّهامه بالزندقة، نظرًا لسوء فهم معاصريه من الفقهاء وما أكثر مَن اختلفوا على آراء الحلاج إلى يومنا! فقضى فترة من الحبس والإهانة والتعذيب ثمّ قُتِل صَلبًا بأمر من الخليفة العباسي المقتدر بالله. ومن الأمثلة على المعاني الباطنة في شعر الحلّـاج قوله التالي الذي حفظتُ منذ قراءتي مجموعة صغيرة من شعره التي صدرت في العراق خلال الربع الأخير من القرن الماضي فلو وُجِدَ ما يمتّ إلى الكفر بصِلة لمَا طُبعَتْ هناك ولما نُشِرتْ
كفرتُ بدين الله والكفرُ واجبٌ * عَليَّ وعند المسلمين حرامُ
والبيت من وزن بحر الطويل. لكنّ مِن معاني الكفر في قاموس لسان العرب ما لا يعني الكفر المعروف: (يقال للابس السلاح كافر وهو الذي غطّاه السلاح، مِثله رَجُلٌ كاسٍ أَي ذو كُسْوَة. وكل مَن ستر شيئًا فقد كَفَرَه وكَفَّره. والكافرُ: الزرَّاعُ لستره البذر بالتراب. والكَفْرُ، بالفتح: التغطية. وكَفَرْتُ الشيء أَكْفِرُه، بالكسر، أَي سَتَرْتُه. والكافِر: الليل، وفي الصّحّاح: الليل المظلم لأَنه يستر بظلمته كل شيء. وكَفَرَ الليلُ الشيءَ وكَفَرَ عليه: غَطَّاه. وكَفَرَ الليلُ على أثَرِ صاحبي: غَطَّاه بسواده وظلمته. وكَفَرَ الجَهلُ على عِلم فلان: غَطّاه. والكافرُ: البَحْرُ لسَتْرِه ما فيه) انتهى. ويبدو جليًّا أن ما تقدّم من معنىً للكفر (أي التغطية أو السّتر) هو بالضبط معنى المغفرة؛ إذ يمكنك مراجعة “غفر” في لسان العرب ذاته: (أصل الغَفْرِ التغطية والستر. والغَفْر: الغُفْرانُ. وقد غَفَرَه يَغْفِرُه غَفرًا: سَتَرَهُ. وكل شيء سَتَرْتهُ فقد غَفَرْته. وتقول العرب: اصْبُغْ ثوبَك بالسَّوادِ فهو أَغْفَرُ لوَسَخِه أَي أَحْمَلُ له وأَغطى له. ومنه: غَفَرَ اللهُ ذنوبَهُ أي سَتَرَها) انتهى. فليت أهل التخصص في اللغات الحيّة يحكمون بوجود قصور والتباس في لغة ما بقدر ما وُجِدَ منهما في اللغة العربيّة
* * *
الحَلّـاج يموت مسيحيًّا
إنّ سيرة الحَلّـاج مذكورة في كتب إسلامية عدّة وفي مواقع الكترونية كثيرة، منها “ويكيپـيديا” الموسوعة الحرّة التي نقلت عنها ما تقدّم من سيرته، ومنها “المعرفة” التي أقتطف منها التالي من أخبار الحلاج- بتصرّف: (قال ابن باكَوَيْه: دخل الحسين بن منصور الحلاَّج مكة، فجلس في صحن المسجد لا يبرح من موضعه إلا للطهارة أو الطواف، لا يبالي بالشمس ولا بالمطر، فكان يُحمَل إليه كلَّ عشية كوزٌ وقرصٌ “ماء وخبز” فيعضُّ من جوانبه أربع عضّات ويشرب. وعن مقتله: نُسب الى الحلاج القول: “إن الإنسان إذا أراد الحجّ، أفرد فى داره بيتًا، وطاف به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيمًا، وكساهم قميصًا قميصًا، وعمل لهم طعامًا طيِّبًا، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحدٍ سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك، قام له ذلك مقام الحج” فأحَلّ دمَهُ القاضي أبو عمر محمد بن يوسف المالكي. وأُقيمت عليه البيّنة الشرعية، وقُتِل مرتدًّا سنة 309 هـ. وكان قرار الخليفة المقتدر بالله العباسي فى شأن منصور الحلاج: “إذا كانت فتوى القضاة فيه بما عرضت فأحضِره مجلس الشرطة واٌضربه ألف سوط، فان لم يمت فتقدّم بقطع يديه ورجليه ثم اضرب رقبته، وانصب رأسه واحرق جثّته” ويوم مقتله وبينما كان الحلاج مشدودًا على الصليب الخشبي وقُبَيل حَزِّ رقبته؛ نظر إلى السماء مناجيًا ربّه: نحْنُ بشَواهِدِكَ نلُوذُ وبِسَنَا عِزَّتِكَ نستضيء، لِتُبْدِي لَنا مَا شِئْتَ مِن شَأنِكَ. وأنتَ الذِي في السَّماءِ عَرْشُكَ، وأنتَ الذِي في السَّمَاءِ إله وفي الأرض إله، تتَجَلَّى كمَا تَشَاء، مِثلَ تجَلِّيكَ في مَشِيئتِكَ كأحْسنِ صُورَة، والصُّورَةُ هِيَ الرُّوحُ الناطِقة الذِي أفرَدْتَهُ بالعِلم والبيَان والقُدرَة. وهؤلاء عِبَادكَ قد اجْتَمَعُوا لِقتلِي تعَصُّبًا لدِينكَ وتقرُّبًا إليْكَ فاغْفرْ لَهُمْ! فإنّكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لِي لمَا فَعَلُوا ما فعلُوا. ولو سَتَرْتَ عَنِّي مَا سَترْتَ عَنهُمْ لمَا لَقِيتُ ما لقِيتُ. فلَكَ التقديرُ فِيما تفعَلُ ولَكَ التقدِيرُ فيما تُرِيدُ) انتهى
لكنّ ما خفِيَ كان أكبر بكثير ولا شكّ لديّ في وجود أحقاد دفينة يومذاك في صدور الفقهاء والقضاة على فلسفة الحلاج، إذ لا يُعقَل أن كان ما تقدّم سببًا كافيًا لقتله وبتلك الطريقة البشعة. أمّا مناجاة الحلاج فلعلّها تُذكّر القارئ-ة بالتالي: 1. قول الحلاج عن الله “وأنتَ الذِي في السَّمَاءِ إله وفي الأرض إله” يدلّ على إيمان الحلاج الواضح بعقيدة مسيحيّة راسخة هي تجسّد إله السّماء بشخص السيّد المسيح له المجد 2. قوله وهو مصلوب “فاغْفرْ لَهُمْ” ليس قولًـا عاديًّا ولا قاله سواه من المسلمين الذين تمّ صلبهم من قبل، إنّما هو من الأقوال السبعة للسيّد المسيح أثناء صلبه. وهو يُشبه أيضًا قول الشمّاس استيفانوس أثناء رجمه بالحجارة حتى الموت وهو شهيد المسيحيّة الأوّل {يا ربّ، لا تحْسُبْ عليهم هذه الخطيئة} – أعمال الرُّسُل 60:7 علمًا أنّ الصَّلب، على أيّة حال ممّا تقدّم، ليس دليلًـا على اعتناق المصلوب المسيحيّة، إذ صُلِب قبْل الحلاج الوزيرُ جعفر بن يحيى البرمكي بأمر من الخليفة هارون الرشيد، بالإضافة إلى غيلان الدمشقي المذكور أعلى وغيرهما. لكنّ الصلب قد يصلح حافزًا للبحث عمّا وراء الحكم به، في عصور أخبر التاريخ عن قتل الزنادقة بطرائق أخرى. إليك في التالي من شِعر الحلاج بعض المعاني ممّا خفِيَ عن أتباعه، أو أنّ أحدًا من الأدباء العرب، القدامى أو الجدد، أدركها لكنّه لم يجرؤ على ذِكرها وتصديقها، بالإضافة إلى ما أشرت إليه في ما ورد من مناجاته. قال الربّ يسوع: {مِن ثمارهِمْ تعرفونهُمْ} فلا حاجة إلى البحث عن اعتراف علنيّ للحلّـاج باعتناق المسيحيّة، لأنّ ثمار شِعره الطيّبة قد ترجمت اعترافه لأهل المعرفة وأهل البحث العِلمي! أمّا الأهمّ هو أنّ الله أعلم بما كان في صدره. فمن الأمثلة على شعره الحافل بالمسيحيّة هو التالي (3) وفيه أنّ الناسوت أظهر سرّ اللاهوت
سُبْحانَ مَن أظهر ناسوتُهُ * سِـرَّ سَـنا لاهوتِهِ الثّاقبِ
ثم بَدا في خَلْقِهِ ظاهِـرًا * في صورة الآكِلِ والشّاربِ
حتّى لقد عَايَنهُ خَلْـقُـهُ * كلحْظِة الحاجبِ بالحاجبِ
والناسوت واللاهوت كلمتان لا وجود لهما في القواميس القديمة ولا قرأت أيًّا منهما في ديوان شاعر عربي سبق الحلّاج؛ الأولى مشتقة من “ناس” والثانية مشتقة من “إله” لكن الباحث الجادّ يجد معنى كل منهما عند المسيحيّين. ولا بأس في شرح معناهما للقارئ-ة العربي-ة باختصار. فالناسوت- بحسب اعتقادي: تعبير عن الطبيعة الإنسانيّة للسيّد المسيح وهي طاهرة من أيّ خطيئة ودنس وخالية من أيّ عيب وشائبة وكاملة كمال الله بدون أيّ نقص ماديّ أو معنوي. واللاهوت: تعبير عن الطبيعة الإلهيّة للسيّد المسيح الفيّاضة نورًا ونعمة وحكمة والتي بها صنع المعجزات الكثيرة والمتنوّعة وأعطى سلطانًا لأتباعه كي يفعلوا مثلها بقوّة الرّوح القدس. أمّا اللاهوت كعِلم فهو عِلم الله. أي (العلم الذي يبحث في ماهيّة الخالق وصفاته وعلاقاته مع مخلوقاته)- بحسب أحد المواقع المسيحيّة. وفي ويكيپـيديا: (هو علم دراسة الإلهيات دراسة منطقية. وقد اعتمد علماء اللاهوت المسيحيّون على التحليل العقلاني لفهم المسيحية بشكل أوضح، لكي يقارنوا بينها وبين الأديان والتقاليد، للدفاع عنها في مواجهة النقد، ولتسهيل الإصلاح المسيحي، وللمساعدة بنشر المسيحية، ولأسباب أخرى متنوعة. ينقسم علم اللاهوت إلى فروع كثيرة؛ كاللاهوت العقائدي، الأدبي، التاريخي، الفلسفي، الطبيعي، وغيرها) عِلمًا أنّ طلبة أقسام اللاهوت، من الجنسين، يدرسون الفلسفة إلى جانب اللاهوت
* * *
1
راجع-ي القسم الثاني من الكتاب حول الألفاظ النصرانيّة في لغة العرب ص 157 والأعلام النصرانية ص 239 وما نقل العرب من أحداث الكتاب المقدّس ص 254 والأمثال العربية المنقولة عن الأسفار المقدسة ص 283
2
ابن الراوندي (ت 911 م\ 245 هـ) فيلسوف يهوديّ الديانة من قرية راوند الواقعة بين إصفهان وكاشان في فارس؛ ولد عام 210 هـ، أسلم ثم ألحد في آخر حياته. عُدّ من أعلام المعتزلة قبل تركهم وقبل اتهامه بالزندقة. لم يصل إلينا من آثاره سوى كتابين أو ثلاثة من بين حوالي عشرين كتابًا وما نقل عنه خصومُه أو ما نسَبَ إليه المعجبون به. والمزيد في ويكيپـيديا: ابن الراوندي
3
ترقَّب-ي نماذج أخرى من شعر الحلّاج مع شرح الكاتب في الجزء الثاني من المقالة
¤ ¤ ¤
ماقل ودل : كل ما أستطيع قوله شكرا لك ياعزيزي رياض على الجهد في تذكيرنا ببعض من كانو فعلا شموعا تنير دروب من أطفئوهم ، سلام ؟
سلامًا ونعمة
شكرًا أخي العزيز السندي
على اهتمامك وسائر مشاركاتك اللافتة وعلى تفضلك بهذا التعليق
من جهتي؛ أرى من واجبي أن أضيء شمعة كلّ حين، أو أن أعيد إضاءتها ما أمكن
تحيتي لكم وأطيب التمنيات