شكراً لخدماتكم …؟!

سيمون خوري

” شكراً لخدماتك …بيد أن شركتنا قررت الاستغناء عن خدماتكم “. هذه العبارة وردت في فيلم ” موعد في الهواء ” قبل سنوات قليلة. يؤدي الممثل الأمريكي ” جورج كلوني ” الدور الرئيسي كموظف مهمته إبلاغ بعض الموظفين العاملين بالشركة بالاستغناء عن ” خدماتهم ” وفصلهم من العمل .تساعده موظفة ” أنيقة ” تستخدم لغة قاتلة، وقسمات جافة جداً. أي توظيفا للدور الأنثوي لممارسة دور لا إنساني . أحد الموظفين المفصولين عن العمل يقدم على الانتحار، فقد تجاوز الستين، ومن المتعذر عليه إيجاد وظيفة أخرى. ردة فعل الشركة، كانت مجرد ” هزة رأس ” أسفاً لقراره.
بشر أم قطع تبديل…؟!
لا شئ محزن …حتى.. ولو خبا إحساسك بوجودك. فأنت مقيد الى اللحظة الراهنة التي قد تكتشف فيها أنك فقدت خلال سنوات من عملك ” كآلة ” في نظام اقتصادي جشع ،فقدت الاتصال مع هويتك الحقيقة كإنسان وتحولت الى ربوت من جيل قديم . مثل كمبيوتر من جيل السبعينات . ومن السهل جداً رميك بالشارع . دون النظر الى أية اعتبارات إنسانية . العواطف هنا لا مكان لها . بالضبط مثل العديد من الأحزاب خاصة ” الثورجية ” في ” العالم العربي ” مجرد الاختلاف في وجهات النظر، تصبح خارج القطيع.
لكن ” الإله يحب الكافيار” ، عنوان أخر لفيلم سينمائي يوناني للمخرج ” يانيس مارغرديس” حول قصة رجل الإعمال يدعى ” يانيس فرفا كي ” وجرى تسمية أحد الأسواق الشعبية بسوق ” فرفا كي ” هنا كافة الإلهة تحب الكافيار …جميعهم ” آلهة ” الرؤساء وزعماء المافيا، ورجال الدين ومدراء البنوك . تجارة بيع الوعود سواء الأرضية أم تلك الوهمية.
هل تريد الحصول على قطعة أرض في ” براد يس ” عليك تغيير قناعاتك فلا وقت للتأمل وتمحيص الأفكار. الشعارات والنصوص والوعود وفيرة كل شئ عولمته العولمة. حتى أنت كإنسان تحولت الى حالة معولمة في ذروة تزاوج السلطة والثروة.
هناك عملية ” خصخصة ” للإنسان في العالم سواء كمواطن أو كمهاجر.
طبعاً العالم ” العربي ” خارج الموضوع بإعتباره مجتمعات دون المدنية ، لا تزال تبحث عن هوياتها الفرعية وليس ” المواطنة “. في سياق تطاحن عنفي عشائري – طائفي – أثني ، غير مسبوق.
لنعود الى المجتمعات المدنية الأخرى.
حتى نهاية العام الحالي 2012 سيجري فصل أكثر من 15000 خمسة عشر ألف موظف من الخدمة من الجهاز الحكومي اليوناني.
شكراً لخدماتكم ..لكن قررنا الاستغناء عنكم …؟
هل يمكن قياس رد الفعل سيكولوجياً تلك اللحظة لدى هذا الإنسان..؟!
هنا يصبح الوطن ” منفى ” قسري تذكرنا بكتابات “برتولد بريخت ” في حوارات المنفيين ” عندما يتحول الوطن الى سجن. إما أن تلوذ بالصمت أو تنفجر. بيد أن النتيجة أن العائلة لم تعد تجد قوت يومها..ويصبح الجوع معلماً أثرياً على أبواب الكنائس ؟، وبعض المؤسسات الخيرية أو وسيلة مغرية لشراء أصوات انتخابية جديدة كما في حال اليمين الفاشي الذي سارع لتوزيع معونات غذائية..لكن فقط للمواطنين وليس ” للغرباء ” فهم ليسو بشراً أو من ذوي الدم الأزرق.
بالتأكيد هناك حالة بطالة مقنعة ، وتضخم بيروقراطي إداري مريع ،الى جانب فساد سياسي وإداري ومالي تمارسه الطبقة السياسية .
لكن السؤال ، هل المواطن هو المسؤل عما آلت اليه حالة الدولة ..وهي حالة عامة في عدة بلدان أوربية تماثل الحالة اليونانية.. ثم هل المطلوب من هذا المواطن كفرد، البحث عن حل أم المطلوب من تلك القوى التي تربعت ولازالت لسنوات على عرش سواء السلطة أم المعارضة..؟؟! إيجاد فرص عمل بديلة وخطط تنموية – إنتاجية جديدة ، في وقت تراجعت فيه معدلات الإنتاج بسبب السياسات الإقتصادية الخاطئة لنواة بلدان الإتحاد الأوربي . وكشفت عورة وزيف سياسات الرخاء والرفاهة الرأسمالية.
في وقت وصلت فيه نسبة البطالة الى أكثر من 25 بالمائة في كل من إسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا وبولونيا وبلغاريا وقبرص على الطريق.
طبعاً العمال المفصولين لديهم عائلات وأطفال ومسؤوليات اجتماعية متعددة وما يستتبع ذلك من نفقات معيشة. قوانين التقشف الجامدة لا تتساءل حول كيفية تأمين هذا العامل لقوت يومه. لأن المطلوب خفض نفقات القطاع العام والخاص معاً . دون تقديم بدائل حياتية أخرى أو ضمانات عمل أخرى وعدالة اجتماعية.
هنا تجري عملية تدمير للكيان العائلي، هناك حالة عزوف عن الزواج في أوساط الفئات الشابة، لأن لا احد لديه الثقة بالغد. فيما تتزايد معدلات الانتحار والطلاق. وتنامي مستوي ” الجريمة ” وتعاطي المخدرات.
القلق ، الغربة والعزلة ، والعوز الإقتصادي ، عوامل تأكل مساحة التسامح القديم بين المواطن والمهاجر، وبين المواطن والمواطن الأخر.
تطرح هنا أسئلة خبيثة…هل تتوفر بدائل أخرى لمواجهة ” العجز الدائم المزمن ” ..؟
إذن أنت كمواطن مطلوب أن تدفع ثمن فاتورة ثراء ” الآلهة ” وبذخهم وفسادهم
وكافيا رهم.
الى أين ستصل الأمور ..؟ لن يستطيع الجدل والحوار البيزنطي حسم القضية.
نحن كمن يشاهد أفلام الخيال العلمي وكيفية انتقال الإنسان من مكان الى أخر بواسطة أنبوبة ضوء وتوظيفه في المكان الذي تقضية الحاجة ثم استبداله بآخر.أو بعبارة أخرى غير مهذبه ” طرده ” من العمل . قد يستخدم البعض عبارة أكثر تهذيباً فصله من العمل..لا فرق النتيجة واحدة . وهي أن هذا العامل والموظف أصبح في مهب الريح. على موعد مع الهواء. لا قيمة هنا للمشاعر الإنسانية . الرأسمالية بلا قلب، ولا عواطف.
في اسبانيا والبرتغال وحتى ايطاليا تمارس حكوماتها، طرد تعسفي مماثل تحت حجة إيجاد مخرج لأزمتها الإقتصادية . التي من أسبابها المباشرة، غياب التنمية والفساد والتضخم الإداري.
ماذا تملك من سلاح لمواجهة هذا التحدي المصيري لمستقبل عائلتك..؟
الاحتجاج… الإضراب ؟
ثم ماذا بعد ..؟!
يمكن تصنيف أحزاب المعارضة الرسمية على النحو التالي، أحزاب تراجيدية لا تجيد سوى البكاء والعويل والاحتجاج ولا ترغب بالسلطة. وأخرى أحزاب كوميدية في ثوب يساري قشيب تمتلك عقلية تخريجيه لفن اقتناص الأزمات ومراكمتها لصالح انتخابات قادمة. دون برنامج عمل واقعي يحدد الأولويات المطلوبة لانتشال حالة البلاد من عنق الزجاجة.
بصورة عامة يعتبر سلاح الإضراب حالة سلوكية ” ديمقراطية ” لكن في حالة عدم استجابة الحكومة لضغط الشارع، وعجز ما يسمى بأحزاب معارضة تقديم بدائل عملية
هنا تطل الفاشية برأسها ،ترتدي جبه الكاهن وسيف الحجاج . لأن المواطن سئم من ترديد الشعارات.فهو يبحث عن حل عملي يوفر له قوت يومه ومصروف عائلته. وفي هذه الحالة كعملية انتقام من فشل أحزابه الرسمية، يقدم صوته لليمين الفاشي ” نكاية ” بأحزابه التقليدية. تماما كما حدث خلال الانتخابات الفلسطينية القديمة ما قبل التاريخ وأدت الى فوز ” حماس ” ثم ماذا كانت النتيجة ..أعتقد أن الإجابة معروفة .
يبدو أن على بلدان الإتحاد الأوربي أن تتعامل مستقبلاً مع أشكال مختلفة من التطرف ، ومصادر تهديد محليه جديدة. ليست فقط في مواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية بل وفي مواجهة الأخر المختلف . وضعية كهذه تعيد الى الأذهان حالة وبدايات ” موسوليني ” في إيطاليا . ترى هل المطلوب من الأن البحث في إجراء تعديلات على معاهدة جنيف الخاصة بالصراعات المسلحة ، واحترام حقوق الإنسان …ربما..؟
عمال أحواض بناء وإصلاح السفن في اليونان لديهم يوم عمل واحد في الأسبوع..أي يتقاضون أجر أربعة أيام عمل في الشهر.
ألاف العمال جرى تسريحهم دون تعويض أو مكافأة عمل.. والبعض الأخر يعمل أكثر من 12 ساعة في اليوم الواحد ويتقاضي أجر ثمان ساعات عمل. دون ضمانات لليوم التالي.
هذا العامل تحول الى شخصية ” محسودة ” من قبل زملاء عاطلين عن العمل. لكن بدورة يعاني من مخاوف فصله من العمل. مجتمعات تعاني من حالة فقدان التوازن على كافة الأصعدة.
مع ارتفاع وتيرة الحراك الجماهيري في أوربا المناهضة لإجراءات التقشف الحادة وقوانين ” الترويكا ” الأوربية ينمو وعي متزايد، بأن الجماهير هي التي تصنع قوانينها ومؤسساتها، وهؤلاء قادرون على تغييرها . لكن المشكلة تتلخص في البحث عن قوى جديدة قادرة على تقديم البديل الذي عجزت عنه ” الكلاسيكيات ” القديمة.
نقابات عمالية جديدة خارج صيغة التأطير والولاء الحزبي ، قيادات سياسية شابه وبرنامج عمل واقعي تنموي يوفر فرص عمل جديدة ، وعدالة اجتماعية من نوع مغاير لما هو قائم حالياً. لوضع حد لهذا النزيف اليومي لحياة الإنسان في دول” الصدع الأوربي “.
الحالة ليست سهلة وتفاصيل الحياة اليومية ومعاناة الناس موجعة جداً.
” شهرزاد ” نجت بنفسها عن طريق ثرثرتها ، لكن هنا ثرثرة السياسيين في مختلف المسائل وحتى الجنسية منها لا تستطيع علاج الهواجس والخيبات والقلق حول المستقبل.

سيمون خوري

About سيمون خوري

سيمون خوري مواليد العام 1947 عكا فلسطين التحصيل العلمي فلسفة وعلم الأديان المقارن. عمل بالصحافة اللبنانية والعربية منذ العام 1971 إضافة الى مقالات منشورة في الصحافة اليونانيةوالألبانية والرومانية للكاتب مجموعة قصص قصيرة منشورة في أثينا عن دار سوبرس بعنوان قمر على شفاه مارياإضافة الى ثلاث كتب أخرى ومسرحيةستعرض في الموسم القادم في أثينا. عضو مؤسس لأول هيئة إدارية لإتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين فرع لبنان ، عضو إتحاد الصحافيين العرب منذ العام 1984. وممثل فدرالية الصحافيين العرب في اليونان، وسكرتير تجمع الصحافيين المهاجرين. عضو الهيئة الإدارية للجالية الفلسطينيةفي اليونان .
This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.