تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي 22

رياض الحبيّب

{وفي القرآن آيات تصف عظمة الله وجلاله كآية الكرسي التي قالوا بأنها أفضل ما في القرآن. ولكنْ أراهم في قولهم هذا قد بخسوا آية النور فضلها وهي (الله نور السموات والأرض…) [أي سورة النور: 35] فإني كلّما تلوتها حسبت أنها تصف لي مصباحاً من المصابيح الكهربائية التي تتقد من دون أن تمسّها نار. وفي آخر سورة البقرة آية من أبلغ الكلام الذي يبتهل به العبد إلى ربه} – بهذا الكلام استهلّ أديب العراق الكبير معروف الرصافي الصفحة 616 في كتابه الموسوم “الشخصيّة المحمّديّة” قبل أنْ ينتقل إلى الآيات القرآنية ملتبسة البلاغة أو ضعيفة ممّا يأتي في حلقات قادمة من هذا البحث. وكنت ألقيْتُ في الحلقة السابقة قليلاً من النور على آية الكرسي فجاء في هذه الحلقة دور سورة النور: ٣٥ التي نصّها:
الله نور السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فيها مِصْبَاحٌ المصباح في زُجَاجَة الزجاجة كأنها كوكب دُرِّيّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولولَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء وَيَضْرِبُ الله الأمثال للناس والله بكلّ شيء عليم.

ولا بدّ من إلقاء بعض الضوء على أقوال الأئمّة المفسّرين لعلّ أهمّهم- في نظري- الطبري المتوفّى سنة 310 هـ بما أنهُ من الأقدمين تاريخيّاً والأقربين نسبيّاً إلى زمن الدعوة المحمّديّة في قائمة المفسرين الطويلة وفي روايته توثيق واضح وقد سطّر الأحاديث بأرقام كي يسهل الإستدلال بها، علماً أنّه مؤرّخ أيضاً وصاحب الكتاب المهمّ- تاريخ الطبري:
– يعني تعالى ذكره بقوله (الله نور السماوات والأرض) هادي مَنْ في السماوات والأرض، فهُمْ بنوره إلى الحق يهتدون وبهُداه من حيرة الضلالة يعتصمون.
و{اختلف أهل التأويل} في تأويل ذلك،
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا «ابن عباس» وقال آخرون بل معنى ذلك: الله مدبّر السماوات والأرض «مجاهد وابن عباس» وقالوا: معنى ذلك- ضياء السماوات والأرض «أبَيّ بن كعب»

وفي تفسير القرطبي-
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: النور- في كلام العرب- الأضواء المُدرَكة بالبصر. واستـُعمِل مجازاً فيما صحّ من المعاني ولاح؛ فيقال منه: كلام له نور. ومنه: الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر:
نَسَبٌ كأنَّ عَلَيْهِ مِن شَمْس الضُّحَا *** نُورًا وَمِنْ فـَلـَق الصَّبَاح عَمُودَا [بحر الكامل]
والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. وقال:
فإنَّك شَمْسٌ وَالمُلُوك كوَاكِب
[هذا الشطر- من بحر الطويل- من قول النابغة الذبياني:
ألمْ تَرَ أنّ الله أعطاكَ سَوْرَة ً *** ترى كلّ مَلْكٍ دونها يتذبذبُ
لأنك شمسٌ والملوك كواكبٌ *** إذا طلعَتْ لم يَبدُ منهنَّ كوكبُ]
وقال آخر: هَلَّا خـَصَصْت مِن البلاد بمَقْصِدٍ *** قمَر القبَائِل خالِد بْن يَزِيدِ [بحر الكامل]
وقال آخر :إذا سَارَ عَبْد اللَّه مِنْ مَرْو ليْلة *** فقدْ سَارَ منها نُورها وجَمَالها [بحر الطويل]
فيجوز أن يُقال: لله تعالى نور، من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها، وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون عُلوّاً كبيرا……. و{اختلف العلماء في تأويل هذه الآية}
فقيل: المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن؛ كما يقال: المَلِك نور أهل البلد؛ أي به قوام أمرها وصلاح جملتها؛ لجريان أموره على سُنَن السَّدَاد. فهو في المَلِك مَجَاز، وهو في صفة الله حقيقة مَحْضَة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نوراً هادياً؛ لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المُبْصَرَات، تبارك وتعالى لا ربّ غيره. قال معناه مُجَاهِد والزُّهْرِيّ وغيرهما. قَالَ اِبْن عَرَفة: أَيْ مُنَوِّر السَّمَوَات والأرْض. وكذا قال الضَّحَّاك والقـَرَظِيّ.

والآن أعود إلى تفسير الطبري: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) يقول: مثل ما أنار من الحق بهذا التنزيل في بيانه كمشكاة.
وقد {اختلف أهل التأويل}
في المعنيّ بالهاء في قوله (مثل نوره) علامَ هي عائدة؟ ومن ذكر ما هي؟ فقال بعضهم: هي من ذكر المؤمن. وقالوا: معنى الكلام: مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة «أبَيّ بن كعب وسعيد بن جُبَير والضّحّاك» وقال آخرون: بل عُنِي بالنور: محمد ص, وقالوا: الهاء التي قوله (مثل نوره) عائدة على اسم الله «كعب الأحبار وسعيد بن جُبَيْر» وقالوا: يعني بالنور الطاعة «ابن عباس» وذلك أن اليهود قالوا لمحمد: كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) قال: وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمّى طاعته نوراً، ثم سمّاها أنواراً شتى.

– وقوله (كمشكاة) {اختلف أهل التأويل} في معنى المشكاة والمصباح وما المراد بذلك، وبالزجاجة،
فقال بعضهم: المشكاة كل كوّة لا منفذ لها [وسيرد بعد قليل توضيح معنى المشكاة في تفسير القرطبي] وقالوا: هذا مثل ضربه الله لقلب محمد ص ذِكْر من قال ذلك: 19767 – حدثنا ابن حميد… قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار، فقال: له حدّثني عن قول الله: (مثل نوره كمشكاة)! قال: المشكاة وهي الكوّة، ضربها الله مثلاً لمحمد ص، المشكاة (فيها مصباح المصباح) قلبه (في زجاجة الزجاجة) صدره الزجاجة (كأنها كوكب درّيّ) شَبَّهَ صَدْر النبي ص بالكوكب الدّرّي، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال (توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) لم تمسّها شمس المشرق ولا شمس المغرب (يكاد زيتها يضيء) يكاد محمد يُبَيِّن للناس وإنْ لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت يضيء (ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نور) 19768 – حدثني عليّ… عن ابن عباس، قوله (كمشكاة) يقول: موضع الفتيلة.

وفي تفسير القرطبي:
مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فيها مِصْبَاحٌ المصباحُ في زُجَاجَة: أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن؛ والدلائل تسمى نوراً. وقد سمّى الله تعالى كتابه نوراً فقال “وأنزلنا إليكم نوراً مُبيناً” – النساء: 174 وسمّى نبيَّه نوراً فقال “قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين” – المائدة: 15 وهذا لأنّ الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مُثْبـِت الدّلَالة وَمُبَيِّنها وواضِعها.
و{تحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به}
بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أنْ يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس؛ فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. والمشكاة: الكوة في الحائط غير النافذة؛ قاله ابن جُبير وجمهور المفسّرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء. والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء؛ وهو على وَزْن مِفْعَلَة كالمِقْرَاةِ والمِصْفاة. قال الشاعر:
كأنَّ عَيْنَيْهِ مِشْكاتانِ في حَجَر *** قِيضا اِقْتِيَاضاً بأطراف المَناقِيرِ [بحر البسيط]
وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: هي القنديل. وقال “في زجاجة” لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج. والمصباح: الفتيل بناره.

الزُّجَاجَة كأنَّهَا كوْكبٌ دُرِّيٌّ: أي في الإنارة والضوء
و{ذلِكَ يَحْتمِل مَعْنيَيْن}
إمّا أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإمّا أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور. قال الضحّاك: الكوكب الدُّرِّيّ هُوَ الزَّهْرَة.

————–

أمّا بعد فيستطيع القرّاء الكرام الرجوع إلى سورة النور أنّى شاؤوا وإلى التفاسير، علماً أنها من السّوَر المثيرة للجدل- بسبب مواضيع حسّاسة؛ منها جَلد الزانية والزاني وتبرئة السيدة عائشة بعد حادثة الإفك والآية التي يُنسَب إليها فرض الحِجاب، لكنّي اكتفيت بما تقدّم بهدف الإشارة إلى جهتين اثنتين؛ أولاهما معاني “النور” في كلام العرب ولا سيّما الشعراء في ما ذكر الإمام القرطبي. والأخرى هي تبيان اختلاف أهل التأويل على كلام منسوب إلى السّماء وهو ما أشرت إليه بهذين القوسَين { } بوضوح؛ إنما يعني الإختلاف المذكور صعوبة الجزم بالمعنى المقصود في النصّ القرآني ما سبّب تعارضاً مع بلاغته والطعن بها. فمعلوم أنّ الغموض في المعنى والإلتباس في الرؤية والتعددية في الآراء تقع مع البلاغة على طرَفـَي نقيض. ولو كانت الآراء المختلفة حيناً والمتناقضة حيناً آخر حول كتاب آخر غير القرآن- وهذا ما نبّه إليه الرّصافي- لما سكت النقّاد عليه أو أ ُسكِتوا، بالإضافة إلى أولئك- المرتدّين والمتّهَمِين بالزندقة مثالاً- الذين دفعوا حياتهم ثمناً بخساً من أجل الحقيقة التي تدحض شرعيّة الإسلام سواء من جهة السماء ومن جهة الأرض وتفنّد جدوى القرآن في زمان ما ومكان.

————–

وسوف أختار من عهدَي الكتاب المقدّس كلاماً عن النور- مثالاً- ما لا يقبل اختلافاً في التأويل لأنه بليغ- في رأيي- أي مفهوم لدى للعامّة وواضح:
أوّلاً- العهد القديم:
المزامير- الفصل 104 والآية 2:
اللاَّبسُ النُّورَ كثوْبٍ البَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كشُقـّة.
إشعيا- الفصل 60 والآية 20:
لاَ تغِيبُ بَعْدُ شَمْسُكِ وَقمَرُكِ لا يَنْقـُصُ لأنّ الرَّبَّ يَكونُ لكِ نُوراً أَبَدِيّاً وَتُكْمَلُ أيّامُ نـَوْحِك.
ميخا- الفصل 7 والآيتين 8 و 9:
لا تـَشْمَتِي بي يا عَدُوَّتي. إذا سَقطْتُ أقومُ. إِذا جَلسْتُ في الظّلمَةِ فالرَّبُّ نُورٌ لِي. أحْتمِلُ غضَبَ الرَّبّ لأنِّي أخْطأتُ إليْهِ حَتَّى يُقِيمَ دعْوَايَ ويُجْرِيَ حَقّي. سَيُخْرِجُنِي إلى النُّورِ. سَأنْظُرُ بـِرَّهُ.

ثانياً- العهد الجديد:
البشارة بتدوين مَتـّى- الفصل 5 والآية 16:
فلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكذا قدّامَ النّاسِ، لِكيْ يَرَوْا أعمَالكُمُ الحَسَنة، ويُمَجِّدوا أبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.
البشارة بتدوين لوقا- الفصل 8 والآية 16:
وليْسَ أحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً ويُغـَطِّيهِ بإناءٍ أوْ يضَعُهُ تحْت سَرِير، بَلْ يضَعُهُ على مَنارَة، لِيَنْظُرَ الدّاخِلون النُّورَ.
البشارة بتدوين يوحَنّا- الفصل1 والآيات1-5:
فِي البَدْءِ كانَ الكلِمَة ُ، وَالكلِمَة ُ كان عِنْد اللَّه، وكان الكلِمَة ُ اللهَ. هذا كان في البَدءِ عِنْد اللهِ. كُلُّ شيْءٍ بهِ كان، وبغـَيْرِهِ لمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمّا كان. فيهِ كانتِ الحَيَاةُ، والحَيَاةُ كانتْ نُورَ النَّاسِ، والنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلمَةُ لمْ تـُدْرِكْهُ.
_____________

بقِي لي أخيراً إلقاء ضوءٍ ما على آخِر سورة البقرة التي رآى الرّصافي أنها أيضاً في الذروة العليا من البلاغة في القرآن. ولديّ في النهاية وجهة نظر شخصيّة حول تلك الذروة- فهل كان الرصافي جادّاً في وصفها وتقويمها؟
– إذاً للحديث بقيّة

تواصل مع رياض الحبيب فيسبوك

About رياض الحبَيب

رياض الحبيّب من مواليد العراق قبل الميلاد تخصص علمي حقوق الإنسان، المرأة، الطبقة العاملة اللغة العربيّة، أدب عالمي، ثيولوجيا أدب، موسيقى، شطرنج نقد الأفكار لا الأسماء، ضدّ الظلم والفقر أوّل مُعارض للمعلّقات العشر المزيد من السِّيرة في محور الأدب والفن- الحوار المتمدن
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

2 Responses to تأليف القرآن- الكشف الوافي بقلم معروف الرصافي 22

  1. صباح ابراهيم says:

    الاخ العزيز الاستاذ رياض الحبيب
    ارجو تسليط الضوء على ما تعرّفه قواميس ومعاجم اللغة العربية وتراثها عن الفرق بين النور والضوء لغويا ، ففي مفهومي البسيط ان النور هو الشعاع الصادر من مصدر مشع كالشمس والنجوم والنار، والضوء هو النور المنعكس من جسم معتم، فنقول الله نور السموات والارض لأنه المصدر ، وليس الله ضوء السماوات والارض. ونقول الشمس منيرة لأنها مصدر النور والاشعاع ونقول القمر مضيئ لأن الضوء الصادر منه منعكس من سطح معتم وليس من مصدر مشع .
    فهل تحليلي صحيح وهل لديك المزيد للاستدلال عن الفرق بين النور والضوء ؟

  2. رياض الحبيّب says:

    سلام ربّ المجد ونعمته معكم أخي العزيز الصديق صباح ابراهيم المحترم

    قاموسيًّا: لا فرق بين النور والضوء، كلاهما مرادف للآخر
    دينيًّا: تعوّدت مداركنا ومعارفنا على كلمة النور أكثر من الضوء
    فيزيائيًّا- على العكس: تعوّدت مداركنا ومعارفنا على كلمة الضوء أكثر من النور
    حتى في ويكيبيديا؛ هناك شرح مفصل للضوء وطبيعته ومصادره وخصائصه ولا ذِكر للنور
    لغويًّا: المُضيء= المُنير- كالشمس. والمستضيء= المستنير- كالقمر
    إسلاميًّا: التركيز على النور وفي القرآن سورة باسمه
    شخصيًّا: لا يستطيع أحد أن يقنعني بوجود فرق ما بين النور والضوء
    كذلك؛ لا فرق بين جاء وأتى
    في اللاتينية؛ الإنكليزية مثالًـا: تُرجم الضوء والنور بكلمة واحدة: لايت
    Light

    مع التحيّة وأطيب التمنيّات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.