الوطن ليس أرض وذكريات… بل إنّه الإنسان!! 2

على هامش المهمّة العلميّة كانت لاسلي تهيم في واد وأنا أهيم في واد آخر، استهوتها المواقع التاريخيّة وما أكثرها وأجملها في سوريّا!

كانت تنط لدى وصول سيارتنا إلى الموقع من مكان إلى مكان، تصوّب عدسة كاميرتها على نقاط لاتخطر ببال أحد!

كأن تلتقط صورة لزهرة من شقائق النعمان التي بزغت من بين صخور جدار عال في قلعة المرقب، أو تتسلل ببطء لتلتقط صورة لجربوع صغير يمد رأسه من سقف إحدى الغرف في قلعة حلب! ومرافقنا يهزّ رأسه مستغربا: هؤلاء الأمريكان ناس مجانين!

طبعا، ياصاحبي، مجانين! لو لم يكونوا مجانين لما وصلوا إلى سطح المريخ!

ولو لم تكونوا أنتم علماء، أمّة كلها من العلماء، لما توصّلتم إلى الحقيقة العلميّة “الدامغة” التي تقول: أكثر أهل النار نساء!!

رئيس الأطباء في مشفى حلب الجامعي الدكتور علي، لم يكن أقلّ استغراباً من مرافقنا عندما شرحت له طبيعة مهمّتنا قال: غريبون هؤلاء الأمريكيون! ألم يعد لديهم هم آخر سوى البحث في تأثير العادات والتقاليد على العلاقة بين الطبيب والمريض؟!

لم يكن الطبيب الوحيد الذي أصابني استقباله لنا بخيبة أمل، فالطاقم الطّبي في سوريّا، وخصوصا من ارتضى منه أن يدوس على شرفه المهني مقابل مناصب اداريّة غير مشرّفة، هذا الطاقم، وباستثناء قلة قليلة ، لايبعث على التفاؤل!

هذا أهذب مايمكن أن أقوله بحقّ هؤلاء الأطباء!

استطلاع رأي سريع ومقتضب للمرضى المحشورين كالسردين في الداهاليز الضيّقة والطويلة أمام العيادات الخارجيّة في المشافي الجامعيّة يعطيك فكرة واضحة عن المستوى الأخلاقي المتردّي الذي انحدر إليه هؤلاء الأطباء!

أتساءل: ما السبب وراء ذلك الإنحدار؟!

ومع محاولة البحث عن السبب أجد نفسي في واد آخر بعيد جدا عن الوادي التي راحت لاسلي تنطّ فيه!

لن يحيى مريض في أمّة يموت ضمير أطبائها!

******

أمّا في اللاذقيّة فضمير أغلب الناس هناك موضع تساؤل !

مدينة من أغرب مدن العالم وأكثرها إثارة للسؤال!

التركيبة الطائفيّة لتلك المدينة وظروفها السياسيّة والتاريخيّة والإقتصاديّة لعبت دورا كبيرا في تشويها!

كونها مسقط رأس العائلة الحاكمة في سوريا جعل منها حماما لايملك صنبورا للماء ولا طشطا ولا طاسة، والكلّ فيه عراة يتزاحمون ويتصارعون على قطرة ماء!

هجم الريف، والذي يتشكّل معظمه من أبناء الطائفة العلويّة، إلى وسط المدينة وأطرافها فأحالوا تلك المدينة الصغيرة والجميلة إلى قرية كبيرة وقبيحة!

الظلم والإضهاد اللذان عاشتهما الطائفة العلويّة عبر التاريخ، ورغم محاولات كثيرة لطمس الحقائق، لايحتاج إلى برهان.

أول خازوق أخترعته البشريّة جرّبته في مؤخراتهم، كان ذلك على يدّ السلطان عبد الحميد (رضي الله عنه)!

حاصرهم القتل والتشريد الذي مورس عليهم من قبل أهل السنّة في وديان السلسلة الجبليّة الممتدة على الساحل السوري فعشعشوا في أحراشها هربا من الفتك والبطش.

اتهموا بالكفر وحوكموا بالقتل، سرقت مواشيهم ومحاصيلهم وانتهكت أعراضهم على مرأى ومسمع من كلّ الزعامات والحكومات التي توالت على مدى التاريخ.

توارثوا الجبن والإحساس بالظلم في جيناتهم، والمظلوم، كما يؤكّد علم النفس والسلوك، يميل لأن يكون ظالما في أول فرصة سانحة يمنحها له القدر.

عندما قفز حافظ الأسد في غفلة عن الأكثريّة السنيّة الساحقة على ظهر الحكم، وهو واحد منهم، ظن العلويون أنّه المهدي المنتظر جاء ليخلصهم من كابوس السنة الذي خيّم عليهم دهورا.

عالجوا الخطأ بخطأ أشنع منه! ظنّ كلّ واحد من ضعاف النفوس في تلك الطائفة أنّه صار رئيسا أو على الأقل مسؤولا، والرئيس في مفاهيمنا لايميّز نفسه بمسؤولياته بل بامتيازاته. خرّبت تلك الإمتيازات التي منحت لقلّة قليلة منهم جيلا بكامله من أبناء تلك الطائفة!

كانت السيارات العسكريّة التابعة لسرايا الدفاع، المملوكة يومها من قبل رفعت الأسد تدور على أحياء العلويين وقراهم وتذيع بالميكرفونات محرّضة الشباب اليافع من حملة الشهادة الإعدادية للإلتحاق بالسرايا مقابل راتب مقدارة ثلاثة آلاف ليرة سوريّة يوم كان راتب مدرّس في الجامعة أو طبيب، كأعلى راتب في المجتمع، لايتجاوز ألف وخمسمائة ليرة!

تعسكرت القوى الفتيّة في تلك الطائفة، وعندما تعسكر جيلا بكامله تكون قد ساهمت في تجحيشه!

سرحت تلك الفئة “المجحّشة” ومرحت دون حسيب أو رقيب ودون رادع أو وازع!

في كلّ بلد عربيّ أو اسلامي وعبر أيّ زمن هناك قلّة قليلة تحيط بالحاكم وتسرح وتمرح دون حسيب أو رقيب، لكنّ الأمر في سوريّا وفي زمن الأسد يختلف كثيرا. فالعلويون “صوفتهم حمراء” وفوق رمشهم قشة تجعلهم كالشعرة في العجين ليس أسهل من تبيانها!

لايخفى على أحد جرائم صدّام حسين بحقّ العراق والشيعة الطائفة التي تمثّل الأغلبيّة الساحقة هناك، ولكن لاأحد، حتى في الشيعة أنفسهم، يتّهم السنّة بأنّهم مسؤولون عن جرائم صدّام، أمّا في سوريّا، وكما قلـت، كلّ علوي سلطوي حتى ولو تعلّق بحبال الله!

التقيت مرّة وصدفة بأخت وزير الخارجيّة السوري فاروق الشرع هنا في كاليفورنيا. التقينا في المسبح العام للمدينة التي أعيش بها. أنا أنتظر ابنتي وهي تنتظر حفيدتها للإنتهاء من درس السباحة. تعارفنا، وما هي إلاّ دقائق حتى تطرّقنا إلى الوضع في سوريّا لأفاجئ بها تقول: العلويّون خرّبوا البلاد!

سألتها: وما مسؤوليّة أخيك كوزير لأهمّ وزارة في سوريّا؟!

فردّت: لاحول ولا قوّة له! إنّنا محكومون من قبل الطائفة العلويّة!

كان الخازوق الذي دقّه استيلاء الأسد في سوريّا في مؤخرة العلويين أغلظ بكثير من خازوق السلطان عبد الحميد وسيكون أطول عمرا بكثير!

ستدفع الطائفة العلويّة مسؤولية تلك الفئة الضالة منذ الآن وحتّى تقوم الساعة!

منذ بداية عصر النهضة وحتى تاريخ استيلاء الأسد على السلطة وفي السنوات القليلة الأولى من حكمه كانت الطائفة العلويّة تنتج، ورغم كلّ ظروفها الحالكة السواد، تنتج أعلى نسبة في البلد من حملة الشهادات العليا. كانوا، وكعادة معظم الأقليات في أيّ بلد تتواجد فيه، ميالون للعلم كوسيلة وحيدة لإثبات الوجود وتحقيق الذات ودفع الضيم والهرب من براثن الفقر!

هذا من جهة ومن جهة أخرى طبيعة الديانة العلويّة والطريقة التي يمارس العلوي بها دينه تؤّهله لأن يبقى منفتح الذهن على المجتمع المحيط به مهما اختلف مع هذا المجتمع.

الدين في مفهومه يقتصر على العلاقة بين الإنسان وربّه ولا يتدخّل في حياته اليوميّة لذلك ترى العلوي حرا في تعامله مع الحياة، يتفاعل معها بلا قيود وبالتالي يكون مؤهلا للإبداع والعطاء الفكري أكثر، نسبيا، من الطوائف الأخرى في الإسلام.

المهمّ في أواسط الثمانينات عندما اختل توازن القوى بين حافظ وأخيه تمّ حلّ سرايا الدفاع فأطلق سراح تلك العقول الشابة “المتعسكرة” لتجد الشارع مأوى لها!

تحوّلت إلى فئة من اللصوص والمهرّبين وقطاع الطرق والقراصة وازدادت الفوضى بين صفوفها وعمّ الفساد وانتشر ظلمها ليشمل جميع طبقات المجتمع وفئاته. والسلطة متمثلة بعائلة الأسد تأخذ موقع المتفرج اللامبالي طالما هي في مأمن!

لم تكن تلك الفئة الضالة المضللة (بفتح اللام) من الطائفة العلوية الفئة الوحيدة التي أساءت إلى الوطن، فالمسؤولون السنيون المتعاونون مع نظام الحكم العلوي، وما أكثرهم، لم يكونوا أقل فسادا وفوضى، وفضائح عائلة خدّام ومشارقة والشهابي وطلاس لا تخفى على أحد، ولكن السمعة “الممرمغة بالوحل” كانت من نصيب الطائفة العلويّة برمّتها!

وكان للعلويين في مدينة اللاذقيّة من تلك السمعة حصّة الأسد!

انعكست تلك السمعة غير المشرفة سلبا على حياة تلك المدينة بكافة طوائفها! ففي أيّ زمن وفي أيّ بلد، عندما تُظلَم فئة من الناس، سواء كانت أقليّة أم أكثريّة، سيكون البلد بكامله الخاسر الأوّل!

أهملت المرافق العامة وقلّت فرص العمل وقرف الناس وجودهم وحياتهم. ساءت علاقاتهم الإجتماعيّة وبرز نمط من السلوك العام ليميّز معظم سكان تلك المدينة عن غيرهم من سكان المدن السوريّة الأخرى.

قال ابن خلدون: الظلم يسلب الناس أخلاقهم.

ولذلك في مدينة يستشري فيها الظلم تضيع الطاسة بين الظالم والمظلوم ويفقد الكلّ أخلاقهم!

******

أثناء حرب التطهير الطائفي في البوسنا، التقيت برجل بوسني مسلم. دار بيننا حوار عن الوضع في بلاده فقال: “حملات التطهير لم تفاجئني، ولا أعتقد أنها فاجئت أحدا في بلادي، فالحقد على المسلمين كان فظيعا منذ أيام الإحتلال العثماني لبلادنا. وكنتيجة لما فعله العثمانيون من مظالم، وخصوصا ضدّ المسيحييّن، ظلّ هذا الحقد دفينا! ثم تابع:

“الحكم الشيوعي لبلادنا قمع الجميع ولم يسمح للناس بالتعبير عن مشاعرهم الدفينة. خلال تلك الفترة لم يتلاشَ هذا الحقد بل ظلّ كالجمر تحت الرماد. ومع سقوط الشيوعيّة وهبوب أول نسمة للحرية ـ طبعا بمفهومها الفوضوي ـ انفجر هذا الحقد الدفين ليدمّر البلد بكاملها”

الأحقاد الطائفيّة لاتموت. فمهما طال الزمن، وفي حال قمعها وعدم السماح للناس بتفريغها بطرق منطقيّة ومشروعة، سيأتي يوما وتنفجر لتأخذ في طريقها الصالح والطالح!

معروف في الطبّ النفسي بأنّ الناس الذين هم أكثر عرضة لممارسة العنف هم الناس الذين يكبتون في داخلهم مشاعر غضب تجاه وضع معين أو شخص معين أو ماشابه ذلك، والذين لم ُيسمح لهم بالتعبير عن تلك المشاعر بطريق سليمة مقبولة اجتماعيا.

إنّ قمع أيّة عاطفة بشريّة، والغضب إحداها، سيؤدي بالنتيجة إلى سوء استعمال تلك العاطفة.

عندما يعاني مريض ما من مشاعر غضب مكبوتة قد تدفعه لإرتكاب أعمال عنف، يلجأ عادة الطبيب أو المرشد النفسي إلى ارسال ذلك المريض إلى دورات علاجيّة يطلق عليها Anger Management

أي “السيطرة على الغضب”. أهم خطوة في تلك الدورة هي السماح للمريض بالتعبير عن مشاعره باللغة التي يريدها، في محاولة لتفريغ الشحن المحقونة في داخله والتي إن لم تفرّغ ستنفجر يوما.

مجرد الحديث عن تلك المشاعر يلعب دورا كبيرا في التخفيف من حدّتها، وخصوصا عندما يجد المريض اذنا صاغية من قبل الطبيب أو المرشد المعالج. كلّ ماهو مطلوب من الطبيب أثناء الإصغاء للمريض وهو يعبّر عن مشاعر غضبه أن يجيب بقوله: أستطيع أن أتفهّم موقفك وأعرف مصدر غضبك!

النمط التربوي السائد في بلادنا يقمع العواطف البشريّة غير المقبولة اجتماعيا بدلا من أن ُيهذّبها. هناك فرق كبير بين أن تقمع وبين أن ُتهذّب.

عندما تقمع عاطفة، كالغضب مثلا، تكون قد حبست الشحن النفسيّة المتولّدة عنها وزدت في الضغوط الناجمة عن تلك الشحن، حتى تصل إلى نقطة تنفجر عندها تلك الضغوط مخلفة دمارا يتناول صاحبها ومحيطه.

وعندما تهذّب العاطفة تسمح لصاحبها بالتعبير عنها بطرق مقبولة اخلاقيا واجتماعيا. التعبير لغويّا عن المشاعر يعتبر أقل الطرق خطرا وأكثرها منفعة.

باختصار عندما تقمع المشاعر لاتقضي عليها، وإنّما تؤجل انفجارها حتى تاريخ آخر تصبح عنده السيطرة عليها ضربا من المستحيل. وعندما تفرغها بطرق مقبولة تهذّبها، ولا يبقى داخل النفس أيّة مشاعر يخشى من انفجارها لاحقا.

عندما يستاء شخص من معاملة شخص آخر ويظن أنّ سوء المعاملة صدر عنه من منطلق طائفي محض، أين الخلل في أن يعبّر هذا الشخص المساء إليه عن مشاعره جهرا.

“أنا سنيّ وهو علوي (أو العكس) وقد اساء إليّ من منطلق طائفي محض”!

لو اتاحت له الأعراف السائدة أن يفعل ذلك لفرّغ مشاعر الغضب لديه حتى ولولم يحظى بإذن صاغية، ولساهم إلى حدّ كبير في ردع الآخر عن تكرار الإساءة.

ولكن عندما تعتبر تلك الأعراف الأمر غير مقبول، سيكبت الشخص المساء له مشاعر الغضب وسيعمم غضبه لاحقا ليشمل كلّ من ينتمي إلى طائفة الشخص المسيء.

كبت مشاعر الغضب وقمعها إرث إسلامي!

ففي المراحل الأولى من عمر الإنسان يتمّ تهذيب العواطف والتعبير عنها بطرق مقبولة وسليمة. يتحمّل الوالدان مسؤوليّة عن بتلك المهمة باعتبارهما أول من يحتكّ بالطفل وأول من يثير عواطفه، والغضب أحد تلك العواطف.

عندما لايتعلم الطفل كيف يفرّغ غضبه الذي يثيره أحد الوالدين يلجأ ليس فقط إلى كبت ذلك الغضب بل، ومع الأيام، يتعلّم أن يقبل كلّ تصرف يثير غضبه ويصبح كبت مشاعر الغضب عنده طريقة حياة!

“ولا تقل لهما أف”!

إذا كان التأفف، وكأبسط طريقة للتعبير عن الغضب وأقلها ضررا، مرفوضا ومحرّما كيف سيتعلم الإنسان أن يتحرر من شحن غضبه!

بعض الآباء يثيرون الغضب بطريقة تستحقّ الضرب بالحذاء، ناهيك عن التأفف!

أقولها هنا مجازا ولا أقصدها، إذ لايمكن أن أحرّض على ضرب الوالدين، لكنني في الوقت نفسه لايمكن أن أحرم ابنا أو ابنة من حقهما في التعبير عن غضبهما من تصرفات بعض الآباء التي تثير غضب أيوب!

يخرج الإنسان من بيت والديه في المجتمعات الإسلامية مقموعا وجاهزا ليقبل القمع من معلمه وجاره ومدير عمله ورجل السلطة في بلاده.

تتراكم شحنات الغضب لدى الإنسان وتبلغ مع الأيام حدا لا يعود قابلا للإحتمال. في تلك الحالة المرضيّة يلجأ الإنسان أحيانا إلى البحث عن كبش فداء ـ لاعلاقة له بالأمر ولكنه ضعيف ولايقوى على المواجهة ـ كي يصب عليه جام غضبه تدعى تلك الحالة في الطبّ النفسي Displacement. أي بتصرف “الصبّ في المكان الغلط “

أضرب مثلا لتوضيح الفكرة:

عاد موظف بسيط من عمله في حالة غضب شديد أثاره رئيسه في العمل إلى بيته وطرق الباب ففتح له ابنه البالغ من العمر سبع سنوات ثم عاد يركض باتجاه لعبه دون أن يحيّ والده ويعانقه. اقترب الوالد من الطفل وصفعه صفعة قويّة على وجهه أفقدته توازنه.

في حقيقة الأمر لم يصفع الوالد طفله غضبا منه، لكنّه صفعه كي يفرّغ جام غضبه الذي أثاره مدير الدائرة والذي بلغ حدا لم يعد قابلا للإحتمال.

وراء العمليّات الإرهابيّة التي قام بها الإخوان المسلمين في سوريّا في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، وكغيرها من العمليّات الإرهابيّة التي يقوم بها المتشددون الإسلاميّون في أي مكان آخر، تكمن أسباب عقائديّة وتربويّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة كثيرة لامجال لذكرها الأن. ولكن لا أشك لحظة بأن مشاعر الغضب الكامنة والمكبوتة منذ مراحل الطفولة المبكّرة تلعب هنا دورا لايستهان به.

عندما قام أحد هؤلاء الإرهابين وهو شاب في مقتبل العمر بزرع حقيبة مليئة بالمتفجرات في باص عام مسافر من دمشق إلى اللاذقية، كان ذلك الشاب على علم بأنه لايوجد بينه وبين أيّ راكب داخل هذا الباص ثأر شخصي يكمن وراء مشاعر غضبه المكبوتة.

هو مستاء من طغمة ظالمة تسيطر على مقاليد الحكم في بلاده، وباعتبار أنّ زعيم تلك الطغمة ينتمي إلى الطائفة العلويّة رأى في هذا الباص الذي ينتمي معظم ركّابه إلى نفس الطائفة كبشا يسهل اصطياده وفي الوقت نفسه” يفشّ خلقه”!

طبعا لايستطيع أن يصل إلى المجرم الحقيقي كي يصبّ جام غضبه عليه فاختار الطريق الأسهل، رغم قذارته، لتفريغ شحنه.

تلك الشحن التي تراكمت منذ مراحل طفولته المبكّرة والتي أثارها، أول من أثارها والداه، ولم يتعلم في تلك المراحل كيف يعبّر عن مشاعره ويفرغها بطريقة سليمة.

القمع إذاً لايزيل الأحقاد بل يطمرها جمرا تحت الرماد، وعندما تحين الفرصة الملائمة ومع هبوب أول ريح سيتناثر الرماد وسيتطاير الشرر ليحرق أبرياء الوطن قبل مجرميه!

******

رغم سوء الأوضاع الإدارية عموما في كلّ الدوائر والمنشآت السوريّة، ترى الفساد في اللاذقيّة على أشدّه.

كان مشفى الأسد الجامعي، وباستثناء قلعة صلاح الدين، المكان الوحيد الذي زرته. استغرق بحثنا العلمي فيه نصف ساعة قضينا عشرين دقيقة منها نتناطح مع عشرات الزوّار على الباب الخارجي. فجأة وبقدرة قادر صرت وزميلتي لاسلي داخل حرم المشفى.

قادنا آذن بسيط إلى مكتب مدير المشفى الدكتور نضال اسكيف، طلب منّا الجلوس في غرقة الإنتظار ريثما يطلعه على وجودنا وموافقة الوزير على تسهيل مهمّتنا. وعاد بعد قليل بالموافقة ممهمورة بتوقيعه وعبارة “تحال إلى شعبة الداخلية”.

تحال إلى شعبة الداخلية؟!!! كادت الصدمة تقتلني… وهل نحن مرضى؟!

يبدو أنّ السيد اسكيف كان غارقا في حساباته المصرفيّة أو إحدى مكالماته كعادة المسؤولين في مكاتبهم فلم يطلع على الأمر وظن أن الموافقة ليست سوى استمارة دخول لأحد المرضى. وإلاّ لاقتضت أبسط أخلاق المهنة وأصول الزمالة وآداب الضيافة أن يستقبلنا في مكتبه كي يستفسر عن طبيعة البحث وأيّ نوع من المساعدة نتوخاها من حضرته!

المصعد الكهربائي إلى الطابق التاسع حيث توجد شعبة الداخليّة كان معطلا فرحنا نركض على السلم ووصلنا منهكين لنفاجئ بأن الدكتور مطيع جوني رئيس الشعبة غير موجود!

قادونا إلى غرفة الأطباء علّنا نجد طبيبا يستطيع أن يساعدنا. طرقنا باب الغرفة وفتحناه لنجد أنفسنا أمام بهو ضيّق لايصلح اسطبلا للحيونات، دخان السجاير يغطي جو الغرفة ورائحة خانقة تنبعث منها! تبيّنا بصعوبة وجوه أربعة أطباء “يطقوّن حنك” ويمزمزون على قدح شاي!

لم يتحرك فيهم ساكن، ولم يكترسوا لدخولنا. تقدمت مصافحة كلّ منهم ومقدمة نفسي وزميلتي، ثم شرحت أسباب تواجدنا ومطاليبنا.

انبرى أحدهم بالقول: الدكتور مطيع ليس موجودا وليس بامكاننا أن نساعدكم في شيء!

ـ وهل هناك أيّة طريقة للإتصال بالدكتور مطيع؟ سألته يائسة!

مدّ يده إلى تلفونه وأدار رقم الدكتور مطيع جوني ثم طلب مني التحدّث اليه.

ـ تحياتي دكتور مطيع، أنا فلانة ومعي زميلتي فلانة ومهمتنا كذا وكذا ومعنا موافقة من الوزير للقيام بها ونريد مساعدتك.

في اللاذقيّة كلّ مسؤول وزير!

ويرد: لن أتواجد اليوم في المشفى ولن أسمح بالقيام بأيّ عمل في حال عدم وجودي!

حاولت أن أشرح ظروفنا وضيق وقتنا وقدرتنا على القيام بالمهمّة بمساعدة أي طبيب لا على التعيين.

يبدو أنه استاء من طرحي هذا معتبرا نفسه الوحيد الذي يحلّ ويربط في المشفى وأثناء غيابه لا دور لأيّ طبيب آخر!

الدكتور مطيع جوني على حقّ، فأمّة كلّها علماء من أمثال القرضاوي لاتحتاج لا إلى وفود علميّة ولا إلى أبحاث!!

لقد أخطأت حساباتي وفشلت في اقتراحي لزيارة سوريّا!

كان بإمكاني أن أعود في اليوم الثاني رغم ضيق وقتنا لكنني آثرت أن لا أفعل ذلك فالمكتوب يُقرأ من عنوانه!

تلك هي النتائج التي توصلنا اليها من بحثنا العلمي في مدينة اللاذقية!

غادرنا باب المشفى بنفس المشقّة التي دخلناه بها!

للحديث صلة.

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.