العلويون والعبور الصعب من التوحش إلى المدنية

عبد الحميد سليمان

 الجزء الأول: “بؤس اسمه التقية”

يُخطئُ البعض إذ يعتقد أن العلويين هُمْ طارئٌ على الفضاء المعرفي في الشرق عامةً وفي سوريا خاصة. ولعلَّهُم وأعني هُنا العلويين أنفسَهُم مسئولون عن هذا الوهم ومن ثمَّ هذا الكشف المهول الذي يعيش اليوم نتاجَهُ الكارثي جُلُّ السوريين؛ هُمْ مسئولون بشكل أو بآخر لأنهم اختاروا في مكانٍ ما وفي زمانٍ ما مبدأً غدا يوماً بعد يوم وسنةً بعد سنة ومن ثمَّ قرناً بعد قرن أساساً معرفياً لوجودهم… نعم لقد اختار العلويون الأوائل في الزمن الأول خياراً تَحوَّل بوعيٍ جمعيٍ تراكم عبر الزمن إلى أساسٍ وجوديٍ في صلب العقيدة بعدَ أن كان مجردَ وسيلةٍ للبقاء في وسطٍ مختلفٍ من ناحية ولا يتحمل الاختلافَ من ناحية ثانية.

التقية… الخيارُ كانَ التقية… بمعنى أن التقية كانت هي النتاج المعرفي للعصف الفكري العتيد ذاك الذي قام به العلويون الأوائل في العزلة… عُزلةِ الجبال… عُزلةِ الجبال هذي التي كان لها بالغ الأثر في الوعي الجمعي للعلويين.

لقد ذهب العلويون بعيداً؛ هُمْ لم يكتفوا بعُزلة المكان مثلما فعلَ الموارنة والدروز في سبيل البقاء، بل هُمْ أسقطوا عزلة المكان على العقيدة وهذا ما لم تصل إليه قط باقي الأقوام الأقلية التي كانت تنازع في سبيل البقاء في هذا الشرق القائم على الإقصاء، وهُمْ حين أسقطوا العزلة على العقيدة غدت هذه العزلة التقية في صُلب الهوية المعرفية للعلويين… لقد غدت في صُلب وعي العلويين لذواتهم.

قد لا يفهم البعض مدى الهول الذي عَنَاهُ خيارُ التقية… إخفاءُ الذات وإخفاءُ المعتقد والاختباءُ الأزلي خلف ستارٍ خَرِق لم يُقْنع أحداً يوماً… لقد قادت التقية إلى غياب التواتر عن النص… نصِّ العقيدة… وهو بالتالي غدا حِكراً على شخوصٍ منتقاة غدت بدورها عاماً بعد عام وجيلاً بعد جيل أكثرَ جهلاً به… لقد بَليَ النص في العزلة… عزلة التقية… ومن ثم غدا النصُ نتاجَ العزلة… غدا النص نتاجَ التقية.

إن التواتر ومن ثم النقاش والحوار بين أفراد الجماعة حاسمٌ في تشذيب العقيدة وتشذيب النص؛ هو حاسمٌ أولاً في حِفظِ النص من خلال إخضاعه المستمر إلى الرقابة الجمعية لضمير الأمة، وهو حاسمٌ ثانياً في إخضاع العقيدة لسلطة العقل الجمعي ولسلطة العصر ولسلطة التطور المحتوم. ما حدث أن غيابَ التواتر عن العقيدة ومن ثم غياب النقاش البيني في الوعي الجمعي للعلويين أدى تدريجياً إلى انفلات العقيدة (وهي روحُ النص) من سلطة العقل؛ هي لم تعد قادرةً على التكيف، وهي بالتالي لم تعد قادرةً على البقاء.

هولٌ عظيم… أنْ تبلى العقيدة، وأنْ تبلى في الخفاء في ظل التقية وبعيداً عن التواتر… في هذا السياق، دعونا أيها السادة لا ننسى الدور الجوهري للعقيدة في غياب الدولة… دورَها في عِصمة الفرد… حُرمةِ الفرد في الجماعة.

هناك في القفار الموحشة للجبال لم يكُ ثمة ما يَعْصُمُ العلويين من ذواتهم… لم يكُ ثمة هناك حُرمةٌ للفرد… لا حُرمةَ للدم ولا حُرمةَ للعِرض ولا حُرمةَ للمال… هناك في تلك القفار الموحشة حيث الفقر المدقع حدَّ الجوع وحيث التهميش الأقصى حدَّ إنكار الحرمة وحيث لا عقيدة تَعصُم في غياب الدولة… هناك في القفار الموحشة وعلى مدى قرونٍ من العزلة اُستُبيحَ الفرد العلوي دون هوادة… اُستُبيحَ ليس فقط من قِبَلِ آخَرَ مختلف… ولكن وبقسوةٍ أشدَّ هولاً من قِبَلِ أبناءِ الفرقةِ ذاتِها.

لقد كان شخصُ الأغا هو التجسيدُ الأكثر توحشاً لهذه الاستباحة، هُنا… سوف يجادلُ البعض بالقول أن هذا التهميش وهذه الاستباحة من قِبَل الطبقة الإقطاعية الزراعية لم تكن مقصورةً على العلويين؛ بل أنها كانت حالةً عامة وهي شملت كلُّ الجماعات التي كانت تقطن هذا الشرق خلال تلك الحقبة التاريخية. حسناً، هذا صحيح، ولكن لدى التأمل في طبيعة الطبقة الإقطاعية التي كانت تستبيحُ العلويين حينها لناحية كونِها أكثرَ تخلفاً “بفعل العُزلة” وأكثرَ انفلاتاً “بفعل بلاءِ العقيدة”؛ نُدرك حينها هَولَ التهميش وهَولَ الإقصاء وهول الاستباحة التي خضع لها العلويون…

هَولُ الاستباحة هذا قادَ إلى هَولِ التوحش… توحشٍ لا حدودَ له… لا عقيدة… ولا حُرمة… أللَّهم إلا حُرمةَ الأمرِ الواقع… لقد كان التوحش هو السبيل الأمضى للبقاء… ومثلما عمَّت الاستباحةُ وطال التهميشُ جُلَّ العلويين طال التوحشُ جُلَّهُم. وفي هذا الأتون المهول من فَيضِ الفقر وفَيضِ الجهل و فَيضِ الضعف تَوَحشَ المهمشون العلويون لا لخللٍ موروثٍ فيهم ولكن لتوقٍ أصيلٍ فيهم كبشرٍ نحوَ البقاء.

على أن التوحشَ هذا لم يعنِ الخواء القِيَّمي التام؛ كانت هناك قِيَّمُ الريفيةِ بطبيعة الحال، لكن هذه كانت هشة وغيرَ مؤطرة… هذه كانت فقط تقاليد… تقاليدٍ لم تكن لتصمدَ أمام النزق الذي خلقه شظف العيش الطويل.

في تلك الجبال المعزولةِ عن المَدَنية تخمَّرت في سبيل البقاء نزعاتٌ إنسانيةٌ قصيَّة ونَزَقٌ ساخطٌ على البنية الأبوية البطريركية التي استباحتهم على مدى قرون… ونَزَقٌ فرديٌ متمحورٌ حول الذات أولاً… وحولها قبل كل شيءٍ آخر.

 

الجزء الثاني: النزولُ من الجبال

كان تهاوي السلطنة العثمانية مدوياً على الطبقة الإقطاعية العلوية… كان وَقْعُهُ جسيماً عليها؛ لقد هَوَتْ السلطنةُ العثمانية… هَوَتْ وهَوَى معها مفهوم الرعيَّة… هَوَتْ حتميةُ العُزلة… وهَوَى معها مفهومُ التلزيم… التلزيمِ هذا الذي أعيا العلويين وقادَهم إلى التوحشْ… لم يَعُدْ من المقبولِ حينها “تلزيمُ” المجموعاتِ البشرية لإقطاعٍ رث يستبيحُ الأفرادَ دونَ حُرمة… إقطاعٍ لم يَعُدْ فعالاً في القيامِ بأعباءِ الإدارة… والأهم، لم يَعُدْ قادراً على تأمين الاستقرار.

كانَ هذا محتوماً… كان لا بُدَّ من التكيف… كان لا بُدَّ من التغيير لمواجهة هذه الرياح القادمةِ من الغرب… رياحٍ تَحمِلُ فيما تَحمِل هَمْسَ مفهومٍ جديد حينها… مفهومٍ لم يشهد لهُ هذا الشرقُ مثيلاً من قبل… مفهومٍ يُدعى المواطنة.

في تلكَ الأيامِ العصيبة وبينما كانت الطبقاتُ الإقطاعيةُ لدى الأقوامِ الأخرى تتكيف… تتغيرُ لتغدو شيئاً آخَرْ… شيئاً أكثرَ حداثة… برجوازيةَ مُدُنْ… ولِما لا… برجوازيةً وطنية… في تلك الأثناء، كانت الإقطاعيةُ العلويةُ تتخبط… تتخبطُ في العجزِ عن التغيير.

علَّهُ كانَ الشعورَ الدفينَ بالذَنْب وإدراكَ هَوْلِ ما اقترفَتْهُ من استباحةٍ بِحَقِّ مُهمشيها… وعلَّهُ كان التخلفَ المرير هذا الذي لم يكن له مثيلٌ بين نظيراتِها من الطبقاتِ الإقطاعيةِ الأخرى؛ عجزت الإقطاعيةُ العلويةُ عن التكيف… لم تكن قادرةً على التغيير… أقلَّهُ ليسَ بالسرعةِ الكافية… أقلَّهُ ليسَ بالكم والكيف المُناسبَيْنِ… المُناسبَيْنِ لعقدٍ اجتماعيٍ جديد… المُناسبَيْنِ قبل فواتِ الأوان.

في ذلكَ السياقِ المُتأزم، كانت الإرهاصاتُ الأولى لذلك النزولِ العتيد… بدأ العلويونَ النزولَ من الجبال… بدؤوا مع أقرانَ لهم يعبرون حاجزَ العُزلة… لكن هذا العبورَ لم يَكُ تاماً… كانَ ثمة الفقرُ المُدْقِعْ… وكانت هناكَ التقية…

حينها كان من المُمكن إسقاطُ التقية… كان من المُمكن لهذا النزول أن يغدو خروجاً… قطعياً وتاماً من العُزلة… عبوراً تاماً غيرَ منقوص من عُزلةِ المكان ومن عُزلةِ النص ومن عُزلةِ الهوية… لكن هذا لم يحدث وكانت تلك فُرصةً ضائعةً أخرى لتوحيد الطبيعة وإجلاءِ النص ومن ثمَّ الذات من ظلمةِ التخفي إلى نورِ الكشف.

من جِهَتِهم… كانَ موقفُ رجالِ الدينِ العلويينَ حازماً في رفضِ إسقاطِ التقية… على أي حال، كيف كان لهم ألا يفعلوا… بقايا نصٍ مُتآكل… وعقيدةٌ بَلَتْ على مدى قرونٍ في الخفاء بعيداً عن التواتر… وقُدرةٌ محدودةٌ على النقاش وعلى الإقناع… لا بل هوَ عجزٌ مرير وَلَّدَهُ الصمتُ الطويل ونقصُ المِران… عجزٌ وضعفُ ثقةٍ بالنفس جَعَلَ من المُمكن حينها لجماعةٍ أن تَنْشق… أن تؤسسَ ديانةًً أخرى مُستقلَّةً تماماً… طائفةً مرشدية… ومتى… على أبوابِ القرنِ العشرين.

أنْ يكونَ ثمةَ تواصلٌ نفعيٌ ومتبادل بين رجالِ الدين ورجالِ الإقطاع… هذا لم يكن قِصْراً على العلويين… هذا كانَ عاماً… ولكن، ما ميَّزَ هذه التواصلَ لدى العلويين حينها أنَّهُ كان أشدَّ تخلفاً… كانَ كِلاهُما رثاً ومن العصور الوسطى… وهذا قادَ إلى طواعيةٍ مطلقة… تطويعٍ كاملٍ للنص… ولما لا وكل شيءٍ يحدثُ في الخفاء بعيداً عن الرقابةِ الجمعية… نعم، لقد كانَ لرجال الإقطاع ولرجالِ الدين العلويين مصلحةٌ حياتية في إبقاءِ العموم… العمومِ المُهمَّش أسيراً للعُزلة… كانَ لهما مصلحةٌ وجودية في إخفاء العجز المهول… ووَسيلتُهم إلى هذا كانت الجهل… وكانت الفقر… وكانت التقية.

موقِفُ المثقفينَ العلويينَ… حسناً، حينها لم يكُ ثمَّةَ بعد مثقفونَ علويون… كانَ ثمَّةَ متعلمون… وهؤلاءِ كانوا قِلَّة… قِلَّةٍ متواضعةٍ وغيرِ مؤثرة… أيضاً، وهذا هامٌ لناحيتَين: أولاً لأنه أسس لأنموذج معرفي… أنموذج سوف يتكررُ في أزمانَ لاحقة، وثانياً لأنه كانَ وثيقَ الصلة بطبيعة التوحش عندَ العلويين… توحشٌ فردي وليسَ جمعياً… بمعنى، أنَّه يبتغي المنجاة على صعيدِ الفرد وليسَ على صعيدِ الجماعة. المنجاةُ الفردية حينها لهذي القِلِّة المتعلمة كانت بالتقدم… كانت بالتعليم… وهذا اقتضى التخفي… لم يكن حينها الوقتُ مناسباً لخوضِ صراعاتٍ جانبية… لم يكن مناسباً للتظهير.

أما العمومُ المُهمَّش من العلويين… هؤلاءِ الذين توحشوا في أزمانَ سابقة… حسناً، هؤلاءِ كانوا جوعى فقط… كانوا يريدون أن يأكلوا… كانوا يريدونَ أن يَسُدُّوا رَمَقَهُمْ فحسب.

الجزء الثالث: فرنسا الرائعة مرَّت من هنا

هناكَ في الأعماقِ الموحشة لجبالِ العلويين وفي قريةٍ من تلك القُرى الفقيرة المهمشة أقامَ الفرنسيون القادمون حديثاً… الفاتحونَ الجُدد لهذا الفضاء المعرفي المعقد… أقاموا بناءً مهيباً من حَجَرْ… وأما القريةُ فكانت تُدعى الدريكيش… وأما البناء فقد كانَ المدرسةَ العِلمانيةَ الفرنسية

(L’école laïque française)…

 كانوا يدعونها اللاييك… وكانوا يدعونَهُ انتداباً وكان يحلو للبعضِ اللجوءُ إلى تعابيرَ أكثرَ حِدة… لكنَّ أحداً ما قبلاً لم يكن قد عاملَ العلويينَ المهمشين حينها كما فعلت فرنسا…

لقد كانت فرنسا هي الحداثة وهي التعليم وهي الثقافة… وهي القطيعةُ ولو الجزئية مع موروثٍ مؤسف من التلزيم المطلق ومن الاستباحة المطلقة ومن الإقصاء المطلق… لقد جعلت فرنسا من المُهَمَّشِينَ العلويين مواطنين… مواطنينَ تحتَ الانتداب… مواطنينَ من الدرجةِ الثانية… لكنهم بهذا كانوا قد غًدَوا مواطنين… مواطنينَ للمرةِ الأولى في حياتِهم… مواطنينَ لهم حقوق… هُم في أي حال لم يعودوا رعايا دونَ حقوق… وهذا كان رائعاً بالنسبةِ لهم حينها… هذا كان رائعاً فحسب.

لم تكن تلك سنواتٍ عابرة في الذاكرةِ الجمعية للعلويين… كانت تلك لحظاتٍ تاريخيةً بحق… لقد ترافقَ خِلالها هذا التلاقحُ الأولُ مع الحداثة مع وعيٍ أولَ بالذات… وهذا كان له بالغُ الأثر في وعي العلويينَ اللاحِق لذواتهم…

مدفوعةً بِحِسِ التنوير الحداثي… وطابَعِهِ الاستشراقي بطبيعةِ الحال، حاولت فرنسا فَهْمَ العلويين… حاولت فَهْمَ طبيعةِ التوحش لديهم… وبناءً على هذا الفَهْم حاولت أنْ تَصْنَع منهم شيئاً مدنياً… حداثياً… ومتصالِحاً معَ الذات… وأياً يكن من أمرها، كان ثمة انطباعٌ حضاريٌ يتراكبُ في عقلِ فرنسا عن العلويين… ونموذجٌ معرفي لطريقِهم نحو الحداثة… كانت هُناكَ أيضاً المصالحُ الحيويةُ للدولة الفرنسية بالطبع، وكذلك الطبيعةُ الاستشراقية لأي مقاربةٍ أوربية تحديثية نحو الشرق.

لقد طَبَعَ فَهْمُ فرنسا الاستشراقيُ للعلويين حيزاً هاماً من فَهْمِهُم لذواتِهم… هذا لم يحدث لدى العربِ السُّنة… هؤلاءِ كانَ لديهم الموروثُ العربيُ الإسلامي… المكتوبُ والمحفوظ… والخاضعُ أبداً لسلطانِ التواتر… هؤلاءِ كانَ لديهم كيانٌ حضاريٌ مُكْتَمِل… مُكْتَمِلٌ منذُ عهودٍ خَلَتْ…

خارجينَ من عهودٍ ما قبل حداثية، مع موروثٌ مُتآكل بفعل العزلةِ وغيابِ التواتر؛ كان الوعيُ الحداثي للعلويينَ كأفراد… وعيُهُم لذاتِهِم الجمعية يأخذ بالتبلور من خلال وعي الآخرين بهم… فرنسا كانت أكثرَ أولئكَ الآخرينَ تأثيراً.

لقد نظرت فرنسا إلى العلويينَ كإثنية وليسَ كفِرقةٍ دينية… هكذا عاملَتْهُم على الأقل… هذا الأنموذج المعرفي سوف يتكرر في أزمانَ لاحقة… سوفَ ينظرُ العلويون إلى ذاتهم الجمعية كإثنية… وأبعدَ من هذا، سوف ينظرون إلى شُركائهم في المواطنة السورية اللاحقة كإثنيات وليسَ كطوائف… وليسَ كسوريينَ… سوريينَ صَدَفَ أنَّهم يعتنقونَ ديناً آخر.

ومن تلك النظرةِ الإثنيةِ إلى الذات… تخلَّقَت في وعي المثقفِ العلوي هذا الذي سوف يأتي لاحقاً رؤيةٌ مشوهةٌ إلى العلمانية… سوفُ يعتقدُ هذا مُخطِئاً بإمكانية الجمعِ بين نقيضَين… العلمانيةِ والطائفية.

علَّهُ كانَ الطريقَ إلى جهنم معرفية… لكنَّهُ كانَ مُعبَّداً بالكثيرِ من النوايا الاستشراقية الحسنة… أخذت فرنسا بيَدِ المهمشين العلويين إلى الدولة… أخذتهم إليها في صيغتِها الرَيعية… وظائفِ الدولة في الإدارة الحكومية… في التعليم… وفي الجيش… علَّها كانت تلك رؤيا فرنسا الاستشراقية لخلاصِهم… وعلَّهُ كانَ حينها الطريقَ الوحيدَ المتاحَ للخلاص… لكنَّ هذا أيضاً أسس لأنموذجٍ معرفي… أنموذجٍ معرفي سوف يتكرر…

 

الجزء الرابع: لماذا قامت سوريا… ولمْ تَقُمْ دولةُ العلويين

مُعضلةُ سوريا الأساسية أنها وطنٌ هشٌ معرفياً… بمعنى أن السرديةَ المعرفية التي قامَ عليها الوطنُ السوري هي سرديةٌ هشةٌ معرفياً… هذا ليسَ حالَ مصر وهو ليسَ حالَ تونس… هناكَ ثمةَ هويةٌ معرفيةٌ واحدة… هويةٌ لم يستطع المستعمرُ الخارجي ولا المستبدُ الداخلي تَهْشيمَها والنيلَ منها…

خِلافاً لمِصْر… لم تكن سوريا قبلَ الانتداب وطناً متمايزَ الهوية… كانَ ثمة بالطبع بلادُ الشام ولكن هذه لم تكن يوماً حاضناً لهويةٍ معرفيةٍ مُوَّحدة ما قبلِ حداثية… هويةٍ يُعْتَّدُ بها لاحقاً في بناءِ هويةٍ معرفيةٍ حداثية تكون صالحةً لبناءِ الدولة-الأمة… أقلَّهُ حتى الزمن الذي سبقَ الانتداب… عِوَضاً عن هذا، كانت بلادُ الشامِ حاضنةً لأنموذجٍ معرفيٍ مغاير… الدولة-المدينة… بمعنى، أنَّ السرديةَ المعرفيةَ الأقوى والأكثرَ رسوخاً على صعيد الهوية في بلادِ الشام كانت المدينة…

لقد حاولت المسيحية ومن بعدها الإسلام صهرَ هذا الأرخبيل من الهوياتِ المعرفية “المَدينية” في أتونِ هويةٍ معرفيةٍ واحدة… حسناً، هذا كانَ يَنْجَعُ لوهلة… لكن، وكأنَّهُ الأنموذجٌ المعرفيُ الوحيدُ الموَّحدُ أبداً في الذاتِ الجمعيةِ الشامية… كانت الأوطانُ-المُدن تخرجُ كلَّ مرةٍ من بين الأنقاض المعرفية لدولٍ أكبرَ تتداعى… علَّها الجغرافية… وعلَّها التجارة… وعلَّهُ النزقُ هذا القابِعُ في عمق الذاتِ الشامية… النزقُ التوَّاقُ أبداً إلى التنوع… على أي حال، وأياً يكنُ من أمرها… هذا كانَ حالَ سوريا بعد السقوطِ المدوي للإمبراطوريةِ العثمانية.

لقد كانت هذه الهوياتُ المعرفيةُ المدينيةُ حاضرةً في لامركزية الثورات السورية الأولى ضد الانتداب… أيضاً، أنموذجٌ معرفيٌ سوفَ يتكررُ في أزمانَ لاحقة… دِفاعُ دمشقيٌ مُستَميت في ميسلون… ثورةّ في جبالِ العلويينَ… ثورةٌ في جبلِ الزاوية… ثورةٌ في غوطةِ دِمشق… ثورةٌ كبرى في جبلِ الدروز… ثورةٌ في المناطقِ الشرقية… ثورةٌ في حماة… لامركزية… لامركزية… أنموذجٌ سوف يتكرر…

في هذا الأرخبيلِ من الهوياتِ المعرفيةِ المدينية كانت تقبعُ جبالُ العلويين… تلكَ كانت الوطنَ-المدينة الخاصَ بهم… وشأنَهُ شأنَ الأوطان-المُدن الأخرى في هذا الأرخبيلِ المتنوع… كانَ ثمةَ نقاشٌ حاد تدورُ رحاه حولَ الكيان… على أي حال، ما جَعَلَ النقاشَ الكياني في هذا الوطن-المدينة هاماً فوقَ العادة هوَ الوعيُ الجمعيُ الذي كان حينها في مراحلِهِ البدئية لدى العلويين … النظرُ إلى الذات الجمعية كإثنية… إثنيةٍ مختلفة.

لقد كان النقاشُ حاضراً في أوساطِِ النخبة… النخبةِ الإقتصادية الإجتماعية العلوية… حينها كان النِقاشُ نخبوياً بطبيعةِ الحال… كان لا يزالُ التهميشُ حاضراً بقوة، وكذلك كانت بقايا التلزيم ورواسبِهِ المعرفية لا تزالُ حاضرة… لم يكن هذا شأنَ العمومِ في أي حالٍ من الأحوال.

حاضرةً أبداً في أذهانِهم؛ كان خيارُ النخبةِ المارونيةِ بعيداً وصعباً… لم يكن لدى النخبةِ العلويةِ حينها ذاكَ الكمُ الذي يُعوَّلُ عليهِ من التكنوقراط… كانوا جيلاً أولَ من المتعلمين وهذا لم يكن في أي حالٍ كافياً… لم يكن لدى النخبةِ العلويةِ حينها المؤسسةُ البطرياركيةُ المارونية وجذورُها الضاربةُ في أعماقِ التاريخ… لم تكن لديهم قطُ تلكَ المؤسسةُ الأبويةُ الجامعة التي تحفظُ التاريخ وتصوغُ الوعيَ الجمعي وتعصمُ الفردَ حينَ تغيبُ الدولة… كانتِ النخبةُ العلويةُ حينها شيئاً مُحدَثاً ودونَ هويةٍ جمعيةٍ متبلورة…

حسناً، هذا كان من ناحية… من ناحيةٍ أخرى، وفي مواجهةِ هذه النظرةِ الإثنيةِ إلى الذات؛ طرحت البرجوازيةُ المدينيةُ في الأوطانِ-المدنِ الأخرى نظرةً جديدة… هذه البرجوازيةُ المدينيةُ الغَنَّى بالتكنوقراط والناضجةُ كفاية لتغدو برجوازيةً وطنية كان لها نظرةٌ أخرى… خطةٌ أخرى لهذا الأرخبيلِ الذي لا ينتهي من الهوياتِ المعرفية…

لا تقوم الأوطان بمحض الصدفة كما أنها ليست حتمية… وإنْ كانَ لابدَّ لكلٍ وطنٍ من آباءَ مؤسسين… فإنَّ البرجوازيةَ الوطنيةَ السورية كانت هي الأم وكانت هي الأب المؤسس للوطنِ السوري… وهي كانت الوعاءَ الحاضِنَ لهذي التجربةِ المعرفيةِ الرائعة… هذي التي تُدعى سوريا.

مُشبَعةً بروحِ النهضة؛ عبرت البرجوازيةُ الوطنيةُ السورية بجسارةٍ حدودَ الطائفة… وحدودَ الإثنية… وحدودَ الدين… كانتً مدنيةً بحق… متصالحةً مع ذاتها… دونَ خوف ودونَ مواربة… كانت هيَ الرعيلَ الثالثَ لرجالاتِ النهضةِ العربيةِ العتيدة… ليبراليةً طَموحة… وكان بِوسعها أن تفعلَ الكثير…

كان جُلُّ البرجوازيةِ الوطنيةِ السورية من العربِ السُنة من سكان المُدْن… كانوا حينها قد بلغوا سويةً من النُضْجِ المعرفي غَيْرَ مسبوقة… هُمْ نظروا إلى الموروثِ العربي الإسلامي كثقافة… كروح… وليسَ كشريعة… وليسَ كإثنية… وبهذا المعنى كان الجميعُ عرباً مسلمين… كان المسيحيون عرباً مسلمين… وكان العلويون عرباً مسلمين… وكذلكَ كان الدروز والإسماعليون… والأكراد…

 

وبِحُكمِ منشئها الليبرالي… كانت المدنيةُ الديمقراطيةُ حاضرةً في ذاتها… هذه لم تكن إضافة… هذه كانت في صميم الحل… الحل التاريخي هذا الذي طرحته البرجوازيةُ الوطنيةُ السورية لهويةٍ سوريةٍ موحدة… هويةٍ سوريةٍ واحدة لهذا الكيان الهش.

كان هذا حينها عرضَ البرجوازيةِ الوطنيةِ السورية… مغامرةٌ مدنيةٌ ديموقراطية أساسها المواطنةُ المتساوية… حسناً، من كانت النخبة العلويةُ حينها لترفض هذا العرض… لم تكن شيئاً يستحق الذكر… لم تكن شيئاً يستحقُ الذكرَ البتة.

 

الجزء الخامس: حَبوٌ نحوَ مدنيةٍ ديمقراطية… حَبوٌ نحوَ الهوية

 لقد صاغت البرجوازيةُ الوطنيةُ من سوريا وطناً… وطناً عِمادُهُ المدنيةُ الديمقراطية والمواطنةُ المتساوية… لكنها كانت ديمقراطيةً مدنيةً هشة… محكومةً أبداً بهذا الزحف المهول القادمِ من الريف… لما لا وقد حكمت هذه العلاقةُ الجدلية بين الريف المَقْصي بحُكمِ الفقر والتهميش ونقص التعليم من …ناحية وبين المدينة من ناحية ثانية… حكمت جُلَّ الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للكيانِ السوري الهشِ أصلاً… الهشِ بحُكمِ تعددِ الهوياتِ المعرفية المكونة له.

على أي حال، ذلك العقدُ الأول من حياةِ الوطنِ السوري الهش غدا لاحقاً مرجعيةً -وإن كانت أُحفورية- يَستندُ إليها الطيفُ المثقفُ السوري بشَقَيه الإسلامي والعلماني في دفاعِهِ المستميت عما يدعوه الأصل اللاطائفي للمسألة السورية أو دعوني أقول للمسائل السورية… أبعدَ من هذا، لقد غدت تلكَ الحِقْبَةُ اللاطائفية في منظورِهِ أساساً معرفياً لا يقبلُ الجدل في قراءةِ الحِقَبِ السابقة لها وحتى اللاحقة.

في خِضَّمِ ذلكَ الزحفِ الأول نحو مدنيةٍ ديمقراطيةٍ سورية عابرة للطوائف والإثنيات كان ثمةَ أنموذجٌ معرفيٌ يتكون في أذهانِ الطيفِ المثقفِ السوري… أنموذجٌ صارِخٌ في مواجهةِ المعادلةِ اللبنانيةِ حينَها القائمةِ على المُحاصصة… وفي حينِ قررت النخبةُ البرجوازيةُ اللبنانيةُ التسليم؛ قررت النخبةُ البرجوازيةُ السوريةُ التحدي… تحدي الغياب المرير لهويةٍ معرفيةٍ وطنيةٍ واحدة.

المحاصصةُ الطائفية كانت هي الوريثَ الشرعي لمفهومِ التلزيم وكانت تعني التسليم بحتمية الفشل في الوصولِ إلى هويةٍ معرفيةٍ وطنيةٍ واحدة ذلكَ أنها تحصرُ الصراعَ المجتمعي في إطارِ الهوية وتنفي عنه صبغتَهُ الطبقية… وهذا ما لم تقبلْهُ النُخبُ السوريةُ حينها.

في لبنانَ القريب وفي خِضَّمِ بحثٍ موازٍ عن هويةٍ معرفيةٍ وطنيةٍ جامعة… كان ثمةَ أنموذجٌ معرفيٌ يسود… أنموذجٌ يُدعى المارونيةَ السياسية

المارونيةُ السياسية لم تكن تعني في أي حال شَغْلَ الموارنة لِجُلِّ المناصبِ السياسيةِ والإدارية في الوطنِ اللبناني الناشئ… هذا كان فهماً خاطئاً وحسب، في النهاية، كان ثمةَ المحاصصةُ الطائفية وما تَعْنيه من حمايةٍ لِحصصِ “النُخَبِ الأخرى” في المنظومةِ الإداريةِ والسياسية للدولةِ اللبنانيةِ الناشئة…

المارونيةُ السياسية كانت تعني أنَّ فَهْمَ ومن ثمَ رؤيةَ النخبةِ المارونيةِ حينَها للوطنِ اللبناني قدْ طَبَعَ فَهْمَ ورؤيةَ “الآخرينَ” له… أبعد من هذا، هي كانت تعني أن فَهْمَ النخبةِ المارونيةِ حينَها لذاتِها وللآخرينَ معها في هذا الوطن قدْ طَبَعَ فَهْمَ الآخرينَ لذواتِهم ولها…

بهذا المعنى، هل كان يمكنُ الحديثُ في سوريا حينَها عن “سُنية” سياسية؟ بمعنى هل طَبَعَ فَهْمُ النخبة البرجوازية السورية وكان أغلبُها من العرب السُنة… فَهْمُها للوطن السوري… فَهْمُها للهويةِ الوطنية السورية المُفتَرَضة… فَهْمُها للآخرين ورؤيتُها لهم كعربٍ مسلمين وإنْ بالمعنى الحضاري… هل طَبَعَ هذا الفَهْمُ وهذه الرؤيةُ فَهْمَ الآخرين لهذا الوطن؟ وأبعد من هذا، هل طَبَعَ هذا الفَهْمُ وهذه الرؤيةُ فَهْمَهُم لذواتهم؟

في الواقع، لستُ أمتلكُ الإجابةَ على هذا السؤال الشائك… ليسَ بَعد على الأقل، ولكن دعوني أقولُ التالي: إن كانَ هذا قد حصل فإنَّهُ لم يكن مقصوداً… بمعنى أنَّ البرجوازيةَ الوطنيةَ السورية وإنْ كانت لها هويةٌ معرفيةٌ نابعة من عمقِ الموروثِ العربي الإسلامي فإنها لم تحاول فرضَ هذه الهوية المعرفية على الآخرين من علويينَ ومسيحيينَ ودروزٍ وأكراد… لكنها نَظَرَتْ إليهم كسوريين… سوريينَ يدورونَ في فلكِ رؤيتِها المعرفيةِ إلى الهويةِ السوريةِ المفترضة… الهويةِ المتصالحةِ بنظرِها قطعاً مع موروثِها العربي الإسلامي.

في هذا الفضاءِ المعرفي العربي الإسلامي المنفتحِ على المدنيةِ الديمقراطية كانت تتكونُ البداياتُ الأولى لطبقةٍ وسطى عندَ العلويين… طبقةٍ غضَّ أفرادُها الطَرْفَ عن بقايا موروثِ العُزلةِ الرث وانطلقوا دونَ موانِع إلى الفضاءِ العربي الإسلامي الأرحبِ حينَها… تَغْنَّوا بالحلاج وابنِ رشد وقراؤوا المعتزلةَ والمتصوفة… كانوا في طورِ التحولِ إلى مواطنين… مواطنينَ سوريين… سوريينَ كما نظرت البرجوازيةُ الوطنيةُ السورية حينَها إلى المواطنةِ السوريةِ.

هل كانت تلكَ تقيَّةً أخرى حداثية… أم أنها كانت تصالحاً حداثياً مع الذات ومع الموروثِ العربي الإسلامي الأرحب في سياقِ صَوغٍ حداثيٍ لهويةٍ معرفية… أم أنها كانت توهماً غيرَ أصيل وبالتالي هشاً ولاعَيوشاً في بيئاتٍ قدْ تأتي لاحقاً… بيئاتٍ أكثرَ توحشاً وأقلَّ مدنية… حسناً، ومرةً أخرى، لستُ أمتلكُ الإجابةَ على هذا السؤال الشائك… ليسَ بَعد على الأقل…

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.