د. ميسون البياتي
لو لم يؤسسها السير ( تم برنرز _ لي ) لما ملكنا اليوم شبكة الإنترنت العالمية التي يسرت الإتصالات ونقلت المعلومات وغيرت الكثير من مفاهيمنا في أقل من عقدين من السنوات , ومن المؤمل لها أن تقلب تفكيرنا قلبة نوعية في مدة لن تتجاوز الربع قرن منذ بداية تأسيسها
السير ( برنرز _ لي ) مهندس بريطاني مواليد 8 حزيران 1955 يحمل الدرجة العلمية الأكاديمية ( بروفيسور ) لتأسيسه الشبكة العالمية ( الأنترنت ) عام 1989
قبل هذا التأسيس كان مستخدمو الكومبيوتر لا يتمكنون من نقل معلوماتهم إلا في داخل شبكات مغلقة ومحدودة , أما بفضل جهود هذا الرجل العالم , فقد أصبح بالإمكان نقل المعلومات بكل سرعة ويسر وسهولة الى أي مكان في العالم
ولد ( برنرز _ لي ) لأبوين كانا يعملان في مجال الكومبيوتر في جامعة مانشستر البريطانية , وفي ستينات القرن الماضي حين كان طفلاً صغيراً كان يتسلى بحل المعادلات الرياضية المعقدة على مائدة الطعام , ويؤسس لما كان يتصور أنه ( كومبيوتر ) من صناديق الكارتون الموجودة في المنزل
حين أصبح طالبا في جامعة أوكسفورد , عُثر عليه ذات مرة متسللاً الى قاعة الكومبيوتر محاولا ً فتح ملفاتها للإطلاع على كيفية عملها , فكانت عقوبته الحرمان من إستعمال الكومبيوتر الجامعي . عندها قرر أن يصنع لنفسه كومبيوتره الخاص من مواد موجودة في البيت أما ( المونيتر ) فقد إستعاض عنه بجهاز تلفزيون قديم
بسبب عبقريته في إستخدام الكومبيوتر تم طلبه للعمل ولمدة 6 أشهر فقط في ( المركز الأوربي للبحوث النووية في سويسرا ) عام 1980 , أي حين كان في الخامسة والعشرين من العمر . وخلال هذه الأشهر الستة كان قد بدأ مشروعه الذي أصبح بسببه إنسانا مشهورا
مثل جميع المخترعين العظام كان ( برنرز _ لي ) يحاول حل بعض المشكلات المستعصية الفهم في مجال الكومبيوتر من أجل نفسه هو
الكثير من الملفات في كومبيوتره كانت تحتوي على جداول تنتمي الى جداول أخرى على نفس الكومبيوتر , لكنه لا يعرف كيف يبسط عملية الإرتباط بين هذه الجداول فلا يضطر الى كتابة الجدول عدة مرات , بل مرة واحدة يمكن أن ترتبط أو تدخل الى جميع الملفات الثانوية التي تحتاج الى ذلك الجدول , لذلك كان عليه أن يدرس بدقة متناهية : العلاقات التي تربط هذه الملفات جميعاً معا
ليتمكن من ربط هذه الملفات والجداول ببعضها , إستخدم تقنية معروفة في عالم الكومبيوتر تدعى : ( هايبرتيكست ) التي تستخدم كلمات منتقاة في داخل الملفات لتعمل كأدوات وصل الى نفس الكلمات إن كانت موجودة في الملفات الأخرى , ثم أعطى أرقاما وتسميات الى كل جزء أو مرحلة من الهايبرتيكست وكان ذلك قبل إختراع ( الماوس أو فأرة الكومبيوتر ) حيث لم يكن بالإمكان أن يعمل ( كليك ) على الملف المطلوب . لذلك كان حين يريد إستدعاء ملف معين فإنه يذهب الى الهايبرتيكست ويطبع رقم الملف , عندها فقط يتمكن من الوصول إليه .
قام ( برنرس _ لي ) بتصميم هذا النظام بالتعاون مع زميله ( روبرت كايلاوي ) وإطلق على النظام إسم : إنكوايري
في البداية تم تصميم نظام إنكوايري ليعمل في داخل كومبيوتر ( برنرز _ لي ) وحده , لكن العديد من العلماء في ( المركز الأوربي للبحوث النووية في سويسرا ) كانوا يرغبون التوصل الى الدخول على برامج معلوماتية موجودة على كومبيوترات أخرى موجودة في المركز غير كومبيوتراتهم هم , ولهذا فقد قام ( برنرز _ لي ) بربط جميع الكومبيوترات في المركز بنظام ( إنكوايري ) ليمكن العلماء من الوصول الى هذه الغاية , وبعدها إنتهت مدة تعاقده للعمل فغادر المركز
عام 1984 طلبه المركز من جديد ليعمل على كومبيوتراته , عندها إخترع للمركز نظاما عاما من القوانين والأنظمة حيث إبتدع عدة لغات كومبيوترية سهلة لم يزل نظام الكومبيوتر لحد اليوم يستخدمها وهي لغات
HTML ….. URLs………… HTTP
هذه اللغات الكومبيوترية تنظم قواعد إرسال وإستلام الصفحات وتخزين المعلومات عليها وربطها ببعضها
ثم قام بعدها بإختراع أول نظام متصفح للشبكة ليتمكن من الإنتقال من صفحة الى أخرى على الشبكة , وأخيرا وبعد تفكير صعب وطويل قرر ( برنرس _ لي ) أن يمنح كل هذه العمليات مجتمعة إسماً , عندها كان قراره أن يكون الإسم هو : الشبكة العالمية
أول صفحة على هذه الشبكة العالمية كانت صفحة ( المركز الأوربي للبحوث النووية في سويسرا ) التي أخذت موقعها يوم 6 آب 1991 . في ذلك اليوم أعلن ( برنرز _ لي ) إختراعه على العالم ونيته التواصل مع أية جهة ترغب في ذلك
إندفع العالم بحماس إتجاه هذا المشروع , ومتخصصون في الكومبيوتر من جميع أنحاء العالم بدأوا بالعمل على تطويرات أخرى لهذا الإختراع , بعض هذه التطويرات شملت طرق إضافة الصور والكتابة والمخططات والرسوم , وكسبت الملايين والمليارات من هذه الإبتكارات , لكن ( برنرز _ لي ) وبأخلاق وعقلية عالِم حقيقي .. لم يطلب ثمنا لإختراعه .. ولم يجن منه أي قرش
( برنرز _ لي ) وعلى الدوام , يرى الإنترنت وسيلة يتشارك بها الناس المعلومات حول العالم , وهو يؤمن أن من الضروري أن تكون هذه الوسيلة متاحة لكل البشر . نعم .. الكثير من البشر يستعملون الإنترنت لتبادل السباب والشتيمة والعداوة والبغضاء والكره .. لكن هذا عيب البشر وليس عيب الأنترنت , مثلما يستخدمون السكين لذبح بعضهم , والقلم لكتابة توافه الأمور , ووسيلة النقل للوصول الى مباذل الحياة الرخيصة , من الممكن أن يستخدموا الأنترنت لنشر تجارة المخدرات , وسلعة الجنس , وثقافة العنف , وترهات رجال الدين التي ينسبونها الى الأديان والأرباب بينما لا يقبل تلك الترهات أي عقل سليم .. هذه ليست مشكلة الأداة .. لكنها مشكلة اخلاقيات الإنسان عند إستعماله للأداة . لأن مقابل كل هذا الإسفاف , هناك جوانب إيجابية كبيرة للإنترنت , وهناك بشر كثيرون يستخدمونه لنشر أفكار وبحوث قيمة , لولا الإنترنت ما وجدت طريقها الى النشر
فاز ( برنرس لي ) بعشرات الجوائز الإبداعية , وحصل على الكثير من الشهادات الفخرية , وهو يستحق ذلك فعلا . عام 2004 منحت له جائزة الألفية الأوربية وقيمتها حوالي مليون وربع المليون دولار , وفي نفس العام منحته الملكة إليزابيث الثانية لقب ( قائد فارس للإمبراطورية البريطانية ) . كما إختارته مجلة تايم البريطانية واحدا من أهم 100 شخصية في القرن العشرين , أما في العام 2009 فقد تم إنتخابه في الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح عضوا في الأكاديمية الأمريكية للعلوم
كل هذا طبعا إضافة الى إدارته وإشرافه على العديد من المؤسسات والمنظمات والهيئات التي ترعى شؤون إستخدام الأنترنت حول العالم . وهو بطبعه المتواضع الهاديء يصر على أن شرف كل هذه الإمتيازات لا يخصه هو وحده , لكنه شراكة بين جميع العاملين في هذا المجال الحيوي والدقيق والجديد في حياة البشرية
( تيم برنرز _ لي ) يعلق على كل ما وصل إليه من نجاح وشهرة وتقدير بقوله : لن أغير سيارتي الصغيرة التي أقودها كل يوم بنفسي الى معهد ماساتشوسيست للتكنولوجيا , لأراقب من هناك سير المؤسسة العالمية التي تقاتل من أجل إبقاء الشبكة العالمية للإنترنت قادرة على توفير الخدمة الإنترنتية لكل البشر بغض النظر عن أعمارهم وأوطانهم ومستواهم المعيشي أو إنتمائهم الفكري