ماذا يعرف العرب عن أنفسهم وتاريخهم المعاصر بعيدا عن شعارات دروس التربية الوطنية التي علَّموها لنا في المدارس الإبتدائية المليئة بالأكاذيب .. بحجة إعلاء روحنا الوطنية ؟ وبعيدا عن الخطب الحماسية الرنانة لساستنا أجلهم الله , وبعيدا عن هرطقة الإعلام العربي التي صارت تتقاطع تماما مع حقيقة ما يجري على الأرض , وبعيدا عن ترهات بعض رجال الدين بكل طوائفهم ومللهم وهم يفتون فيما يجعل الناس تردد (( من لم يقل خيرا فليسكت )) . فتاوى في سفاسف أمور مضحكة مبكية يعتبرونها من صلب الدين وقلب الشريعة .. القصد منها إشغال فكر الأمة عن قضاياها المصيرية التي لم يتطرق لها أحد .. لا من قريب … ولا حتى من بعيد .
كيف ينظر العالم لنا ( كعرب ) و ( كشرق أوسطيين ) فالصورة التي يرانا العالم عليها , هي صورتنا التي لانعرف عنها شيئا .. وتلك هي أكبر كوارثنا على الإطلاق , ومسؤول عن تظليلنا جميع حكامنا الذين حكمونا بالكذب والخداع والتظليل .. من أجل أن لاتنكشف صورة عمالتهم هم ( جميعا وبلا إستثناء ) والتي حين سيكتشفها المواطن فيما بعد فلن يتوانى عن ترديد كل ما في جعبته من نعوت .. ليشفى غليله .
لتشخيص علة الوطن العربي اليوم , علينا أن نعود قليلا الى الخلف لنبدأ رحلتنا مع العرب من نقطة نهاية الحرب العالمية الأولى عند صدور قرار الإنتداب وتسلم بريطانيا وفرنسا الوصاية على الوطن العربي بعد تقسيمه الى دول , وتنصيب الملوك والرؤساء على تلك الدول كحكام شكليين يحركهم ( الحاكم العام ) البريطاني أو الفرنسي .
من أكثر الرسائل أهمية والتي تثير الدهشة بما تملكه من تخمين صارخ صحيح ورد فيها , عما سيؤول إليه الوضع في المنطقة العربية هي المذكرة التي كتبها الكولونيل ماينر تزهاجن السكرتير العسكري ل ( اللورد اللنبي الحاكم البريطاني العام على مصر ) إلى رئيس الوزراء لويد جورج عام 1920 والتي سأدونها كاملة لما لها من أهمية .
(( عزيزي رئيس الحكومة :
طلب مني أن أرسل إليكم مذكرة غير رسمية عن السيادة على سيناء . وهو موضوع له عندي أهمية خاصة ، ليس بالنسبة إلى الظروف الراهنة فحسب , بل بالنسبة إلى السنوات المقبلة أيضا . واسمحوا لي بتناول هذا الموضوع باسهاب لأننا يجب أن نتعامل بحكمة قصوى ، عند سماحنا لليهود ، بإنشاء وطنهم القومي في فلسطين .
لقد حررنا العرب من النير التركي ، لكننا لن نستطيع البقاء في مصر إلى الأبد ، أضف إلى ذلك أن اليهود رغم شتاتهم لكنهم يمتازون بولائهم ورقة شعورهم وعلمهم . كما أنهم قدموا لبريطانيا أحد رؤساء حكوماتها الممتازين .
سيتمسك العرب واليهود من الآن وإلى خمسين سنة مقبلة بقوميتهم , وسوف يزدهر الوطن القومي اليهودي إن عاجلا أو آجلا ، ويصل الى مرحلة السيادة . وإني أفهم أن بعض أعضاء حكومة جلالته ( ملك بريطانيا ) يتطلعون إلى هذه المرحلة .
كذلك ستتطور القومية العربية إلى مرحلة المناداة بالسيادة من المحيط إلى الخليج ، ومما لا شك فيه أن السيادة العربية واليهودية ستصطدمان . وإذا قدر لمشروع الهجرة اليهودية إلى فلسطين النجاح ، فإن الصهيونية ستتوسع على حساب العرب دون سواهم . وسيبذل العرب قصارى جهودهم للقضاء على قوة وعظمة فلسطين اليهودية ، وهذا سيعني سفك الدماء .
بريطانيا تتحكم الآن في الشرق الأوسط ، ونحن لا نستطيع أن نكون أصدقاء للعرب واليهود في آن واحد , وأني أقترح منح الصداقة البريطانية لليهود وحدهم بتقدير أنهم الشعب الذي سيكون صديقنا المخلص الموالي في المستقبل . إن اليهود مدينون لنا كثيرا ، وهم يحفظون لنا هذا الجميل وسيكونون ثروة لنا بعكس العرب ، الذين سيبقون سلبيين معنا برغم كل خدماتنا لهم .
فلسطين ستكون حجر الزاوية في الشرق الأوسط ، فبينما تحدها الصحراء من جهة ، يحدها البحر من جهة أخرى ، ولها ميناء طبيعي ممتاز ، هو أحسن ميناء على ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي ، ثم أن اليهود برهنوا على كفاءتهم الحربية منذ احتل الرومان البلاد , في حين يمتاز العرب بقسوتهم في الحرب ، وحبهم للسلب والتدمير والقتل .
والآن دعني أتكلم عن فلسطين بالنسبة إلى مصر ، ففي حالة تواجد السلاح من طائرات ودبابات , سيكون الفصل في المعركة للسلاح الأحدث ، وللشجاعة وقوة الأعصاب والصبر ، ولذلك فإني أرى مصر هي العدوة المسلحة ضد اليهود .
بوصول القوميتين العربية واليهودية الى مرحلة السيادة ، وفي حالة خسارتنا قناة السويس فإن بريطانيا ستخسر مراكزها في الشرق الأوسط . لذلك ومن أجل تعزيز مواقعنا في مصر ، أقترح ضم سيناء إلى فلسطين .
قبل سنة 1906 لم تكن الحدود التركية المصرية ممتدة من رفح في الشمال إلى رأس خليج العقبة , وكان شرقي سيناء وجنوبيها قسما من الحجاز الخاضع للعثمانيين .
منذ تشرين الأول سنة 1906 فقط , منحت الدولة العثمانية الى مصر حق إدارة سيناء حتى الخط الممتد من رفح إلى رأس خليج العقبة. أما ملكية سيناء فبقيت لتركيا , وقد احتلها اللورد اللنبي بجيشه البريطاني , ودون أن يدافع عنها المصريون ( لأنها ليست أرضهم ) لذلك أصبح مصيرها منوطا بقرار من الحكومة البريطانية المحتلة وحدها .
في حالة ضم سيناء الى فلسطين نربح حدا طبيعيا فاصلا بين مصر وفلسطين ونثبت لبريطانيا مركزا قويا في الشرق الأوسط بين القوميتين : اليهودية والعربية , وشتان بينهما : فالأولى تمتاز بحيويتها ونشاطها , في حين تمتاز الثانية بكسلها وخمولها المكتسبين من الصحراء .
ضم سيناء الى فلسطين سيؤمن لنا اتصالاً سهلاً بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وقاعدة استراتيجية واسعة النطاق مع ميناء حيفا الممتاز الذي سنستعمله بموافقة اليهود .
ومن حسنات هذا الضم أنه سيحبط أية محاولة مصرية لاغلاق القناة في وجه ملاحتنا ، كما سيمكننا من حفر قناة ثانية تربط بين البحرين : الأبيض المتوسط والاحمر , ثم أن ضم سيناء لن يثير أية قضية قومية ضدنا ، إذ أن البدو الرحل المقيمين فيها لا يتجاوزون بضعة آلاف . ))
إنتهى نص المذكرة الذي تتنبأ بأن مصر ستحارب إسرائيل , قبل 28 سنة من تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين وقبل 36 سنة من وقوع أول حرب ( لمصر منفردة ) مع إسرائيل , وهي حرب السويس 1956 . فلماذا تحارب مصر إسرائيل ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال دعونا نبحث في مكان آخر عن الماهية التي سيتم بها بلورة موقف عربي موحد أو شبه موحد من قضية ما … ونقصد بذلك ( الجامعة العربية ) . وللتعرف على مصداقية قرارات وحلول هذه الجامعة , يجب أن نسال أولا لماذا تأسست الجامعة , ومن الذي أسسها ؟ وكيف تحدد مسارها ؟
حين إنتهت الحرب العالمية الأولى ثم أعقبها الكساد العالمي الكبير وألقى بظلاله الكئيبة على جميع دول العالم , مما أدى الى إندلاع الحرب العالمية الثانية , أثناء فترة تلك الحرب فهم البريطانيون وبدون أدنى شك , أن الولايات المتحدة الأمريكية ستسعى الى وضع يدها على مناطق من الشرق الأوسط .. مما يعني خسارة للبريطانيين .
حتى لا يكون الصراع ( البريطاني _ الأمريكي ) مكشوفا , وإنما على شكل حرب بالنيابة , تحارب فيها ( بريطانيا بواسطة العرب ) _ ( اليهود الذين تدعمهم الولايات المتحدة الأمريكية ) . لذلك كان على بريطانيا أن تتصرف بذكاء مستغلة إحساس العرب أنهم أمة واحدة تسعى الى التوحد من جديد من أجل بلورة موقف موحد للعرب تقودهم من خلاله الى تلك الحرب . ولهذا حثت بريطانيا العرب على تأسيس الجامعة العربية .
ألقى أنتونى إيدن وزير خارجية بريطانيا خطابا في مايس 1941 قال فيه : (( إن العالم العربى قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية ( يقصد التقسيم ) التي وقعت عقب الحرب العالمية الأولى . يتمنى كثير من مفكرى العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة , أكبر مما تتمتع به الآن . وإن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في مساعيهم نحو هذا الهدف ولا ينبغى أن نغفل الرد على طلب أصدقائنا هذا , إذ يبدو أنه من الطبيعى ومن الحق أن تكون هنالك تقوية للروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية وكذلك الروابط السياسية أيضاً … وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأى خطة تلقى موافقة عامة )) .
شباط 1943 عاد إيدن للتصريح في مجلس العموم البريطانى بأن الحكومة البريطانية : (( تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمى إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية )) .
بعد شهر من تصريح إيدن أمام مجلس العموم قام رئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس بتأكيد استعداد الحكومة المصرية لاستطلاع آراء الحكومات العربية في موضوع ( شكل ) هذه الوحدة فدعا الى عقد مؤتمر لمناقشة الشكل المقترح .
وبعد عدة أشهر ، دعي كل من رئيس الوزراء السورى جميل مردم , ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية بشارة الخورى , للتباحث معهما في القاهرة حول موضوع إقامة ( جامعة عربية ) لتوحيد صف العرب .
بدأت بعدها سلسلة من المشاورات بين مصر من جانب وممثلى كل من العراق وسوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية والأردن واليمن من جانب آخر .
في الفترة 25 من سبتمبر _ إلى 7 من أكتوبر 1944 توصلت المباحثات الى الإتفاق على شكل وحدة لا يمس استقلال الدول العربية وسيادتها أطلق عليه إسم : (( جامعة الدول العربية )) . ثم وضع بروتوكول الإسكندرية الذى يعتبر أول وثيقة تخص الجامعة وينص على المبادئ التالية :
# قيام جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة التى تقبل الانضمام الى الجامعة .
# يكون لها مجلس تمثل فيه الدول المشتركة في الجامعة على (( قدم المساواة )) .
# مهمة مجلس الجامعة هى : مراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول الأعضاء فيما بينها من اتفاقيات وعقد اجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها والتنسيق بين خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيما بينها وصيانةً لإستقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل السياسية الممكنة ، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية .
# قرارات المجلس ملزمة ( لمن يقبلها ) فيما عدا الأحوال التى يقع فيها خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة ويلجأ الطرفان إلى المجلس لفض النزاع بينهما . ففى هذه الأحوال تكون قرارات المجلس ( ملزمة ونافذة ) .
# لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة كما لا يجوز اتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة من دولها .
# يجوز لكل دولة من الدول الأعضاء بالجامعة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام وروحها .
# الاعتراف بسيادة واستقلال الدول المُنْضَمّة إلى الجامعة بحدودها القائمة فعلاً .
# ضرورة احترام استقلال لبنان وسيادته .
# تعد فلسطين ركناً هاماً من أركان البلاد العربية وحقوق العرب فيها لا يمكن المساس بها من غير إضرار بالسلم والاستقلال في العالم العربى ، وعلى الدول العربية تأييد قضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة .
# تشكيل لجنة فرعية سياسية من أعضاء اللجنة التحضيرية للقيام بإعداد النظام الداخلي لمجلس الجامعة ، وبحث المسائل السياسية التى تبرم الإتفاقيات فيها بين الدول العربية .
وقّع على هذا جميع رؤساء الوفود المشاركة في اللجنة التحضيرية يوم 7 أكتوبر 1944 عدا السعودية واليمن اللتين وقعتاه في 3 يناير 1945 و 5 فبراير 1945 على التوالى بعد أن تم رفعه إلى كل من الملك عبد العزيز آل سعود , والإمام يحيى حميد الدين الذي يحكم اليمن .
بروتوكول الإسكندرية هو الوثيقة الرئيسية التى إنبثق عنها ميثاق جامعة الدول العربية الذي شارك في إعداده كل من : ( اللجنة السياسية الفرعية التى أوصى بروتوكول الإسكندرية بتشكيلها ) و ( مندوبى الدول العربية الموقعين على البروتوكول ) و ( مندوب عن كل من السعودية واليمن ) و ( مندوب الأحزاب الفلسطينية كمراقب ) .
أُقر الميثاق بقصر الزعفران بالقاهرة في 19 مارس 1945 وتعين المصري السيد (عبد الرحمن عزام ) الوزير المفوض بوزارة الخارجية المصرية كأول أمين عام للجامعة لمدة عامين .
22 مارس 1945 تم التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية من قبل مندوبى الدول العربية عدا السعودية واليمن اللتين وقعتا على الميثاق في وقت لاحق . وحضر جلسة التوقيع ممثل الأحزاب الفلسطينية وأصبح يوم 22 مارس من كل عام هو يوم الإحتفال بالعيد السنوى لجامعة الدول العربية .
رغم أن المد الأمريكي الى منطقة الشرق الأوسط سيكتسح النفوذين البريطاني والفرنسي , إلا أن الأطر والسياقات التي كانت معمولا بها والتي أسستها دول الإنتداب ( بريطانيا وفرنسا ) ظلت سارية . ومن هذه الأطر والسياقات نشير الى :
* الحدود التي تفصل أقطار الوطن العربي
* جامعة الدول العربية .
نعترف كلنا .. ( نحن ومستعمرونا ) على أن الحدود الفاصلة بين دولنا العربية هي حدود مصطنعة , ولكن لا ندري عبارة (( على قدم المساواة )) في الفقرة الثانية من بروتوكول الإسكندرية ماذا تعني !!؟؟ وفيما إذا كان العرب قد أوكلوا الى مصر أمر الوصاية عليهم أم لا ؟ .. فمنذ يوم التأسيس , تصرفت مصر مع الجامعة العربية .. بإعتبارها ( جامعة مصرية للعرب ) . فإلى أي حد من الممكن أن تصل إليه مناقشات أعضاء الجامعة … في الختام تكون موافقة الحكومة المصرية شرطا واجبا لإقرار أي قرار أو رفضه من قبل الجامعة .
كما أن الأمين العام للجامعة العربية ومنذ ذلك اليوم , وبلا أي جدال .. يجب أن يكون مصريا حتى لو كان أقل كفاءة من نظرائه العرب .
ولم يخرج مقر الجامعة العربية من مصر , مع أن تحريك موقع المقر في فترات دورية ( كل عشر سنوات مثلا ) من بلد الى آخر , من الممكن أن يكشف الكثير من الملفات التي تم ( طمرها ) لهذا السبب أو ذاك .
شذَّت عن كل ذلك , الفترة ( منذ توقيع السادات على معاهدة التطبيع المصرية الإسرائيلية ثم المقاطعة العربية لمصر , وسحب الجامعة العربية الى تونس وتعيين السيد الشاذلي القليبي أمينا عاما لها _ وحتى زيارة حسني مبارك للعراق نهاية الثمانينات , حيث إستقبله الرئيس صدام حسين بحفاوة بالغة وخلع عباءته وألقاها على كتف الرئيس حسني مبارك بمعنى إعادة مصر الى الصف العربي ) عندها عادت مقرات الجامعة الى القاهرة وعاد أمينها العام مصريا منذ ذلك الحين .
مصر من جانبها لم تدخر وسعا في خرق مواثيق الجامعة العربية , لن نتكلم عن مقدار الإنقلابات التي وقعت في الدول العربية بتدبير مصري , بل نتكلم عن الإجتياحات العسكرية التي قامت بها الحكومة المصرية للدول العربية , فقد إجتاحت اليمن وقسمته الى يمنين , وأرسلت قواتها الى الجزائر بحجة مناصرة الجزائريين في حربهم ضد الفرنسيين .. غير أن الحقيقة كانت أنها تفعل ذلك لمصلحة إستفراد الأمريكان بشمال إفريقيا , وإجتاحت ليبيا في زمن السادات , وكانت مسؤولة عن إشعال الحرب في لبنان , ثم إجتاحت السودان في منطقة حلايب , وأخيرا فقد شاركت الحلف الأمريكي لتغزو العراق عام 1991 . كل هذا وهي ممسكة ( بعصمة ) الجامعة العربية بقبضة قوية .
هل مصر وحدها التي تمارس مثل هذا الدور في المنطقة ؟ كلا طبعا .. الأمانة التاريخية تحتم علينا أن نشير الى أن الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية , شهدت صعود 6 دول تسعى الى زعامة المنطقة وكل لها مبرراتها وأساليبها .
# ايران : أريامهر الشاهنشاهية , وهي تعوم على بحر من البترول الذي تهدي أمواله الى أوربا والغرب على شكل هدايا وعطايا وهبات , متباهية بتاريخها الآريامهري الذي يمتد الى آلاف من السنين . ثم تحولها الى ايران الإسلامية التي تسعى الى تصدير زعامتها الى المنطقة عن طريق تصدير التشيع تحت مسمى ( تصدير الثورة الإسلامية ) .
# تركيا العلمانية : التي كانت الى ما قبل عقود ( دولة عثمانية ) تحتل الشرق الأوسط برمته وأجزاء من أوربا وهي تسعى الى إعادة مجدها القديم بشنها ( حرب مياه ) على جيرانها , وحرب تجارة .. وحرب أحلاف عسكرية .. وإلا ما معنى مناوراتها العسكرية المشتركة مع إسرائيل بين حين وآخر ؟
# العراق : بموقعه الحيوي في قلب المنطقة التي تتوسد المعبر القاري بين ثلاث قارات هي أسيا وأوربا وأفريقيا , وبما جلبته له ثروة النفط من عوائد . والحضارات الموغلة في القدم التي عاشت على أرضه , ووجود جثامين آل البيت الأطهار والحوزة العلمية في النجف وكربلاء , مؤهلات جعلت العراقيين , يرون أن من حقهم أن يحوزوا زعامة المنطقة , لذلك لم يدخر صدام حسين ( حارس البوابة الشرقية ) وسعا في إدخال العراق والعراقيين في العديد من المتاهات والحروب سعيا وراء تحقيق ذلك الهدف .
# السعودية : بما هبط عليها من ثروات خيالية خرجت من باطن الأرض فقلبت حياة أمرائها بين ليلة وضحاها من الضد الى الضد , ثم وديارهم تضم حرمي مكة والمدينة التي يؤمها الحجيج من كل بقاع الأرض تجد من حقها أن تمتلك زعامة المنطقة , وبدأت أيضا بالمناداة بتشددها الديني و ( وهابيتها ) التي ترى فيها معادلا موضوعيا لتصدير إيران للتشيع .
# مصر: التي ترى في موقعها الحيوي بين البحرين الأبيض المتوسط والأحمر وإمتلاكها لقناة السويس وكثافتها السكانية العالية وحضارتها الفرعونية و( إمتلاكها ) للجامعة العربية ما يؤهلها لزعامة المنطقة .
# واخيرا .. إسرائيل : الدولة العبرية التي يرى أهلها أنهم شعب الله المختار , المدعومون من الغرب بلا حدود ولا تحفظ . والذين يديرون أكبر رؤوس الأموال حول العالم , والذين سيجعلون القدس عاصمتهم مهما غلت التضحيات , لإحياء مجدهم المزعوم لداؤود وسليمان ( عليهما السلام ) . إسرائيل ترى من حقها أيضا أن تتزعم المنطقة .
ست دول تتصارع على هدف واحد في منطقة محدودة , وكل واحدة تطرح على الكل برامجها وآيديولوجياتها .. فهل يتصور أحد مقدار الخراب الثقافي والإجتماعي والقيمي , ماديا ومعنويا , الذي يوقعه ذلك على أفراد المجتمع الذي يعيش في كل المنطقة ؟
آخذين بنظر الإعتبار أن كل دول المنطقة لا تسير بآليات بعيدة الأجل , وإنما بخطط قصيرة الأمد سرعان ما تتغير .
زعامة العراق بدأت ( علمانية ) ثم فجأة أعلنت عن حملتها الإيمانية , مصر التي تحاول إثبات أنها ( قلب العروبة النابض ) تتخلى فجأة عن شعاراتها العربية وتبدلها بشعارات ( فرعونية ) . ايران الشاهنشاهية إنقلبت على نفسها تماما حين تحولت الى ايران الإسلامية . أما تركيا العلمانية فهي حائرة اليوم بين خيارين لا تدري أيهما أجدى لها : أن تركب موجة الإسلام وتبقى تراوح في مكانها , أم تواصل علمانيتها لتلحق بسباق الإتحاد الأوربي !!؟ حتى إسرائيل التي تدعي أنها ( مُحاربة ) من قبل كل العرب , صارت تحارب كل العرب وتسعى الى التوسع .
وبالمحصلة .. ما الذي يعكسه كل هذا من تذبذب على أساليب حياة البشر وتفكيرهم ؟ كان الله في عون مواطن المنطقة في كل أقطارها .
من أقذر مظاهر الصراع بين هذه الدول على زعامة المنطقة .. هو الحرب اللبنانية . فبعد أن وقع السادات على معاهدة التطبيع مع إسرائيل , وتعهد لها بإيقاف العمل الفدائي المنطلق إتجاهها من غزة التي كانت تحت حكم مصر .. أوعز الى ( الجامعة العربية ) بتخويل سوريا حق إرسال قواتها الى لبنان بحجة ( حماية اللبنانيين من التعديات الإسرائيلية ) . لكن حقيقة التخويل كانت ( لطرد الفلسطينيين من لبنان التي نزحوا إليها بعد أن طردهم الملك حسين من الأردن ) ومصر في ذلك الوقت وعبر ( الجامعة العربية ) كانت تحمي إسرائيل من الهجمات الفدائية القادمة من لبنان .
أما دول الصراع فقد إستعملت لبنان ساحة رخيصة لقتالها , ايران ساندت الأحزاب الشيعية , والسعودية ساندت الأحزاب السنية , والعراق ساند الفلسطينيين , وقامت إسرائيل بدعم المليشيات المسيحية , فإشتعلت لبنان , قتل فيها اللبنانيون والفلسطينيون بجرائم يندى لها جبين حتى من لا شرف له .
القذارة الثانية .. كانت الحرب العراقية الإيرانية .. نعم عُلِّقتْ الحرب برقبة صدام .. لكن كل الدول المتصارعة على الزعامة كانت مسؤولة عنها .. مصر والسعودية ودول الخليج وحتى تركيا وإسرائيل , كل بطريقتها الخاصة وأسلوبها المبتكر .
ويجب أن نلاحظ أن كل دول الصراع ( عدا إسرائيل ) كانت .. ومازالت ترفع شعارات تحرير فلسطين ونصرة أهلها على كامل ترابهم … غير أن علينا ان لا ننسى أن كل ذلك مجرد ( شعارات ) من أجل إستهلاك مواطني المنطقة , يُبِرَّر به ما تقوم به كل جهة صراع من أفعال عدوانية إتجاه أية جهة ثانية , واضعين نصب أعيننا أن قضية فلسطين .. تاجر بها حتى أهلها من الفلسطينيين , دون أن تهمهم أرضهم ولا مواطنيهم , ولسان حالهم يقول : ( ليس بالإمكان .. أفضل مما كان ) .
أما واجهة الصراع الوطني الفلسطيني مع إسرائيل , ويقصد بها منظمة التحرير الفلسطينية , فيرجى البحث عن دور مصر في تأسيس هذه المنظمة من أجل إبقاء الصراع بين المنظمة وبين إسرائيل مشتعلا بما يخدم المصالح المصرية وليس الفلسطينية .. أما حين ( طبَّعت ) مصر مع إسرائيل من أجل إستعادة سيادتها على سيناء , فلم يكن أسهل على ( جامعتها ) العربية من أن تخول بضرب منظمة التحرير وكل الفصائل الفلسطينية على أرض لبنان .
هذه هي حقيقة الواقع العربي .. فهل يريد أحد النظر إليه من خلال فرقة ( مزيكة حسب الله ) المؤلفة من بوق الحاكم العربي وطبول أجهزة الإعلام ؟
نعود الى مذكرة الكولونيل ماينر تزهاجن التي نصح فيها حكومته أن تُلحق سيناء بفلسطين , ونلاحظ أن حكومته لم تلتزم بتلك النصيحة , فعلى الرغم من أن بريطانيا كانت قد أعطت الى اليهود وعد بلفور عام 1917 بتأسيس ( وطن قومي ) لهم في فلسطين .. إلا أنها لم تمنحهم وعدا بتأسيس ( دولة يهودية ) , ربما هناك تشابه في الألفاظ .. لكن المعنيين مختلفين تماما , فأن تسمح بريطانيا لليهود ( أن يقدموا للعيش في فلسطين تحت الحكم البريطاني ) شيء .. وأن ( يؤسسوا لهم دولة ذات حكومة مستقلة عن بريطانيا ) شيء آخر .
ورغم أن بريطانيا كانت تحكم فلسطين فعليا منذ عام 1918 إلا أنها لم تسمح لهجراتهم بتأسيس هذه ( الدولة اليهودية ) .
بريطانيا تعلم جيدا أن إلحاق سيناء بفلسطين قد يؤدي الى فقدان البريطانيين تنفذهم في البحر الأحمر عندما ستتأسس ( الدولة اليهودية ) بمعاضدة أمريكية , وبحكم كون البريطانيين كانوا واثقين من إحكام قبضتهم على مصر , لذلك كان من الأجدى لهم أن تلتحق سيناء بمصر .
قلنا إن الجامعة العربية تأسست في 22 مارس 1945 بناء على رغبة بريطانية تريد توحيد الصف العربي إستعدادا ( لإستعماله ) في قضية ستقع لاحقا .. وسرعان ما وقعت هذه القضية حين إنتهت الحرب العالمية الثانية التي أفضت عن تقاسم جديد لمناطق النفوذ حول العالم , منحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية دعمها لليهود فتأسست ( الدولة اليهودية ) في فلسطين .
بعد قرار تقسيم فلسطين الذي صدر يوم 29 نوفمبر 1947 مباشرة عم العصيان والتمرد بين عرب فلسطين . دعمت بريطانيا العصيان بشكل غير مباشر , لأن قرار تقسيم فلسطين كان معناه أن تخرج بريطانيا منها ( خرجت من فلسطين تماما عام 1948 ) .
تحت قيادة جامعة الدول العربية قامت جيوش من دول الجامعة بالتوجه الى فلسطين ( لنصرة الفلسطينيين ) يستثنى من ذلك أن اليمن والسعودية لم ترسلا جيوشهما . حين قامت جيوش من مصر والعراق وسوريا ولبنان ومملكة شرق الأردن بالدخول في حرب مع إسرائيل .. نعم كانت تلك الجيوش تحارب بنخوتها العروبية , لكن الحقيقة هي أن بريطانيا كانت ( تستعمل ) هذه الجيوش للحرب مع الولايات المتحدة الأمريكية وواجهتها إسرائيل للمحافظة على المصالح البريطانية في فلسطين .
دول عربية كلها كانت واقعة تحت الإنتداب البريطاني أو الفرنسي .. من يسمح لها أن تدخل حربا .. إذا كانت الدول الوصية عليها لم تسمح بذلك ؟ إن لم تكن تلك الدول الوصية هي التي أمرت بالحرب ؟
تمخضت الحرب عن هزيمة الجيوش العربية , وبعد الحرب ضمَّت مملكة شرق الأردن الضفة الغربية الى أراضيها وتكونت من كل ذلك ( المملكة الأردنية الهاشمية ) .
فرنسا .. كانت دولة ( مقدور عليها ) , ولكن من يقدر على بريطانيا ( العظمى ) ؟
كان على إسرائيل والولايات المتحدة ( طرد ) البريطانيين من أقوى دولتين عربيتين في المنطقة ألا وهما مصر والعراق , حتى لا تشكل بريطانيا مصدر إزعاج دائم بتحريك عرب البلدين , حيث توجد الكثافة السكانية العالية التي تستطيع تجهيز جيوش كبيرة , لذلك أطيح بالملك فاروق ومعه الحاكم العام البريطاني على مصر عام 1952 , فيما أطيح بالملك فيصل الثاني ونفوذ السفارة البريطانية في العراق وكل القواعد العسكرية البريطانية عام 1958 .
تحولت مصر الى جمهورية , لكن القواعد العسكرية البريطانية بقيت على أراضيها , كما أن فرنسا كانت موجودة في قناة السويس , لذلك كان على الولايات المتحدة الأمريكية إستدراج جميع الأطراف الى حرب تحقق لها الإنفراد بحكم مصر والتأثير عليها .
لماذا وكيف وقعت حرب السويس عام 1956 ؟
قرار التقسيم الذي أدى الى تأسيس إسرائيل منح إسرائيل خطا ساحليا طوله 5 ميل على خليج العقبة , فقامت على الفور بتأسيس ميناء إيلات عليه . وكانت تبغي إستعمال ميناء إيلات من أجل تجارتها الصادرة والواردة مع دول آسيا وإفريقيا , دون أن تكون مضطرة الى تحمل الحاجة الى علاقة مجاملة مع المصريين , أو إضطرار دفع رسوم عبور قناة السويس لهم . ودون أن يكون على السفن القادمة أو المغادرة من والى إسرائيل قطع الطريق الطويل عبر مضيق جبل طارق ثم رأس الرجاء الصالح لهذه الغاية .
من أجل أن تجبر مصر الإسرائيليين على إستعمال قناة السويس , كان عليها أن تبطل لهم فاعلية ميناء إيلات , ولهذا فقد قامت بالتالي :
في النقطة التي يقارب فيها خليج العقبة على الإندماج مع البحر الأحمر نلاحظ وجود بروز في السواحل السعودية في منطقة تبوك يمتد الى مياه الخليج ويدعى ( راس الشيخ حْمَيِّد ) يقابله من جانب الساحل المصري في شبه جزيرة سيناء بروز آخر يدعى ( راس نصراني ) بحيث يشكل هذان الرأسان المتقابلان أضيق نقطة في خليج العقبة . وبين هذين الرأسين تقع جزيرتا ( تيران و صنافير ) قامت مصر بتأجيرهاتين الجزيرتين من السعودية حيث تعود ملكيتهما … متى وكيف وقع الإيجار ؟ لا أدري .. بحثت في كل ما وقع تحت يدي من مصادر ولم أجد تطرقا الى ذلك , فالمصادر العربية والأجنبية ترغب ( التعمية ) على الموضوع .
جزيرة تيران مساحتها ( 80 كم مربع ) والمشكلة ليست في الجزيرة نفسها ولكن في ( مضائقها ) وللحديث عن هذه المضائق سأضطر الى تسميتها بأسمائها الأجنبية التي منحت لها فيما بعد عند سحب السيطرة عنها من السعودية ( مالكتها ) , ومصر ( مؤجرتها ) ووضعها تحت الإدارة الدولية .
الساحل الشمالي الغربي لجزيرة تيران يدعى اليوم ( كورموران ) يخرج منه لسان صخري طويل يمتد الى الشمال يدعى ( نورث لاكونا ) , وآخر صغير يمتد الى الجنوب يدعى ( لاكونا ريف ) . بعد 65 متر الى الغرب من لاكونا ريف يظهر رأس صخري صغير يدعى ( جاكسون ريف ) وتحته بروز صخري طويل يمتد الى الجنوب الغربي يدعى ( وود هاوس ريف ) تفصله فتحة مائية عرضها 60 متر عن بروز صخري آخر يدعى ( توماس ريف ) وبعد حوالي 60 متر يظهر رأس صخري آخر يدعى ( جوردان ريف ) .
أما جزيرة صنافير فمساحتها ( 33 كم مربع ) وشكلها يشبه سمكة قرش عملاقة تسبح الى الجنوب الشرقي من جزيرة تيران .
بوجود مصر في سيناء من جهة , وسيطرتها على هاتين الجزيرتين اللتين تغلقان خليج العقبة بإعتبارهما مانعا طبيعيا لا يمكن إختراقه من جهة أخرى , فإنها بذلك تقفل على إسرائيل منفذها البحري الى أفريقيا وآسيا , وتنهي لها تماما قيمة ميناء إيلات , وتضطرها مرغمة الى إستعمال قناة السويس .
أضافت الحكومة المصرية الى ذلك تشجيعها الفدائيين الفلسطينيين على شن غارات على إسرائيل من قطاع غزة الواقع وقتها تحت سيطرة مصر , ثم قيام الحكومة المصرية بتأميم قناة السويس بحجة نيتها بناء السد العالي الذي ( يرفض ) البنك الدولي الأمريكي إقراضها المال لبنائه فأثارت حنق فرنسا الشديد لا على المصريين .. وإنما على الأمريكان الذين يحركونهم . خصوصا وأن فرنسا كانت ذلك الوقت تتكبد الأهوال على يد الأمريكان من أجل طردها من فيتنام في نفس الوقت , ناهيك عن أن الجنرال ديغول كان قد تعرض من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي الى ما يقرب من 100 مؤامرة ومحاولة إنقلاب ومحاولة إغتيال من أجل الإطاحة به لإنهاء نفوذه في شمال إفريقيا .
عندها تصعد الموقف الى إعلان الحرب عام 1956 من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر , فقامت اسرائيل بإحتلال شبه جزيرة سيناء بالفعل ورفضت إعادتها الى مصر , كما رفضت الولايات المتحدة دعم الجنية الإسترليني البريطاني الذي كان يعاني من وضع حرج في أسواق المال . مما إضطر بريطانيا الى الموافقة على إجلاء كامل قواتها عن مصر , من أجل الحصول على الدعم المالي الأمريكي , عندها قامت الأمم المتحدة بنشر قواتها على طول الحدود الفاصلة بين مصر وإسرائيل , فإنسحبت إسرائيل من سيناء .
وقد عدت حرب السويس نصرا على المستويين المصري والأمريكي , نظرا لأنها تمخضت عن طرد البريطانيين والفرنسيين من مصر .
علينا أن نلاحظ أن الدول الستة المتصارعة على زعامة الشرق الأوسط جميعها , هي واجهات للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط , وأن السياسة الأمريكية هي التي تخطط وتدير الصراع بين هذه الدول من أجل إبقاء المنطقة تحت سيطرتها .
إذا نظرنا الى هذه الدول جميعا , سنجد إسرائيل هي الكيان الوحيد ( الدخيل ) على المنطقة . بينما بقية الدول جميعا ترتبط بعاملين من أشد العوامل التي تؤدي الى الوحدة لا الى الفرقة وهما : عامل الدين الإسلامي , وعامل القومية .
تم ضرب عامل الدين بالمذهبية ……. ولذلك تقرن تركيا بالعلمانية , وايران بالشيعية , والسعودية بالوهابية .
أقطار أخرى مثل العراق ولبنان , يتم اليوم شق عراها الوطنية بواسطة اللعب على هذا العامل .
بينما تلعب المذهبية لعبتها بطريقة اخرى في أقطار مثل سوريا التي تحكمها أقلية شيعية على أغلبية سنية , أو البحرين التي تحكمها حكومة سنية على أغلبية شيعية …
ولو عدنا وسألنا : من هم الشيعة أو السنة أو الوهابية أو حتى الترك العلمانية ؟
سنجدهم كلهم أمة واحدة مسلمة , الله ربها ومحمد نبيها والقرآن كتابها , قد يختلفون في الإجتهاد والتفسير , لكن ذلك ينبغي أن يكون ( عنصر تنوع ) يثري فكر الأمة في مواجهة متطلباتها , لكننا في الحقيقة سنلمس انه أصبح ( عنصر هدم ) يجهد الأمة بعوامل تزيد من فرقتها وضعفها .
اللعب على العامل القومي أدير بشكل مختلف . هناك عداء تاريخي مزمن بين الترك والفرس , لذلك لا داعي من القلق بشأن تقاربهما المستحيل .
وهناك كراهية مزمنة بين العرب والترك بحكم كون العرب عانوا لقرون من الإحتلال العثماني المقيت لهم لذلك لن يحصل بينهما أي تقارب .
منذ منتصف القرن الماضي تم اللعب على العلاقة العربية الفارسية , تمخض عن إحتلال ايران الفارسية لجزر طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى في سبعينات القرن الماضي , وكان رد الفعل هو إنهاء علاقة دول الخليج مع ايران .
توج هذا الإنهاء بإشعال الحرب العراقية الإيرانية , فعمت بين العرب والفرس حالات من العداء والشك … في حين أننا نجد وقبل حوالي 60 سنة , أيام كان العرب والفرس يخضعون للنفوذ البريطاني … شاه إيران كان متزوجا من فوزية أخت ملك مصر , وينادي الشاه بالملك فاروق ( ملكا على العرب والمسلمين ) إذن مالذي تغير ليقلب الموازين بهذا الشكل ؟
طبيعة الموقع على الأرض ستفصل لنا الصراع الشرق أوسطي الى دائرتين رئيسيتين : في الدائرة الأولى هناك مصر وإسرائيل وتركيا , وفي الدائرة الثانية هناك العراق والسعودية وإيران .
حين تتقارب اسرائيل مع تركيا فإن ذلك يزعج مصر , تماما كما تنزعج إسرائيل من أي إحتمال لتقارب تركي مصري , وبالضبط مثلما تنزعج السعودية عندما يتقارب العراق مع ايران أو تنزعج ايران عندما يتقارب العراق مع السعودية .
منتصف الستينات من القرن الماضي سعت إسرائيل الى التوسع , قام سفيرها في الولايات المتحدة الأمريكية ( أبا إيبان ) بالإجتماع مع الرئيس الأمريكي جونسون , وأخذ منه تعهدا بأن الولايات المتحدة لن تفرض على إسرائيل الإنسحاب من أي أرض عربية ستحتلها مثلما فعلت الولايات المتحدة .. عندما أجبرت إسرائيل على الإنسحاب من سيناء عام 1956 .
حشدت إسرائيل على حدود الجولان السورية التي تربطها معاهدة دفاع مشترك مع المصريين ,
وهكذا وجدت مصر نفسها وقد عادت الى التلويح بموقع تيران وصنافير المعيق لوصول إسرائيل الى أفريقيا وآسيا وتعطيل ميناء إيلات عن الحركة .
وكانت هذه هي الشرارة التي قدحت من جديد .. فأشعلت حرب حزيران عام 1967 . في ستة أيام كانت إسرائيل قد أعادت إحتلال شبه جزيرة سيناء بالكامل و ( قعدت ) للمصريين على الضفة الثانية من قناة السويس وأعاقت ملاحتهم البحرية فيها ( مثلما يعيقون ملاحتها في خليج العقبة ) , كما قامت بإحتلال مرتفعات الجولان السورية , والضفة الغربية التي كانت قد ألحقت بالأردن بعد حرب عام 1948 إضافة الى جزيرتي تيران وصنافير السعوديتين المؤجرتين الى مصر .
يقال إن العاهل السعودي وبعد 11 شهر من إنتهاء حرب حزيران رفع مذكرة الى الأمم المتحدة يشكو فيها من تواجد إسرائيل على هاتين الجزيرتين , بعد التحقق تبين أن إسرائيل تحتلهما منذ 11 شهر وهو لا يدري . وقد بقيت إسرائيل في هذه الجزر الى عام 1979 حين وقع الرئيس السادات معاهدة التطبيع مع إسرائيل فأعيدت له سيناء .. بشرط أن تكون جزيرتا تيران وصنافير تحت الإدارة الدولية .. حتى لا تعمد مصر في أي وقت لاحق الى التهديد بقفل خليج العقبة بهما .
وفي حين قال الرئيس السادات في إحدى خطبه عن هاتين الجزيرتين : (( لا ياعم .. الجزر دول مش لينا ولاهما بتاعنا .. دول تبع أرض الحجاز )) فإن الحكومة السعودية تدعي بأن تيران وصنافير مجرد جزر مرجانية غير مهمة ولا مأهولة بالسكان , لذلك فليست لهما أية أهمية .
هذا الكلام غير صحيح بالطبع لأن حقيقة موقعهما الجغرافي تؤكد أهميتهما الكبيرة , التي تفوق أهمية جزر حنيش التي إستردتها اليمن من أرتيريا بتحكيم دولي , وتفوق أهمية جزر ( حوار ) التي تنازعت حولهما قطر والبحرين وإنتهتا الى تحكيم دولي . وتفوق أهمية طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى المتنازع عليها مع ايران .
ولو أن الجزر حين تضيع فإنها لا تسترد .. لأنها محض جزر مرجانية خالية من البشر والثروة المعدنية أوالبترولية !! فلماذا دخلت السعودية في نزاع مع اليمن على بعض جزر مرجانية صغيرة من نفس صنف جزيرتي تيران وصنافير , رغم كون هذه الجزر ومن ضمنها جزيرة ( فرسان ) لاتتمتع بالموقع الخطير مثل تيران وصنافير ؟؟
أما بالنسبة الى مصر , ففي حادثة مشابهة , كانت بريطانيا قد أجرت جزيرة هونك كونك من الصين لمدة 99 سنة . حين غزا اليابانيون هونك كونك أثناء الحرب العالمية الثانية , لم يدافع عنها البريطانيون وتركوها تحت الإحتلال الياباني مدة 3 سنوات و8 أشهر .
يشعر البريطانيون برغم صلفهم والى حد اليوم بالعار من موقفهم ذلك , ويحاولون بشتى الطرق محو هذه الحادثة بتقديم ما ينفع هونك كونك .. فماذا علينا أن نشعر نحن ( العرب المسلمين ) حين نسترخي على شرفة عالية في أحد منتجعات ( راس نصراني ) الباذخة .. ونرى جزيرتي تيران وصنافير تلوحان أمامنا سابحتين في البحر ؟؟
من الجدير بالذكر أن البحث عبر الإنترنت عن راس نصراني أو منتجعاته الباذخة .. لا يجوز أن يكون باللغة العربية لأن المكان برمته ليس مخصصا للعرب , بل هولإمتاع وخدمة الأجانب , والرجاء البحث عن الصور لأنها أبلغ من الكلمات .
رغم كل ما يعتري حياة الحكام العرب وحكوماتهم من نزاعات فردية أو شخصية , إلا أن هؤلاء الحكام والحكومات متواطئون متعاونون متضامنون على طمر الكثير من الأمور الدقيقة والحساسة والمهمة عن أن تصل الى مدارك المواطن العربي .. فهل نستطيع أن نستشف من ذلك .. نوع وشكل وحجم ما يمسكه ( بعضهم على بعضهم ) من أخطاء ومخالفات وتجاوزات .. يدعوهم جميعا الى السكوت ؟؟
ومن حقنا بعد ذلك أن نسال الجامعة العربية : على كم جدول من جداول أعمالها كانت قد أدرجت قضية تيران وصنافير ؟ وهل قضية تيران وصنافير هي وحدها القضية ( المطمورة ) أم أن هناك قضايا أخرى أكبر أو أصغر أو بنفس الحجم .. جرى طمرها لكي لا يعلم العربي شيئا عنها ؟؟ .. ليظل يرمى تبعات ما يحدث له يوميا بشكل إعتباطي عن يمينه وعن شماله ؟
والسؤال الأجدر الذي يوجه للجامعة العربية : هل هي جامعة مصرية للمصريين ضد العرب ؟ أم هي جامعة عربية للحكام العرب ضد شعوبهم ؟ أم هي جامعة للعرب ( كما تدعي ) …. وعليها أن تكون مرآتهم الصادقة ليس في حل مشاكلهم فقط .. وإنما في تنويرهم حتى عن القضايا التي إستفحلت ولم يعد بإمكان الجامعة أو غير الجامعة حلها ؟
(( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) ؟
رغم كل ما يعتري حياة العربي اليوم من ضعف وإختلال .. إلا أنني أومن بالإنسان العربي , فهو إنسان ذو ذكاء وفطنة ونخوة وغيرة وشهامة , والإسلام بتعاليمه السمحاء البعيدة تماما عن رخص وإبتذال بعض الفتاوى , هو العامل الراجح الذي بلور صفات العربي الى أرقى معانيها ..
لكن الحكام العرب جميعا , لاهون بتجميع ثرواتهم الشخصية وتوريث أبنائهم ..
والحكومات العربية لاهية بطموحاتها الخاصة وأجنداتها الإقليمية …
لذلك رَّبت مواطنها منذ عقود طويلة على الضعف , والحاجة , وقلة الحيلة , وتبعية الثقافة والفكر , ومتابعة أجهزة الأمن والمخابرات والإستخبارات .
متى تغير كل هذا ستعرفون من هو العربي .. يكفينا للحكم على ذلك أننا عشنا بين صنوف مختلفة من أجناس كل أهل الأرض , أتيحت لهم كل الفرص لكنهم لم يمتلكوا الوعي والفطنة ليفعلوا شيئا بكل ما يملكون .
من الجدير بالذكر .. أن الحال البائس الذي وصل إليه عرب اليوم .. هو وليد ( مسخ ) لتلك الأيام الخوالي , حين كانت حكوماتنا ترفع لنا شعارات وطنية براقة ما أنزل الله بها من سلطان فوق واقع بائس بمنتهى الهوان . وتلك الشعارات هي التي قادتنا الى أيامنا السود الحالية , والعربي الغيور على مصلحة أمته .. عليه أن يفتح ملف الوضع العربي المعاصر .. من أوله وليس من صفحاته الأخيرة . ميسون البياتي – مفكر حر؟