حدثني مدير مدرسة متقاعد أثناء نقاش طويل عن أساليب التدريس وصعوبات التعلم والتعليم عن خيبة أمله وتوقعاته ونبوءاته المستقبلية, قال لي: بأن معظم طلاب المدرسة الذين كان يتنبأ لهم بمستقبل فاشل وبأنهم لا يصلحون لشيء قد تفاجأ اليوم بمستقبلهم حيث أصبح أغلبهم رجال أعمال مشهورون جدا ويمتلكون أغلبية قطاع الاسكانات وقال لي: هل تعرف فلان؟ فقلت له: ومين اللي ما بعرفهوش!!! فقال هذا حتى اليوم لا يعرف أن يكتب اسمه وأسم أبيه بشكل جيد ومع ذلك أنظر إلى الملايين التي يمتلكها وإلى حجم المتعلمين والمثقفين الذين يعملون عنده من حملة الشهادات العلمية, فقلت: فعلا شيء غريب, وأضاف قائلا: معظم الذين يتحكمون باقتصاد البلد كلهم من هذه الزمرة والمثقفون لا يجدون ثمن الخبز والشعراء يسكنون في بيوت تكاد أن تكون غير ملائمة للمواصفات الصحية, وملابسهم رثة وأحذيتهم ممزقة, وهم أكثر الناس شبها بالمهابيل والمعاتيه أما الذين فشلوا في الدراسة فملابسهم على آخر موضة وأحذيتهم(التوب سايدر), والله يابو علي شيء غريب!!! والأكثر غرابة هو أنت,فقلت: أنا؟قال نعم, أنت مثلا كنت أتنبأ لك بمستقبل باهر من شدة روعتك بكتابة المقالات والخُطب وحبك للشعر وللأدب,ولكنك عدم المؤاخذة لا تملك ثمن الخبز,أنا محتار في هذا الشأن…..ثم قال: بأن معظم الطلاب الذين نجحوا في الدراسة بتفوق ممتاز مقارنة مع الطلاب والتلاميذ الذين فشلوا في الدراسة فشلا كبيرا, قال بأن الذين فشلوا في الدراسة يصادفونني في الشوارع العامة وفي المناسبات الاجتماعية ويحنون لي رؤوسهم وظهورهم احتراما وتقديرا ويشكرونني ويبجلونني, وهؤلاء لم أكن أنبئ أهاليهم بأي مستقبل زاهر ينتظر أبناءهم وكنت أقول لآباء هؤلاء الطلاب: عليكوا العوض ومنه العوض, هذول الأولاد حمير وبقر وتيوس ولا يفقهون شيئا في الدراسة, بينما الطلاب الذين نجحوا بتفوق عالي , كنت أنبئ أهاليهم بالمستقبل الباهر الذي ينتظر أبناءهم على الطريق وكنت أمدح أخلاقهم وطريقة تربيتهم الناجحة, وكنت أقول بأن مستقبل الوطن يعتمد على هؤلاء المتفوقين في مقاعد الدراسة, وهؤلاء الناجحين في الدراسة اليوم بالذات لا يلقون التحية عليّ حين يصادفونني في المناسبات الاجتماعية أو في الشوارع وكأنهم يحقدون عليّ أو على العلم والدراسة, وأضاف بأن معظم الذين نجحوا وتفوقوا في الدراسة ما زالوا حتى اليوم فقراء وأغلبهم لا يتمتعون باحترام كبير من مجتمعهم المحيط بهم, بينما معظم الذين فشلوا في الدراسة المدرسية ما زالوا يلقون الترحيب في المجالس والمناسبات الاجتماعية وتفسح الناس لهم في المجالس والمناسبات الاجتماعية وتقدم لهم الناس الكثير من الاحترام والتقدير, ومعظمهم أصحاب رؤوس أموال كبيرة ويشتغلون إما في تهريب المخدرات والحشيشة وتجارة السلاح والسرقات, ومن الجدير ملاحظته أن كبار اللصوص كانوا وهم على مقاعد الدراسة يمارسون عادة السرقة والغش وقد كبروا وهم على هذه العادة وطوروها من سرقة أقلام ومحايات ودفاتر وأكياس شيبس إلى سرقة مواد البناء…إلخ, وإما أن تجدهم أصحاب محلات بيع قطع غيار السيارات, وإما مقاولون معماريون كِبار وإما شيوخ دين يفتحون بالمندل ويحررون عقود الزواج, وعلى المستوى العشائري معظم الذين فشلوا في الدراسة هم اليوم أصحاب رؤوس أموال كبيرة ويتحكمون بقطاع كبير من المشاريع الاقتصادية والسكنية ولديهم موارد دخل كبيرة وكثيرة ومصادر دخل متعددة وتجارة واسعة ويقيمون علاقات تجارية خارج الأردن أو داخله وخارجه, ويتحكمون بقطاع الاستيراد, ومن الناحية الديمقراطية والحرية معظم الذين فشلوا أو لنقل أغلب الذين فشلوا في الدراسة الذين كنا نقول عنهم بأنهم بقر وحمير وتيوس هم اليوم أعضاء في مجلس النواب والبرلمان لأن معظم المثقفين والمتعلمين سقطوا في الانتخابات أمام منافسيهم الذين كانت ألقابهم وهم على مقاعد الدراسة(حمير وبقر وتيوس), ومعظم الذين فشلوا في الدراسة المدرسية, طبعا على حسب وصفه, كنا نقول عنهم: حيوانات وطبول وتيوس وبقر وحمير, وهؤلاء التيوس والبقر والحمير والطبول والحيوانات يديرون عجلة الاقتصاد الوطني ويعمل تحت إمرتهم الأطباءُ والمهندسون والمثقفون يصفقون لهم ويقدمون لهم الولاء والطاعة, وقال بأن معظم الذين نجحوا وتفوقوا في الدراسة المدرسية والجامعية كنا نقول عنهم: غزلان ومؤدبون ومحترمون وأمراء وأذكياء, ومعظم هؤلاء المتفوقين الأذكياء والأمراء والعباقرة اليوم يديرون أعمال الذين فشلوا في الدراسة المدرسية .
وبالنظر عن قُرب للموضوع نجد بأن المجتمع الأردني المحلي يدين بالولاء وبالطاعة للذين كانت ألقابهم وهم على مقاعد الدراسة: تيوس وحمير وبقر,وهذه الظاهرة لا يعاني منها المجتمع الأردني وحده, بل نجدها ظاهرة تشترك فيها معظم دول العالم وبنسب متفاوتة ومختلفة عن بعضها البعض, وأذكر أنا شخصيا حين كنت على مقاعد الدراسة, أتذكر الطلاب الذين كنت أقول عنهم بأنهم حمير وبقر وتيوس, أتذكر هؤلاء اليوم كيف أصبحوا أصحاب رؤوس أموال كثيرة وكبيرة واليوم لا يكلفون أنفسهم بعناء رد التحية والسلام عليّ وينظرون لي من بعيد على أساس أنني أنا الحمار والتيس, وأذكر نفسي حين كنت مثقفا صغيرا أشتري الكُتب وأكتب قصائد الشعر, أتذكر أيضا كيف كانوا وما زالوا يستهزئون بي ويتندرون عليّ بخلق القصص المضحكة وكنت أظن بأنني الأفضل من بينهم مدعيا أنني مثقف وبأنهم جهلاء وحمير وتيوس وبأن المستقبل الزاهر ينتظرني وحدي وإذ بالمستقبل الكئيب ينتظرني ويعض عليّ أنامله من الغيض, ولكن النتيجة على أرض الواقع تقول غير ذلك فهؤلاء التيوس والحمير والبقر اليوم أقفُ على أبوابهم وأدين لهم بالطاعة وحين يتحدثون في المجالس العامة أقفُ أنا مستمعا والناس تنصت لهم بآذان صاغية بينما أنا حين أتحدث عن السياسة وعلم الاجتماع لا أحد يصغي إليّ ولا أحد يطرب إلى حديثي إلا القلة القليلة والنادرة.ولا أحد يفسح لي في المجالس ولا أحد يفتح لي باب السيارة حين أركب وحين أنزل منها, بينما هؤلاء الجهلة والحمير والبقر والتيوس تفتح لهم الناس أبواب السيارة حين يصعدون منها وحين ينزلون منها ولا أحد يقطع أمرا إلا بعد مشورة الحمير والتيوس والبقر, لذلك نحن نعيش في مجتمع تسيطر عليه الجهلة والحمير وفي النهاية يعقد المثقفون مؤتمرا وندوة علمية يتساءلون فيها: من أين جاء الإرهاب! وكيفية القضاء عليه.