خلال أسبوع حضرت مناسبتين للاحتفال السلبي… احتفال بمناسبة ذكرى أليمة في تاريخ العراق الحديث… الجينوسايد بحق مجموعة بشرية كانت تتحمل الكثير و الكثير جداً لكي تبني وطنا كانت تؤمن به مستقراً و حضن أمان ( يمكن مراجعة مقالتي “الفيليون و مفهوم الجينوسايد القانوني” نيسان/ ابريل 2014. .. لكن لأسباب نحاول ان نناقشها تحولت “الحياة المطمئنة” الى اشكالية في التطور الاجتماعي السياسي…. المناسبة الثانية كانت قبل ايام قليلة في كوبنهاغن … اما الاولى فكانت يوم الثالث من الشهر الجاري و قد كتبت يومها هذا البوست في موقعي على الفيسبوك:
“اليوم انعقدت الندوة الرئيسية التي جئت بشأنها الى استوكهولم … الندوة كانت بمناسبة الذكرى السنوية لقتل و تشريد آلاف العائلات من الكورد الفيليين من العراق سنوات 88-1980.. المشاركون في الندوة كانوا الدكتور كاظم حبيب و قد جاء من برلين في ألمانيا و الدكتور عقيل الناصري بالاضافة الى الدكتور مجيد جعفر (صاحب الدعوة)… النقاشات دارت حول الوضع في العراق و الدروس المستفادة في سبيل بناء مجتمع يتمتع فيه الجميع بالامان… مداخلتي كانت بعنوان الحياة المدنية و ملخصها هو ان الفيليين كانوا يمثلون نموذجا من التفاعل المجتمعي المدني و قد جاء قتلهم و تشريدهم مقدمة للقضاء على الحياة المدنية التي حل محلها المنهج الميليشياوي و الذي نشهد اثره الان في القتل و الدمار دون أهداف واضحة … قلت ان المسؤولية في ذلك التطور الخطير لا يتحمله النظام السابق لوحده بل يتحمله الجميع حتى تلك القوى التي تدعي الديمقراطية و التقدمية و حقوق الانسان… لماذا لم يفكر احد من هذه القوى ان اقتلاع الفيليين بهذا الشكل الرهيب كان يمثل تحديا للجميع خاصة ان هؤلاء الفيليين لم يمثلوا تحدياً لسلطة الدولة او النظام القائم بل كان تفاعلهم يمثل ركنا أساسيا في الهوية العراقية في بعدها المدني لان هؤلاء الفيليين رغم عددهم القليل نسبة الى العدد الاجمالي للعراقيين في بغداد الا انهم كانوا يلعبون دورا هاما و واضحا ًفي مختلف انواع النشاطات الرياضية و الفنية و الثقافية على مستوى العراق كله… نعم العديد من لاعبي كرة القدم في الأندية العراقية و في المنتخب الوطني على مدى عقود كانوا من الفيليين… اما الفنانين و الموسيقين و الرسامين و الخطاطين و الشعراء و الآدباء فكان هناك الكثير … لماذا لم ينبري احد للدفاع عن هذا النمط من الحياة الحياة المدنية… لماذا يتصارخ الجميع الان بعد ان تحولت بغداد الى قرية كبيرة هائلة ليس فيها اي نظام اجتماعي او اقتصادي او ثقافي..؟؟.. قلت ايضا انه طالما ان صناعة السلاح منتعشة في العالم فان اي كلام عن حقوق الانسان يعتبر تهرباً من الواقع…”…
أهمية الموضوع هي ان القضية لا تتعلق بنموذج منفرد و إنما بنماذج متعددة لكنها تتشارك بنمط متقارب و هو ان المجموعات البشرية التي تمتلك جذورا في تاريخ العرق القديم كانت تعمل بجد و تتحمل المهانة و الذل احيانا من اصحاب السلطة … ليس بدافع الوطنية كمفهوم سياسي و إنما بدافع بناء المجتمع الذي تنتمي اليه هذه المجموعات على أساس مفهوم تقليدي و هو ان المجتمع هو حاضنة طبيعية لحياة مدنية يمارس فيها الجميع حياتهم اليومية بكل ما تحمل ذلك من مفارقات و احلام و طموحات و تقاطعات و ربما صراعات و مصالح مختلفة … لكن ايضا هناك فعاليت تحمل طابعاً تضامنياً … كان هناك فقراء و أغنياء و أفكار و جدالات …الخ… لكن كل ذلك يشكل حياة مدنية بحيث يتشارك الجميع آخذاً و عطاء بالمفهوم القديم للحياة…
الذي حصل ان السلطة… لأسباب عديدة بعضها سياسي و بعضها الاخر يرتبط بظهور اولغاركيات عائلية حزبية و الاستفادة من هيمنتها على السلطة … قد أزاحت المجموعات التقليدية من التواصل البناء للمجتمع…. و لكن هذه الإزاحة قد تركت فراغاً لم تستطيع الاولغاركيات في تعويضها… هل كان ذلك بسبب الطبيعة البدوية لاهل السلطة و اوليغاكياتها (يمكن الى العودة الى قضية صراع البداوة و المدنية في أفكار ابن خلدون و التي أعاد إنتاجها علي الوردي)… ام ان انماطاً جديدة من الانتاج القبلي للتطور الاجتماعي هو الذي ساد …؟؟.. شخصيا أميل الى التفسير الثاني حيث برزت في العقدين الآخرين أفكار و نظريات يمكن وضعها في إطارين متعاضدين و هما ” القبلية الحديثة
The New Tribalism “
و ” القبلية المتجددة
The Neo-Tribalism”
… ملخص النظريتين هو انه رغم بناء الدولة الحديثة و تطور البناءات الاجتماعية فيها الا ان المنظومات السياسية… احزاب و منظمات …الخ… ظلت محتفظة بروح القبلية في هيكلياتها بشكل عام و لكن بشكل خاص في علاقاتها مع الأفراد و الجماعات غير المنتمية اليها…
شخصياً اعتقد ان الحياة السياسية السائدة في الدولة الحديثة في العالم العربي و الاسلامي يسيرها تآلف غريب بين الأنماط التقليدية القديمة …. التراث السياسي و سلوكيات التطور الاجتماعي القديم …. من جهة و من جهة ثانية أنماط مشوشة مما جلبه الاستعمار معه و كذلك مما يستورده أهل الحكم و النخب السياسية و الاقتصادية و الثقافية من المجتمعات الاخرى و خاصة المجتمعات الغربية…. و لعل وجود هذه الاولغاركيات التي تدعي امتلاك علوم الادارة و ثقافة الانتاج دون ان ان تثبت غير الفساد و الاستبداد و الفشل في خلق اية ارضية تنموية يمثل اشكالية معرفية في ذاته… بحيث ان الباحث يقف مشدوهاً و لا يستطيع مقارنة هذ الاولغاركيات بأية نماذج تاريخية سابقة… فهي ليست إقطاعيات … او آغاوات… قديمة… كما انها ليست رأسماليات لانها لا تنتج شيئا…. و لا تسمح حتى للفقراء بالانتاج و لو كان هذا الانتاج شيئا بسيطاً…. و بالتالي فهي لا تسمح للحياة ان تستمر رغم انها تريد السيطرة على الاسواق مثلاً … اي ان هذه الوليغاركيات لا تفهم حتى المعادلة البسيطة في ان ديمومة السوق تحتاج الى نوع من الانتاج او الاستيراد و كذلك تحتاج الى من يمتلك القدرة الشرائية الضرورية لتصريف او بيع المنتجات…
الاشكالية الثانية تتعلق بطبيعة الأفكار و السلوكيات …. اي الأهداف و الطموحات… التي تروج لها الأحزاب و التنظيمات التي ترفع شعارات الديمقراطية و حقوق الإنسان على المستوى الكوني (هكذا)…. هذه الأحزاب و المنظمات لم تستطع ان تستقرأ النتائج الرهيبة لتعطيل دور المجموعات العاملة (الأقليات و منهم الصابئة المندائيين و الاثوريين و الكلدان و الايزيديين … و…. و الفيليين…. الخ … مع احترامنا للجميع..).. و رغم بعض الاصوات التي تمادت ضد ظلم الحكومة … الا ان هذه الأحزاب و المنظمات قد فشلت في الدفاع عن الطبيعة المدنية لحياة الأقليات و دورها الكبير و شبه الحاسم في تطور الحياة الاجتماعية قياساً مع دور المجموعات السلطوية التي كانت تفتقر الى ابسط أسس و مباديء الحياة المدنية و التي ترتكز الى ضرورة تنازل الفرد عن الكثير من خصوصياته حتىى يستطيع ان يتعايش مع الآخرين …
الان هناك كلام كثير بانه يتم تفريغ الشرق الأوسط من المسيحين … هذا الكلام صحيح و نحترمه … لكنه يرتكز الى نظرة اختزالية لسببين مهميين و هما… اولا… ان هذا التفريغ يشمل كل الأقليات تقريبا و هي بدأت منذ سنوات طويلة و لعل نموذج الفيليين … موضوع هذه المقالة….يمثل تجربة رهيبة… و ثانيا… ان المجموعات التي تحل في المدن بدلا كن الأقليات التاريخية قد حولت المدن الى قرى كبيرة لا تتمتع بأية صفة مدنية … و بالمناسبة فان بغداد التي كانت يوماً عاصمة العلم و الثقافة في العالم …. ليست الوحيدة بين المدن الكبرى في الشرق الأوسط التي حل فيها الدمار حتى اصبحت أكوام القمامة فيها تنافس اعلى العمارات الشاهقة…
هناك اشكالية ثالثة مرتبطة بهذا المشهد الرهيب و هو ان البعض قد حول مناسبة الاحتفال بالجينوسايد الى بكائيات ( و مع كل الاحترام لها) فإنها لا تنتج شيئاً غير المزيد من تشويش تطور البناءات الاجتماعية … اما البعض الاخر من “المثقفين… أفراداً و احزاباً و تنظيمات” فإنها تختار التهرب الى أبراجها العاجية و اعتبار كل الدمار من صنع الإسلاميين (هكذا دون اي تحليل علمي للواقع الاجتماعي )… اصحاب هذه النظرية “العظيمة” يبدو انهم لا يفرقون بين التطور الاجتماعي و السياسي الذي ينتج تفسيرات تعتمد نمطها التاريخي اكثر من القدرة على دراسة و استيعاب المفاهيم الاخلاقية التي تتجاوز المحليات و الواقع المادي …
في النهاية فان اي كلام عن تغيير و إصلاح لابد ان برتكز أساسا الى ضرورة تغيير مسار التطور… من فكرة الحشد و الميليشياوية و تكفير الاخر بناء على او ذاك من التأويلات و التفسيرات…. الى قبول الاخر و التعايش معه … و من التركيز على السلاح و القتال… الى التركيز على اعادة تأهيل الاراضي الزراعية و بناء مصانع و لو كانت صغيرة… و اهم من كل هذا هو تغيير أولويات الصراع و إرضاخ الاخر… الى العمل و التنمية حيث ان المجتمعات تمتلك الكثير من مقومات بناء اليات انتاج و علاقات طبيعية بين الناس و زرع فكرة التعايش السلمي و أهمية العمل و جمالية الانتاج و الأحلام و الطموح ..
لكن الإصلاح عند البعض هو مجرد اعادة انتاج للفوضى حيث يختلط الحابل بالنابل… و تفقد الأفكار و القيم قيمها و تصبح حقوق الانسان شعاراً للجميع و لا ندري ان كنّا ندافع عن حقوق العاملين في شركات تصنيع السلاح و أصحابها في حياة “كريمة” و مرهفة… ام في حقوق أؤلئك الفقراء و المحرومين الذي تقع القنابل التي المصانع على رؤوسهم دون ان يعرفوا لماذا…؟؟؟!!!.. (سأكتب لاحقا مقالة عن الإصلاح و مآلاته)…
وسط هذه الدوامة يجد البعض مهربا في نصب خيام البكائيات و من هول ما تذرف من الدموع و ما تهبط من كلمات الرثاء حتى ننسى ان الدموع قد تكون دموع فرح اصحاب السلطة تخلط في صورتها الفوضوية مع دموع الأمهات الثكالى و الجوعى المشردين.. ثم ترفع الخيام و الى اللقاء في مناسبة قادمة… انها لحظة انتصار تعادل الف عام من الانكسار… عند البعض… اما الخاسرون فلا شيء يشفع لهم ولا من أحد في الارض….
الاحتفال بالمناسبة لا ينبغي ان يكون دعوة للانتقام و كره الآخرين … بل محطة لاستدراك الدروس و بناء نهج افضل للتطور الاجتماعي البناء في التعايش السلمي … هذا ما اؤمن به … و هذا ما افتتحت به كلمتي في استوكهولم و كررتها في كوبنهاغن…حبي للجميع …