الأب

بقلم: أوليغاريو لاثو بييثا*lhassanelkiri
ترجمة: ذ. لحسن الكيري**
إهداء المترجم: أهدي هذي الترجمة إلى صديقتي المكسيكية الأستاذة مونيكا لوخامبيو.
عجوز ذو لحية طويلة بيضاء و شاربين مائلين إلى الشقرة بسبب النيكوتين. يرتدي ثوبا أحمر و ينتعل حذاء مرتفع الكعب ويضع فوق رأسه قبعة من القش، و في ذراعه سلة. كان يغدو و يروح، بطريقة محتشمة، أمام باب الثكنة. أراد أن يسأل الخفير لكن الجندي قاطعه بصيحة و لما ينهي كلامه بعد:
يا آمر الحرسỊ
على الفور ظهر ضابط الصف قافزا و كأنما يطارده أحد ما.
بعدما سئل بنظرة من العين إشارة من الرأس نحو الأعلى تكلم الغريب قائلا:
– هل ابني موجود؟
أطلق الآمر ضحكة. أما الخفير فلم يأبه و حافظ على برودة دمه و كأنه تمثال من الملح.
– يضم هذا الفوج ثلاثمائة ابن، يجب معرفة اسم ابنك، أجاب ضابط الصف.
– مانويل…مانويل ثباطا، سيدي.
– جمع الآمر ما بين حاجبيه، مرددا، و هو يعيد شريط الذاكرة إلى الوراء:
– مانويل ثباطا…؟ مانويل ثابطا…؟
و قال بنبرة جادة:
– لا أعرف جنديا بهذا الاسم.
انتصب البدوي فخورا فوق باطن حذائه السميك و هو يبتسم ساخرا:
– لكن إن لم يكن جنديا! إن ابني ضابط، ضابط صف…
اقترب عازف البوق، الذي كان يستمع إلى المحادثة من مبنى الحراسة، و لمس الآمر بذراعه و هو يقول له بصوت منخفض:
– إنه الوافد الجديد، الذي تخرج مؤخرا من المدرسة.
– الويل! إنه ذاك الذي يكلمنا كثيرا…
شمل الآمر الرجل بنظرة متفحصة، و لما استنتج أنه فقير، لم يتجرأ على دعوته إلى نادي الضباط. فقط اكتفى بإدخاله إلى مركز الحراسة.
اقتعد العجوز مقعدا خشبيا ووضع سلته جانبا، دون أن يبعدها عن متناول يده. اقترب الجنود، وهم يوجهون إلى البدوي نظرات ملؤها الفضول و الطمع في السلة. هي سلة صغيرة و مغطاة بقطعة من كيس، و من تحت هذا الغطاء القماشي بدأت دجاجة تنقر أولا و تخرج رأسها ثانية؛ دجاجة ذات قنزعة حمراء و منقار أسود مفتوح من شدة الحرارة.
فور رؤيتها صفق الجنود فرحا هاتفين كالأطفال:
– طنجرة! طنجرة!
متوترا من فكرة رؤية ابنه و مهزوزا من رؤية الأسلحة الكثيرة، ضحك من دون سبب و أطلق عنان التفكير عشوائيا. هه هه هه! نعم، طنجرة….، لكن من أجل ابني.
و أضاف بوجه لطمته الريح فجأة:
– خمس سنوات مرت دون أن أراه…!
– بفرحة أكبر و هو يحك خلف أذنه، قال:
لم يكن ينوي المجيء إلى هذه البلدة. رب عملي هو الذي جعل منه عسكريا. هه…هه…هه…!
توجه أحد الحراس عريض الكتفين، طويل النجاد و صارم لمناداة الملازم. كان في مدرسة الفروسية أمام القوات التي تأخذ قسطا من الراحة، محشوا بين مجموعة من الضباط. كان فتى أسمر، غليظا ذا منظر مبتذل. استقام الجندي مقدما التحية حتى تطاير الغبار من الأرض عندما جمع كعبي حذائه العسكري، قائلا:
– يبحثون عنك…، ملازمي.
لا أدري بأي طريقة من التفكير، انقشع وجه أبيه المجعد في ذهنه.
رفع رأسه و تكلم بقوة ملؤها نبرة متعالية حتى يسمع رفاقه:
في هذه البلدة…، لا أعرف أحدا…
قدم الجندي تفاصيل دون أن يطلب منه:
إنه رجل متقدم في السن مجعد، ببطانية…لقد أتي من بعيد. يحمل سلة صغيرة…
محمر الوجه و مشوشا بالكبرياء، رفع يده إلى مقدمة قبعته:
– حسنا…انسحب!
انقشع الخبث و المكر في جه الضباط. نظروا إلى ثباطا…ولأنه لم يقو على تحمل العيون الكثيرة المتسائلة، حنى رأسه، نحنحن، أشعل سيجارة و بدأ يخربش في الأرض بطويق سيف المبارزة.
بعد خمس دقائق، جاء حارس آخر. مجند بسيط و منضبط و كأنه تمثال كاريكاتوري عن الجندي الدائم اليقظة.
على بعد أربع خطوات ناداه و ذراعاه ترسمان قوسا تحية و كأنه ديك:
– يبحثون عنك، ملازمي! رجل عجوز من القرية… يقول إنه أبو حضرتك…
دون أن يصحح قلة لباقة المرؤوس، رما السجارة، داسها غضبا و أجاب:
انصرف من هنا! سآتي.
و لكي لا يكون هدفا للاستفسارات توجه إلى الإسطبلات.
بعدما انزعج ضابط الحرس من إلحاح العجوز، هذا الالحاح الذي كان ينقله إليه الرقيب كل خمس دقائق، ذهب لرؤية ثباطا. أثناء ذلك، ظل الأب الذي حولت السنون قلبه من قلب رجل إلى طفل، منتبها و حائرا أكثر فأكثر. إثر أبسط صداع كان ينظر خارجا و يمدد عنقه المجعد الأحمر و كأنه عنق ديك رومي. كل نقلة رجل كانت تجعله يرتعد من التأثر منتظرا أن يأتي ابنه لكي يضمه، أن يحكي له عن حياته الجديدة، أن يريه أسلحته الجديدة، عدة السراجة، أحصنته…
وجد ضابط الحراسة ثباطا يتظاهر بتفقد الإسطبلات. قال له، بغلظة، و دون مقدمات:
– يبحثون عنك…يقولون إنه أبوك.
لم يجب ثباطا محولا بصره.
– يوجد في مركز الحراسة…و لا يريد أن يبرح مكانه.
ضرب ثباطا الأرض بحذائه، عض على شفتيه بغضب و ذهب إلى هناك. بدخوله، صاح أحد الحراس:
– انتباه!
نهضت فرقة الجنود كالنوابض و ضجت القاعة بصليل سيوف المبارزة و حركات الأرجل و الكعوب المتراطمة. منذهلا من التشريف الذي تلقاه ابنه من هؤلاء، و دون أن يعير السلة و الدجاجة أي اهتمام، خرج بذراعين مفتوحين لملاقاته. كان يبتسم بوجهه المشروخ كلحاء شجرة متهالكة.
مرتعدا من الفرحة، صاح:
– مانويلي الصغير! مانويلي الصغير!
حياه الضابط ببرودة. تجمد ذراعا البدوي. و بدأت ترتعد فرائصه.
أخرجه الملازم خلسة من الثكنة. و في الشارع نفخ بقوة في مسامعه:
– يا لها من فكرة جميلة فكرتك…! أن تأتي لتراني…! أنا في الخدمة…لا يمكنني أن أخرج.
و دخل على نحو مفاجئ. عاد البدوي إلى مركز الحراسة مشوشا و مرتعدا. كابر قليلا حتى أخرج الدجاجة من السلة و أعطاها للرقيب.
– خذ: هي لكم، لكم وحدكم.
قال وداعا و ذهب في حال سبيله يجرر رجليه المتثاقلتين من وقع الإحباط. لكن من الباب عاد ليضيف، و الدموع في عينيه:
– الصغير يعجبه الصدر. أعطوه قطعة منه!
* كاتب و قاص مرموق من الشيلي. توفي في سانتياجو سنة 1964. من رواد السرد الكلاسيكي في الأدب الشيليني.
** كاتب، مترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية – الدار البيضاء – المغرب.

About لحسن الكيري

** كاتب، مترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية – الدار البيضاء – المغرب
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.